في خلافته
لما طُعن عمر قيل له: لو استخلفتَ، قال: لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيًّا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالمًا شديد الحب لله، فقال له رجل: أدلُّك عليه، عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله، والله ما أردت بهذا، ويحك! كيف أستخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته؟ لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرًا فقد أصبنا منه، وإن كان شرًّا فشرٌّ عنا آل عمر، بحسب آل عمر أن يُحاسَب منهم رجلٌ واحد، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله ﷺ إنهم من أهل الجنة:
ولما مات عمر وخرجوا، فقال علي لقوم كانوا معه من بني هاشم: إن أطع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدًا، وتلقاه العباس فقال: عدلت عنا، قال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلًا، ورجلان رجلًا فكونوا مع الذين منهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يُخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلا أحدهما، فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إليَّ مستأخرًا بما أكره، أشرتُ عليك عند وفاة رسول الله ﷺ أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيتَ، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيتَ، وأشرت عليك حين سمَّاك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيتَ، احفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا يناله إلا بشرٍّ لا ينفع معه خير، فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولُنَّها بينهم، ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون، ثم تمثل:
والتفت فرأى أبا طلحة، فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لم ترع أبا الحسن.
فلما مات عمر وأُخرجَت جنازته تصدَّى علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال عبد الرحمن: كلاكما يحب الإمرة، لستما من هذا في شيء، هذا والله صهيب استخلفه عمر يصلي بالناس ثلاثًا حتى يجتمع الناس على إمام، فصلى صهيب، ثم اجتمع أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: بل في بيت المال، أو في حجرة عائشة، وهم خمسة ومعهم ابن عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وتنافس القوم في الأمر، وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوَف مني لأن تَنَافَسُوها، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أُمرتموها، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون، فقال عبد الرحمن: أيكم يُخرِج منها نفسه ويتقلدها على أن يولِّيها أفضلكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: فأنا أنخلِع منها، فقال عثمان: أنا أول من رضي، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: أمين في الأرض، أمين في السماء، فقال القوم: قد رضينا، وعلي عليه السلام ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقًا لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألُ الأمة، فقال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدَّل أو غيَّر، وأن ترضوا من اخترت، لكم عليَّ ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين، فأخذ منهم ميثاقًا وأعطاهم مثله، فقال لعلي: إنك تقول: أنا أحق من حضر في الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد، ولكن لو صُرف هذا عنك فلم تحضُر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط؟ قال: عثمان، وخلا بعثمان فقال له: تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر النبي وابن عمه، لي سابقة وفضل، لم تبعد، فلم يُصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط أحق؟ قال: علي، ثم خلا بسعد فكلمه بذلك، فقال: عثمان، ثم خلا بالزبير فقال: عثمان، ثم طاف عبد الرحمن بأصحاب رسول الله وأمراء الأجناد وأشراف الناس يدعو لعثمان، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة، فاستدعى الزبير وسعدًا، فقال الزبير: نصيبي لعلي، وقال سعد: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أولى، بايع لنفسك وأرِحنا، فقال: يا أبا إسحاق، أنا خلعت نفسي منها على أن أختار.
ثم خرج سعد والزبير واستدعى عليًّا فناجاه طويلًا، ثم ذهب وهو لا يشك في أنه صاحب الأمر، واستدعى عثمان فناجاه ووقع عليه اختياره، ثم جمع عبد الرحمن الناس، فقال: إني قد نظرت وشاورت، فإذا أكثر الناس لا يعدلون بعثمان، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله، ثم قَدِمَ طلحة في اليوم الذي بويع فيه عثمان، فقيل له: بايع عثمان، فأتاه فقال: أكلُّ الناس بايعوك؟ قال: نعم، ثم وجد أن أكثر الناس بايعوه، فبايعه، وهكذا تمت بيعة عثمان، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله:
ولما تمت بيعة عثمان وتزاحم الناس في المسجد يبايعونه، وقف على المنبر فقال: «الحمد لله، أيها الناس، اتقوا الله، فإن الدنيا كما أخبر الله عنها لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، فخير العباد فيها من عصم الله واستعصم بالله وبكتابه، وقد وكلت من أمركم بعظيم، لا أرجو العون عليه إلا من الله، ولا يوفق للخير إلا الله، وما توفيقي إلا بالله، توكلت عليه وإليه أنيب.» وكان ذلك يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ٢٣ﻫ، فاستقبل بخلافة المحرم سنة ٢٤ﻫ، وقيل: بل استُخلِف لثلاثٍ مضين من المحرم سنة ٢٤ﻫ.