في إسلامه وأحواله أيام الرسول ﷺ وأبي بكر
(١) إسلامه
ظهرت الدعوة المحمدية ولعمر بن الخطاب نيف وعشرون سنة، وكان فتًى قرشيًّا معتزًّا بعشيرته وتقاليدها، عنيفًا في الحفاظ على أمجادها وآثارها، رأى آباءه يدينون بدينٍ فاعتنقه، واشتدت حماسته لهذا الدين، وما عتم أن رأى ظهور فتًى من قريش أخذ يهاجم هذا الدين، ويتهم عقول أصحابه ويطعن في عقيدتهم ويُسفِّه أحلامهم، وكان عمر، على الرغم من إيمانه بشرف نفس صاحب الدعوة الجديدة وثقته بأمانته ونبل خلقه، يعزُّ عليه أن يراه يهاجم قومه وينتقد دينهم الذي توارثوه عن الآباء والأجداد؛ ولذلك اشترك عمر في الحملة التي كان يشنها مناوئو محمد عليه، فانتقده وعذَّب الذين صبئوا عن دين قومهم، واشترك في الإساءة إلى القوم الذين بدَّلوا دينهم، ولكنه حين رآهم يخرجون من ديارهم وأموالهم، وينادون بسقوط من اضطروهم على الخروج ومغادرة مسقط رأسهم إلى أرضٍ بعيدة ولكنهم سيأمنون فيها على دينهم، رأى ذلك كله فأشفق عليهم، ورثى لحالهم، وتألَّم كما يتألم كل فتًى حيي القلب ناشط الوجدان، يرى أحرار قومه من أرباب العقيدة الجديدة يُفضلون حياة التشرُّد على أن يبقوا في أرضهم ويُتابعوا ضُلَّالهم وفجَّارهم.
روى ابن هشام صاحب السيرة عن أم عبد الله بن حنتمة أنها قالت يوم الهجرة: لما كنا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليَّ، وكنا نلقَى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله … آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجًا. فقال: «صحبكم الله.» ورأيت منه رقةً لم أرها قط.
ولقد تعدَّدَت الروايات في أسباب إسلام عمر، ولكنها كلها تتفق في شيءٍ واحد، وهو أنه أراد أن يضع حدًّا لهذا التبلبل النفسي الذي سيطر عليه لما ظهر الإسلام وأخذت دعوة الرسول تنتشر في أرجاء مكة؛ فقد رأى أن بعض عقلاء قريش كأبي بكر بن أبي قحافة، وعلي بن أبي طالب، وخديجة بنت خويلد، وغيرهم من الأذكياء الأمناء قد دخلوا في الدين الجديد، ولا يُعقل أن يكون كل هؤلاء قد صبئوا عن الدين القديم دون أن يناقشوا الدين الجديد ويُمحِّصوه، ويتبنَّوا صدق ما جاء به صاحبه، فلا بد أن يكون ثمة شيءٌ جديدٌ جدير بالتفكير والدرس، ولكن عزة الجاهلية ونخوتها التعسفية كانتا تحولان دون سؤاله عن هذا الدين وسماعه لما جاء به محمد من القرآن والحكمة، إلى أن كانت حادثة أخته وإسلامها ودخوله عليها وهي ترتل القرآن، فقد روى أنس بن مالك قال: «خرج عمر يومًا متقلدًا السيف، فلقيه رجل من بني زهرة، فقال: أين تعمد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمدًا، قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدًا؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي أنت عليه! قال: أفلا أدلُّك على العجب يا عمر؟ إن أختك وختنك قد صَبَوَا وتركا دينك الذي أنت عليه؛ فمشى عمر حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين يُقال له خباب بن الأرت، فلما سمع خباب حِسَّ عمر توارى في البيت، فدخل عليهما فقال لهما: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟
قال: وكانوا يقرءون سورة «طه»، فقالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا. قال: فلعلَّكما قد صبوتما؟ فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئًا شديدًا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها، فنفحها نفحةً بيده فدمي وجهها، فقالت وهي غَضْبَى: يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله! فلما تبين عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه. وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، قم فاغتسل أو توضأ. فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب، فقرأ: طه حتى أتى إلى قوله سبحانه: إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي.
ورُوي عن ابن عمر أنه قال: لما أسلم عمر لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أيُّ أهل مكة أفشى للحديث؟ قيل: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأنا معه أتبع أثره، أعقِل ما أرى وأسمع، فأتاه فقال: يا جميل، إني قد أسلمت، قال: فوالله ما ردَّ عليَّ كلمة حتى قام عامدًا إلى المسجد، فنادى أندية قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ، فقال عمر: كذبت، ولكن أسلمت وآمنت بالله وصدقت رسوله، فثاوروه فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رءوسهم، وحتى فتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال عمر: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا أو تركناها لكم. فبينما هم كذلك قيام إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص قومسي، فقال: ما بكم؟ فقالوا: إن ابن الخطاب قد صبأ، قال: فمه امرؤ اختار دينًا لنفسه، أتظنون أن بني عدي يسلمون إليكم صاحبهم؟ قال: فكأنما كانوا ثوبًا انكشف عنه.
وثمة روايةٌ أخرى تُروى عن عمر نفسه ذكرها ابن إسحاق، وهي قوله: إن عمر كان يقول: كنتُ للإسلام مُباعِدًا، وكنتُ صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة عند دور آل عمر بن عمر عبد المخزومي، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدًا، فقلت: لو أني جئت فلانًا، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرًا فأشرب منها، فخرجت فجئته فلم أجده، فقلت: فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعًا أو سبعين، فجئت المسجد أريد الطواف، فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فكان مصلاه بين الركنين، الركن الأسود، والركن اليماني، فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت من محمد الليلة حتى أستمِع ما يقول، فقلتُ: لئن دنوت أسمع منه لأروعَنَّه، فجئت من قبل الحجر فدخلت من تحت ثيابها، فجعلتُ أمشي رويدًا ورسول الله قائمٌ يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رقَّ له قلبي فبكيت، ودخلني الإسلام، فلم أزل قائمًا في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله صلاته ثم انصرف.
وبعدُ؛ فإن هاتين الروايتَين في سبب إسلام عمر هما أجمع الروايات وأقربها إلى المنطق والصواب، وهما — كما نظن — يُبيِّنان الأسباب الرئيسية التي حدت بعمر إلى اعتناق الدين الجديد، وهناك رواياتٌ أخرى لا تختلف في جوهرها عنهما إلا أنها تزيد أو تنقص في التفصيلات، والأخبار — وأكبر ظننا أن ذلك كله راجع إلى خبرٍ واحد وقصةٍ واحدة — بدأت باستماع عمر للرسول وهو يتلو القرآن ويُصلي في الكعبة، وانتهت بذهابه إلى بيت أخته، ثم انتهت بإعلانه إسلامه في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
ولا ريب عندنا في أن العامل الحقيقي في سبب إسلامه هو تأثره الشديد بالقرآن، وبما تُليَ عليه من آياته المعجزة الباهرة، ولا غرو فقد كان عمر من أفصح العرب وأكثرهم علمًا بالقول البليغ؛ ولذلك لم يتمالك حين استمع إلى ما استمع من آي الذكر الحكيم إلا أن يسلس قياده ويركع أمام بلاغة القرآن، وكيف لا يركع لآي الذكر المجيد ويطرب لها، وهو يطرب لقول حكيم الشعراء زهير بن أبي سلمى حين يردد قوله:
ثم يقول: ما أحسن ما قسم! وإنه لشاعر لا يعاظل بين القوافي، ولا يتبع حوشي الكلام. ورُوي عنه أنه ربما قضى الليلة وهو ينشد شعره حتى يبرق الفجر، فيقول لجليسه: الآن اقرأ. وروى الأصمعي: أن عمر ما قطع أمرًا إلا تمثَّل فيه ببيت من الشعر. ولما قدم وفد غطفان عليه سألهم: من الذي يقول:
فقالوا: نابغة بني ذبيان. فسألهم: من الذي يقول:
فقالوا: النابغة. فقال: هو أشعر شعرائكم.
هذا هو عمر الذوَّاقة للشعر، النقادة للأدب، العارف بأسرار العربية ودقائق الحكمة، فحريٌّ به أن يركع للقرآن ويؤمن به حين يسمعه.
وقد كان دخول عمر في الإسلام سببًا من أسباب عزة المسلمين، لما كان له من الجاه والنفوذ والسمعة الطيبة بين قومه. قال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، وقال: كان إسلام عمر فتحًا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمة، ولقد رأيتنا ولم نستطع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا، وقال أيضًا: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعا إلى الله علانية. وقال علي: لما أسلم عمر واعتزَّ الإسلام والمسلمون به طلب إلى الرسول أن يُظهِر الدعوة، وألا يحفل بقلة المسلمين وكثرة المشركين ما دام المؤمنون على الحق والمشركون على الباطل. ويأبى الله إلا أن ينصر قلة المؤمنين ويذلَّ كثرة المشركين، وقد قبل الرسول فكرة عمر، فلاقى المسلمون من جراء ذلك بعض العنت والإيذاء من فُجَّار قريش، ولكنه كان أمرًا لا بد منه، وما من دعوة حق ظهرت إلا وأوذي أصحابها وفُتنوا عن دينهم، فالواجب يقضي على المسلمين أن يُضحوا وأن يتلقَّوا من العذاب والشدة ما تلقَّاه أمثالهم من رجال الدعوات والأديان السابقة من الحواريين وأنصار الأنبياء والمرسلين، وأصحاب العقائد والمصلحين، وليكن عمر وإخوانه من المسلمين الأولين أول من يتلقَّى الأذى في سبيل الدعوة الجديدة، وقد فعلوا ذلك وتلقَّوا ما تلقَّوا بقلبٍ ثابت، وجأشٍ لا يخفق إلا خوفًا من الله وحده، وتحملوا في سبيل ذلك من ضروب العسف ألوانًا وهم يواصلون العمل ليل نهار لنشر دين الإسلام ومحاربة أعدائه وإعلاء كلمته وحماية رسوله، حتى إذا رأوا أن قوة الشرك قد طغت، وبراثن الضلال قد قويَت، ولم يعُد للمسلمين إلا الهرب بدينهم والهجرة عن أوطانهم، فهاجروا من مكة إلى أرض الله الواسعة، ولكن عمر أبى أن يهاجر، فضاق المشركون به ذرعًا، وعزموا على قتله، ولكن العاص بن وائل والد عمرو حماه منهم وأنذر من يصيبه بسوء.
وهكذا خرج أبو حفص مهاجرًا في سبيل الله معلنًا غضبته على قريش الظالمة التي أخرجت المؤمنين الآمنين من ديارهم، وقد حفظها عمر لقريش، فلم يترك فرصة أو مناسبة يفتك بها بقريش إلا وانتهزها، وقد كان له رضوان الله عليه وسلامه أعمالٌ جليلة في غزوات النبي لقريش والفتك بفُجَّارها.
(٢) هجرته وأعماله في المدينة
ولما قدم عمر المدينة أخذ يوطد أقدام الدين فيها، ويعمل على نشر الدعوة إلى أن قدم الرسول فكان عضده وعونه في تأسيس أركان الدولة الإسلامية وتسهيل أمور رعاياها، وبخاصة المهاجرين منهم، وقضاء مصالحهم وتتبع عورات خصومهم من المشركين والمنافقين وإفساد دسائسهم، وكان شديد الوطأة على المنافقين، يكشف دخائل أمورهم، ويتفطَّن لأعمالهم ومكائدهم، ويعرف خبايا أمورهم، ويعلن ذلك للناس حتى لا يتورطوا في الوقوع بحبائلهم، كما كان شديد التحمس لحماية الرسول الكريم ونصرته.
وكذلك كان عمر شديد الحرص على قراءة قسمات وجوه الناس، ومعرفة خبايا صدور جُفاة الأعراب الأفظاظ الذين كانوا يفِدون على النبي الكريم ولا يقصدون بمجيئهم إليه الإيمان، بل التعنت والإيذاء؛ فكان عمر يعرف الصالح من الطالح، ويقرأ صفحات وجوههم وما انطوت عليه قلوبهم، وكان يلذع القُساة منهم بقوارع كلامه، ويعرف كيف يخاطب أشرارهم ويستلُّ سخائم صدورهم، فيضرب بدرَّته كل من يرى عنده شرًّا ويُبطن سوءًا للنبي أو أحد من صحابته وقرابته، فقد رُوي أن عمير بن وهب الجمحي عاهد صفوان بن أمية القُرشي بعد وقعة بدر على أن يأتي المدينة ويقتل الرسول الكريم، فقدِمَها واستأذن على الرسول، فخرج إليه عمر وتفرَّس في ما انطوى عليه صدره، فرأى الشر في عينَيه والخُبث في كلامه، فأخذ حمالة سيفه وقال لجماعة من الأنصار: ادخلوا على رسول الله واحذروا هذا الخبيث، فلما رآه الرسول قال لعمر: اتركه، فخلَّى عنه، ثم سأله الرسول عما جاء به، فقال: ما جئت إلا لهذا الأسير، يعني أباه وهب الذي كان في عداد أسرى المشركين يوم بدر، فقال له الرسول: اصدقني، فقال: ما جئت إلا لذلك، فقال الرسول: بل قعدت أنت وصفوان وجرى بينكما كذا وكذا، فدُهِش ابن وهب وأسلم لساعته.
هذه بعض أعمال عمر بن الخطاب ومواقفه المحمودة بعد هجرته إلى المدينة، وهي كما ترى أعمالٌ جليلة، ومواقفُ نبيلة، صانت الرسول وحفظت الدين.
(٣) آراؤه في التشريع وموافقة القرآن له
- (١) معارضته لأبي بكر وجمهور الصحابة في قبول الفدية من أسرى بدر، وكان يرى أن يُقتلوا فلم يقبل رسول الله رأيه وأخذ برأي جمهور الصحابة، فقبل الفداء ونزل قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ولما نزلت هذه الآية الكريمة قال النبي: كاد يصيبنا في خلافك شر.١١
- (٢) معارضته في وجوب حجاب زوجات النبي؛ فقد رأى وجوب لزومهن بيوتهن، وقال لهن: لتكفنَّ عن رسول الله أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن، فنزلت آية الحجاب كما رأى، ونزلت آية: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ.
- (٣) رأيه في تحريم الخمر في سائر الأزمان والأمكنة، وقد نزلت الآيات كما رأى في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ.
- (٤) رأيه في وجوب اتخاذ مقام إبراهيم مُصلَّى للناس؛ فقد قال مرة للنبي: يا رسول الله، أليس هذا مقام إبراهيم أبينا؟ قال: بلى، قال عمر: فلو اتخذته مصلى، فأنزل الله قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.
- (٥) رأيه في وجوب الاستئذان قبل الدخول إلى البيوت؛ فقد رأى ألا يدخل الرجل بيتًا غير بيته قبل الاستئذان من أهله، وقد كانوا في الجاهلية وصدر الإسلام يدخلون بدون ذلك، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا.
- (٦) رأيه في وجوب عدم الاستغفار للمنافقين؛ لأن ذلك لا يُجدي، فقد طلب عبد الله بن عبد الله بن أُبي من النبي أن يستغفر لأبيه أُبي رئيس المنافقين لعله يخلص في إسلامه، فاستغفر له النبي، وكره عمر ذلك، فنزل القرآن موافقًا لرأي عمر حيث يقول: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ.
- (٧) رأيه في وجوب عدم الصلاة على موتى المنافقين لما صلى الرسول على عبد الله بن أُبي، فنزلت الآية مؤيدة رأي عمر: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ.
- (٨)
سماعه صيغة الأذان في نومه، وإقرار النبي له بناء على تلك الرؤيا …
وصفوة القول أن لعمر مواهب ومزايا انفرد بها عن جماعة الصحابة؛ فقد كان متفانيًا في حب الله ورسوله، ومخلصًا صادقًا في الولاء لدينه ونبيه، منقبًا عن الخير يهديه للمسلمين غير مقصر في نصحهم والسعي إلى إسداء المعونة إليهم.
(٤) أحواله في أيام أبي بكر
لما استُخلِف أبو بكر الصديق كان عمر أقرب الناس منه، يقدم إليه خالص النصح، ولا يُقصِّر في معاونته وتسديد أموره، وكان عمر في جيش أسامة بن زيد الذي عزم الرسول على بعثه قبل وفاته، فلما تُوفي رسول الله واستُخلِف أبو بكر استأذن أسامة في أن يُبقي عمر إلى جانبه يستشيره في أمور المسلمين ويستنير برأيه السديد، ولم يكتم عمر من أبي بكر شيئًا مما فيه صلاح المسلمين ورشاد أمورهم، ولا عجب فإن عمر كان صاحب الكلمة المسموعة في عهد الرسول لإخلاصه ونقاوة سريرته وفهمه لحقائق الأشياء، فلما تولى الصديق وأحاطت به بعض الفتن والمشاكل لم يجد في غير عمر سندًا وعضدًا ووزيرًا، ولما مات الرسول وارتدَّت العرب واضطرب حبل الإسلام ورأى بعض الصحابة وفيهم عمر أن يقبل الخليفة الصديق من المرتدين عدم إعطاء الزكاة، ثار أبو بكر ثورته التاريخية، واضطر عمر والصحابة أن يوافقوا أبا بكر ويقولوا بقوله، وكان قوله هذا الفصل الحق الذي أنجح الإسلام. والغريب في هذا الأمر أن أبا بكر المعروف بلينه وقف هذا الموقف الحازم، بينما وقف عمر المعروف بشدته هذا الموقف الليِّن، ولكنَّا حين نعرف أن عمر رجع على الفور إلى رأي الصديق نعرف أن عمر إنما قال ذلك حقنًا للدماء وخوفًا من الفشل في حربٍ أهلية والإسلام بعدُ ضعيف لم يقوَ القوة اللازمة، ولكنه ما لبث أن انشرح صدره (أي الفاروق) فقال بقوله، وسار بسيرته، وأيَّده في فكرته في قتال المرتدين، وقال: ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر حتى عرفت أنه الحق.