البحر اللانهائي
عالم الكم
في عام ١٦٨٧ وضع إسحاق نيوتن أول قوانين كونية للجاذبية في كتابه «المبادئ». وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان جيمس كلارك ماكسويل قد دمج أغلب الظواهر الكهربائية والمغناطيسية من خلال نظريته الرائعة عن الكهرومغناطيسية. وعام ١٩٠٠ قال لورد كلفين وويليام طومسون في اجتماع الجمعية البريطانية مؤكدين: «لا يوجد شيء آخر يمكن اكتشافه في الفيزياء.» وفي غضون خمس سنوات كان أينشتاين قد خرج بنظرية النسبية. ومن قبيل المفارقة أيضًا أن ألبرت ميكلسون، الذي ساعدت تجاربه في تشكيل المتناقضات التي أدت إلى رؤية جديدة للعالم أصر أيضًا قائلًا: «لقد ترسخت المبادئ الأساسية العظيمة ترسيخًا مُحكمًا، ويجب البحث عن المزيد من الحقائق في الفيزياء في الخانة السادسة بعد العلامة العشرية.»
تكشف الطبيعة على نحو متكرر عن حدود خيالنا الجمعي. فقد أثبتت اكتشافات النسبية، والذرة النووية، وظهور ميكانيكا الكم إلى أي مدى كان كل من لورد كلفن وميكلسون ساذجين. إن ميكانيكا أينشتاين ونيوتن تصف حركة الأجسام الضخمة بدءًا من المجرات الكاملة ووصولًا إلى التفاحات الساقطة، بل حتى أشعة الضوء، على نحو منقطع النظير. ومن السهل رصد سلوك المجرات على نحو مباشر، بينما كان سلوك الضوء أقل وضوحًا. وقد أصبح اكتشاف أننا نحتاج على المستوى الذري إلى الاستعانة بميكانيكا الكم، وما استتبعه من الكشف عن عالم مخادع من عدم اليقين، الأساس الثاني العظيم للعلم الحديث، وذلك رغم كونه بعيدًا عن المنطق. وسيتضح أنه ستترتب عواقب وخيمة على محاولاتنا لفهم الفراغ. في الواقع، يبدو أن ميكانيكا الكم تقضي بأن أرسطو ربما كان على صواب؛ فالفراغ ليس خاويًا على نحو تام، بل هو يتقد بالنشاط دائمًا. لذا دعونا نتعرف أولًا على أفكار الكم ثم نحاول فهم كيفية ارتباطها بأفكار نيوتن وأينشتاين.
البشر عمالقة مقارنة بالذرات. وقد تطورت حواسنا بحيث تجعلنا واعين بالعالم المرئي من حولنا. فقد تطورت أعين أسلافنا بحيث تكون حساسة للطيف البصري؛ إذ كانوا بحاجة لرؤية الحيوانات المفترسة المحتملة، ولم يكونوا بحاجة لرؤية النجوم أو الذرات. واقتضت رؤية الذرات مجاهر مخصوصة لم تُصنع إلا في المائة عام الأخيرة وبدأت تكشف عن ظواهر تخالف قوانين الفيزياء المعروفة. فعلى سبيل المثال، بينما ترتد كرات البلياردو بعضها عن بعض بطريقة محددة، فإن أشعة الذرات تتشتت في بعض الاتجاهات أكثر من غيرها، مكونة مناطق كثيفة وأخرى ضحلة، مثل قمم وقيعان موجات المياه المتسربة عبر إحدى الفتحات. ندرك أول ما ندرك ونحن أطفال العالم المرئي، ونبني حدسنا استنادًا إليه. ويُبنى توقعنا التالي حول سلوك الأجسام على هذا الحدس، ومع هذا ففكرة الذرات الشبيهة بالموجات ليست بالفكرة المنطقية إطلاقًا.
لم يكن معروفًا أي شيء عن الذرات في القرن السابع عشر عندما وضع نيوتن قوانين ميكانيكا الأجسام الكبرى، التي صقلها أينشتاين فيما بعد، والتي شكلت البديهيات التي قامت عليها قصتنا حتى الآن. غير أن هذه النظرة إلى الطبيعة نظرة عامة. فبالنسبة للأجسام التي تتكون من أعداد هائلة من الجسيمات الذرية تعد ميكانيكا نيوتن وأينشتاين كافية، لكن ليست أساسية. تتبع الجسيمات المنفردة قواعد أساسية عادة ما تكون غريبة على حواسنا؛ «غريبة» لأن المرء لا يستطيع مثلًا أن يعرف كلًّا من الموضع والحركة الدقيقين للذرات المنفردة في الآن ذاته. لو كانت الذرات المنفردة تملك الوعي، لتطور حدسها من مثل هذه الخبرات، ولكانت هذه هي الطبيعة التي تعرفها، ولسوف تبدو وقتها … طبيعية. غير أن الوعي الذاتي يتضمن عددًا كبيرًا من الذرات. وعندما تصير أعداد كبيرة من الذرات منظمة، يمكن أن تبزغ أنماط منتظمة بسيطة تمنح المجموعة ككل خصائص لا تملكها الذرات المنفردة أو الأعداد الصغيرة منها. لعل الوعي البشري أحد الأمثلة على هذه الخصائص، وتتضمن الأمثلة الأخرى خاصية مغناطيسية المعادن والموصلية الفائقة التي تنشأ في المجموعات الكبيرة للذرات لكن لا تتمتع بها الذرات المنفردة، والأطوار الصلبة والسائلة والغازية للمادة، كما في الجليد والماء والبخار، والتي تنشأ من الطرق المختلفة التي تنظم بها الذرات أو الجزيئات نفسها (سنوضح هذه الأفكار بالتفصيل في الفصل الثامن عندما نتعرض لفكرة التحولات الطورية ونتأمل هل يوجد فراغ فريد أم لا). في مثل هذه المواقف، يبزغ من السلوك الأساسي الجوهري تسلسل هرمي من القوانين الفيزيائية.
قدم روبرت لافلين في كتابه «كون مختلف» وصفًا شاملًا للظواهر الثانوية في الفيزياء. ويشدد على وجه الخصوص على فكرة أن قوانين نيوتن هي قوانين وصفية وليست جوهرية، وأن الصعوبات التي نواجهها في فهم الظواهر الكمية ترجع إلى محاولة تفسيرها في ضوء نظريات نيوتن، في حين أنه أولى بنا أن نقبل نظريات نيوتن على أنها نظريات منبثقة من نظرية الكم.
يرجع سبب قدرة العلم على التنبؤ — مع أن المعادلات الأساسية قد لا تكون معروفة، أو حتى يستحيل حلها إذا كانت معروفة — إلى أنه ليست الذرات والجزيئات وحدها هي التي تُقدِّر التنظيم؛ فالقوانين التي تعمل على مستوى الذرات المنفردة تنتظم في قوانين جديدة كلما ارتقينا إلى الأنظمة المعقدة. إن المعادلات الأساسية التي تحكم الذرات المنفردة معروفة، لكن يستحيل حلها إلا في حالات معدودة بسيطة فحسب، ويكاد يكون اشتقاق المواد الصلبة والسائلة مستحيلًا. لكن هذا لم يمنع المهندسين من تصميم بنى صلبة أو أنظمة هيدروليكية. إن قوانين الشحنات الكهربائية تؤدي إلى ظهور قوانين الديناميكا الحرارية والكيمياء، التي تقود بدورها إلى ظهور قوانين الصلابة ثم قوانين الهندسة. قد يتعذر اشتقاق الحالة السائلة لهذه المادة أو تلك من القوانين الأولى، لكن تظل هناك خصائص عامة تتمتع بها السوائل تتجاوز هذه القوانين. لن تتحمل السوائل اختلافات الضغط من نقطة إلى أخرى بخلاف تلك الناشئة عن الجاذبية، وهذا هو المبدأ الكامن وراء البارومتر الزئبقي وكل الآلات الهيدروليكية. هذه خاصية من خصائص الحالة السائلة المنظمة، وليس للقوانين الأساسية المفصلة على المستوى الذري أهمية كبيرة في هذا المقام. وهي السبب في حدوث الظواهر التي قادت كلًّا من جاليلو وتورشيللي إلى اكتشافاتهما حول السوائل والفراغ، والتي بدأنا بها رحلتنا.
هذا التسلسل الهرمي للبنى والقوانين هو ما يمكننا من فهم العالم ووصفه؛ فالطبقات الخارجية تعتمد على الطبقات الداخلية، ومع ذلك فلكل منهما هويته، وعادة ما يمكن التعامل مع الواحدة بمعزل عن الأخرى. وهكذا يستطيع المهندس أن يصمم جسرًا دون الحاجة إلى الاستعانة بالفيزياء الذرية التي تقوم عليها قوانين الضغط والتوتر.
تعتمد جميع صور الهندسة والتكنولوجيا على قوانين نيوتن للحركة، التي تقضي بأن الأشياء تتحرك بسرعة ثابتة ما لم تُجبَر على تغيير حركتها، وأن مقدار القوة عينه يسبب تسارع الجسم الثقيل بقدر أقل مما يسارع الجسم الخفيف، وأن العجلة تحدث في نفس اتجاه القوة المسببة لها. وعلى مدار ثلاثمائة عام من التجريب الدقيق كانت إخفاقاتها الوحيدة عندما طُبقت على الأجسام المتحركة بسرعة تقارب سرعة الضوء، ولذلك فهي متضمنة في نظرية النسبية لأينشتاين، أما على مقاييس الطول الذرية فتحل محلها قوانين ميكانيكا الكم.
ترتبط تجاربنا المباشرة بالمادة في صورتها المكثفة، إذ إن حواسنا لا تعي وجود الذرات، لكن دلالات الحركة المحمومة للهندسة الذرية تحيط بنا في كل الأرجاء. فأنا أشاهد النبات ينمو ولا أرى ذرات الكربون والأكسجين وهي تُنتزع من الهواء وتتحول إلى أوراق، وطعام الإفطار المكون من الحبوب الذي أتناوله يتحول على نحو غامض إلى جزء مني بفضل إعادة ترتيب جزيئاته. في جميع الأحوال تملك الذرات زمام الأمور، ونحن — الكائنات الضخمة الثقيلة — لا نرى سوى المنتج النهائي الكبير. لا تنطبق قوانين نيوتن إلا على سلوك المادة في صورتها المكثفة.
بعد نيوتن بمائتي عام تطورت التقنيات التجريبية إلى درجة بدأت معها الهندسة الذرية في أن تُدرك. ومع مطلع القرن العشرين بدأت تتراكم حقائق تجريبية غريبة متعددة بشأن الجسيمات الذرية، وقد بدت متعارضة مع عمل نيوتن المحكم الدقيق، مثل السلوك الموجي للذرات المذكور سابقًا. وإذا ما حاولنا وصف هذه الغرابة باستخدام لغة نيوتن المألوفة، فسوف نخفق.
حل هذه الأحجية يوجد في «دراسة حالة رائعة حول كيفية تطور العلم من خلال صياغة نظريات تتوافق مع الحقائق وليس العكس». اكتُشفت قوانين ميكانيكا الكم، ميكانيكا الأشياء شديدة الصغر، في عشرينيات القرن العشرين. تعمل ميكانيكا الكم بنجاح؛ إذ وصلت دقة توقعاتها في بعض الحالات إلى أجزاء من المليار. ومع ذلك فهي تتسبب في ظهور تناقضات محيرة، وبعض المحتالين يستغلون هذا لإقناع العامة أن العلماء يفكرون جديًّا في أكوان موازية لا يزال إلفيس بريسلي يعيش بها، أو يعتقدون أن التواصل بالتخاطر ممكن.
إحدى التناقضات الظاهرة التي تهمنا هنا هي أنه بعد التخلص من المادة والمجالات وكل شيء من أجل الوصول إلى العدم، فإن الفراغ الناتج على نطاق واسع هو أيضًا تأثير تراكمي. فعندما يُرى الفراغ على المستويات الذرية نجده يعج بالنشاط والطاقة والجسيمات.
الموجات وعدم اليقين الكمي
ثمة عدم يقين مشابه بخصوص الزمن والطاقة (ذكرت سابقًا أن ميكانيكا الكم مبنية على خاصية أساسية «واحدة» لأن عدم اليقين بشأن الموضع والزخم يقابله في الزمكان عدم اليقين بشأن الزمن والطاقة). يعني هذا أن مبدأ حفظ الطاقة يمكن «انتهاكه» على مدار مقاييس زمنية قصيرة للغاية. وضعت كلمة «انتهاك» بين علامتي اقتباس لأنه من المستحيل أن يلاحظه المرء؛ فهذا هو لب عدم القدرة على تحديد الطاقة «على وجه الدقة» في أي وقت بعينه. يمكن للجسيمات أن تشع طاقة (على شكل فوتونات على سبيل المثال) في انتهاك ظاهر لمبدأ حفظ الطاقة، ما دامت جسيمات أخرى تعيد امتصاص هذه الطاقة على مدار فترة زمنية قصيرة. وكلما أُفرط في السحب من رصيد الطاقة قصر الزمن الذي لا بد أن تُسترد الطاقة فيه؛ فكلما سحبت على المكشوف من حسابك البنكي زاد احتمال أن يلاحظ البنك ذلك بسرعة، وتعين عليك أن تسدد المال قبل أن يُكتشف الأمر وبهذا يكون الكل راضيًا. يلعب هذا الانتهاك «الافتراضي» لمبدأ حفظ الطاقة دورًا مهمًّا في نقل القوى بين الجسيمات. في الصورة الكمية للمجال الكهرومغناطيسي، يكون هذا الانتقال على صورة فوتونات افتراضية، أو حزم كمية، أو «جسيمات» ضوئية، تطير عبر الزمكان وتنقل القوى إلى الأجسام البعيدة.
لاحظ كيف استخدمت كلمة «فوتونات» باعتبارها «جسيمات» ضوئية هنا. أليس الضوء موجة؟ ترجع الطبيعة المزدوجة للضوء بوصفه موجة أو جسيمًا إلى إسحاق نيوتن. تعمل أشعة الضوء كما لو كانت مكونة من تيارات من الجسيمات؛ فهي تنتقل في خطوط مستقيمة، وتترك ظلالًا حادة، وتنحرف عند التقائها بأوساط مختلفة كما يحدث عند التقائها بالهواء والزجاج، طبقًا لقواعد البصريات الهندسية التقليدية. ومع ذلك يظهر الضوء أيضًا خصائص شبيهة بخصائص الموجات؛ فحواف الظلال غير حادة، وحين يتشتت الضوء عبر ثقوب صغيرة يمكن أن تظهر حزمًا معتمة وأخرى مضيئة تُعرف ﺑ «هدب التداخل». إن الحقيقة القائلة إنه يمكن في ظل ظروف معينة لشعاعين متداخلين من الضوء أن يلغي أحدهما الآخر بحيث ينتج ظلام يمكن أن يسهل فهمها إذا تعاملنا مع الضوء بوصفه موجة؛ فعندما تتزامن قمتان تكون هناك قمة كبيرة، أو سطوع شديد، لكن عندما تلتقي قمة وقاع فإن أحدهما يلغي الآخر فيكون ظلام.
لا تنبعث أي طاقة عندما يظل الإلكترون في مداره، لكن الطاقة تنبعث إذا قفز الإلكترون من حالة أعلى من الطاقة إلى حالة أدنى. وبافتراض أن هذه الطاقة المنبعثة حُولت إلى ضوء، حسب بور الأطوال الموجية المرتبطة ووجد أنها تتوافق بالتمام مع طيف الهيدروجين الغامض. وهكذا فإن نظرية الكم لبلانك، التي انطبقت بنجاح على الإشعاع عندما افترض أينشتاين وجود الفوتون، انطبقت بنجاح مماثل على المادة على يد بور.
ما هذه الموجات؟ وكيف ترتبط بمبدأ عدم اليقين الذي تناولناه سابقًا؟ أزعجت أسئلة كهذه العلماء أيما إزعاج منذ بزوغ نظرية الكم. استفاض كل من أينشتاين وبور، ضمن كثيرين، في مناقشة معنى نظرية الكم، لذا أستميحكم عذرًا في الاعتراف بأنني لا أملك إجابات لها. إليكم رؤيتي عن الأمر، وإذا وجدت أنك تفضل تفسيرًا آخر فلا بأس؛ فليس هناك أي تفسير «رسمي» متفق عليه بشأنها.
على المستوى المبدئي، على المرء أن يقبل فحسب بمبدأ عدم اليقين وتبعاته. غير أن الأمر يكون أكثر راحة دائمًا عندما نستطيع أن نبني نموذجًا فكريًّا يجسد خصائص النظرية، لأننا عندئذ نستطيع أن ننمي حدسنا بشأن سلوكها وتبعاتها. يمكن تشبيه عدم اليقين الخاص بالموضع والزخم بشيء نألفه؛ ارسم الكثير من النقاط بحيث تكوِّن شكل موجة لها طول موجي ثابت؛ عندئذ إذا حددنا الموضع باعتباره مكان نقطة معينة في الموجة والزخم باعتباره الطول الموجي؛ يصير لدينا تشبيه جيد لمبدأ عدم اليقين على أرض الواقع. طبقًا لميكانيكا الكم، كلما زاد الزخم قصر الطول الموجي. افترض أنني أعرف الموضع بالضبط سيكون إذن كل ما لدي هو نقطة واحدة، وسيكون من المستحيل معرفة مقدار الطول الموجي؛ فمن الممكن أن يكون بأي قيمة تريدها. وإذا كان لدي عدد قليل من النقاط يشكل بداية موجة، عندئذ سأبدأ في اكتشاف هل الطول الموجي طويل أم قصير، وفقط بعدما يكون لدي طول موجي كامل، سأتمكن من أن أحدد بكل يقين مقدار قيمته. غير أن ثمن هذا اليقين حيال معرفة الطول الموجي سيكون التخلي عن معرفة الموضع المحدد على امتداد الطول الموجي بأي درجة من الدقة. يتحقق هذا حسابيًّا من خلال تحليل فورييه، وهو تمثيل أي انحناء، أو حتى ارتفاع حاد، على صورة تراكب لموجات ذات أطوال موجية مختلفة. يساوي الارتفاع المنفرد في موضع محدد مجموع عدد لانهائي من الموجات ذات الأطوال الموجية المختلفة.
نرى هنا نوعًا من التناقض في القول إننا نحاول تحديد موضع إحدى الموجات؛ إذ إن الموجة لا تصبح موجة معروفة إلا عندما نقيس طولها الموجي الكامل. إذا أقنعك هذا المثال بالقبول بأن ثمة مواقف أخرى يستحيل فيها تحديد الموضع وخاصية أخرى بدقة على نحو ذي مغزى، فأنت في طريقك لفهم طبيعة عالم الكم. إن تمتع الموجات بمثل هذه الخصائص يجعلها مفيدة للغاية باعتبارها نماذج فكرية تعبر عما يحدث في الواقع. غير أنها في رأيي لا تتجاوز هذا؛ مجرد نماذج فكرية.
فراغ محموم
تخيل منطقة من الفراغ، على سبيل المثال متر مكعب في الفضاء الخارجي أُزيل منه كل الهيدروجين والجسيمات الأخرى. هل يمكن أن يكون خاليًا حقًّا من المادة والطاقة؟ في الكون الكمي، الإجابة هي لا.
إن امتلاك معلومة دقيقة تقضي بأنه لا وجود لأي جسيم في كل نقطة، يعني بالتبعية أننا لا نعرف شيئًا عن الحركة ومن ثم الطاقة. قد تزيل كل المادة والكتلة، لكن عدم اليقين الكمي يقضي بأنه توجد طاقة؛ إذ يستحيل أن تنعدم الطاقة أيضًا. أما التأكيد على أن هناك فراغًا لا يحتوي على مادة أو كتلة أو طاقة فينتهك مبدأ عدم اليقين. يوجد حد أدنى يُعرف ﺑ «طاقة نقطة الصفر»، لكن هذا هو أفضل ما يمكنك فعله. ومن الممكن تصور هذا من خلال التفكير في بندول يتكون من عدد قليل من الذرات.
يمكن تحديد السرعة المحددة لجسيم ما فقط إذا كان موضعه غير معروف. يعني هذا أن أي تجمع صغير من الجزيئات المعلقة في خيط من الذرات تتأرجح كالبندول يستحيل أن يسكن سكونًا تامًّا أبدًا، بحيث يتدلى رأسيًّا وتكون كرة الجزيئات ساكنة عند أدنى ارتفاع، أي عند «نقطة الصفر». بدلًا من هذا يقضي عدم اليقين الكمي أنها لا بد أن تتمايل ميلًا خفيفًا حول هذا الموضع. تُسمى هذه الظاهرة حركة نقطة الصفر.
بالنسبة للبندول المرئي، مثل ذلك الموجود في الساعات القديمة، تكون طاقة نقطة الصفر صغيرة للغاية إلى درجة تجعلها غير ملحوظة. غير أنه بالنسبة للتجمعات المكونة من أعداد قليلة من الذرات والجزيئات، فإن هذه الطاقة الدنيا قابلة للمقارنة بالطاقات الإجمالية لتلك المجموعات من الجسيمات نفسها. عندئذ تتجسد طاقة نقطة الصفر من خلال الحركة، على سبيل المثال حركة الذرات داخل الجزيئات وحركة الجزيئات المنفردة داخل تجمع الجزيئات الكلي. وهكذا في الوقت الذي تسبب فيه حركة الجزيئات داخل المادة حدوث ما نسميه حرارة، فإنه كلما ارتفعت الحرارة اهتاجت حركة الجزيئات، وتقضي نظرية الكم بأنه ستظل هناك طاقة نقطة صفر جوهرية حتى فيما يصل المرء إلى درجة حرارة الصفر المطلق، والبالغة −٢٧٣ درجة مئوية، والمسماة بدرجة الصفر الكلفينية. ومن الآثار المترتبة على ذلك أنه من المستحيل الوصول إلى درجة الصفر المطلق التي يكون فيها كل شيء ساكنًا ودون زخم أو طاقة.
الأمر الجدير بالذكر هو أن هذا ينطبق على أي حجم محدود من الفضاء، حتى لو لم توجد فيه مادة. يترتب على هذا أن أي منطقة محدودة من الفضاء الخالي — «الخالي» بمعنى أن كل صور المادة أُزيلت منه — ستكون مملوءة بالطاقة. فجميع المساحات المحدودة من أي حجم هي عرضة لتذبذبات الطاقة. بالنسبة للمساحات المرئية، يكون التأثير غاية في الصغر لدرجة تجعله لا يُلاحَظ، أما في المساحات شديدة الصغر، فتذبذبات الطاقة تكون هائلة.
مثلما يستطيع شعاعا ضوء أن يلغي أحدهما الآخر إلى الصفر نتيجة خصائصهما شبه الموجية، يستطيع الصفر أن يتحول إلى شيئين متعادلين. قد لا يحتوي الفراغ على مجالات كهرومغناطيسية إجمالًا، لكن التذبذبات التي تحفزها ظاهرة نقطة الصفر موجودة دائمًا، وهو ما يترتب عليه عدم وجود شيء من قبيل الفراغ الخاوي فعليًّا. فمن وجهة النظر المعاصرة، الفراغ هو حالة تكون فيها الطاقة عند أدنى قدر ممكن؛ أي الحالة التي يستحيل أن نزيل منها المزيد من الطاقة. باللغة العلمية تُسمى هذه الحالة من الفراغ «الحالة القاعية». في قوانين الطبيعة تكمن حالات مثيرة، فيها تتطابق كثافات الطاقة مع جسيم أو جسيمين أو حتى مليارات الجسيمات المادية أو الإشعاع. بإمكانك أن تزيل كل هذه الجسيمات الحقيقية إلى أن تصل للحالة القاعية، غير أن التذبذبات الكمية ستظل باقية. يشبه الفراغ الكمي الوسط، وحسب معرفتنا بالحالات القاعية في الأنظمة المرئية، يمكن توقع المزيد من المفاجآت بالنسبة لخصائص الفراغ الكمي، كما سنرى في الفصل الثامن.
نحتاج أولًا إلى أن نقتنع بأن طاقة نقطة الصفر حقيقية، وليست مجرد حيلة رياضية. اقترح هندريك كازيمير في عام ١٩٤٨ نتيجة فيزيائية مترتبة عليها، وبعد سنوات من المحاولات، أثبتنا أخيرًا ذلك بالتجربة العملية في عام ١٩٩٦.
الفراغ بحر كمي من موجات نقطة الصفر، بكل الأطوال الموجية الممكنة، بدءًا من تلك التي تكون أصغر حتى من المقياس الذري، ووصولًا إلى تلك الهائلة بحق. الآن، ضع لوحين معدنيين، منفصلين قليلًا بحيث يوازي أحدهما الآخر في الفراغ. تبدأ قوة ضئيلة لكن يمكن قياسها في جذبهما أحدهما نحو الآخر. بالطبع هناك قوة جذب متبادلة بين اللوحين، لكنها غير جديرة بالذكر على مقياس «تأثير كازيمير»، الذي ينتج عن الطريقة التي يخلخل بها اللوحين الموجات التي تملأ الفراغ الكمي.
وهكذا جرى قياس القوة، وتأكيد التأثير، وإثبات مبدأ طاقة نقطة الصفر في الفراغ. يثبت «تأثير كازيمير» أن «التغيير» في طاقة نقطة الصفر هو كمية حقيقية يمكن قياسها، مع أن طاقة نقطة الصفر نفسها لا يمكن قياسها. إن مقدار طاقة نقطة الصفر غير محدد فعليًّا، وأدى التأويل المغلوط للنظرية إلى مقترحات على غرار ذلك الذي طرحته مجلة «إنفينيت إينرجي» قائلة إن هذا مصدر للطاقة لم يلق له العلم بالًا ويمكن استغلاله في عملية الاندماج البارد وما شابه. لكن طاقة نقطة الصفر ليست كذلك. إنها ببساطة الحد الأدنى من الطاقة الذي يمكن أن يوجد في أي نظام، أو فراغ.
حركة نقطة الصفر الخاصة بالمجالات الكهرومغناطيسية موجودة على الدوام في الفراغ. ويستحيل استخلاص طاقة نقطة الصفر أو استخدامها كطاقة؛ فالطاقة تكون في أقل صورها داخل الفراغ فعليًّا. ومع ذلك يمكن الشعور بتأثيرات حركة نقطة الصفر من خلال الجسيمات التي تمر عبر الفراغ.
يتذبذب الإلكترون إبان حركته تذبذبًا خفيفًا لأنه يشعر بحركة نقطة الصفر الخاصة بالمجالات الكهرومغناطيسية الفارغة. وللكشف عن هذا نحتاج مرجعية قابلة للقياس، ويعد الإلكترون الحبيس داخل ذرة الهيدروجين دليلًا كافيًا على أن الفراغ ليس خاويًا بالمرة. يتحرك إلكترون داخل ذرة الهيدروجين بسرعة تبلغ نحو واحد بالمائة من سرعة الضوء. يكشف مطياف الهيدروجين التغيرات الحادثة في الطاقة وتقفز الإلكترونات بين المدارات المختلفة في الذرات. وتتجسد اختلافات الطاقة بين المستويات المتعددة على صورة طاقة الضوء التي تظهر في خطوط الطيف.
مكن التطور في تقنيات الرادار إبان الحرب العالمية الثانية علماء الفيزياء في فترة ما بعد الحرب من قياس طاقات الطيف، والاستدلال على الإلكترونات، بدرجة من الدقة تزيد على الجزء من المليون. أدى هذا إلى اكتشاف «إزاحة لامب»، والمسماة على اسم ويليام لامب، أول من قاسها في عام ١٩٤٧، وهذه الإزاحة الطفيفة مقارنة بما توقعته ميكانيكا الكم إذا كان الفراغ خاويًا بحق تتفق اتفاقًا تامًّا مع الحسابات التي تتضمن تأثيرات التذبذبات في فراغ كمي يعج بالنشاط.
ثمة اتفاق عام على أن كل ما نعرفه الآن نشأ من الفراغ الكمي، حتى مصفوفة المكان والزمان. وكما سنرى، لهذا الفراغ المحموم تبعات عميقة على فهمنا لطبيعة الخلق من العدم.
البحر اللانهائي
يرجع استقرار المادة والانتظام الدوري في جدول مندليف للعناصر الذرية في نهاية المطاف إلى حقيقة أن الإلكترونات تتبع مبدأ أساسيًّا من مبادئ ميكانيكا الكم يُعرف باسم «مبدأ الاستبعاد»، الذي ينص على أنه يستحيل أن يحتل إلكترونان في مجموعة واحدة نفس حالة الطاقة الكمية. عندما أدرك بول ديراك أن نظرية الكم تقضي بإمكانية وجود نظائر موجبة الشحنة مضادة للإلكترونات تُعرف بالبوزيترونات، استخدم مبدأ الاستبعاد هذا لعمل نموذج للفراغ من شأنه أن يتسبب تلقائيًّا في وجود مثل هذه الجسيمات العجيبة. اقترح ديراك أن ننظر إلى الفراغ على أنه غير خاوٍ بالمرة؛ فالفراغ بالنسبة له كان مليئًا بعدد لا نهائي من الإلكترونات التي تشغل طاقاتها المنفردة كل القيم، بداية من قيم سلبية لانهائية وحتى قيم قصوى. يمتد هذا البحر العميق الهادئ في كل مكان ولا يلحظه أحد ما دام لم يعكر صفوه شيء. ونطلق على هذه الحالة العادية «الحالة القاعية»، وهي المستوى الأساسي الذي نحدد كل الطاقات مقارنة به: يحدد «مستوى سطح البحر» لديراك نقطة الصفر للطاقة.
تحيط بالجسيم المشحون كهربائيًّا، كالإلكترون أو الأيون، سحابة افتراضية من الإلكترونات أو البوزيترونات. وتحيط به أيضًا كل الأنواع الأخرى من الجسيمات المشحونة ونظائرها المضادة، وكلما كانت أثقل قل تذبذبها، وعلى هذا لمَّا كان الإلكترون والبوزيترون هما الأخف، فهما إذن الجسيمان المهيمنان. أحد تأثيرات هذه السحب يتمثل في تخفيف شدة القوى الكهربائية بين الجسمين المشحونين. وكلما كانت عدسة المجهر المستخدم أرق، زادت قدرتنا على رصد تأثير هذه السحب الافتراضية في الفراغ. وبينما يظهر زوج الإلكترون والبوزيترون ويختفي في هذا الوجود الافتراضي في غضون جزء على ألف من قطر الذرة، بإمكانه أن يؤثر على القوة المتولدة بين البروتون والإلكترون البعيد في ذرة الهيدروجين، وهو ما يسبب تعديلًا طفيفًا لقانون التربيع العكسي للقوة، ويؤثر أيضًا على مغناطيسية الجسيمات مثل الإلكترون بطرق قابلة للحساب تتفق مع البيانات بدقة تتجاوز الجزء على المائة مليار.
يرى ديراك أن هذه الأجسام المضادة هي ثقوب تخلفت في البحر العميق اللانهائي الذي هو الفراغ. أيضًا تحل هذه الصورة أمرًا آخر قد يبدو متناقضًا؛ فإذا كان الفراغ خاويًا بحق، ما الذي كان سيشكل قوانين الطبيعة، وخصائص المادة، بحيث يكون لجميع الإلكترونات والبوزيترونات المخلقة «من العدم» خصائص متطابقة وكتل محددة، بدلًا من أن تكون لها قيم عشوائية؟ تتبع البروتونات والكواركات وجسيمات أخرى مشابهة أيضًا مبدأ الاستبعاد، وتملأ بحرًا عميقًا لانهائيًّا. وهذا المستودع العميق اللانهائي المتمثل في بحر ديراك هو الذي يمدنا بجسيمات المادة.
طبقًا لهذا التفسير، الفراغ هو وسط. للفراغ صلات عميقة بالظواهر التي تحدث في الوسائط «الحقيقية»، مثل المواد الصلبة والسائلة حيث تنظم أعداد هائلة من الذرات أو الجسيمات نفسها «أطوارًا» مختلفة. ومن ثم يشبه الفراغ الكمي الترتيب الذي يملك أدنى حد ممكن من الطاقة، أي «الحالة القاعية»، لنظام متعدد الجسيمات. سنتناول المزيد عن ذلك في الفصل التالي. لهذا الأمر تبعات عميقة، بما في ذلك احتمالية أن طبيعة الفراغ لم تكن واحدة على مدار تاريخ الكون. يثير هذا أيضًا احتمالًا مثيرًا: أنه بمقدور المرء أن «يضيف» شيئًا إلى الفراغ ومع ذلك «يقلل» من طاقته. في هذه الحالة سيصنع المرء حالة فراغ جديدة؛ فالفراغ السابق، الذي يتمتع بطاقة أعلى من الحالة القاعية الحقيقية، يُعرف ﺑ «الفراغ المزيف». والتحول من الفراغ المزيف إلى الفراغ الجديد يُعرف باسم «التغير الطوري». يخمن المنظرون — ولعل تجارب فيزياء الطاقة العالية تجيب عن هذا عما قريب — أن شيئًا من هذا القبيل حدث في وقت مبكر من تاريخ الكون عند درجات حرارة تتجاوز مليون المليار درجة (انظر الفصل الثامن).