الفصل الحادي عشر
دقَّ جرس التليفون في بيت هارون، ورفعت حميدة السماعة: ماما.
– شهاب؟
– لا، أنا الباشمهندس شهاب.
– صحيح؟
– وفائق أيضًا أصبح الباشمحاسب فائق.
وفي طفر من الفرح غامرة قالت حميدة: صحيح؟ الحمد لله يا ابني. ألَا تأتي لأقبلك؟ وأين أخوك؟
– أنا سأقضي اليوم مع إخواني، وسأتأخر في المساء. أمَّا فائق فقد طلب مني أن أُخبرك أنه سيتغدَّى خارج البيت ولن يتأخَّر بعد ذلك.
– ألم يكن من المعقول أن تأتي أنت وأخوك لنفرح بكما أنا وأبوك؟
– أبي مشغول، المهم أن تعرفي أنت، وقد كلمتُك بعد أن عرفتُ النتيجة مباشرة لأني أنا وفائق نعرف أن الأمر يُهمك.
– يُهمني؟! إنه أملي الذي أعيش له وبه.
– الحمد لله. قولي أنتِ لأبي، وما أظن الأمر يُهمه كثيرًا.
– أهذا الكلام؟
– المهم لا تنشغلي إذا تأخَّرتُ قليلًا في المساء.
– ما تشوفه يا ابني، الأمر لله.
– مع السلامة.
– مع السلامة.
•••
لم يُبدِ هارون الفرح الذي ينبغي لأب تخرَّج ولداه اللذان ليس له غيرهما، وكأن الأمر كان مفروضًا لا شك فيه، وألمَّ بقلب حميدة بعض الألم من استقبال هارون لخبر هو في عُرف الأسرات من أهم الأخبار التي تسعد لها الأسر جميعًا.
تناول هارون غداءه في سرعة ولم ينَم نومة القيلولة، وخرج وهو يُنبئ زوجته أنه سيتأخَّر في المساء، ولم تسأله لماذا فهكذا تعوَّدت.
وأمسكت التليفون لتُخبر أختها بنجاح ابنَيها، وبشَّرتها وجيدة بأن هناء أيضًا حصلت على ليسانس الحقوق، وأن أيمن نجح وأصبح في السنة النهائية من نفس الكلية. وكان الدكتور أمجد في البيت، وكان سعيدًا غاية السعادة بنجاح ابنته وابنه. وهنَّأ حميدة بنجاح ولدَيها، واستردَّت حميدة فرحتها التي كان استقبال هارون قد خفَّف منها.
وراحت حميدة تُكلِّم أبوَيها وصديقاتها جميعًا، وفجأةً تذكَّرت أنها لم تُكلِّم الحاج حامد فأدارت القرص وكلمته في البلدة، فكانت سعادته الواضحة من صوته أعظم ألف مرة ممَّا رأته من عدم اهتمام هارون بالخبر. وكلمتها حماتها الحاجة توحيدة وهي تقول: لو كنتُ أعرف كيف أُزغرد لزغردت، ولكن انتظري! يا نبوية، يا أم الهنا، يا سعدية، زغردن يا بنات واملأن الدنيا زغاريد.
وسمعت حميدة زغاريد الخادمات في التليفون فأحسَّت قلبها يُزغرد معهن، وهكذا ملأت السعادة جوانح حميدة؛ فقد عبَّرت هذه الزغاريد عن كثير من خلجات الفرح التي يدق بها فؤادها.
ولم تمضِ ساعات حتى جاءتها أختها وجيدة وابنتها هناء ومعهما صناديق من الحلوى، وأقبلت الكثيرات من صديقاتها يحملن أيضًا ما يُجاملن به حميدة صديقتهن الطيبة الحبيبة إليهن بخُلقها السلس وصداقتها الحنون الخالصة بلا شوائب؛ فقد كن يحملن لها الود الصادق وإن كانت منهن من تُكِن لها بعض الحسد على الغنى الفاحش الذي أصابه زوجها، إلا أن أولئك كن يجهدن غاية الجهد أن يُخفين حسدهن حتى كن يبدين أكثر حبًّا لها من المخلصات اللواتي لا يحملن لها إلا الحب الخالص الكريم.
ولم يسكت التليفون عن الرنين ممن لا يستطعن المجيء يُقدِّمن التهنئة ويسعدن بالزيارة في الغد.
وطال بالسيدات الحديث حتى أوشك موعد العشاء أن يحين، فبدأن في الانصراف ولم يبقَ إلا وجيدة وابنتها هناء فقد بقيتا قليلًا، ثم قالت وجيدة: نقوم أنا وهناء فإننا الليلة سنحتفل بالنجاح، وقد أعددت وليمة، إذا كان هارون سيتأخَّر فلماذا لا تأتي معنا يا حميدة؟
– هارون فعلًا سيتأخَّر وكذلك شهاب، ولكني أعتقد أن فائق في طريقه الينا وسأكرمه بعشاء فاخر.
وقبل أن تكمل جملتها دخل فائق وسعادة الدنيا كلها في وجهه وعينَيه، واستقبلته خالته وهناء بالتهليل، وحين استقرَّ بهم المجلس قالت هناء: هذه الفرحة الكبرى التي في وجهك وعينَيك فرحة النجاح وحده؟
– أليس التخرُّج جديرًا بهذا؟ ألم تفرحي أنتِ بالتخرُّج؟
– أنا كنتُ واثقة، وكل ما كان يُهمُّني هو درجة التخرُّج.
– جيد.
– خسئت، بل جيد جدًّا.
– ومن سمعك وشرفك أنا أيضًا، بل وشهاب أيضًا. ما درجة أيمن؟
– جيد.
– نعمة.
– ولكني ما زلت مصرَّةً أن في عينَيك مع فرح النجاح فرحًا آخر.
– ما سر إصرارك هذا؟
– أنا وأنتَ كنَّا ننال تقديرًا في جميع سنوات الدراسة، فنجاحنا بدرجة جيد جدًّا أمر متوقَّع، وهذه السعادة التي تتناثر حولكَ وراءها سر آخر.
– ولماذا تُحاولين أن تكشفي أسراري؟
– فضول المرأة.
– ألَا يردُّه اقتران الليسانس بدرجة جيد جدًّا؟
– تظل المرأة هي المرأة.
– ولن أشفي فضولكِ هذا.
– ما تلبث الأسرار أن تنكشف وتَذيع وتُصبح على كل لسان، والذي لا يشتري يتفرَّج.
– انتظري حتى تشتري وتتفرَّجي.
– ألَا تنال ابنة خالتك حقَّ السبق؟
– كأنكِ نلتِ الليسانس في الصحافة.
– والمحامية أيضًا تبحث عن الحقيقة.
– لقد بدأتِ الممارسة مبكرةً جدًّا.
وقاطعتها وجيدة: كعادتكما لا ينتهي لكما نقاش، قومي يا بنت.
وقامت هناء: أيقال للجيد جدًّا يا بنت؟
– وإن أصبحتِ رئيسة النقض أنتِ عندي بنت. هيَّا حتى لا نتأخَّر عن أبيك وأخيك.
وقامتا.
وما لبث أن أُعد العشاء وجلست إليه حميدة وفائق، لكنها لاحظت أنه غير مقبل على الطعام إقباله الذي تعوَّدته منه ففاجأته: فائق هل تعشَّيت؟
وأُرتج على فائق لحظات، ثم ما لبث أن تمالك نفسه وهو يقول: أنا … أبدًا … أبدًا والله.
– بل تعشَّيت.
– أبدًا.
– المهم قُم بنا.
– ألَا تُكملين عشاءك؟
– وحدي، أنا شبعت.
– لم تأكلي.
– ربما أكون أنا الأخرى قد تعشَّيت.
وضحكت وضحك وقاما، وذهبا إلى غرفة المعيشة وجلسا أمام التليفزيون، وكان يُعرض به فيلم عربي قديم ولكنهما كانا مستمتَعين به، وقبل أن ينتهي الفيلم دقَّ جرس التليفون، ونظر كلاهما إلى الآخر، وكان فائق أسبق إلى التليفون.
– بيت هارون بك بركات؟
– نعم من يُريده؟
– هنا قسم قصر النيل. حضرتك هارون بك؟
– لا أنا ابنه.
– ألَكَ أخٌ اسمه شهاب؟
– نعم ما له؟
– عندنا وليس معه بطاقة، نرجو أن يأتي أحد من عندكم.
– هل هناك شيء؟
– مَن يأتي سيعرف.
– شكرًا!
ووضع فائق السمَّاعة وهو في حالة ذهول تام وقد امتقع وجهه وجفَّ فمه حتى لا يستطيع أن ينطق، وذُعرت الأم وسارعت إليه: ماذا؟ … ماذا يا فائق؟ … ماذا حدث؟
وجمع فائق الكلمات ونطقها بصعوبة: شهاب في القسم.
ودقَّت صدرها وارتمت إلى أقرب كرسي منها.
– لماذا؟ ماذا فعل؟
– لا أدري، لا بد أن أذهب إليه.
– تذهب إليه وحدك؟
– أبي غير موجود، ماذا أصنع؟
– انتظر.
وطلبت الدكتور أمجد وأجابها، وروت له ما حدث.
– فائق عندك؟
– نعم.
– يأتي إليَّ الآن وسأذهب معه.
وفي القسم قدَّم الدكتور أمجد نفسه كما قدَّم فائق، وسأل وعرف كل شيء؛ لقد هاجم بوليس الآداب بيتًا وكان به شهاب. وقال أمجد: لا أظنكم تحتجزونه.
– لو كان معه بطاقة ما استدعيناكم.
– معي بطاقة.
– إذن سنُفرج عنه في الحال.
وخرج ثلاثتهم وركبوا السيارة صامتين لم ينطق أحد بكلمة، وحين بلغوا منزل الدكتور أمجد نزل دون تحية. وسار أمجد في طريقه ولأول مرة تكلَّم شهاب: إلى أين؟
– إلى البيت.
– أمرُّ لآخذ سيارتي.
ودلَّه على الطريق. ونزل شهاب وقال لفائق: أنا لن أذهب إلى البيت.
– أنا تركتُ ماما بين الحياة والموت.
– طمنها أنت. أنا لن أذهب إلى البيت.
– إلى أين تذهب الآن؟
– اطمئن، لا تخف.
وتركه دون أن يُكمل الحديث، وركب سيارته وسار بها وفائق مذهول في مكانه.
•••
لا أمل لي إلا هو. أنا الآن أُريد مكانًا أختفي فيه عن الوجوه اللائمة، وأُريد الغفران وأُريد الحب. قد أجد هذا من أمي وحدها، ولكن سأجد كل ما أكره في وجوه الآخرين.