الفصل الثامن
كان سعدون في بيته بجاردن سيتي الذي لم يُغيِّره منذ زواجه، ولم يكن بحاجةٍ أن يُغيِّره؛ فقد كان المال وافرًا عنده من ريع الأرض الذي كان يزيد زيادةً فاحشة. كما أنه أصاب مبلغًا يزيد على مليونَي جنيه حين آلت عمارة عابدين للسقوط، وقرَّرت الجهات المختصة إزالتها حتى لا تنقَضَّ على من بها. ورأى سعدون أن بيع أرضها خير له من إعادة بنائها. وكانت العمارة مقامةً على حوالي ألف متر، وكان سعر المتر في هذه المنطقة قد تجاوز الألفَي جنيه. فباع الأرض بما يزيد على مليونَي جنيه؛ وبذلك أصبح موفورًا في ماله السائل، كما كان موفورًا بأرضه وأرض زوجته وفيَّة الذي وصل إيجار الفدَّان فيها إلى ألف جنيه في العام، كان يدفعها لها هارون راضيًا؛ فقد كان يكسب من الأرض أضعاف هذا المبلغ.
جاء الخادم يُبلغه أن عبد المجيد زين الدين بالدور الأول يرجو أن يلقاه، فتعجَّب سعدون لهذه الزيارة المفاجئة؛ فقد كان لا يرى عبد المجيد إلا في أول كل شهر ليُسلِّمه المبلغ الذي تعهَّد أن يُقدِّمه إليه، والذي زاد إلى أربعمائة جنيه في السنوات الأخيرة. كان مرتديًا ملابسه فنزل من فوره إلى غرفة الاستقبال في بيته: مرحبًا عبد المجيد بك!
– أهلًا بالرجل العظيم!
– وبعد لك؟ إنك دائمًا تخجلني. قهوتك مضبوطة أليس كذلك؟
– نعم.
وطلب سعدون القهوة لضيفه الذي ظلَّ شبه صامت لا يتكلَّم، وإذا تكلَّم لا يتكلَّم إلا عن الجو والصحة وأولاده، وهذه الأحاديث لا تعني شيئًا، وكلما تكلَّم ازدادت دهشة سعدون من هذه الزيارة التي لم يتصوَّر أن يكون المراد منها مجرَّد الحديث عن الجو والصحة والأولاد. عرف من الأحاديث أن إلهام حفيدة عبد المجيد من ابنه وجدي أصبحت في السنة الثالثة من كلية التجارة، وأن حفيدة نبيل من ابنه إسماعيل في السنة الرابعة من كلية الطب، ولكن ماذا يعني هذا؟ إن هذه الأنباء نفسها ليست جديدةً عليه؛ فهو على صلة شهرية في الصباح بعبد المجيد، شهرية في الصباح وتكاد تكون شبه يومية في مقهى الهيلتون الذي انتقلوا إليه بعد أن هُدمت الأنجلو. وكان عبد المجيد قد أقلع عن شرب الخمر وأصبح أقرب ما يكون إلى التصوُّف، لكنه كان يحب الجلوس إلى من بقي من أصدقاء الأنجلو في مقهى الهيلتون، يتبادلون الحديث ويُعلِّقون على الأحوال الاقتصادية والمالية، ويُفرج المكروب عن كربه، ويترحَّمون على الأيام الخوالي، ويتناقلون أخبار بعضهم البعض. إنها زيارة غريبة! ماذا حدث للرجل؟ إن الزيارة المنزلية لم تصبح سمة العصر. ماذا يُريد الرجل، وفيمَ هذا الحديث الذي لا جديد فيه؟ وشرب عبد المجيد القهوة ورشف رشفةً من الماء: لا تعجب كثيرًا من هذه الزيارة.
– البيت بيتك وتُشرِّف في كل وقت.
– مرَّت حوالي عشر سنوات منذ اليوم الذي تفضَّلت فيه …
وقاطعه سعدون: وبعد لكَ يا عبد المجيد بك! ما معنى هذا الكلام؟
– اسمعني إلى آخر حديثي.
– تحت أمرك.
– بعد النكبة التي أنزلها بي هارون ظلِلت قرابة سنتَين وأنا لا مورد لي إلا ما آخذه منك.
– وبعد معك؟
– اسمعني. كانت سنوات مظلمة، وكان الأولاد بالمدارس وبغير ما كانت آخذة منك الله وحده يعلم إلى أي مصير كنت سأُرمى. في السنة الثالثة لاحت لي فرصة تجارية بدت في أول أمرها ضئيلة الموارد، فقلت في نفسي أُبلغك وأتوقَّف عن أخذ المبلغ الشهري منك، ولكنني راجعتُ نفسي. ماذا أفعل إذا لم ينجح المشروع؟ ورأيت أن أنتظر قليلًا. كان المشروع تجارة أخشاب، وكبر المشروع وأصبح المال الذي أناله منكَ غير ذي موضوع. لكنني فكَّرتُ قليلًا، فوجدت أن المبالغ التي تُعطيها لي أنتَ لستَ في حاجةٍ إليها؛ فقد كنتُ أعرف أن إيجار أرضك يزيد دائمًا، وأنكَ بعت أرض عابدين فكان همِّي الوحيد كيف أرد لكَ فضلك؟ وجدت أن أحسن ما أستطيع أن أصنعه أن أستمر في أخذ المبلغ منكَ وأستثمره في مشروعي وكأنكَ شريك معي بما تُقدِّمه لي كل شهر. واعتبرتُ نفسي كأني أدخر لك.
– ماذا؟!
– اسمع.
– لا أسمع شيئًا! وهل هذا معقول؟
– بل هو المعقول. في هذه الحقيبة نصف مليون جنيه، هي أرباحك التي كسبتها ممَّا قدمتَه إليَّ في هذه السنوات.
ووقف سعدون ذاهلًا وهو يصيح: ماذا تقول يا رجل؟ هذا المال نتيجة جهدك وعملك.
– ولكنه مالكَ أنت، وكل ما فعلتُه أنني أشركتُك معي.
– وجهدك؟
– كنتُ سأقوم به على أية حال، سواء كان مالك أو لم يكن مالك. إنه كان يدخل ضمن إيرادي، أليس كذلك؟
– كيف أقبل هذا؟
– هذا ربح حلال، وأنت تعرف أنني الآن أؤدي الفروض جميعًا، وهذا المال زكاته مدفوعة وعلم الله ليس فيه مليم من حرام.
– لا يمكن أن أقبل هذا.
– لقد كنتَ كريمًا وأنتَ تُعطي، فاسمح لمن أخذ أن يكون على درجتك من الكرامة.
– أترضاها لي؟
– أوَترضى أنتَ لي أن أستحل مالك في أسود أيام عمري، ولا أرد لكَ الفضل بعد أن أكرمني الله هذا الإكرام؟
– ولكن أنا لم أُقدِّم إليكَ ما قدَّمت لتُتاجر لي فيه، بل لم أكن أتوهَّم هذا.
– ولكنني أخذتُ منكَ ما أخذتُ في السنوات الأخيرة كلها، على نية التجارة بها باسمك.
– فلو كنتَ خسرتَ ماذا كنت تصنع؟
– لو كنتُ خسرتُ لظلِلت أتقاضى منك ما خصَّصته لي، وتكون أنت قد خسرت مالًا كنتَ تتبرَّع به.
– والله …
– يا سعدون بك من الكرامة أن تُعين الآخرين على حفظ كرامتهم.
– هذا معنًى جميل.
– إنه حق.
– إذن فاسمح لي أن أشعر أنني أسمو إلى المكان الذي وضعتني فيه.
ألم تستر فقري، وأتحت لي العيش كريمًا على نفسي وأولادي وعلى الناس في سنوات ما كنتُ أدري فيها كيف أُواجه الحياة؟ أستأذن أنا، سلام عليكم.
وقام الرجل من مجلسه وسعدون ما يزال في حالة ذهول، وقف هو يقول: انتظر.
– لم يبقَ عندي ما أقوله.
– هذا المال ليس حقي.
– بل إنه أقل من حقك.
واتجه إلى الباب وهو يقول: سلام عليكم.
وخرج وسعدون في ذهوله لا يزال.
ثم جلس وهو يقول في صوت مرتفع: أيمكن هذا؟ هل هناك ناس مثل هذا الرجل؟ اللهم أحمدك يا رب. إنك أرحم بعبادك من أن تتركهم وليس فيهم مثل هؤلاء العظماء.