ما مدى فراغ الذرة؟
الإلكترون
عُرفت الظواهر الكهربائية منذ آلاف السنين، غير أن أسرار إبرة البوصلة المغناطيسية، ووميض البرق، وطبيعة الكهرباء ظلت دون تفسير حتى انقضاء سنوات عديدة من القرن التاسع عشر. لُخص الموقف قرب نهاية ذاك القرن في كتاب ابتعته من متجر للكتب المستعملة حين كنت طفلًا مقابل سنت. نُشر الكتاب الذي يحمل عنوان «أسئلة وأجوبة في العلوم» في عام ١٨٩٨، وردًّا على سؤال «ما الكهرباء؟» يجيب الكاتب بأسلوب العصر الفيكتوري الميلودرامي قائلًا إن «الكهرباء سائل يستحيل قياسه بدقة، وطبيعته لغز للإنسان». يا له من فارق ذلك الذي تصنعه مائة عام! إن الاتصالات الإلكترونية الحديثة والصناعات كافة هي نتاج اكتشاف طومسون للإلكترون عام ١٨٩٧، الذي أجاب عن السؤال المطروح سابقًا قبل نشر ذلك الكتاب بعام كامل. لكم تنتقل الأخبار على نحو أسرع هذه الأيام.
تتدفق الإلكترونات عبر الأسلاك في صورة تيارات، وهي تشغِّل المجتمع الصناعي، وتنتقل عبر متاهات جهازنا المركزي العصبي وتحفظ وعينا، وتعد مكونات أساسية في ذرات المادة، وعلى حركتها من ذرة إلى أخرى تقوم الكيمياء والبيولوجيا والحياة.
الإلكترون جسيم أساسي للمادة بجميع صورها، وهو أخف الجسيمات ذات الشحنة الكهربائية، وهو مستقر، وموجود في كل مكان. تتحدد أشكال كل البنى الصلبة من خلال الإلكترونات الدائرة في المحيط الخارجي للذرات. توجد الإلكترونات في كل شيء، لذا من قبيل المفارقة أن جاء اكتشاف هذا المكون الأساسي للمادة ثمرة للقدرة التي طُورت في القرن التاسع عشر بغية التخلص من المادة، لصنع الفراغ.
لزمن طويل كان هناك وعي متنام بأن المادة لها خصائص غامضة، مع أن هذا الوعي لم يتطرق في البداية إلى مسألة الفراغ مباشرة. وكان الإغريق القدامى على دراية بالفعل ببعض من هذه الخصائص، مثل قدرة الكهرمان (الإلكترون هو الكلمة اليونانية للكهرمان) على جذب والتقاط قصاصات الورق عند حكه بالفرو. في صورة أحدث لهذه التجربة، صفف شعرك بسرعة بمشط، وإذا كان اليوم جافًّا يمكنك أن تتسبب في تطاير بعض الشرر. يتمتع أيضًا الزجاج والأحجار الكريمة بهذه الخاصية السحرية المتمثلة في التعلق بالأشياء بعد الاحتكاك. بحلول العصور الوسطى عرف البلاط الملكي في أوروبا أن العديد من المواد تتشارك هذا الجذب الغريب بعد الاحتكاك فحسب. وهذا بدوره أدى بويليام جيلبرت، طبيب البلاط الخاص بالملكة إليزابيث الأولى، أن يقترح أن المادة تحتوي على «قدرة كهربية» وأن الكهرباء هي «سائل يستحيل قياسه» (كما ذُكر في الكتاب الذي ابتعته والصادر عام ١٨٩٨) يمكنه أن ينتقل من مادة إلى أخرى بالاحتكاك. أما عن اكتساب أو فقدان هذه القدرة الكهربية فهو يرتبط بكون الجسم «مشحونًا» بشحنة موجبة أو سالبة.
في أمريكا استهوت الظواهر الكهربية، لا سيما البرق، بنجامين فرانكلين، الذي استقطع لها بعضًا من الوقت المخصص لصياغة دستور ما أصبح فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية. السحابة الرعدية هي مولد إلكتروستاتيكي طبيعي قادر على خلق ملايين الفولتات والشرارات القاتلة. أدرك فرانكلين أن الأجساد تحتوي على قوة كهربية خفية يمكن نقلها من جسد لآخر. لكن لم يعرف أحد كنه هذا السائل الذي يستحيل قياسه.
ندرك اليوم أنه بفضل الإلكترونات — التي تسهم بأقل من جزء على الألفين من كتلة الذرة العادية، ومن ثم نسبة ضئيلة منها فقط هي التي تشترك في التيار الكهربائي — يكون التغيير الحادث في كتلة الجسم عندما يُشحن كهربائيًّا ضئيلًا للغاية، لدرجة لا يمكن رصدها. كيف يمكن إذن عزل هذا السائل الذي يستحيل قياسه، وتصنيفه، ودراسته؟
تتدفق الكهرباء عادة عبر الأشياء، كالأسلاك، ولمَّا كان مستحيلًا أن ننظر داخل الأسلاك، تولدت فكرة التخلص من الأسلاك والنظر إلى الشرر الكهربي. أظهر البرق أن التيار الكهربائي يمكنه أن ينتقل عبر الهواء، ومن هنا جاءت فكرة أن تدفق التيار الكهربائي يمكن أن ينكشف في «الهواء الطلق»، بعيدًا عن الأسلاك المعدنية التي عادة ما توصله وتخفيه.
لذا شرع العلماء في توليد الشرر في الغازات الموجودة داخل أنابيب زجاجية. نقل الهواء في الضغط الجوي العادي التيار الكهربائي، لكنه حجب تدفق الإلكترونات. وبالتخلص التدريجي من الغاز، كان من المرجو أن يتبقى التيار الكهربائي وحده في آخر المطاف. وفي أعقاب الثورة الصناعية وتطوير مضخات تفريغ أفضل ظهرت أطياف غريبة، عندما كهرب العلماء الغاز الرقيق في أنابيب التفريغ. وهكذا أفصحت الكهرباء عن أسرارها شيئًا فشيئًا. أنتج التيار عند واحد على خمسة عشر من الضغط الجوي سحبًا مضيئة تطفو في الهواء، مما أقنع الفيزيائي الإنجليزي ويليام كروكس أنه كان ينتج الإكتوبلازم، المادة التي كانت تحبذها بشدة جلسات استحضار الأرواح في العصر الفيكتوري، وعليه تحوَّل إلى تحضير الأرواح.
اعتمدت ألوان الأضواء في هذه الأطياف الخافتة على نوع الغاز، مثل الضوء الأصفر للصوديوم والأخضر للزئبق في الإضاءات المألوفة الحديثة. تنتج هذه الأطياف عندما يصطدم تيار الإلكترونات بذرات الغاز محررًا الطاقة منها على صورة ضوء. ومع انخفاض ضغط الغاز أكثر اختفت الأضواء أخيرًا، غير أنه تكوَّن لون أخضر زاهٍ خافت على السطح الزجاجي قرب مصدر التيار. وفي عام ١٨٦٩ جرى التوصل إلى اكتشاف هام مفاده أن الأشياء الموجودة داخل الأنبوب تلقي ظلالًا ذات وهج أخضر داخل الأنبوب، مما يثبت أن هناك أشعة متحركة تنبعث من مصدر التيار الكهربائي وترتطم بالزجاج إلا عندما تعترض الأشياء طريقها. اكتشف كروكس أن المغناطيس من شأنه أن يحرف الأشعة، مما يثبت أن المغناطيس يحمل شحنة كهربية، وفي عام ١٨٩٧ استطاع جيه جيه طومسون باستخدام كلتا القوتين المغناطيسية والكهربائية (عن طريق توصيل طرفي بطارية بلوحين معدنيين داخل الأنبوب) أن يحرك الشعاع (وهذا هو النموذج البدائي لجهاز التليفزيون). وبتعديل القوى المغناطيسية والكهربائية استطاع أن يتوصل إلى خصائص مكونات التيار الكهربائي. ومن ثم اكتشف الإلكترون ذا الكتلة الضئيلة حتى إذا قورنت بكتلة ذرة الهيدروجين، أخف عنصر. وبفضل عمومية نتائجه، التي لم تتغير مع تغير الغاز المتبقي في الأنبوب أو الأسلاك المعدنية التي توصل التيار الكهربائي إلى أنبوب التفريغ، استنتج أن الإلكترونات هي مكونات مشحونة كهربيًّا موجودة في كل الذرات.
وما إن عُرف أن الإلكترونات أخف ألفي مرة على الأقل من أصغر الذرات، حتى فهم العلماء لغز تدفق الكهرباء بسلاسة عبر الأسلاك النحاسية. أطاح وجود الإلكترون للأبد بالتصور العتيق عن الذرات باعتبارها أصغر الجسيمات، وأماط اللثام عن التركيب الداخلي المعقد للذرة، حيث تحوم الإلكترونات حول نواة مضغوطة مركزية.
قذف فيليب لينارد الذرات بأشعة من الإلكترونات ووجد أن الإلكترونات اخترقتها كما لو لم يكن يعترض طريقها شيء. لخص لينارد هذا الموقف الذي يكاد يكون متناقضًا — تبدو المادة صلبة وفي الوقت نفسه شفافة على المقياس الذري — بقوله إن «المساحة التي يشغلها متر مكعب من البلاتين الصلب هي فارغة بقدر فراغ الفضاء النجمي خارج كوكب الأرض».
انظر إلى النقطة الموضوعة بنهاية هذه الجملة. يحتوي حبرها على نحو مائة مليار ذرة من الكربون، ولكي ترى ذرة واحدة منها بالعين المجردة لا بد أن تكبِّر النقطة حتى يصل قطرها إلى ١٠٠ متر. ومع أن هذا التكبير هائل، فإنه يظل بالإمكان تخيله. لكن لكي ترى نواة الذرة، لا بد أن تكبر النقطة حتى يصل قطرها إلى ١٠ آلاف كيلومتر؛ أي ما يعادل المسافة بين قطبي كوكب الأرض.
يمكن أن تقدم ذرة الهيدروجين، أبسط الذرات، تصورًا عن المقاييس والفراغ الموجود بالذرة. فالنواة المركزية جسيم واحد موجب الشحنة يُعرف بالبروتون، وما يحدد الإطار الخارجي للذرة هو مدار الإلكترون، البعيد عن البروتون المركزي. بالانتقال بعيدًا عن مركز الذرة، حين نصل إلى حافة البروتون نكون قد قطعنا واحدًا على العشرة آلاف من الرحلة. في آخر المطاف نصل إلى الإلكترون البعيد الذي يكون ضئيل الحجم أيضًا، إذ لا يتجاوز حجمه واحدًا على الألف من حجم البروتون، أو واحدًا على عشرة ملايين من حجم الذرة. وهكذا، بوصولنا إلى الفراغ شبه التام، الذي أفضى بدوره إلى اكتشاف أن المادة الذرية تحوي إلكترونات، يبدو أننا عدنا إلى نقطة البداية باكتشاف أن الذرة فراغ شبه تام: إذ إن ٩٩٫٩٩٩٩٩٩٩٩٩٩٩٩٩ في المائة منها فراغ. ومن ثم، تكاد مقارنة لينارد لا تفي فراغ الذرة حق قدره؛ فكثافة ذرات الهيدروجين في الفضاء الخارجي هائلة مقارنة بكثافة المادة الجسيمية داخل كل ذرة من تلك الذرات!
نواة الذرة هي أيضًا شيء هش سريع الزوال. كبِّر النيوترون أو البروتون ألف مرة وسوف تجد أنهما أيضًا يتمتعان بتركيب داخلي غني. ومثل سرب النحل الذي يُرى من بعيد على أنه بقعة سوداء في حين أن النظر إليه عن كثب يكشف ما يتمتع به من طاقة صاخبة، هكذا الحال مع النيوترون والبروتون أيضًا. يبدو هذان الجسيمان من بعد كبقعتين بسيطتين، لكن عند النظر إليهما في ظل درجة وضوح عالية يتبين أنهما يتألفان من عناقيد من الجسيمات الأصغر التي تُسمى الكواركات. اضطررنا أن نكبر النقطة حتى قطر ١٠٠ متر كي نرى الذرة، وحتى قطر كوكب الأرض كي نرى النواة، ولنرى الكوارك لا بد أن نكبر النقطة حتى القمر، ثم نستمر في التكبير لضعف هذه المسافة عشرين مرة.
الكوارك صغير مقارنة بالبروتون أو النيوترون بقدر ما يكونان هما مقارنة بالذرة. وما بين النواة المضغوطة المركزية والإلكترونات التي تدور حولها عن بعد، تعد الذرات خاوية بشكل شبه تام من المنظور الجسيمي، ويُمكن أن يُقال نفس الشيء عن الأجزاء الداخلية للنويات الذرية. خلاصة القول، التركيب الأساسي للذرة يتجاوز حدود التصور الواقعي، وفراغها عميق.
ما مدى فراغ الذرة؟
تعرف «المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية» اختصارًا باسم «سيرن». عندما بدأت هذه المنظمة عام ١٩٥٤، كانت النويات الذرية تمثل حدود الفيزياء ومن ثم استخدمت صفة «نووية» على نحو ملائم في اسم المنظمة. لكن اليوم، انتقل تركيز الأبحاث إلى مستوى أعمق؛ إلى الكواركات التي تشكل بروتونات ونيوترونات نواة الذرة والعديد غيرها من الجسيمات سريعة الزوال. وتأكيدًا على المهمة التي يسعى نحوها، يُعرف المختبر الآن باسم «المنظمة الأوروبية لفيزياء الجسيمات»، الأمر الباعث على المزيد من الراحة أيضًا لمن يرون في كلمة «نووية» صبغة «بغيضة». عند بلوغ سيرن من جهة جنيف، نجد مكاتب المعمل على أحد جانبي الطريق في حين نجد في الحقول المقابلة مبنى كرويًّا غريب الشكل، يبلغ ارتفاعه نحو عشرين مترًا ولونه بني داكن يبدو للوهلة الأولى كالمفاعل النووي. من بعيد يبدو المبنى صدئًا مهجورًا، لكن بالتحقق منه عن كثب يتبين أنه مصنوع من الخشب ومكتوب عليه باللغة الفرنسية «لو جلوب»؛ أي الكرة الأرضية.
بدأ لو جلوب نشاطه كمعرض في مكان آخر بسويسرا. وعند إغلاقه، أُثير سؤال ما الذي يمكن فعله بهذا المكان، وعليه تقرر منحه إلى سيرن كمعرض لأنشطتها بدلًا من تدميره. لم ترد إدارة سيرن أن ترفض العرض، لذا قبلته دون أن يكون لديها خطة واضحة بشأن ملايين الفرانكات التي سيتكلفها أي معرض دائم. اقترح أحد العلماء أن تتحول هذه الإشكالية إلى ميزة: فمبنى «لو جلوب» كرة مجوفة … فارغة، ولمَّا كان علماء سيرن خبراء في الذرة، ليكن إذن مبنى «لو جلوب» الفارغ هو نفسه رمزًا للذرة. بل من الأفضل تعليق كرة صغيرة قطرها ملليمتر، لا تتجاوز تكلفتها فرانكات معدودات، في منتصف مبنى «لو جلوب»، من خلالها «يختبر» الزوار مدى فراغ الذرة؛ إذ تمثل الكرة الصغيرة النواة وجدران «لو جلوب» تمثل الحدود الخارجية للذرة. ولا بأس من إنفاق بضعة فرانكات أخرى على أشعة ليزر تُشغل على الجدران لتعرض تدفق الإلكترونات. وإذا فرضت رسم دخول على الزوار فسيشعر فلاسفة ما بعد الحداثة بالرضا.
لم يجر تبني هذه الفكرة، وبالتالي لم يدفع الأشخاص العاديون المال لدخول قطعة فنية توهُّمًا أنهم سيختبرون الفراغ الداخلي لذرة. بدلًا من ذلك، استُضيفت المعارض المؤقتة المرتبطة بأنشطة سيرن المختلفة، في هذه البناية الرديئة. لكن لنفترض أنه جرى تبني الاقتراح الجريء وسافرت أنت عبر القارة الأوروبية بغية أن تجرب الغموض الموجود بداخل الذرة، ودفعت رسوم الدخول، ودخلت الكرة الخشبية ووجدت، لا شيء: هل كنت ستطالب باسترداد قيمة الرسوم أم ستشعر أنك اختبرت حقيقة عظيمة؟
صحيح أن الذرات فراغ هائل، لكن هذا فقط من منظور الجسيمات التي بداخلها، وهذا ليس سوى جزء من الحقيقة؛ فالفراغ الداخلي مليء بمجالات القوى الكهربائية والمغناطيسية التي تتمتع بقوة هائلة من شأنها أن تمنعك إذا حاولت الدخول. وهذه القوى هي التي تمنح الصلابة للمادة على الرغم من الافتراض بأن ذراتها «فارغة». وأنت تقرأ هذا الكتاب جالسًا، تفصل بينك وبين ذرات الكرسي الذي تجلس عليه مسافة ذرة واحدة بسبب تأثير هذه القوة.
إن الذرة غير فارغة بالمرة. ونواة الذرة مصدر لمجالات كهربائية قوية تملأ المساحات «الفارغة» الأخرى داخل الذرة. اكتُشف هذا في عام ١٩٠٦. كان رذرفورد قد لاحظ أنه عندما اخترق شعاع من جسيمات ألفا (حزم محكمة مؤلفة من بروتونين ونيوترونين) موجبة الشحنة صحائف رقيقة من الميكا، تكونت صورة ضبابية على شريحة فوتوغرافية، مما رجح أن الميكا بعثرتها وأنها انحرفت عن مسارها. أثار هذا الدهشة لأن جسيمات ألفا كانت تسير بسرعة ١٥ ألف كيلومتر في الثانية، أو ما يعادل واحدًا على اثني عشر من سرعة الضوء، وكانت تملك طاقة هائلة مقارنة بحجمها. بإمكان المجال الكهربائي أو المغناطيسي القوي أن يحرف جسيمات ألفا بمقدار بسيط، لكن ما من شيء يمكنه التسبب في انحرافها بالقدر الذي تنحرف به بعد أن تخترق بضعة ميكرومترات (جزء من مليون من المتر) من الميكا. ظن رذرفورد أن المجالات الكهربائية داخل الميكا تتمتع قطعًا بقوة هائلة مقارنة بأي شيء أخر عرُف حينذاك. والمجالات التي تتمتع بمثل هذه القوة في الهواء من شأنها أن تتسبب في تطاير الشرر، والتفسير الوحيد الذي أمكنه أن يفكر فيه هو أن هذه المجالات الكهربية القوية لا بد أن توجد فقط في مناطق شديدة الصغر، أصغر حتى من الذرة.
ومن هنا خرج بتخمينه الرائع: أن هذه المجالات الكهربية الشديدة هي التي تحبس الإلكترونات في سجونها الذرية، وهي القادرة على التسبب في انحراف جسيمات ألفا شديدة السرعة.
في عام ١٩٠٩، كلف رذرفورد أحد تلاميذه الشباب، ويدعى إرنست مارسدن، بمهمة اكتشاف هل تنحرف أشعة ألفا بزوايا كبيرة للغاية. استخدم مارسدن رقائق من الذهب بدلًا من الميكا، وشاشة وامضة كي تكشف أشعة الألفا المتبعثرة. وقد استطاع أن يحرك الشاشة ليس فقط خلف رقائق الذهب، بل أيضًا إلى الأجناب والدوران بجانب المصدر الإشعاعي نفسه. وبهذه الطريقة استطاع أن يكشف أشعة ألفا المرتدة بزوايا كبيرة.
ما أثار دهشة الجميع أن مارسدن اكتشف أن جسيمًا واحدًا من بين كل ٢٠ ألف جسيم ارتد إلى الخلف نحو الاتجاه الذي أتى منه ليرتطم بالشاشة عندما كانت بجانب مصدر الإشعاع. كانت هذه نتيجة رائعة؛ فقد أمكن التسبب في انحراف جسيمات ألفا، التي كادت لا تتأثر على الإطلاق بأشد القوى الكهربية المعروفة حينها، رجوعًا نحو مصدرها عن طريق صحيفة ذهبية رقيقة لا يتعدى سمكها بضع مئات من الذرات! لا غرابة إذن في أن رذرفورد تعجب قائلًا: «الأمر أشبه بإطلاق قذيفة قطرها ١٥ بوصة نحو قطعة من ورق الحمام فارتدت للخلف وصدمتك».
بعد أن أمضى رذرفورد أشهرًا عديدة في محاولة فهم هذه الملاحظات، توصل إلى تفسيرها عن طريق عملية حسابية غاية في البساطة. كمُنَ خيط حل المعضلة في معرفة طاقة جسيمات ألفا الآتية. كان يعرف أيضًا أن كل جسيم من جسيمات ألفا يحمل شحنة موجبة مضاعفة. ولا بد أن الشحنة الموجبة في ذرات الذهب تتنافر مع جسيمات ألفا التي تقترب منها فتبطئ من سرعتها وتحرفها. وكلما اقتربت جسيمات ألفا أكثر من الشحنة الموجبة في الذرة، زاد انحرافها إلى أن تقف في الحالات القصوى ثم ترتد عائدة من حيث أتت.
تمكن رذرفورد من حساب مدى القرب من الشحنة الموجبة الذي ينبغي أن تكون عليه جسيمات ألفا، وقد أذهلته النتيجة. ففي حالات نادرة كانت جسيمات ألفا على بعد واحد على مليون المليون من السنتيمتر من مركز الذرة، أي على بعد واحد على عشرة آلاف من قطر الذرة، قبل أن ترتد. كان هذا هو ما أوضح أن الشحنة الموجبة تتمركز في منتصف الذرة بالضبط، وأدى إلى صورة الذرة «الفارغة» من منظور الجسيمات، والممتلئة في الوقت نفسه بالمجال الكهربائي؛ فما «المجال» إذن؟
المجالات
المعجبون بالموسيقي جان ميشل جار يعرفون ألبومه الصادر بعنوان «مجالات مغناطيسية». يدرك العامة بوجود ما يسمى بمجالات الجاذبية، التي تعرف في أدب الخيال العلمي بأنها: «مجالات منحنية في مُتَّصَل الزمكان». يوحي هذا بحدوث الكثير من التأثيرات في ذلك الفراغ المفترض. كي نعرف ما هذه التأثيرات، لا بد أن نكون أولًا قادرين على تعريف ما يعنيه العلماء بلفظة «مجال». من الأسهل أن نتصور معنى المجال حين نكون بصدد شيء محدد؛ لنعد إذن إلى الأرض والضغط الجوي.
في حالة الضغط الجوي والرياح يوجد وسط مادي؛ الهواء، الذي تحدد كثافته المتغيرة المجالات، وبمقدورنا تصور حقيقة ذلك النموذج على أرض الواقع. يسري مفهوم «المجال» حتى عندما ينعدم الوسط المادي. وهذه هي الفكرة التي يقوم عليها كل من مجال الجاذبية والمجال الكهربائي، اللذان يوفران الثقل والاتجاه لكلتا القوتين على حدة في الفضاء.
لدى هواة نزهات السير الخلوية الطويلة ومتسلقي الجبال وعي بمجال الجاذبية؛ فكلما كنت على ارتفاع أعلى من جانب الجرف، كان السقوط أعظم. هذا هو المثال العملي، أما خريطة الخطوط الكنتورية التي توضح الارتفاع فوق سطح البحر فتمثل الجانب النظري. تخيل ذلك المشهد الطبيعي ذا التلال والأودية. إن خطوط الأيزوبار في الرسم البياني الخاص بأحوال الطقس تعد بمثابة خريطة توضح الخطوط الكنتورية للنقاط متساوية الارتفاع فوق مستوى سطح البحر. عندما تقفز في البحر دون عائق، كلما كنت على ارتفاع أعلى زادت سرعة اختراقك للماء، وزادت «طاقتك الحركية». على أي ارتفاع مبدئي فوق سطح البحر أنت تملك طاقة وضع، وهذه الطاقة تمثل «إمكانية» اكتسابك لكمية من طاقة الحركة، وكلما زاد تأثير قوة الجاذبية عليك تعاظمت طاقة الحركة التي تكتسبها. وبالتالي تكون الخطوط الكنتورية في الخريطة هي خطوط للنقاط التي لها نفس طاقة الوضع، والمعروفة باسم «النقاط متساوية الجهد».
تحت تأثير قوة الجاذبية تكون الحركة الطبيعية هي السقوط إلى أسفل التل؛ من الجهد العالي إلى المنخفض. وتتناسب قوة العجلة طرديًّا مع معدل التغير الحادث في الجهد: المتمثل في منحدر التل. فعندما تسقط من تل شديد الانحدار فإنك تكتسب سرعة أكبر من تلك التي تكتسبها عند هبوط منحدر طفيف الانحدار. هذه خاصية عامة: إذ تتناسب القوة طرديًّا مع معدل تغير طاقة الوضع، مثلما تتناسب قوة الرياح طرديًّا مع درجة انحدار الأيزوبار. وبهذا تحدد خريطة درجة الانحدار عند كل نقطة كلًّا من المقدار (منحدر أم مسطح) والاتجاه (هل واجهة هذا المنحدر نحو الشمال أم الجنوب). هذا المجال، الذي يلخص القوة في كل من المقدار والاتجاه، هو مجال موجه.
تمثلت فكرة إسحاق نيوتن العبقرية في أن الجاذبية هي التي تحكم حركة التفاح المتساقط وحركة الكواكب. فالشمس هي مركز الجذب العظيم في قلب المجموعة الشمسية. وإذا حدث أن انجذبت ناحية الشمس بفعل قوة جاذبيتها، فهذا يعني أنه كلما بدأت حركتك من مكان أبعد، زادت سرعتك لدى ارتطامك بالشمس. وبالتالي تزيد طاقة الوضع كلما ابتعدت عن الشمس. يتكون مجال جاذبية متساويات الجهد من مجموعة من الكرات في مركزها الشمس. ينخفض الجهد مع التحرك نحو الداخل، ومن ثم تتسارع حركتك من منطقة عالية الجهد إلى منطقة منخفضة الجهد. ويعوض الارتفاع في طاقة الحركة الفقد في طاقة الوضع. هذا قانون كوني.
ينطبق المفهوم عينه على الشحنة الكهربائية والمجال الكهربائي، بدلًا من الشمس العملاقة والجاذبية. كلنا نعرف مفهوم فرق الجهد الكهربي (الفولت) حتى وإن كنا لسنا متأكدين تمامًا من تعريفه. يعادل الجهد الكهربائي الجهد العالي، في هذه الحالة «الجهد» المبذول لإحداث صدمات كهربائية هي نتاج التحريك المفاجئ للشحنات الكهربائية، والتي تُلاحَظ كانقباض في العضلات. إذا كانت ألواح إحدى البطاريات لها جهد كهربائي موجب وسالب، عندئذ كلما كانت الألواح أقرب بعضها إلى بعض، زاد المجال الكهربائي، أي معدل تغير الجهد. وبينما يكون لدينا في حالة الهواء وسط مادي يساعدنا في تكوين صورة ذهنية، فإنه في حالة الجاذبية أو المجالات الكهربائية لا يوجد وسط، وإنما لدينا مفهوم وتجارب تدل على تأثيراتها، لكن لا يوجد «شيء» واضح لنتصوره. إلا أن تأثيرات مجال الجاذبية والمجال الكهربائي قابلة للقياس وهما موجودان.
حجم المجال
لتكوين فكرة عن مدى قوة المجالات الكهربائية داخل الذرات، دعونا نقارنها بما يمكن أن تفعله التكنولوجيا في العالم المرئي الأكبر. يصل المجال الكهربائي المتولد في بطارية كتلك التي قد تستخدمها في كشاف أو لتشغيل جهاز راديو — والتي تعطي عددًا قليلًا من الفولتات، وفيها تفصل ملليمترات قليلة بين الألواح الكهربائية الموجبة والسالبة — إلى ألف فولت للمتر. في «مركز معجل ستانفورد الخطي» بكاليفورنيا، تزيد المجالات الكهربائية من سرعة الإلكترونات لتصل سرعتها إلى حوالي ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية، أي أقل بجزء على الألف من سرعة الضوء. ولعمل هذا تمر الإلكترونات عبر حوالي ٣٠ مليار فولت بطول ٣كم، ما يعادل مجالات كهربائية جهدها ١٠ ملايين فولت لكل متر. توفر هذه التكنولوجيا المعقدة مجالات كهربائية أقوى للغاية من المجالات الموجودة في البطارية البسيطة، لكنها ضئيلة مقارنة بالمجالات الموجودة داخل الذرة. في «مركز معجل ستانفورد الخطي» يصل المجال الكهربائي إلى عشرة فولتات في كل جزء على المليون من المتر؛ وداخل ذرة الهيدروجين على سبيل المثال، يصل الجهد الكهربائي في الفجوة التي تفصل الإلكترون عن البروتون إلى عشرة فولتات، ومساحة هذه الفجوة في المتوسط تبلغ عشرة أجزاء على المليار من المتر فحسب. أي إن قوة المجالات داخل الذرات تزيد ألف مرة عما يمكن أن تصل إليه تكنولوجيتنا، مع أن هذه المجالات قاصرة على الذرة وحسب.
تقول القاعدة الشهيرة عن الشحنات الكهربائية إن الأضداد تتجاذب والأشباه تتنافر. يوجد كلا النوعين من الشحنات داخل الذرات: إلكترونات سالبة الشحنة في المحيط الخارجي ونواة موجبة الشحنة في المركز. وعندما تقترب الذرات بعضها من بعض، فإن النواة موجبة الشحنة تجذب الإلكترونات سالبة الشحنة الخاصة بالذرة المجاورة، مما يسبب اقتراب الذرتين قليلًا. وعليه تتشابك مجموعات الذرات بالتبادل وتتكتل معًا مكونة جزيئات، وأخيرًا مادة متماسكة. إن أقوى المجالات الكهرومغناطيسية التي يمكننا أن نولدها الآن على المستوى المرئي ضعيفة نسبيًّا مقارنة بتلك الموجودة داخل الذرات نتيجة للتأثيرات المُعادِلة للشحنات الموجبة والسالبة: فداخل حدود الذرة تتحقق القوة الكاملة للشحنات المضادة دون أي عائق. وإذا أدركنا هذا، فلا نتعجب إذن من أنه يمكن التسبب بانحراف جسيمات ألفا — حتى عندما تتحرك بسرعة ١٤ ألف كيلومتر في الساعة؛ أي واحد على عشرين من سرعة الضوء — بزوايا كبيرة، بل يمكن إيقافها وردها من حيث جاءت: فالمجالات الكهربائية داخل الذرة تشكل حاجزًا يستحيل اختراقه.
لكي تستكشف الذرة من الداخل، لا بد من تفحصها باستخدام شيء أصغر منها بكثير، لهذا استخدم رذرفورد جسيمات ألفا. بيد أن تلك الجسيمات لم تعثر على فراغ، بل صُدت كما لو كانت الذرة محشوة بوسط صلب مقاوم، وهكذا أعلن المجال الكهربائي عن نفسه. ربما أزال تورشيللي الهواء من مكان ما، لكن إذا قربنا الصورة من أي من الذرات المتبقية فسنلاحظ أنه قطعًا يوجد «شيء ما» على صورة مجال كهربائي شديد. يوجد تأثير ما في الفضاء ينجم عن وجود النويات الذرية المشحونة كهربائيًّا، وهذا التأثير يظل باقيًا حتى عند إزالة كل المواد الأخرى.
تنشأ عن الشحنات الكهربائية المتحركة القوى المغناطيسية، التي يمكن أن تمتد آثارها عبر مساحات شاسعة كما الحال في المجال المغناطيسي لكوكب الأرض. يدور القلب المعدني المنصهر لكوكبنا حول ذاته مع حركة الكوكب، فتُشَتِّت الحرارة ذراته بما يسبب تدفق إلكتروناتها بحرية. تحول التيارات الكهربائية الناجمة كوكب الأرض إلى مغناطيس ضخم له قطبان شمالي وجنوبي، وأذرع مغناطيسية تمتد في الفضاء. هذا المجال المغناطيسي للأرض، الذي هو أقوى من الجاذبية بكثير، يحرك إبرة البوصلة الصغيرة. ولطالما أعانت هذه الظاهرة المسافرين والطيور المهاجرة منذ فجر الزمان. وكانت هذه التأثيرات معروفة في القرن السابع عشر حتى ورحلة البحث عن الفراغ جارية. وقد ثبت أن التأثيرات المغناطيسية والضوء يمكنها الانتقال عبر الفراغ، مع أن العلاقة الوثيقة بين الضوء والمجالين الكهربائي والمغناطيسي لم تُعرف حتى القرن التاسع عشر.
تظل المجالات المغناطيسية موجودة على ارتفاع آلاف الكيلومترات فوقنا، حيث تكون طبقة الهواء في غاية الرقة، بل تكاد تكون منعدمة. ووجود هذه المجالات غاية في الأهمية لبقائنا؛ فهي تصد الأشعة الكونية والتيارات الشمسية التي تتألف من جسيمات مشحونة كهربائيًّا. وبهذا تمثل درعًا واقيًا مهمًّا؛ لأن التعرض لهذه الإشعاعات من شأنه أن يدمر الحمض النووي للبشر. ولو حدث أن اختفى المجال المغناطيسي للأرض، كما الحال في كوكب المريخ، من الممكن أن تكون هذه نهاية نوعنا.
أثبت كل من باسكال وبيرير أنه يوجد فراغ خارج الأرض؛ بمعنى أنه لا يوجد هواء. لا يوجد غاز في الفضاء الخارجي أو يوجد القليل منه للغاية، لكن الأكيد هو أنه يوجد مجال مغناطيسي أرضي له أهمية عظيمة.
مجالات الجاذبية وقانون التربيع العكسي
الجاذبية هي أكثر قوة معروفة، لكنها فعليًّا غاية في الضعف؛ فمن السهل أن ترفع تفاحة إلى أعلى متغلبًا بذلك على قوة جذب الكوكب بأكمله. وتنبع قوتنا العضلية من القوى الكهربائية الأقوى من قوة الجاذبية بكثير التي تمنحنا الهيئة التي نحن عليها. غير أن التجاذب والتنافر الذي يحدث بين الشحنات الموجبة والسالبة داخل المادة يبطل بعضه بعضًا، في حين أن قوة الجذب التي تؤثر على كل ذرة داخل أي جسم كبير تتعاظم. ومتى زاد قطر الجسم عن ٥٠٠ كيلومتر تكون السيادة لقوة الجاذبية.
لمَّا كانت الجاذبية لا تأبه بالاتجاه، وتعمل بالمقدار نفسه في الأبعاد الثلاثة، فهي بذلك تجعل الأجسام كروية. هذا هو الحال مع الشمس، فالنتوءات والأودية الموجودة على كوكب الأرض ما هي إلا تعاريج ظهرت على السطح بفعل التأثيرات الجيولوجية، ويرجع انبعاج شكل الكوكب إلى دورانه حول ذاته مرة كل يوم.
بالنسبة للأجسام هائلة الحجم تتعاظم تأثيرات الجاذبية بدرجة كبيرة. فتستطيع الشمس، التي لا تتعدى حجم ظفر الإبهام عند رؤيتها من الأرض، أن تأسرنا بجاذبيتها نحن والكواكب الأخرى في رقصة كونية عبر الفضاء الفسيح على الرغم من ابتعادنا عنها مئات الملايين من الكيلومترات. كيف ينتشر هذا التأثير عبر الفضاء؟
كان إسحاق نيوتن صاحب الفكرة العبقرية التي تقضي بأن قوة الجاذبية بين جسمين تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة بينهما. ويعد «قانون التربيع العكسي» المتعلق بضعف تأثير الجاذبية مع زيادة المسافة غاية في الأهمية لبنية الكون، وربما أيضًا لتطور علم الفيزياء. نحن أسرى كوكب الأرض الذي يدور حول الشمس، وللقمر صغير الحجم لكن القريب نسبيًّا تأثير جذبوي يتمثل في ظاهرة المد والجزر، لكن مجرات النجوم النائية لا تؤثر تأثيرًا يُذكر علينا. فالمد والجزر، والكسوف، وطيران المركبات الفضائية كلها أمور يمكن تحديدها دون الحاجة إلى أخذ هذه الكتل البعيدة في الحسبان. ولو كانت قوة الجاذبية لا تعتمد على المسافة لكانت هذه المجرات البعيدة هي التي تحكمنا، وما كان كوكب الأرض ليستطيع أن يتماسك بفعل جاذبيته. ولو كانت الجاذبية تضعف على نحو مباشر مع زيادة المسافة لكان من الممكن أن نعيش على سطح أحد الكواكب الصخرية، لكن سيكون من العسير تخيل ما سيكون عليه تأثير قوة الجاذبية، فالقدرة على تجاهل تأثيرات كل الأجرام خلا اثنين فقط، في ظل تأثيرات طفيفة من جرم ثالث، هي التي مكنتنا من إجراء الحسابات وتحديد القواعد الأساسية المتعلقة بالجاذبية.
لا يقتصر قانون التربيع العكسي للقوة على الجاذبية وحدها: فالمبدأ عينه ينطبق على القوى الكهربائية بين أي جسيمين لهما شحنة. وفي ظل عدد الاحتمالات الأخرى الممكنة، من العجيب أن تعمل كل من القوة الكهربائية وقوة الجاذبية وفق قانون التربيع العكسي عينه. يرتبط السبب ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الفضاء الثلاثية الأبعاد وحقيقة أن الجاذبية تملأ جميع أركانه، كما تملؤه المجالات الكهربائية على الأقل في المنطقة المجاورة لشحنة واحدة.
بطريقة أو بأخرى، يبعث الجسم الضخم، مثل كوكب الأرض أو الشمس، مجساته الجاذبة إلى الفضاء في كل الاتجاهات بالتساوي. يكاد يكون مدار الأرض حول الشمس مدارًا دائريًّا. تخيل أن الشمس موجودة في مركز كرة قطرها هو نفس قطر مدار كوكب الأرض. إن قوة الجذب التي يتعرض لها كوكبنا هي نفسها تمامًا في جميع أرجاء السطح الداخلي للكرة المُتخيلة. إذا تخيلنا أننا قد انتقلنا الآن إلى مدار يساوي ضعف مدار الأرض، فإن سطح الكرة المُتخيلة سيتضاعف أربع مرات لأن المساحة تزيد مع مربع المسافة. أدرك نيوتن أنه إذا شُبهت قوة الجاذبية بمجسات تخرج من المصدر في كل الاتجاهات بالتساوي، عندئذ ستنتشر قوة الجذب بالتساوي عبر مساحة الكرة المُتخيلة. ومع زيادة المساحة بمقدار مربع المسافة، تضعف قوة الجذب بالتبعية عند أي نقطة عليها.
من الواضح أنه يمكن صياغة مجموعة من الملاحظات الشبيهة بخصوص المجالات الكهربائية المنبعثة من جسم ذي شحنة كهربية.
تبرز هذه التشبيهات العلاقة الوثيقة بين سلوك هاتين القوتين وطبيعة الفضاء ثلاثية الأبعاد، والمعروفة منذ وقت نيوتن. وتقدم خيطًا مهمًّا لفهم لغز تولد قوة ما بين جسمين غير متصلين في ظاهرهما. تلعب المساحة التي تفصل الجسمين دورًا بطريقة أو بأخرى؛ فهذه المسافة ليست فارغة لكنها مليئة ﺑ «مجال»، مع أن الماهية المحددة لما يملأ هذا المجال هي مثال حديث لنوعية الأسئلة التي حيرت الفلاسفة القدماء. انبثقت الفكرة عن نيوتن وبقيت ملامحها الأساسية معنا لمدة ثلاثمائة عام، وقد أثرتها أفكار أينشتاين الثاقبة وطُبقت بطرق لم يتخيلها نيوتن قط. تكمن الفكرة الأساسية في وجود نوع من التوتر في الفضاء «الخاوي» يكشف عن نفسه عن طريق توليد قوة على الأشياء التي يتصادف وجودها بالقرب منه. تُسمى منطقة تأثير هذا التوتر باسم «المجال»، ومجال جاذبية الأرض الممتد في الفضاء هو الذي يشد القافزين بالمظلات إلى الأرض، ومجال جاذبية الشمس الذي يحفظ كوكب الأرض في مداره السنوي.
من هنا تبدأ إجابة السؤال الذي ألهمني أساسًا في التبلور. فإذا أزلنا كل الأجسام إلا جسمًا واحدًا فستولد كتلته مجال جاذبية ينتشر عبر الفضاء. يعني هذا أنه يمكن أن نعتبر منطقة ما من الفضاء خالية من كل الأجسام المادية، لكنها لن تكون فارغة لو وجد جسم واحد آخر فقط في مكان ما في الفضاء؛ فمجال الجاذبية الصادر من الجسم البعيد سوف يملأ جميع أرجاء المنطقة «الفارغة» الأخرى. (سنرى في الفصل السادس أنه حتى هذا الجسم الوحيد من الممكن أن يكون وجوده غير ضروري؛ فطبقًا لنظرية النسبية العامة لأينشتاين تخلق الطاقة في جميع صورها مجالات جاذبية).
الموجات
قد تبدو فكرة وجود مجال كهربائي أو مجال جاذبية نتاجًا لخيال الفلاسفة، لكن حقيقة هذين المجالين باعتبارهما أكثر من مجرد نظام تفسيري لكل من قوة الجاذبية والقوة الكهربائية يمكن تبينها بجلاء في صورة الموجات. حرك عصا من جانب إلى آخر على سطح بركة ساكنة وسوف تنتشر موجة. سببت حركة العصا اضطراب جزيئات الماء، التي ارتطم بعضها ببعض بحيث ارتفعت بعض الجزيئات فوق المستوى العادي ثم عاودت الانخفاض مجددًا بفعل الجاذبية، دافعة بدورها جزيئات مجاورة. تتحرك عبر السطح سلسلة متموجة من قمم وقيعان ذات مستوى شدة آخذ في الاضمحلال. وستبدأ قطعة فلين طافية على مبعدة في التمايل عندما تبلغها إحدى الموجات. لقد نقلت الموجة الطاقة من العصا إلى قطعة الفلين. يحدث أمر أكثر إثارة عندما تتخلخل فجأة بعض الصخور المتقلقلة في قشرة الكرة الأرضية وتنهار بفعل وزنها. تنتشر موجات الضغط عبر الكوكب وتسبب اهتزاز إبرة مقياس الزلزال، مسجلة بذلك وقوع «زلزال». أيضًا، الأصوات التي نسمعها تصدر عن موجات تتحرك في الهواء؛ إذ تسبب أي حركة مفاجئة تحريك موجة ضغط نحو الخارج، وعندما تصل الموجات إلى آذاننا تحرك غشاء طبلة الأذن مما يؤدي إلى سلسلة من الاستجابات الفسيولوجية التي يسجلها مخنا بوصفها صوتًا.
يوجد وسط ملموس في كل حالة من هذه الحالات، «شيء» يؤدي تكثيفه وتخفيفه، بالإضافة إلى ميله إلى الرجوع لحالة من الاتزان الهادئ، إلى خلق الموجة. ثمة أوجه تشابه وأيضًا أوجه اختلاف عميقة في حالة الموجات الكهرومغناطيسية.
إذا كانت الشحنة الكهربائية ساكنة، فإنها تكون محاطة بمجال كهربائي. أما إذا تسارعت أو اهتزت، فستنتشر «موجة كهرومغناطيسية» عبر الفضاء. وستشرع شحنة كهربائية بعيدة في التحرك عندما تصل إليها الموجة. وكما الحال مع موجة المياه أو الصوت، فإن الموجة الكهرومغناطيسية نقلت الطاقة من المصدر إلى المستقبِل. وثمة مثال شائع على هذا وهو الشحنة المتذبذبة في جهاز إرسال موجات الراديو؛ فهذه الشحنة تولد موجة كهرومغناطيسية تنقل الطاقة إلى الشحنات الموجودة في هوائي الراديو.
ذكرنا الكثير عن أوجه التشابه، أما عن وجه الاختلاف العميق فإنه يتمثل في أن سرعة انتقال موجات الماء تعتمد على المسافة بين القمم والقيعان المتوالية (الطول الموجي)، لكن على وجه النقيض تنتقل جميع الموجات الكهرومغناطيسية بالسرعة عينها؛ سرعة الضوء. يسري هذا دائمًا سواء أكنت تتحرك في اتجاه المصدر أو مبتعدًا عنه. يبدو هذا متناقضًا: فلو أنك تتحرك مبتعدًا عن مصدر الضوء بسرعة تقارب سرعة الضوء، كنت ستتوقع أن الضوء سيلحق بك ببطء فحسب، لكنه في الواقع سيُدركك بسرعة الضوء نفسها. وهذه الظاهرة الغريبة هي التي ستقود أينشتاين إلى نظريته الجديدة الثورية المتعلقة بالزمان والمكان؛ النسبية الخاصة، التي سنتناولها باستفاضة في الفصل الخامس.
الضوء هو شكل من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسي شأنه شأن موجات الراديو، والموجات الميكرونية، والأشعة السينية. يملأ المجالان الكهربائي والمغناطيسي الفضاء، ويمكن استثارتهما إلى موجات كهرومغناطيسية. إن فكرة الموجات الكهرومغناطيسية هي حقيقة مثبتة، حتى لو لم نتعرف بدقة على ماهية ما توجد «فيه» هذه الذبذبات تحديدًا. تستطيع مجالات الجاذبية أن تولد موجات هي الأخرى، على الأقل من الناحية النظرية. إذن «فيمَ» توجد موجات الجاذبية هذه؟ وفق النظرية هي تموجات في الزمكان نفسه. ما الزمكان إذن؟ هل هو شيء يبقى حينما يزول كل ما سواه؟ للإجابة عن هذا السؤال لا مناص من البدء بإسحاق نيوتن.