الأدب التمثيلي
خلصنا من الاستعراض التاريخي السابق إلى أن الأدب التمثيليَّ يعتبر أدبًا دخيلًا على أدبنا العربي المعاصر، فنحن لم نتوارثْه عن الفراعنة ولا عن العرب، وإذا كان الشعب المصري قد عرف بعض الفنون الشعبية التي تُشبِهُ فن المسرح من قريب أو بعيد، كخيال الظل والأراجوز، فإننا لا نستطيع أن نزعم أن هذه الفنون الشعبية قد استطاعت أن تخلق لنا أدبًا تمثيليًّا باقيًا، بل إن الفن المسرحي لم يستطع — بالرغم من ظهوره في مصر والعالم العربي منذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر — أن يخلق لدينا أدبًا تمثيليًّا على غِرارِ الآداب التمثيلية في العالم الغربي إلا منذ ربع قرن تقريبًا، أو على وجه التحديد منذ سنة ١٩٢٧م، وهي السنة التي أصدر فيها الشاعر أحمد شوقي أول مسرحية شعرية له، وهي «مصرع كيلوباترة»، ومنذ ذلك التاريخ أخذ أدباؤنا يكتبون المسرحيات شعرًا ونثرًا بالعربية وبالعامية، سواء أمثلت تلك المسرحيات أم لم تمثل، واكتُفي بقراءتها كمؤلَّفاتٍ أدبية.
والواقع أن فن التمثيل قد سبق ظهور الأدب التمثيلي في العالم العربي الحديث خلال عشرات السنين، والظاهر أن فن التمثيل لم يظهر في العالم العربي لخدمة الأدب التمثيلي أو لإحيائه ونَفْثِ الروح فيه، أو على الأقلِّ لم يصاحبْ فن التمثيل أدب تمثيلي؛ وذلك لأن فن التمثيل قد نُظرَ إليه عند نشأته في البلاد العربية كوسيلة من وسائل التسلية والترفيه، وقد تأثرت تلك النشأة بالنظرة التي كان يُنظر بها إلى الفنون الشعبية المماثلة التي كانت منتشرة في العالم العربي قبل ذلك مثل فَنَّيْ خيال الظل والأراجوز، ولم يكن يخطر ببال من أنشئوا هذا الفن أنه وسيلةٌ لنفث الحياة في الأدب التمثيلي، بل إنهم لم يفكروا في أن فن التمثيل يستند إلى أدب تمثيلي يستحق الخلود، ويستحق أن يدخل في تراث الأمة العربية الأدبي، وأن يعد فنًّا من فنون ذلك الأدب، فيُطبع ويُنشر بين الناس ويُعاد طبعه وتداوله بالقراءة، فضلًا عن الدراسة بالمعاهد والجامعات؛ ولذلك تعدَّدت الفرق المسرحية وتتابعت زمنًا طويلًا قبل أن يظهر ما نستطيع أن نسميَه بالأدب التمثيلي، والمسرحيات التي تُرجمت أو مُصِّرت أو عُرِّبت أو أُلِّفت كان يُنظر إليها باعتبارها وسيلةً مؤقتةً فانيةً للترويح عن الجمهور، تنتهي مهمتُها بانتهاء تمثيلها، ولم يكن الحرص على ملكيتها الأدبية والاعتزاز بتأليفها شديدًا، بل إن فن التمثيل كله لم يكن يحظى — كما قلنا — من الجمهور بنظرة رفيعة، بل كان يُنظرُ إليه نظرة استخفاف إن لم يكن ازدراء، وقد كان من الطبيعي ألَّا تقفَ هذه النظرة عند الممثِّلين ومديري الفِرق وأصحاب دور التمثيل، بل لم يكن مفرٌّ من أن تمتدَّ أيضًا إلى المؤلفين فضلًا عن الجمهور الذي يتردَّد على تلك الدُّور.
ثم أخذت هذه النظرةُ تتغير شيئًا فشيئًا، وتخِفُّ قسوتها بازدياد اتصال العالم العربي الحديث بالعالم الغربي، وفن التمثيل فيه، وعندئذٍ رأينا مستوى الممثلين الثقافي والاجتماعي يأخذ في الارتفاع، كما رأينا كبار الأدباء لا يخجلون من أن يكتبوا المسرحيات، بل ورأينا أمير الشعراء وشاعر الأمراء أحمد شوقي نفسه يقوم بدور الرائد في هذا الفن، بعد أن احترف التمثيل نفرٌ من أبناء البيوتات أو المثقفين مثل عبد الرحمن رشدي المحامي ويوسف وهبي، ولم يعد التمثيل قاصرًا على الطبقة الدنيا من المصريين، أو على النازحين من البلاد العربية المغتربين عن بلادهم، والمنفصلين عن أسرهم وبيئاتهم الاجتماعية.
هذا وممَّا تجدر ملاحظته، أن دُعاةَ التجديد في الأدب العربي المعاصر في أوائل هذا القرن قد قصروا دعوتهم على التجديد في فن الأدب العربي التقليدي، وهو فن الشعر الغنائي، أي شعر القصائد والمقطوعات، ولم يرتفع بينهم صوت يدعو إلى خلق فنونٍ أدبيةٍ جديدة في أدبنا، أو اقتباسها عن الغرب، وبالتالي لم يدعُ أحد إلى نشأة الشعر التمثيلي أو الأدب التمثيلي بوجه عام، وكل ما فعلوه هو نقد القوالب الشعرية المُتوارثَة، وموضوعات الشعر التقليدية، وطريقة بناء القصيدة، ثم عدم الصدق في الشعر الحديث، وعدم الملاءمة بينه وبين الحياة العصرية وبيئتنا الاجتماعية وحاجاتنا النفسية، وذلك على نحو ما نجد في الكتابين اللذين يعتبران رائدي الدعوة إلى التجديد في الأدب، أو على الأصح في الشعر وهما كتابا «الديوان» للأستاذين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني ثم «الغربال» للأستاذ ميخائيل نعيمة.
وعندما أخذ كبار شعرائنا وأدبائنا يُنشئون الأدب التمثيلي، جاء هذا الأدب بحكم ثقافة منشئيه وارتفاع مواهبهم بعيدًا عما ألِفَهُ الجمهور في دور تمثيلنا، وبخاصة الأدب التمثيلي الشعري، والأدب التمثيلي الجاد؛ حيث كان جمهورنا قد ألف أن يشهد في دور التمثيل أحد لونين يطرب لهما ويُقبِلُ عليهما، وهما اللون الفكاهي ثم اللون الغنائي.
والواقع أن فن التمثيل عند نشأته الأولى — عند اليونان القدماء وهم الذين أخذت عنهم أوربا الحديثة هذا الفن — قد كان إمَّا كوميديًّا أي فنًّا فكاهيًّا هزليًّا أو تراجيديا جدية، ولكنها كانت تجمع بين الحوار والغناء والموسيقى وإن جمعت رغم ذلك بين التسلية والتثقيف والتهذيب، ولم ينفصل فنُّ التمثيل عن غيره من الفنون كالغناء والموسيقى إلَّا بعد قرونٍ طويلة، أي بعد عصر النهضة؛ حيث رأينا التمثيل الجدي يستقلُّ بنفسه ويكتفي بذاته، بينما انفصلت عنه الموسيقى كما انفصل الغناء، وتكوَّن فن مسرحي جديد لا يدخل في الأدب، بل يدخل في الموسيقى وهو فن الأوبرا والأوبريت؛ حيث تطغى الموسيقى على قصة المسرحية، وتستأثر بالقيمة الفنية كلها.
والظاهر أنه لم يكن من الممكن أن يطفر العالم العربي الحديث في قفزة واحدة إلى ما انتهى إليه التمثيل الجدي عند الغربيين بعد قرون طويلة من التطور في ممارسة ذلك الفن وتثبيت أصوله وتقاليده، وذلك بدليلِ ما نلاحظه من أن التمثيل الجدي المُكتَفِي بذاته لا يزال إلى الآن عاجزًا عن أن يستهويَ الجماهير، وأن يلقَى ما يستحقُّه من نجاح، كفن رائع من فنون الأدب، وذلك بصفة دائمة مُطَّردة.
هذا والأدب التمثيلي نفسه عندما أخذ يظهر في العالم العربي الحديث، وأخذ يُنشئه كبار أدبائنا، لم يُراعَ فيه تطور الأدب التمثيلي العالمي، كما لم يُراعَ فيه مزاجنا الخاص وحاجاتنا النفسية، ومستوانا الثقافي والاجتماعي، فظهرت عندنا مسرحيات شعرية تاريخية، تُشبه المسرحيات الكلاسيكية في معالجة الموضوعات التاريخية، واختيارها من حياة الملوك والأمراء والسادة، على نحو ما نشاهد في مسرحيات شوقي، مثل: «مصرع كيلوباترة»، و«عنترة»، و«قمبيز»، و«علي بك الكبير»، و«أمير الأندلس»، ثم عند عزيز أباظة في مسرحيات «قيس ولبنى»، و«العباسة»، و«شجرة الدر»، و«غروب الأندلس»، وذلك بينما كانت المسرحيات الجدية قد تطورت إلى ما يسمَّى في العصر الحاضر بالدراما الحديثة، أي المسرحية الجدية التي لا تستمدُّ موضوعها من التاريخ، ولا تقصره على حياة الملوك والنبلاء، بل تستمدُّ موضوعها وشخصياتها من حياة عامة الشعب وأفرادهم، كما تُكتبُ نثرًا على نحو ما نشاهد في مسرحيات إبسن وبرنارد شو الجدية.
هذا والملاحظ أن أدباءنا عندما أخذوا يُحاكون الأدبَ التمثيلي عند الغربيين، قد وجدوا أمامهم تراثًا كبيرًا متراكمًا من كافة العصور والمذاهب، فتأثروا منه بما شاءت المصادفة أن يتأثروا به، وذلك مع العلم بأنه من الخير لأدبنا العربي المعاصر أن نتبين تطوُّرَ تلك الفنون الغربية وخصائصها في مراحلها المختلفة، حتى نحاكي أو نقتبس على بينة مما نفعل.