الفراغ الجديد
بداية الكون
في بداية هذا الكتاب، بدأنا بالسؤال «من أين أتى كل شيء؟» وبعد أن استعرضنا أكثر من ألفي عام من الأفكار، وصلنا إلى الإجابة المعاصرة: «كل شيء أتى من لا شيء.» يرى الفيزيائيون المعاصرون أنه من الممكن أن يكون الكون قد انبثق من الفراغ. «ليس من الممكن لعلاقة أن تكون أكثر غرابة من العلاقة بين «اللاشيء» و«كل شيء».» أو باللغة الدارجة «قد يكون الكون الهبة المجانية الكبرى على الإطلاق». الفكرة هي أن كوننا يمكن أن يكون تموجًا كميًّا هائل الحجم ذا طاقة «افتراضية» مقاربة للصفر إلى درجة يصير معها عمره هائلًا. يمكن أن يحدث هذا لأن كلتا الطاقتين الموجبة والسالبة في الكون يعود مردهما إلى طاقة الجاذبية المتغلغلة في كل مكان. ولتوضيح هذا قد يكون من الأسهل أن نتذكر كيف صدت القوى الكهربائية داخل الذرة أي قوى دخيلة في الفصل الثاني.
لأن نواة الذرة موجبة الشحنة فهي محاطة بمجال كهربي يصد الشحنات الموجبة الأخرى، مثل جسيمات ألفا. تخيل أن هناك جسيم ألفا، وأنه بعيد للغاية عن النواة، ويتحرك بسرعة نحوها. ستكون الطاقة الإجمالية وقتها هي طاقة الحركة لجسيم ألفا. (للتبسيط، سأتجاهل الجاذبية والكتلة المضروبة في مربع سرعة الضوء، ولن تتأثر النتائج الجوهرية التي سنخرج بها). كلما اقترب الجسيم ألفا من النواة، شعر أكثر بقوة التنافر الكهربية وتباطأت سرعته. إذا كان على مسار تصادمي مباشر فسينتهي الحال به إلى السكون قبل أن يُصَد بعيدًا على امتداد مساره الأصلي. وفي اللحظة التي يتوقف فيها، تكون طاقة الحركة لديه صفرًا. يجب الحفاظ على الطاقة الإجمالية، ومن ثم ستحل طاقة الوضع محل طاقة الحركة.
عندما تتفاوت شدة الطاقة مع تغير التربيع العكسي للمسافة، كما الحال هنا، يتفاوت حجم طاقة الوضع عكسيًّا مع المسافة. ومن ثم حين تصير هذه المسافة كبيرة، كما هو الحال عندما بدأ الجسيم ألفا رحلته، تكون طاقة الوضع مقاربة للصفر. ومع اقتراب الجسيم من النواة، تتعاظم طاقة الوضع لديه. يتزامن تزايد طاقة الوضع مع تناقص طاقة الحركة إلى أن تصير طاقة الوضع في أقصى صورها ويتساوى حجمها مع مقدار طاقة الحركة التي امتلكها الجسيم عند البداية عندما يكون الجسيم على أقرب مسافة من النواة، ويكون في حالة سكون لحظي.
في هذا المثال، كل الطاقات موجبة، فطاقة الحركة الموجبة في البداية تتحول إلى طاقة وضع موجبة مع اقتراب الجسيم من النواة. الآن افترض أنه بدلًا من أن تكون الشحنتان موجبتين، ستكون إحداهما سالبة، كما الحال عندما ينجذب إلكترون بعيد نحو نواة موجبة الشحنة. إذا كان الإلكترون البعيد في البداية في حالة سكون، فستساوي طاقة حركته صفرًا، ولأنه بعيد عن النواة، ستساوي طاقة الوضع لديه صفرًا أيضًا. لكن نظرًا لوجود قوة «جاذبة» هنا، ينجذب الإلكترون صوب النواة، مكتسبًا سرعة ومن ثم طاقة حركية. وبما أن إجمالي الطاقة يجب أن يساوي صفرًا، تقضي الزيادة في طاقة الحركة أن طاقة الوضع يجب أن تكون سالبة، ويتزايد هذا مع اقتراب الإلكترون من النواة. إذن بالنسبة للقوة الجاذبة، يمكن أن تكون طاقة الوضع سالبة.
ينطبق هذا على الجاذبية، حين تجذب الكتل بعضها بعضًا. فطاقات الوضع للأرض أو للكواكب الحبيسة داخل مجال جاذبية الشمس سالبة بانتظام. في الواقع، إن «مجموع» طاقات الحركة والوضع لديها أقل من الصفر، وهذا هو ما يسبب ارتباطها بالمجموعة الشمسية، وأنها أسيرة لمجال جاذبية الشمس. وبالمثل، أنا وأنت أسرى لمجال جاذبية الأرض. وإذا دفعت جسمًا إلى أعلى بطاقة حركة فسيسقط مجددًا على الأرض ما لم تعطه سرعة مبدئية أكبر من ١٢ كيلومترًا في الثانية، وهي السرعة المعروفة باسم «سرعة الإفلات». فقط فوق هذه السرعة يكون مجموع طاقة الحركة وطاقة الوضع موجبًا ومن ثم يستطيع الجسم الإفلات من جاذبية الأرض، مع أنه سيظل حبيسًا داخل المجموعة الشمسية بطاقة إجمالية سالبة.
تعم قوة الجاذبية الكون بأسره وتغمر كل ما هو حبيس داخلها بطاقة الوضع السالبة. ومن الممكن حتى بعد إضافة كتلة المادة مضروبة في مربع سرعة الضوء أن تظل الطاقة الإجمالية للكون مقاربة للصفر. ومن ثم، وفق نظرية الكم، يمكن أن يكون الكون مجرد تموج فراغي كبير تقارب طاقته الإجمالية الصفر بحيث يمكنه الاستمرار لفترة طويلة للغاية قبل أن يتحتم عليه العودة لحالة التوازن. وإذا كانت الطاقة الإجمالية صفرًا، يمكن للكون الاستمرار إلى الأبد.
إذا كان الحال كذلك، من يسعه الجزم بأن كوننا هو الكون الوحيد؟ لم نستبعد احتمالية وجود فقاعات أخرى من الأكوان المتعددة النشطة؟ يفكر العديد من المنظرين بجدية في مثل هذه الاحتمالية ويتجادل كثيرون منهم حول ما إذا كانت هذه الفكرة تقع داخل حدود العلم من حيث قابليتها للاختبار التجريبي.
مع تمدد الكون، يتمدد الفضاء لكن تحافظ الأجسام على ترابطها بفعل القوى الكهرومغناطيسية، على غرار الكواكب والنجوم، بيد أن حجمها لا يتغير، فقط المسافة بينها تتزايد. لا وجود لما يحوي الإشعاع الكهرومغناطيسي، ومن ثم يتمدد طوله الموجي مع اتساع الكون. من واقع نظرية الكم نعرف أن الطول الموجي يتناسب عكسيًّا مع الطاقة، ومن ثم فإن إشعاع الخلفية الكوني، الذي تبلغ حرارته اليوم ٣ درجات فقط فوق الصفر المطلق، كان فيما مضى أشد حرارة. الأمر عينه ينطبق على المادة. فمع تمدد الكون، فإن المادة الحبيسة داخل مجال الجاذبية الشامل ستتعاظم طاقة الوضع لديها على حساب طاقة الحركة. هذا التباطؤ الكوني يُدرك على صورة انخفاض في درجة الحرارة. وهكذا من واقع نسبة التمدد المرصودة للكون وما نعرفه عن إشعاع الخلفية الكوني اليوم يمكننا العودة بالحسابات بالزمن إلى الوراء وتقدير الحرارة التي كان عليها الكون في كل حقبة من حقب الماضي. وستزداد الحرارة أكثر وأكثر مع اقترابنا من الحد المتفرد الذي نسميه الانفجار العظيم.
كانت تصادمات الجسيمات أشد عنفًا وقتها، حتى إنه في درجة حرارة أعلى من ٤ آلاف درجة مئوية لم تكن الذرات ستتمكن من البقاء، بل كانت ستتأين مثلما يحدث داخل الشمس اليوم. وفي درجة حرارة تربو على المليار درجة حتى نويات الذرات كانت ستتفسخ، ولم يوجد في اللحظات الأولى من عمر الكون سوى بلازما من الجسيمات والإشعاع. قبل ذلك كانت الطاقة تكفي لظهور جسيمات المادة والمادة المضادة. تشير كل الدلائل إلى أن كوننا المادي جاء من فراغ من الإشعاع الحار.
هكذا أصبحت لدينا صورة للكون وهو يتفجر كتموج كمي في الفراغ، وقد كان بصورة ما حارًّا للغاية وتمدد بسرعة عظيمة. كان من شأن هذه الصورة أن تؤدي إلى إنتاج كميات ضخمة من المادة والمادة المضادة على نحو متناظر، بيد أنه ما من دليل على بقاء المادة المضادة على صورة مكثفة اليوم. من المعتقد أنه لا بد من وجود نوع من التناظر بين البروتونات والبروتونات المضادة. لا يزال البحث جاريًا عن أصل هذا الأمر، بيد أنه قد يكون مثالًا آخر على انكسار التناظر التلقائي مع مرور الكون بتغير طوري.
التضخم
ثمة مشكلات بشأن هذا السيناريو، من بينها السؤال: من أين أتت كل هذه الطاقة الحرارية؟ علاوة على ذلك، نحن نعرف من واقع خبرتنا بالتغيرات الطورية في فيزياء المواد المكثفة أن هذه التغيرات لا تكون تامة السلاسة مطلقًا. على سبيل المثال، حين يبرد المعدن ليكون المغناطيس، تتفاوت شدة المغناطيسية من منطقة لأخرى، مشكلة ما يسمى «نطاقات» منفصلة من المغناطيسية. هناك مواطن خلل وعدم اتساق في كل أجزاء المعدن. من المفترض أن يكون الأمر قد جرى على هذا النحو في الكون حين مر بعملية التحول الطوري، متسببًا في وجود ظواهر مثل جدران الطاقة أو الأوتار الكونية، سمها ما شئت. لكن في كل حدث، لم يكن هناك أي مشاهدة واضحة لأي من هذه الظواهر العجيبة. أيضًا، تقترح هذه النظرية أنه من شأن تتابع الأحداث هذا أن يجعل تطور الكون سريعًا للغاية بحيث لا يتجاوز عمره أكثر من بضع عشرات الألوف من الأعوام وليس مليارات الأعوام. يمكن حل هذه التناقضات من خلال فكرة آلان جوث وبول شتاينهارت اللذين اقترحا أن كوننا ما هو إلا نطاق موجود داخل كون جامع أكبر. وفق هذه النظرية، والمعروفة باسم نظرية التضخم، فإن كوننا جاء نتيجة تضخم هائل لواحد من هذه «النطاقات» الميكروسكوبية. للوهلة الأولى يبدو هذا مستحيلًا لأنه يتطلب أن تتطاير المادة في جميع الأرجاء على نحو تلقائي، وهو ما لن يحدث في ظل وجود قوة جذب كونية. ومع ذلك، في نظرية النسبية العامة، لا يسهم تكافؤ المادة والطاقة والزخم وحدهما في الأمر، بل الضغط أيضًا، وإذا كان الضغط سالبًا وهيمن على المادة والطاقات الحرارية، يمكن أن تكون النتيجة تمددًا سريعًا، أشبه بتأثير «مضاد للجاذبية».
ما لاحظه آلان جوث هو أنه لو احتوى الفراغ الحقيقي على مجال هيجز، فهناك إمكانية لأن تكون منطقة ما من الكون في حالة فراغ غير مستقر أو «زائف». (الفراغ الزائف أشبه بالحالة التي يكون فيها القلم واقفًا على سنه، والفراغ الحقيقي هو حين يسقط القلم على المائدة). كما تذكر فإن إضافة مجال هيجز إلى الفراغ الزائف من شأنه أن «يخفض» الطاقة. في الفراغ الزائف تتناسب الطاقة الإجمالية مع الحجم، وثمة حاجة للعمل من أجل زيادة ذلك الحجم. وبسبب حالة الطاقة المنخفضة في فراغ هيجز، تكون النزعة الطبيعية لمثل هذا الفراغ هي أن ينكمش، وفي حالة فراغ هيجز الحقيقي ستكون حالة الفراغ الزائف هي الحالة التي يكون فيها الضغط سالبًا. وبهذا إذا حدث التذبذب في منطقة من الفراغ الزائف، يستطيع التأثير الجذبوي للضغط السالب أن يتغلب على ذلك الخاص بالمادة، وهو ما يؤدي إلى التمدد. وبينما يتحول الكون من الفراغ الزائف إلى فراغ هيجز في هذه الصورة، من الممكن أن يحدث تضخم هائل في فترة قصيرة للغاية.
بعد حقبة التضخم، يطلق التحول إلى الفراغ الحقيقي طاقة، على غرار انبعاث الطاقة الكامنة حين يتجمد الماء. أنتجت هذه الطاقة جسيمات المادة التي شكلت في نهاية المطاف المجرات والنجوم والبشر. لقوى الجذب طاقة وضع سالبة تعادل هذه الطاقة، وهو ما يجعل الطاقة الإجمالية مقاربة للصفر.
إذن، تتفق أفضل بياناتنا مع النظرية القائلة إن كوننا الفسيح تمدد على نحو مفاجئ بفعل التضخم. ولو صح هذا، قد يكون لدينا إجابة عن السؤال «من أين أتينا؟» فكل شيء يتوافق مع صورتنا الحالية عن الكون المبنية على الرصد والعلم التجريبي. ومع أن هذه الصورة تقدم إجابات لسؤالي الأساسي، فإن هذا يتحقق على حساب إثارة المزيد من الأسئلة التي يمكن أن تكون أكثر عمقًا. لقد حل التضخم بعد الحقبة التي هيمنت فيها قوة الجاذبية. لقد ألمحنا إلى السمات الغريبة التي اتسم بها الزمكان والمتمثلة في وجود التذبذبات في نسيجه، ورأينا حتى إن إشعاع الخلفية الكوني يظهر ما يبدو وكأنه آثار حفرية لمثل هذه التذبذبات. ولا يوجد سبب وحيد يدعونا للاعتقاد بأن كوننا المتضخم كان، أو لا يزال، حدثًا فريدًا لم يتكرر. فمن الممكن أن تكون أكوان مماثلة عديدة قد ظهرت على نحو مشابه لكوننا، لكنها خارج نطاق إدراكنا. وفي مواجهة النطاق المذهل من المصادفات في طبيعة القوى، وكتل الجسيمات الأساسية، بل حتى وجود ثلاثة أبعاد للمكان، التي لولاها لما أمكن للظروف المواتية للحياة أن تتوافر، يجد المرء نفسه مجبرًا على التساؤل عن سبب ملاءمة الكون على هذا النحو للبشر. من الأفكار الشائعة بين العلماء فكرة وجود أكوان متعددة، قد يكون عددها لانهائيًّا، لها معاملاتها وأبعادها الخاصة، وأن أحد هذه الأكوان تصادف أنه ملائم لاستضافة الحياة، وأننا تطورنا بهذا الكون. مرحبًا بك إذن إلى مفهوم الكون المتعدد، مع أنني أتشكك في إمكانية إخضاع مثل هذه الفرضية للاختبار العلمي.
أبعاد أعلى
في فلسفة الكون الكمي، ما نسميه المكان والزمان ظهرا من فقاعة كمية. لا يوجد شيء في العلم المعروف يعارض هذه الفلسفة وهي تتوافق مع أغلب ما يحدث في كوننا القابل للرصد، لكن من ناحية أخرى لا يوجد توصيف رياضي متفق عليه لها من شأنه أن يؤدي على نحو حتمي للكون الذي ندركه، ولا يوجد أي اختبارات تجريبية حاسمة. لهذا هي تعد في الوقت الحاضر مسألة إيمان بالأساس، لكن مع تطور الأساليب التجريبية ربما يدخل المزيد منها تحت مظلة العلم التجريبي. لنكمل حديثنا ونحن نضع هذا التحذير في اعتبارنا.
تقضي نظريتنا الشائعة بوجود عدد من الأبعاد في الكون أكبر من ذلك الذي ندركه حاليًّا. بعض هذه الأبعاد، باللغة الاصطلاحية، «انطوت» إلى أحجام صغيرة للغاية حتى إنها صارت خارج نطاق خبرتنا، فيما تمدد البعض الآخر نتيجة الانفجار العظيم ليكون الأبعاد المرئية كبيرة الحجم المألوفة الموجودة في كوننا ذي الزمكان رباعي الأبعاد. وهذا يستتبع السؤال عن الماهية الفعلية للأبعاد، وهل توجد في غياب «المادة»، وعن الأمر المميز بخصوص الأبعاد المكانية الثلاث، وإذا كانت هناك أبعاد إضافية، فكيف يمكننا الكشف عنها بطريقة علمية؟
إذا كنت لا تعي سوى بعد واحد، لنقل مثلًا خط زوال جرينيتش الممتد من الشمال إلى الجنوب، فإن أي شخص يتحرك في اتجاه الشرق سيختفي تمامًا من عالمك الخطي. وإذا كنا ندرك فقط الأسطح المستوية، فإن طائرة مقلعة ستختفي حرفيًّا عن ناظرينا. وإذا كان هناك وجود لبعد رابع، وكان بمقدور كائنٍ ما خارقٍ التحركُ داخله، فسيظهر داخل عالمنا ويختفي فورًا كالشبح وذلك حين يتقاطع مساره رباعي الأبعاد مع عالمنا ثلاثي الأبعاد. هذا يصل بنا إلى حدود عالمنا الواقعي. قد يبدو الدخول في بعد رابع والاختفاء أشبه بالخيال العلمي، لكن بمقدورنا تصوره: كما هو الحال مثلًا مع بعد الزمن، وفكرة الخيال العلمي المحبوبة من الكثيرين المتعلقة بالسفر عبر الزمن.
كيف يعد الزمن بُعدًا؟ بالتأكيد للزمن نطاق متمثل في تواريخ السجلات التاريخية، التي تبدو وكأنها نقاط ممتدة في اتجاه ما. وإذا تمكن أحدهم في مكاننا ثلاثي الأبعاد من تصنيع آلة للزمن بحيث يستطيع التحرك إلى نقطة مختلفة في الاتجاه الزمني، سواء للأمام أو الخلف، فلن يبدو بُعد الزمن مختلفًا عن أي من أبعاد المكان. وإذا امتلكنا مثل هذه الآلة فسنتحرك على امتداد هذا البعد الرابع معه، لكن دون الآلة سنظل عالقين في الزمن الحاضر، وحين ينتقل المسافر عبر الزمن إلى «الأمس»، فسيختفي من أمام أعيننا. وعلى العكس، لو كنا في المكان المناسب في مكان الأمس ثلاثي الأبعاد، فقد نشهد ظهورًا مفاجئًا لهذا الشخص من العدم.
إذن، يتسم الزمن دون شك بسمات البُعد، بيد أنه بُعد مختلف من الناحية النوعية عن الأبعاد المكانية. فنحن موجودون في نقطة ما من الزمن هو «اللحظة الآنية»، وهذه اللحظة لحظة مختلفة عن اللحظة السابقة نستطيع فيها أن نتذكر ما حدث في اللحظة السابقة، واللحظات التي لم تأتِ بعد، لم تأت بعد. إنه بُعد ذو حدود، وبمقدورنا النظر عبر الزمن بالنظر إلى الفضاء؛ إذ إن الضوء يستغرق بعض الوقت حتى ينتقل من النجوم البعيدة إلينا.
حين ننظر إلى القمر فإننا نراه كما كان عليه منذ لحظة واحدة، أما الشمس فنراها كما كانت عليه منذ ثماني دقائق، والضوء الآتي من النجوم في سماء الليل سافر عبر الفضاء الوسيط لآلاف السنوات أو أكثر، وهكذا فنحن نراها على ما كانت عليه في الماضي. إذا نظر كائن ما على أحد الكواكب التي تدور حول إحدى هذه النجوم البعيدة في سماء ليله وأنت تقرأ هذه الكلمات، فسيرى شمسنا كما كانت عليه منذ آلاف السنوات، ربما حتى قبل أن يظهر البشر على الأرض. وهكذا يصير مفهوم «الآن» أقل وضوحًا.
يمكننا النظر في أعماق الفضاء عائدين بالزمن إلى الوراء، وصولًا إلى النقطة التي نسميها الانفجار العظيم. وإذا ولد كوننا ذو المكان والزمان حينها، فبُعد الزمن له نطاق ممتد لما لا يقل عن ١٤ مليار عام إلى الآن. ويمكننا السفر إلى المستقبل والنظر منه إلى الماضي، وبهذا يملك الزمن سمة البُعد الذي نستطيع التحرك خلاله، بيد أنه مختلف عن أبعاد المكان الثلاثة. فإذا لم يعجبنا المكان الذي وصلنا إليه، نستطيع العودة مجددًا من حيث أتينا، لكن في حالة بُعد الزمن يستحيل علينا هذا.
منذ أن لاحظ إدوين هابل أن المجرات يبتعد بعضها عن بعض صار لدينا صورة للكون المتمدد، الأثر الممتد طوال ١٤ مليار عام للحدث الذي نسميه الانفجار العظيم. وأمور مثل: ما سبب الانفجار العظيم؟ ومن أين أتى؟ تعد نسخة حديثة من أساطير الخلق. لكننا نملك ميزة عند محاولة تفسير هذه الأمور، وهي معرفتنا بميكانيكا الكم، التي تمنحنا أفكارًا جديدة، ليس فقط عن الفراغ بوصفه وسطًا، بل أيضًا عن الطبيعة غير اليقينية للمكان والزمان. وأفضل ما يسعنا فعله هو تصور تلك الحقبة من منظور خبراتنا. وهذه الخبرات تخبرنا بأنه حين تتجمع المادة على نحو لصيق فإنها تستشعر قوة الجاذبية، وهو الأمر الخاضع للنسبية العامة وقوانين ميكانيكا الكم.
كما رأينا من قبل، بينما تصف النسبية العامة الكون على المستوى الضخم، تقدم ميكانيكا الكم تفسيرات دقيقة عن الظواهر الواقعة على مستويات الحجم دون الذرية، بيد أن الوصول لنظرية متسقة رياضيًّا ومختبرة تجريبيًّا تجمع بين هاتين الدعامتين العظيمتين لعلوم القرن العشرين لم يتحقق بعد. ولفهم ما كان عليه حال الكون خلال اللحظات الأولى من الانفجار العظيم سنحتاج إلى نظرية كمية للجاذبية. في النسبية العامة يرتبط انحناء الزمكان بتركيز الطاقة. ومن شأن عدم اليقين أو التشوه الذي يصيب الطاقة في الكون الكمي أن يؤدي إلى عدم يقين مماثل في انحناء الزمكان، وهو ما يؤدي إلى حدوث تذبذبات في المسافات، أو على وجه التحديد في نسيج الزمكان (الفصل السادس). ستتسم هندسة الكون كلها بعدم اليقين، وستعجز خبراتنا عن استيعاب فكرة الأبعاد وأعدادها.
يبدو أن أفضل النظريات الواعدة حاليًّا، التي تعمد لحل هذه المشكلات، تعمل على النحو الأفضل إذا كان للكون أبعاد عديدة، ربما عشرة أبعاد، وهذه النظريات تعرف باسم نظريات الأوتار. وليس من المؤكد بعد هل هذا التبسيط للعمليات الفيزيائية في الطاقات العالية في أبعاد عديدة مجرد حيلة رياضية تمكننا من إجراء حسابات معقولة أم أنه يلمح لشيء آخر أعمق بشأن نسيج الكون. على أي حال، لربط هذا الكون ذي الأبعاد الأعلى بالكون الذي ندركه، علينا الجزم بأن كل الأبعاد المكانية، خلا ثلاثة منها، صغيرة على نحو دقيق للغاية. ومع أن كل هذه الأبعاد كانت مهمة على نحو متناظر في حقبة الجاذبية الكمية، وحدهما المكان والزمان كما نعرفهما هما اللذان تضخما ليضما الكون المرئي الذي نعيه اليوم.
قد يخبرنا العلم قريبًا بإجابة السؤال: هل توجد أبعاد أخرى غير أبعاد المكان وبعد الزمان؟ فبالإضافة إلى الأبعاد الممتدة من الأعلى للأسفل، ومن الخلف للأمام، ومن الجانب للجانب، يمكن أن تكون هناك أبعاد أخرى «بالداخل». وحتى وقت قريب للغاية كان من المعتقد أن هذه الأبعاد الأعلى فُقدت للأبد في الزبد الكمي، لكن تشير الأفكار المبتكرة التي تحاول تفسير سبب ضعف قوة الجاذبية الشديد على المستوى الذري قياسًا بالقوى الأخرى إلى أن الجاذبية ربما تتسرب إلى أبعاد أعلى يمكن لها حتى أن توجد على مستويات يمكن الوصول إليها من خلال التجارب التي تتم في مصادم الهادرونات الكبير بمختبر سيرن. تحدثنا من قبل عن الطائرة التي تقلع إلى البعد الثالث ومن ثم تختفي من نظر أي قاطن لسطح ثنائي الأبعاد، وبالمثل، يمكن للجسيمات التي تظهر آتية من البعد الخامس، أو مختفية فيه، في مصادم الهادرونات الكبير أن تكون علامة على أن الزمكان في حقيقته أشبه بالجبن السويسري؛ من حيث إنه مليء بالفقاعات الدقيقة التي تقع على حدود قدرتنا الحالية على القياس.
بحثًا عن الفراغ
قد تكون فكرة الأبعاد الأعلى حقيقة واقعة، أو قد تكون مجرد خيال علمي، بيد أنها على أي حال وسيلة قوية لمساعدتنا في التدريبات العقلية المطلوبة لمحاولة حل التناقضات المرتبطة بقضية أين كان الكون في اليوم السابق على مولده.
ترتبط مشكلتنا بنظرتنا إلى الزمن بوصفه بعدًا خطيًّا أحاديًّا. فإذا سُرد تاريخ الكون على خط رأسي، بحيث يحتل «الحاضر» نقطة معينة عليه، فسيكون المستقبل بالأعلى والماضي بالأسفل، ويكون الانفجار العظيم في القاعدة. لكن هناك يتوقف الخط، ولا يوجد أدناه شيء. في هذا التمثيل الزمني الخطي، لم يكن هناك زمن قبل الزمن. وفي هذه النقطة يلوح مفهوم العدم، حيث يملأ الشِّعر فراغ عجزنا عن الفهم النابع من خيالنا المحدود. وفق راوية سفر التكوين، في البدء كان «على وجه الغَمْرِ ظلمة»، وفي الريجفدا كان المجهول أعمق وأعمق: «كان الظلام يحجبه ظلام.»
تعرضنا لفكرة قاطن الأرض المسطحة، الذي لا يعي بوجود أي بعد يعلو مستواه المسطح. ربما كنا مثله، غير واعين لوجود أبعاد أخرى خارج نطاقنا المألوف.
رأينا بالفعل أينشتاين وصورته رباعية الأبعاد عن الزمكان، التي يرتبط فيها الانحناء بالجاذبية. أخذ هوكينج وهارتل خطوة إضافية وتصورا الكون بوصفه سطحًا رباعي الأبعاد لكرة خماسية الأبعاد. أعجز عن تصور هذا، وإحقاقًا للحق حتى واضعو النظرية يعجزون عن تصور هذا إلا رياضيًّا. ومع ذلك، يمكننا تصور نسخة أبسط، لاعبين مجددًا دور الكائنات التي تعي فقط أبعادًا مكانية محدودة وتدرك أن كونها يتمدد مع مرور الزمن. يقترح هذا أن كوننا يبدو أنه يتمدد فقط وذلك نتيجة لإدراكنا المحدود. لكن في نموذج هوكينج-هارتل لا يوجد تمدد، أو بداية؛ فالكون موجود وحسب.
الآن، انظر إلى المنطقة الموجودة قرب القطب الشمالي. كلما اقتربنا من زمن الصفر صارت شبكة الزمن المتخيل مكدسة بالخطوط، مثلما يتسبب الاقتراب من القطب الشمالي في تلاقي كل خطوط الطول. ما من شيء متفرد بشأن القطب، فحقيقة أن جميع الخطوط تتلاقى هناك ليست سوى «مصادفة» نبعت من اختيارنا للكيفية التي اخترنا أن نرسم الشبكة بها. على كوكب الأرض لا يختلف السفر حول القطب الشمالي عن السفر لأي مكان آخر على سطح الكرة الأرضية، باستثناء الطقس البارد. كان بمقدورنا أن نخطط الكوكب بخطوط نابعة من لندن وتتلاقى على الجانب المقابل للكوكب لو رغبنا في ذلك.
من الممكن أن يكون زمن هوكينج وهارتل المتخيل مجرد تصور خيالي، أو ربما هي نظرية متسقة رياضيًّا تفوق خيالنا وحسب. هذا مثال معاصر على المعضلة التي ابتلي بها المفكرون على مدار ألفيات ثلاث: أن عقولنا طورت نظرة للعالم مبنية على إحساسنا الملموس بالزمن والأبعاد المكانية الثلاث. فنحن نصف المادة والطاقة داخل هذا الإطار العقلي. وتنشا التناقضات بخصوص «بداية» الكون حين نحصر أنفسنا في هذه الصورة العقلية. ومع ذلك، فمنذ ١٤ مليار عام كان المكان والزمان من الانحناء والتذبذب بحيث كانت «الحقيقة» بعيدة للغاية عن قدرتنا التصورية. لقد أنتج الانفجار العظيم المكان والزمان. أما قبله (وكلمة «قبل» هنا بالطبع ليس لها معنى إلا في سياق إطارنا العقلي المألوف) فلم يكن هناك أمس.
من الممكن أن نتصور أن ما نطلق عليه الانفجار العظيم حدث حين ظهر الكون المضغوط من حقبة الجاذبية الكمية، وذلك حين حل الزمن العادي محل الزمن المتخيل. أما الأسئلة على غرار «من أين أتى كل شيء؟» و«كيف بدأ الأمر كله؟» فلا محل لها؛ فالكون وفق هذه الصورة لم يكن له بداية، وليس له نهاية، فهو وجود وحسب. هل تشعر أن هذه هي إجابة سؤال العصور، وأن مفارقة الوجود قد حُلت؟ أنا عن نفسي لست مقتنعًا، فالزمن المتخيل، على الأقل من وجهة نظري، لا يمكن تخيله. ربما تمكنا من تحديد المشكلة العظمى، بيد أن هذا لا يعني أننا تمكنا من فهم الإجابة. إذ يظل سبب وجود الكون، وأين يوجد، لغزين معضلين.
لو أن الأكوان المتعددة نشأت نتيجة التذبذبات الكمية، وتصادف أن كانت فقاعتنا محظوظة بحيث كانت القوانين والأبعاد والقوى بها ملائمة تمامًا لتطور الحياة والبشر، فهذا لا يزال يستدعي التساؤل عن من أو ماذا حدد القواعد الكمية التي مكنت كل هذا من الحدوث وأين. هل كان أناكساجوراس محقًّا: وأن الكون ظهر كتنظيم وسط الفوضى، وأن المادة الأصلية هي الفراغ الكمي؟ أو ربما يكون تصور هوكينج وهارتل، عن الكون عديم البداية أو النهاية والموجود وحسب، هو الإجابة، بحيث يكون رأي طاليس، الذي أصر على أن الشيء لا يمكن أن يظهر من العدم، هو الصحيح؟ وبهذا تكون مفارقة الوجود لغزًا لم يحل بعد بشأن طبيعة المكان والزمان.
خلال الثلاثة آلاف عام التي انقضت منذ أن بدأ فلاسفة الإغريق يتساءلون بشأن لغز الوجود؛ نعني بهذا ظهور شيء من لا شيء، كشف المنهج العلمي عن حقائق لم يكن بمقدورهم تخيلها. فالفراغ الكمي، العميق بلا نهاية والمليء بالجسيمات، والقادر على اتخاذ أشكال مختلفة، وإمكانية حدوث التذبذبات الكمية كلها أمور تقع خارج نطاق فلسفتهم. لم يكن هؤلاء الفلاسفة يدركون أن الطاقة الموجبة الموجودة داخل المادة يمكن أن تعادلها الطاقة السالبة الموجودة في مجال الجاذبية المتغلغل في كل مكان، بحيث تصير الطاقة الإجمالية للكون مقاربة للصفر، وأنه حين يقترن هذا بعدم اليقين الكمي فقد يسمح بإمكانية أن كل شيء في الواقع مرده إلى تذبذب كمي طفيف حدث لوقت يسير. وبهذا يمكن أن يكون كل شيء مجرد تذبذب كمي نابع من لا شيء.