الفصل الرابع عشر
حين زار الحاج حامد سعدون في بيته بادره سعدون بقوله: أعرف فيمَ جئت.
– مؤكَّد.
– أليس العقاب قاسيًا؟
– بل أقل كثيرًا ممَّا ينبغي. لقد أعطيتُ هذا الولد أربعين فدَّانًا يكسب منها الآن أكثر من ستين ألف جنيه، أمَا كان ينبغي أن يحط في عينه حصوة ملح ويُعطيني أنا وأمه عُشر ما يكسب من أرضي؟ وصمت سعدون وأطرق لا يجد ما يقول.
– والألعن من الفلوس، الابن الذي يجحد أبوَيه حتى لو لم تكن الأرض أرضهما، ماذا يُساوي في الحياة؟ أنا فقدت هارون فهو إنسان … وأستغفر الله أن يكون إنسانًا، هو كِيان غير بشري ليس له قلب. والذي لا يعرف كيف يُعامل أبوَيه لا يعرف كيف يُعامل أبناءه.
– هوِّن عليكَ يا حاج حامد.
– أنتَ الذي جعلت الحياة مقبولةً مني، فلولاك لأصبحَت الدنيا بلا معنًى. وأي معنًى يمكن أن يكون للحياة إذا خلت من عظماء أمثالك.
– أرجوك يا حاج حامد، أنا لم أصنع إلا ما يجب أن يصنعه الإنسان.
– لقد صنعتَ صنيعًا لا يمكن أن يُطالبك به أحد.
ويقول سعدون في خجل، وكأنه يعتذر: المسألة أهون من هذا، لقد رأيتُ أنني كان ينبغي لي أن أُقدِّم لحميدة ابنتي مبلغًا يُعينها على الحياة مثلما يفعل الآباء كلهم في أيامنا هذه، ولكني وجدتها في غير حاجة إلى …
ويكمل الحاج حامد: فحوَّلت المبلغ إلى أبي زوجها الذي ما زال ابنه على قيد الحياة، والذي أعطاه أبوه أربعين فدَّانًا، والذي أصبح اليوم من أكبر أغنياء مصر وربما من أكبر أغنياء الدنيا. هل تُقدِّر الألم الذي أشعر به؟
– طبعًا.
– لا، وأرجو الله ألَّا تراه أبدًا. ولكني يا سعدون رجل لم أترك فرضًا، وليس لي في الدنيا إلا هارون، فلماذا يُعذِّبني به الله هذا العذاب؟
– سبحان الله يا حاج حامد. إن الله هو الذي يُحاسبنا ولسنا نحن الذين نُحاسب الله. ومن أدراك ماذا يُعِد الله لكَ من خير في الدنيا والآخرة؟ إن للسماء عدالتها الخاصة بها، وليس من حق البشر أن يحاسبوها.
– أستغفر الله العظيم، والحمد لله سبحانه على كل ما أعطى وما لم يُعطِ. أستغفر الله. الغرض.
– أي غرض؟
– كيف أشكرك؟
– بأن تنسى الأمر تمامًا.
– هيهات! إن معي الآن مبلغًا ضخمًا من المال.
– وماذا تُريد أن تقول؟
– أعلم أنك سترفض مني أن أرد دينك.
– وما دمت تعلم هذا ففيمَ تتكلَّم؟
– سأرد دينك رغم أنفك.
– كيف؟ أيمكن هذا؟
– نعم، اقرأ هذه الورقة.
وقدَّم إليه ورقةً نظر فيها سعدون وبدت الدهشة على وجهه: ما هذا؟
– لا تندهش.
– قيراطَين أرض باسمي في قريتنا.
– نعم.
– ما معنى هذا؟
– معناه أنني اشتريتُ الأرض في بلدك للبناء، فأنا أعلم أنكَ بعت أرضك كلها وأرض زوجتك ولم يعُد لكَ في بلدكم شيء، ولكني أردتُ أن أجعل صِلتك بها أكرم صلة.
– كيف؟
– سأبني في هذَين القيراطَين جامعًا باسمك.
وطفرت الدموع إلى عينَي سعدون، وقال وهو يجهش بالبكاء: هذا أكثر ممَّا أستحق.
– وهل نتحاسب؟
– هذا أكثر ممَّا أستحق.
– أتعرف الكلمة التي يقولها الناس شكرًا لله؟ لا لقد أردت أن أقولها بهذا المسجد الذي أبنيه باسمك.
ومع البكاء الذي راح يعلو من سعدون لم يستطِع أن يقول شيئًا، وقام الحاج حامد: السلام عليكم ورحمة الله.