الفصل التاسع
انتهى اليوم الدراسي في كلية الهندسة، وخرج شهاب من الكلية وبرفقته صديقه حلمي فؤاد واتجها إلى سيارة شهاب.
– إلى أين يا شهاب؟
– إلى البيت.
– ماذا تصنع في البيت؟
– ما يصنعه خلق الله في بيوتهم.
– يا أخي لقد تعبنا اليوم، لماذا لا نتغدَّى في أحد المطاعم ونقضي يومًا ممتعًا.
– لا مانع. انتظرني في السيارة حتى أُكلِّمهم في البيت.
– أترى ذلك مهمًّا؟
– حتى لا أشغل والدتي.
– على كيفك، ولو أنني في بيتنا أعود حينما أُريد، ولا يسألني أحد أين كنت.
– المسألة ديتها تليفون.
– على كيفك.
وحين عاد شهاب سأل حلمي: أتعرف مطعمًا معيَّنًا؟
– اطلع.
وعلى الغداء قال حلمي: قل لي يا شهاب، ألم تتصل في حياتك بالبنات؟
– اتصالات عابرة.
– مثل ماذا؟
– ما تيسَّر.
– ألم تذهب إلى بيت من بيوت المتعة؟
– أسمع عنها ولكني لم أرَها.
– هل من المعقول هذا؟!
– أتراه غير معقول؟
– لو أن الشباب جميعهم مثلكَ لخربت هذه البيوت.
– يا ليتها تخرب.
– اسكت، أنتَ لا تعرف شيئًا.
– أعرف ماذا؟
– هناك ينسى الإنسان نفسه.
– وينقلب إلى حيوان.
– وما البأس؟ أليست الحيوانية جزءًا منا؟
– جزء بغيض.
– على أساسه تبقى الحياة، لولاه لفني البشر.
– هذا في الزواج.
– ولكننا قبل الزواج شباب، ولا بد أن نُجرِّب الحياة.
– أتظن ذلك؟
– بل أنا واثق.
– أذهبتَ أنتَ إلى بيت من هذه البيوت؟
– مرتين في حياتي؛ وهذا لقلة المال طبعًا، فلو كان معي مال لذهبت إليها يوميًّا.
– أين هذا البيت؟
– ما رأيكَ نذهب الليلة. هل معك فلوس؟
– معي.
– إذن نلتقي في التاسعة ونتمشَّى بالسيارة قليلًا، ثم نذهب.
– والله لا مانع.
والتقيا، وذهبا، وواجه شهاب حياةً جديدةً عليه، سعد ببعضها وتقزَّز من بعض آخر فيها.
النساء عرايا، وصاحبة البيت عجوز تفعل بوجهها الأفاعيل لتبدو في غير سنها، وفي البيت صمت كئيب على غير ما تُصوِّره الأفلام المصرية، الهمس هو صوت المتحدِّثين، والغمز بالعين الواحدة إشارات كأضواء خجلى لا تنطفئ ولا تنير. وقلة قليلة من رجال لا يعرف أحدهم الآخر، وإنما كل منهم في شأن يُغنيه، يجلس في صحبة كأس يحسوها في توتُّر شديد.
ألحَّ حلمي على شهاب أن يشرب كأسًا من الويسكي، وأطاعه آخر الأمر ولكنه لم يُكمل الكأس؛ فذوقه رفض طعم الشراب ولم يجِد له تلك النشوة التي سمع بها.
وحين خرج من البيت كان يشعر بشيء من الخجل والغضب من نفسه.
•••
يحرص فائق على الذهاب إلى الكلية كل يوم رغم الزحام الشديد، ورغم أنه لا يستفيد شيئًا من المحاضرات التي يُلقيها الأساتذة؛ فقد كان يعتمد في نجاحه على مذاكرته هو في بيته. وهو في ذلك مثل الأغلبية الكاثرة من الطلبة، ولكنهم مع ذلك يُصرُّون على الذهاب إلى الكلية، ولكلٍّ من الطلبة سبب خاص به في ذهابهم إلى الكلية؛ فأغلبهم لا يُصيب شيئًا من الفائدة بالمحاضرات، بل إن كثيرًا منهم يذهب إلى الكلية ولا يدخل إلى المحاضرة، ويقول قائلهم: إن وجدتُ الكرسي الذي أقتعده، فلن أجد الهواء الذي أتنفَّسه. ولكن الطلبة مع ذلك يحرص أغلبهم على الذهاب إلى الكلية. وأين سيجد كل هؤلاء الأصدقاء ومن يُنادمهم ويُنادمونه؟ وأين سيجد الفتيات بهذه الأعداد الهائلة؟ ولكلٍّ من الطلبة فتاة من زميلاته يُعجَب بها، وسواء لديه إن كان عنده أمل في صداقتها أو لا أمل له.
وكان فائق من هؤلاء الكثرة الذين يحرصون على الذهاب إلى الكلية، وكان له في فتاة بذاتها مأرب، ولكنه ما كان يدري كيف يتقرَّب منها أو يرمي شباكه عليها؛ فقد كانت صِلاته الاجتماعية محدودة، وكانت المآدب التي يُقيمها أبوه لا يأتي إليها من الفتيات من هنَّ في مثل سنه، وإنما كُنَّ في سن أمه، فإن صغرنها فبسنوات قليلة لا يتصوَّر أن تكون واحدة منهن على علاقة به.
وفي الكلية أغلب الفتيات يتجمَّعن بعيدًا عن الطلبة، ولم يكن يتصوَّر أن يقتحم عليهن تجمُّعهن ويُخاطب واحدته التي يُعجَب بها كل الإعجاب. وكل ما استطاع الوصول إليه بعد جهد جهيد أن اسمها إلهام، وحتى لم يعرف اسم أبيها.
وكان فائق يذهب إلى المكتبة كثيرًا بعد انتهاء المحاضرات ليحصل على بعض مراجع؛ فقد كان حريصًا أن يكون نجاحه بتقدير يُشرِّفه.
دخل إلى المكتبة ووجد فيها إلهام فخفق قلبه. إنه مُحقِّق في يومه هذا ما عجز عن تحقيقه منذ التفت قلبه إليها. عثر على المرجع الذي جاء من أجله ووضعه أمامه وفتحه ولم يستطِع أن يقرأ منه شيئًا؛ فقد كانت عيناه على إلهام أن تخرج وهو مستغرق في القراءة. الكتاب يستطيع أن يعود إليه في أي وقت، ولكن هذه الفرصة هيهات أن يجعلها تُفلت من يدَيه. قامت إلهام لتُعيد ما معها من مراجع، فقام من فوره وأعاد المرجع لم يقرأ منه حرفًا. وخرج مع إلهام من المكتبة. كانت ساحة الجامعة تكاد تكون خالية، ومشت إلهام فتبعها لا ينطق بكلمة، حتى إذا بلغا خارج الجامعة وقفت إلهام تبحث عن سيارة أجرة، وحينئذٍ تجرَّأ وأقدم: أين سيارتك؟
– في الإصلاح.
– هل إذا عرضتُ أن أوصلكِ أكون تجاوزتُ مكاني؟
– مطلقًا. أنت زميلي، وأي تجاوز أن يُعين زميل زميلةً له؟
– تفضلي.
وفي السيارة وجد نفسه يقول دون ريث تفكير: أنتِ لا تعرفين كم مرَّ بي من زمنٍ أنتظر هذه الصدفة.
– بل أعرف.
– تعرفين؟!
– منذ أول يوم نظرت فيه إليَّ.
– كيف؟! هذا غير معقول!
– بل هذا هو المعقول؛ فالفتاة منا تُحس بالنظرات حتى وإن لم ترَها.
– إذن؟
– إنكَ في كل يوم تتحرَّى أن تقف على مقربة مني ومن زميلاتي ونظركَ موجَّه إليَّ.
– لم أجرؤ أن أتقدَّم إليكنَّ.
– وأنا لم أعرف كيف أُشجِّعك.
– بنظرة بابتسامة، أو بشبه ابتسامة.
– أترضى لي أن أكون البادئة؟
– مجرَّد إشارة عابرة.
– لا يُعقل أن تكون الإشارة الأولى مني أنا.
– أعرف أن اسمك إلهام، عرفتُه وأنا أسمع زميلاتك ينادينك.
– ولم تُحاول أن تعرف بقيه اسمي؟
– خشيتُ على سمعتك.
– إلهام وجدي.
– اسم الوالد؟
– طبعًا.
– ظننتُ أنه قد يكون اسم الأسرة.
– اسم الأسرة زين الدين.
– وأنا فائق.
– فائق هارون بركات.
– لم أفرح بسماع اسمي مثل هذه اللحظة.
– لا يا شيخ!
– تعرفينه بالكامل.
– هذا أمر ليس صعبًا.
– كيف عرفتِه؟
– من زملائك.
– أنا لا أعرف زميلات.
– لماذا؟
– لا أدري، ربما كنتُ خجولًا أكثر ممَّا ينبغي.
– شيء غريب في زماننا هذا.
– زُوَّار بيتنا كثيرون، ولكنهم يجيئون لنا في أعمال ولا معنى لوجودي معهم. وفتيات أسرتنا قليلات جدًّا؛ فأنا لا أعرف إلا ابنة خالتي هناء، وليس لي عم ولا بنات عم؛ فدائرتي الاجتماعية ضيقة جدًّا. وأنا طالب لا بأس بي، أنال تقديرًا دائمًا في كل عام.
– أمَّا هذا فأعرفه.
– أنتِ ما أخبار دراستك؟
– طالبة من درجة مقبول، ولكني أنجح وراضية بقسمتي كل الرضا والحمد لله.
– نعمة.
– أراكَ تسير ولا تسألني عن عنواني، ومع ذلك فأنتَ في الطريق الصحيح.
– إن كنتُ خجلتُ أن أتعرَّف بك، فإنني لم أخجل أن أتبعكِ بسيارتي كلما خرجنا معًا من الجامعة.
– معقول!
– هذه أول مرة أراك فيها بالمكتبة.
– لأنها أول مرة أذهب فيها إلى المكتبة.
– ماذا كنتِ تُريدين منها؟
– هذا شأني.
– هل اسم الكتاب سر؟
– ليس سرًّا، وإنما أنا ذهبت حتى يخف الزحام وأجد سيارة أجرة.
– فقط؟
– ولأقرأ بعض مواد في القانون التجاري لم أفهمها من شرح الدكتور طلبة.
– وفهمتِها؟
– أوَتُريد أن تبحث عن حجة لتذاكر معي؟
– اسمعي، أرجوكِ أن ترفقي بي فأنا خجول كما ذكرتُ لك، وأنا في نفس الوقت معجب بك إعجابًا شديدًا.
– أشكرك.
– بل أنا الذي أشكرك.
– أتعرف لماذا أشكرك؟
– ربما لإعجابي بك.
– لأنكَ اخترتَ الكلمة المناسبة، ولم تقل الكلمة التي يستسهل كل فتًى أن يقولها لفتاة.
– أنا صادق دائمًا، أو على الأقل أُحاول أن أكون صادقًا.
– لقد وصلنا، ومن حقِّك عليَّ أن أقول لكَ إنني أيضًا معجبة بك.
– بماذا؟!
– كنتُ أُقدِّر في نفسي محاولتك التقرُّب مني وتعفُّفك عن فرض نفسك عليَّ، أمَّا الآن وبعد حديثي معك، فأنا أيضًا أحمل لكَ نفس الإعجاب الذي تحمله لي.