استخلافه وسيرته
ثم قام أُسيد بن حُصَين الأوسي، وهو يومئذٍ من أثبات الأنصار وأهل الطاعة فيهم، فقال: يا معشر الأنصار، إنه قد عظمت نعمة الله عليكم أن سماكم الأنصار، وجعل فيكم الهجرة، وقبض فيكم رسول الله ﷺ، واجعلوا ذلك شكرًا، فإن هذا الأمر في قريش دونكم، فمن قدموه فقدِّموه، ومن أخروه فأخِّروه، فشُتم الرجل واضطر أن يلحق بالمهاجرين.
ثم قام بشير بن سعد الخزرجي فقال: يا معشر الأنصار، إنما أنتم بالمهاجرين وإنما المهاجرون بكم، فإن كانت دعواكم حقًّا لم يعترض فيكم المهاجرون، وإن قلتم نصرنا وآوينا فما أعطاكم الله خيرٌ ما أعطيتم أنفسكم، ولا تكونوا ممن بدَّل نعمة الله كفرًا وأحلُّوا قومهم دار البوار يصلونها فبئس دار القرار، فشُتم الرجل ولحق بالمهاجرين.
ثم قام عويمر بن ساعد الأنصاري فقال: يا معشر الأنصار، إن يكن الأمر فيكم دون قريش فانفردوا حتى نبايعكم عليه، وإن كان لهم دونكم فسلِّموا لهم بذلك، فوالله ما مات رسول الله حتى عرفنا أن أبا بكر خليفته حتى أمره أن يُصلي بالناس … فشُتم الرجل أيضًا فلحق بالمهاجرين.
ثم قام ثابت بن قيس — وهو يومئذٍ خطيب الأنصار — فقال: يا معشر المهاجرين، إن الله بعث محمدًا فأقام بمكة، سمع الأذى والتكذيب، وأمره الله بالكف والصفح الجميل، ثم أمره بالهجرة وكتب عليه القتال، فنقله عن داره إلينا فكُنا أنصاره، وكانت دارنا مهاجَره، ثم قدمتُم علينا فقاسمناكم معاشر المهاجرين الأموال، وأنزلناكم الديار، وكفيناكم العمل، وآثرناكم بالمرافق، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معاشر المهاجرين بضعة منا، وقد دقَّت إلينا من قومكم داقَّة، وقد قال رسول الله ﷺ: «لو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكتُ شعب الأنصار»، فاسلكوا شعب رسول الله ﷺ.
فقام حينئذٍ أبو بكر، فقال: أما ما ذكرتم من فضلكم فأنتم كذلك، ولكن العرب لا تُقِرُّ بهذا الأمر إلا لقريش؛ لأنهم أوسط العرب دارًا، وأنهم دعوة إبراهيم، وقد رضيتُ أحد هذين الرجلين: إما عمر بن الخطاب أو أبو عبيدة بن الجراح.
وتزعم الأوس أن أول من بايع أبا بكر هو بشير أبو النعمان، وتزعم الخزرج أنه أُسيد بن حُضير، فلما بايع أهل السقيفة أبا بكر ازدحم الناس عليه ليبايعوه، فقال قائل منهم: قتلتم سعدًا — وكان جالسا متزمِّلًا بثوبه — فقال عمر: اقتلوه فإنه صاحب فتنة، وتدخَّل أبو بكر في الأمر، وانتهت الفتنة، وظل سعد منزويًا في بيته ولم يبايع أبا بكر.
ثم اجتمعت جماعات الأوس والخزرج وبايعت أبا بكر، وأُنكِرَ على سعد بن عُبادة وجماعته ما كانوا أجمعوا أمرهم عليه، وزفوا أبا بكر إلى المسجد فبايعه المهاجرون، ثم أقبل الأنصار والمهاجرون يتعاتبون في الأمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا معشر الأنصار، إنكم وإن كنتم كما قلتم فليس فيكم مثل أبي بكر، ولا مثل عمر، ولا مثل أبي عبيدة، فقال زيد بن أرقم: ما يُنكَر فضل من ذكرت، وإن مِنا لسيد الأنصار سعد بن عبادة، وفينا من أَمَرَ الله رسوله أن يُقرئه السلام: أُبَي بن كعب، وفينا من أمضى الله شهادته بشهادة رجلين: خزيمة بن ثابت، وإن فيمن سميت من قريش لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد — يعني علي بن أبي طالب — ثم طال الجدال والعتاب بين الجانبين، وانتهت هذه الأزمة بسلام إلا ما كان من أمر أبي سفيان؛ فقد روى الطبري أن الناس لما اجتمعوا على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف، فيمَ أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلَّان علي والعباس؟ وقال لعلي: يا أبا الحسن، أبسِط يدك حتى أبايعك، فأبى علي، فجعل يتمثل بشعر المتلمس:
فزجره علي وقال: إنك والله ما أردتَ بهذا إلا الفتن، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرًّا، لا حاجة لنا في نصيحتك، وكان هذا كله قبل دفن الرسول ﷺ؛ لأن أهله حجبوه عن الناس، فلما بايع الناس أبا بكر ورجع إلى المسجد جلس على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس، إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي، وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدًا عهده إليَّ رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا، وإن الله أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.» فبايع المسلمون بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
ولما أتم القوم الصلاة نظر أبو بكر في وجوه القوم فلم يرَ عليًّا فسأل عنه، وذهب زيد بن ثابت وجماعة من الأنصار فأتوا به إليه، فقال له: أنت ابن عم رسول الله وختنه، وأردت أن تشق عصا المسلمين؟ فقال علي: لا تثريب يا خليفة رسول الله، وكذلك فعل الزبير، ثم انصرف أبو بكر والقوم إلى دفن رسول الله ﷺ، فلما أتموا ذلك لزم علي بيته حينًا من الدهر يترضَّى السيدة فاطمة حين لم يقضِ لها أبو بكر بما طالبت به من مال أبيها، وظلَّت غضبى إلى أن ماتت، فبعث علي إلى أبي بكر: ائتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما يعلم من شدته، فقال عمر: لا تأتِهِ وحدك، فقال أبو بكر: لآتينهم وحدي، وما عسى أن يصنعوا بي؟ فانطلق حتى دخل على عليٍّ وقد جمع بني هاشم عنده، فقام علي، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أمَّا بعدُ فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكارًا لفضيلتك ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقًّا فاستبددتم به علينا … ثم ذكر قرابته من رسول الله وحقه، فلم يزل يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر.
وهكذا تمت البيعة لأبي بكر فقبلها وهو كاره، ولما رأى إجماع الناس على بيعته دعته نفسه إلى الاستقالة؛ فقد رُوي عن زيد بن أسلم أنه قال: دخل عمر على أبي بكر وهو آخذ بطرف لسانه: إن هذا أوردني الموارد، ثم قال: يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم، فقال عمر: والله لا نقيلك ولا نستقيلك؛ قدَّمك رسول الله، فمن ذا الذي يؤخِّرُك؟ ولما استخلف أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي، وشُغلتُ بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين.