المسرح الاتجاهي، بين سارتر وتشيكوف
المسرح بمفهومه المتكامل؛ أعني حين ننظر إليه كعمل ورسالة، شيء جليل خطير. وحين نلخص هذا المفهوم في صورته العملية، نقول إنه النص والعرض والتجسيم والمشاهدة. ومن وراء كل هذه الإمكانيات — وفي نطاق تحمُّل المسئولية — يقف الكاتب والمخرج والممثل والجمهور. أما الجانب الآخر من هذا المفهوم — أعني جانب الرسالة التي يمكن أن يؤديها المسرح — فتتركز في عملية الاتجاه القيادي المساير لروح العصر، والمدرك لمشكلات الجموع.
على هذا الجانب الأخير تعتمد خطورة المسرح، خطورة الدور الذي يلعبه؛ فهو هنا — كأداة تثقيف وتوجيه — يتصدر قائمة كل الأدوات المماثلة، من ناحية التأثير المباشر. وعلى الرغم من المنافسة الشديدة التي يلقاها من السينما والتليفزيون، فإنه ما يزال في بعض الدول التي توفر له كل نضج الإمكانيات، صامدًا أمام منافسيه. إننا عندما نضع المسرح في ميزان المقارنة، وفي كفَّة ما سميناه بالتأثير المباشر، يتضح لنا فارق جوهري بينه وبين السينما والتليفزيون. إنه كأسلوب تجسيمي من أساليب العرض، يعتبر أكثر فعالية وإثارة؛ فنحن أمام خشبة المسرح، نشعر أننا نلقى الأحداث والمواقف ذلك اللقاء الحي، الناتج من كون النماذج الإنسانية التي تواجهنا نماذج حية. هؤلاء الممثلون الذين يجسِّمون لنا تلك الأحداث والمواقف، ويقدمون لنا الحياة من خلال قطاعٍ اجتماعي معين. لا يبدون في رؤيتنا النفسية والبصرية — كما هو الحال في السينما والتليفزيون — وهم صور فوق شاشة.
إن مادية الإحساس في الجانب البصري من الرؤية، هي العامل الأبعد أثرًا في تعميق مجرى انفعالاتنا الداخلية. وكأننا لا نقف أمام تسجيل مصور الحياة، وإنما نقف وجهًا لوجه، أمام الحياة نفسها وبلا وسيط؛ هذا الوسيط في السينما والتليفزيون هو الشاشة وجهاز العرض. فإذا ما حِيل بين طاقتنا الانفعالية، وبين مدى التجاوب؛ فلأننا لم نستطع أن نلغي من إدراكنا الوجداني تلك الوساطة بيننا وبين الواقع.
من هنا تأتي قيمة المسرح وامتيازه. ولكن أي مسرح هذا الذي نعنيه؟ إنه المسرح الذي يجب أن يتوفر له كاتب معين وجمهور معين. في حدود هذين البعدين من أبعاد أزمتنا المسرحية، تتمثل المشكلة الأكثر تعقيدًا وصعوبة. ولا نريد أن نذهب مع المهتمين ببحث هذه الأزمة إلى أن الكفاية للمسرح ليست بالأمر الهين، ولا إلى أن كتَّابنا المسرحيين الذين يجيدون هذا العمل قلة نادرة، فهذا كله مفروغٌ منه. من الممكن مع مختلف ألوان الدراسة والممارسة والتشجيع، أن يرتفع مستوى الوعي والإجادة للكتابة المسرحية، وأن يزداد عدد الكتَّاب. المشكلة كما أتصورها ليست مشكلة الفهم التكنيكي للعمل الدرامي، وليست مشكلة الكم العددي لما نحتاج إليه من كتَّابٍ مسرحيين. الكيف لا الكم هو الذي ننشده لمسرحنا العربي الحديث، ومن زاوية موضوعية محددة.
إننا نلاحظ — والواقع يزيد هذه الملاحظة — أن مسرحنا يعقد أكثر صلاته الاجتماعية مع ماضينا القريب، حتى ليمكن أن يقال إن هذا الماضي قد أصبح الوطن الروحي لأعمالنا المسرحية؛ وليس من شكٍّ في أن للماضي الذي مارسناه كتجربة نفسية معاشة، علاقةَ ارتباط وثيقة متعددة الجوانب بالحاضر الذي نعيشه اليوم، مع اختلاف لون التجربة. وبمتابعة خطِّ السير الطبيعي لعجلة التطور، يصبح هذا الحاضر نقطةَ ارتكازٍ لمستقبل مرتقب يمكن أن يرسم له الكاتب من التصورات ما يحدد معالمه. هي إذن عملية متشابكة ومتداخلة، تحتاج إلى نوعٍ من الرؤية العقلية البعيدة، التي تتخطى المنظور إلى ما وراء حدود المنظور. من هنا نستطيع أن نقول إن دوران المسرحية العربية الحديثة حول مشكلات الماضي، وبمثل هذه الصورة الملحة، لا يمكن أن يقدم إلينا الكاتب المسرحي الذي نريده؛ الكاتب الذي يملك من وسائل الخبرة الفنية، ما يتيح له أن يوجه سلوك أبطاله على أساس التفاعل الحدثي بين الماضي والحاضر، وأن ينسج مصيرهم من خيوط تصوراته العقائدية لواقع المستقبل، على ضوء تلك الرؤية العقلية البعيدة.
ولا نقصد بهذه التصورات أن يرسم لنا الكاتب المسرحي تخطيطات مفصلة لذلك الواقع المقبل الذي يمكن أن يتطور إليه حاضر الشخصيات؛ لأن العمل المسرحي يجب أن يكون بعيدًا كل البعد عن طابع الدراسة الاجتماعية أو الاقتصادية من جهة؛ ولأن المقصود من جهةٍ أخرى هو نوع من التخيل، الذي لا يمكنه أن يتمثَّل الأشياء البعيدة بكل جزئياتها الدقيقة، وإنما يتمثَّلها في هيكلها الخارجي العام أو ملامحها الشكلية البارزة. إننا نستطيع في العمل المسرحي أن نجعل المتفرج «يرى» الماضي والحاضر، أما المستقبل فنستطيع أن نجعل نفس المتفرج «يتخيله»؛ فكل ما هو مدرجٌ في قائمة الوجود المادي الذي يعاش كانفعال وتجربة، نطالب الكاتب المسرحي بأن «ينقله» إلينا كواقعٍ مرئي ومُحَسٍّ، وكل ما يتضمن قابلية الإدراج في نفس القائمة، ويحتمل منطق النتائج المترتبة على المقدمات، نطالب هذا الكاتب بأن «يرسبه» في نفوسنا كواقع تصوري أو متخيل. وعملية الترسيب هنا — كما تفرضها مقتضيات المسرح — يجب أن تتم عن طريق التركيز والإيحاء، لا عن طريق التفصيل والتفسير، وذلك من خلال الاتجاه النفسي لسلوك الشخصيات.
أنطون تشيكوف في «بستان الكرز»، يقدِّم إلينا النموذج التطبيقي لهذا المسرح الذي نريده؛ يقدِّم إلينا حاضر الطبقة الأرستقراطية، بكل ما فيه من تفاهةٍ وسطحية وانحلال، وهو يرينا هذا الحاضر من وراء لمساتٍ تهكمية موجعة، نستخلصها من خطوط رسم كاريكاتيري لاذع. وعلى امتداد هذه الخطوط التحليلية المعبرة، تبدو هذه الطبقة وهي عاجزة عن التكيف مع الواقع؛ لأنها لا تفهم — أو لا تريد أن تفهم — منطق هذا الواقع؛ وتتعرج خطوط الكاريكاتير لنخرج من هذه التعارج بأن هذه الطبقة لا تصلح لشيء، وأن حاضرها يؤذن بالأفول. ومن نافذة الحاضر يسمح لنا أنطون تشيكوف، بأن نلقي نظرة ساخطة على ماضٍ بشع؛ نلقيها ونحن ننصت إلى «تروفيموف» وهو يتحدث إلى «آنيا» الأرستقراطية المترفة، ويذكر بأن آباءها وأجدادها كانوا من ملاك الرقيق، وأن وجوه هؤلاء الأرقاء وأصواتهم ترنو إليها، وتصرخ من أعماق كل ثمرة وكل ورقة وكل شجرة في بستان الكرز. إن أهلها — طوال حياتهم — يعيشون عالة على وجود الغير، على وجود هؤلاء الرقيق؛ وهم، هي وأمها وخالها، عاجزون عن فهم أوضاعهم القائمة على هذه الحقيقة، فإذا أرادت أن تعيش معه في الحاضر فعليها أن تنزع من فوق جدران وجودها صورة ماضيها الكريه؛ يجب أن تضع لهذا الماضي حدًّا وأن تتخلص منه كل الخلاص. إن هناك مستقبلًا سعيدًا ينتظرهما، وإذا لم يقدَّر لكلٍّ منهما أن يعيش ليراه، فسيعيش غيرهما ليرى هذا المستقبل، ويجني ثماره.
هكذا يقوم المسرح التشيكوفي بعملية ربط هادفة بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهو هنا لا يقدِّم إلينا تخطيطًا مفصلًا لمجتمع الغد كما تخيله تشيكوف، وإنما قدَّم إلينا — بواسطة الإيحاء المركز — مضمون الصورة العامة لواقع هذا المجتمع، عبر تلك الرؤية العقلية البعيدة. ومن الملاحظ أن بعض أبطال تشيكوف، ممن كانوا يعيشون أحلام الغد وتصورات المستقبل، تنقصهم إيجابية السلوك وقوة الإرادة؛ كانوا في حدود رسمه لهم، سلبيين في مواجهة وجودهم القابل للتغيير والتطور. ونفس الملاحظة تقودنا إلى ملاحظةٍ أخرى، بالنسبة إلى موقف تشيكوف من سلبية أبطاله؛ وهو أنه كان يسخر من هذه السلبية المتمثلة في عجزهم عن تحقيق ما يتطلعون إليه من أحلام. من هذا الموقف الاتجاهي يمكننا أن نلتقط مفتاح قضية من قضايا الأدب والنقد، خلاصتها كما أوضحنا ذلك من قبل وفي غير هذا المكان، أن الكاتب يستطيع أن يكون إيجابيًّا من خلال السلوك السلبي لأبطاله القصصيين أو المسرحيين، حين يصب هذا السلوك في قالبٍ من العجز المخفق، الذي يثير فينا دوافع الإنكار والسخط، والذي يوحي إلينا بأن الكاتب يشاركنا نفس الشعور، ويقف معنا على نفس الصعيد الالتزامي المعترض؛ المهم هو موقف الكاتب من سلوك أبطاله، موقفه من الناحية الفنية والالتزامية، وعند هذه النقطة تتحدد مسئوليته أمام القارئ والناقد.
نريد أن نقول عن الكاتب المسرحي الذي نريده، على ضوء هذا النموذج التطبيقي من أعمال تشيكوف: إنه الكاتب الذي يجب أن يعيش واقع حاضره وماضيه عن طريق الرؤية الفنية اللاقطة، ويعيش واقع مستقبله عن طريق الرؤية العقلية المتصورة. ولا جدال في أن هذه المطالب، لكي تصل إلى مرحلةٍ عملية من التحقيق، تحتاج من روافد الثقافة وقيم الأخلاق، ما يهيئ للكاتب أن يكون صاحب موقف، أو صاحب وجهة نظر عقائدية، تحدِّد اتجاهه الفكري والخلقي من مشكلات المجتمع وقضية الإنسان.
وما دمنا في معرض الحديث عن أخلاقية الموقف الفكري لكاتب المسرح، فإن سارتر — على المستوى النموذجي للدراما الحديثة — يطالعنا كمسرحي ممتاز؛ إننا نذكر له — على سبيل المثال — موقفه من احتلال النازية لوطنه في «موتى بلا قبور»، وموقفه من اضطهاد الرجل الأمريكي الأبيض للزنوج في «البغيِّ الفاضلة» أو «العاهر الحفية» إذا أردنا الدقة في الترجمة. في «موتى بلا قبور» يضعنا سارتر في الطرف المقابل من سلوك أبطاله، ليجعلنا نواجه — في حساسية فائقة وتوتر بالغ — وجهة نظره الفكرية فيما يجب أن يكون عليه موقفنا من عدوٍّ غاصب؛ معنى ذلك أن تبدأ حركة المقاومة، وقد بدأت هذه الحركة في عمله المسرحي، بأصدائها المنعكسة على عددٍ من المجاهدين، الذين وقعوا أسرى في أيدي الألمان؛ إن «لوسي» بطلة المسرحية يحيلها سارتر إلى واجهة عرض ضخمة لموقفه الاتجاهي الصارم، بالنسبة إلى مفهوم البطولة النفسية في لحظة لقاء طويل ومرهق، بين سطوة المنتصر وكبرياء المهزوم. إن «لوسي» تعرض علينا — بالنيابة عن سارتر — كل المقومات السلوكية لهذه البطولة، لقد عرَّضوا كيانها الجسدي والنفسي لأبشع ألوان التعذيب: الضرب المبرح وهتك العرض، ومع ذلك فقد عجزوا عن أن يشيعوا في هذا الكيان الصامد معنى الذل، لقد كانت تمارس تجربة مُرَّة، ولكنها كانت بالنسبة إلى فم وجودها الإنساني سائغة المذاق. مضمون هذه التجربة هو الكبرياء؛ كبرياء الألم؛ ولكي نمارس هذه التجربة بنجاح، يجب أن نفرض على أنفسنا لونًا من الحقد الانطوائي المترفع. إن الذين يريدون أن يخربوا في الإنسان كلَّ ما هو جميل وشريف وقيِّم، ينتظرون اللحظة التي تنبثق منها رغم أنف الإرادة بادرة من الضعف؛ إنها بالنسبة إليهم لحظة الشعور بهزيمتنا وانتصارهم! إننا في قبضة أيديهم، هذا صحيح؛ والأصح منه أنهم أيضًا في قبضة أيدينا! إنهم لن يطلقوا سراح حريتنا وعلينا أن نعاملهم بالمثل، ألا نطلق سراح حريتهم؛ حريتهم في أن يرونا يومًا وقد عرفنا الذل والخضوع! إنهم أسرانا، تمامًا كما نحن أسراهم؛ بهذا نُشعرهم أن وجودنا شيء حقيقي ومجسَّم، ونُشعر أنفسنَا بأن وجودهم لا وجود له! ومن الواجب أن ننتصر على أنفسنا، وذلك بأن نلغي من قائمة عذابنا معنى الإحساس بالألم؛ هذا الألم يجب أن ينهزم، هذا هو المفهوم البطولي للتجربة، تجربة الكبرياء!
تقول «لوسي» لأخيها الصغير، وهي تشير إلى موقفها ممن هتكوا عرضها، ثم وهي تحذره من الاعتراف للعدو بأسرار حركة المقاومة تحت ضغط الإرهاب: «إنهم لم يلمسوني؛ لم يلمسني أحد … لقد تحولت إلى قطعةٍ من الحجر؛ ولم أشعر بأيديهم وهي ترغمني؛ كنت أتطلع إلى وجوههم وأفكر في أن شيئًا لم يحدث؛ كلا، لم يحدث شيء؛ لقد كنت في النهاية أذيقهم طعم الخوف؛ إنك إذا اعترفت يا «فرانسوا» فإنهم يكونون في الواقع قد هتكوا عرضي!»
ويقول لها حبيبها «جان» أحد أبطال المقاومة: «إنني ألمح الجفاف في عينيك، وأدرك أن قلبك يحترق، ولكن لا يبدو عليك أثر للألم، ولا بقطرة من دموع، لقد استحال كل شيء فيك من فرط التوهج إلى بياض؛ ينبغي أن تتألمي من كونك لا تحسين بالألم! لقد فكَّرتُ كثيرًا فيما تعرضتِ له من تعذيب، ومع ذلك فما كنت أتصوَّر أن التعذيب يمكن أن يُكسبك كل هذه الفظاعة من كبرياء الألم!»
وتجيبه «لوسي» معلقة على كلماته المعترضة: «قطرة من دموع؟! إنني لا أتمنى غير شيء واحد؛ أن يأخذوني مرة أخرى ويضربوني؛ حتى ألوذ من جديد بالصمت، وأسخر منهم، وأُلقي في قلوبهم الرعب. تُرى هل كان الذنب ذنبي؟ إنهم هم الذين جرحوا كبريائي؛ إنني أمقتهم؛ وإذا كُنتُ في قبضة أيديهم، فإنهم هم أيضًا في قبضة يدي؛ إنني أشعر أنني قريبة إليهم أكثر من قربي منك!»
إن سارتر الفيلسوف، يتَّجه دائمًا — في قصصه ومسرحياته — إلى فلسفة مواقف أبطاله، وتغليف وجودهم النفسي بغلافٍ شفاف من وجهات نظره الالتزامية؛ أو إنها مجموعة من اللافتات الضوئية يسخرها للإعلان عن مضمون أفكاره. إنَّ شخصياته وإنْ كانت تمثِّل موقفه الاتجاهي من قضية الإنسان الفرنسي حيال أزمة معينة في «موتى بلا قبور»، أو الإنسان الزنجي حيال أزمة مختلفة في «العاهر الحفية»، فهي في الوقت نفسه شخصيات، من لحمٍ ودم، تتعادل فيها النسب التكوينية لطبيعة النفس الإنسانية ولطبيعة أفكار الكاتب. إن «لوسي» مثلًا كما رسمها سارتر، لا تتحول إلى تمثال من الشمع لمجرد أنها قد قررت ألا تتألم؛ ولأنها قد نفذت هذا القرار، لقد كانت تحس في داخلها وخز الألم، وتمر بها لحظاتٌ من الضعف، ولكنها إرادة التماسك والتجلد، هي التي قامت بعملية الإلغاء لتلك المشاعر الداخلية، وهيَّأت لموقف الصمود؛ هي إذن نموذج بشري لا يبتعد كثيرًا عن أصالة البشر، وما يبدو لنا في ذلك النموذج من بُعد عن تلك الأصالة، فمرجعه إلى أن سارتر قد أراد أن يرسم لنا صورة للبشر الممتازين؛ من داخل الإطار المثالي لكبرياء الإنسان.
وسارتر هنا يختلف تمامًا عن تشيكوف، من حيث مفهوم السلبية والإيجابية بالنسبة إلى سلوك الشخصيات، وموقف الكاتب من هذا السلوك. إن شخصية «فوانيتسكي» مثلًا في مسرحية «العم فانيا»، وكذلك شخصية «فرشنين» في مسرحية «الشقيقات الثلاث»، ثم شخصية «تروفيموف» في مسرحية «بستان الكرز»؛ شخصيات تملك جرأة الأحلام على تغيير الأوضاع، ولكنها لا تملك القدرة على التنفيذ؛ إنها تدرك حقيقة الواقع الذي تواجهه، ولكنها لا تعرف الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى تطوير هذا الواقع؛ وهي بعد ذلك تفتقر إلى حركة الدفع وقوة الإرادة. وليس من شكٍّ — كما فسرنا ذلك من قبل — في أن لتشيكوف فلسفته الاتجاهية الخاصة، من وراء وضع شخصياته في أمثال هذه المواقف؛ ولكن يبقى بعد ذلك فارقٌ بين كاتب يستمد إيجابيته من اعتراضه الساخر على سلبية أبطاله، وكاتب آخر يستمد هذه الإيجابية من تعاطفه الواضح مع أبطاله الإيجابيين، من أمثال «لوسي» و«هنري» و«كانوري»؛ النماذج البطولية المكافحة في «موتى بلا قبور».
وكما يختلف سارتر في هذا المجال عن تشيكوف، فهو يختلف أيضًا عن كثيرٍ من كتَّاب الواقعية الاشتراكية، من ناحية رسم الشخصية التي تحمل أفكار الكاتب. إنهم في سبيل تجسيم العقيدة المذهبية التي يعتنقونها في واقع الحياة والفن، غالبًا ما يقومون بعملية تجويف للشخصية المسرحية والقصصية، ليملئوها في الوقت نفسه بأفكارهم العقائدية الخاصة. وتبدو الشخصية المجوفة وهي تحمل معنى الرمز التجريدي لفكرةٍ معينة، أكثر مما تبدو وهي تحمل الخصائص النفسية الأصلية لسلوك الإنسان. ولو قدِّر مثلًا لكاتب من هؤلاء الكتَّاب أن يتناول مضمون «العاهر الحفية» لسارتر، فإنه سينظر تلقائيًّا إلى مشكلة اضطهاد الزنوج في المجتمع الأمريكي من زاويةٍ مختلفة، تتفق وطبيعة اتجاهه العقائدي المحدد؛ وفي فلك هذا الاتجاه يفرض على سلوك الشخصية المسرحية أن يدور. إن سارتر — على النقيض — لا يجعلنا نشعر على الإطلاق بأن بعض شخصياته هي التي تنوب عنه، في نقل طعناته القاتلة إلى المجتمع الأمريكي؛ ذلك لأنه لن يسمح لنفسه بأن يقف بيننا وبين شخصياته، بحيث نراه هو ولا نرى تلك الشخصيات، تبعًا لأنه يتخذ فنيًّا جانب الحياد ولا يحجب الرؤية!
إننا دون أن نلمح وجهَ سارتر الفكري، نستطيع أن نلمح رأيه في المجتمع الأمريكي عبر القطاع الخاص باضطهاد الزنوج، حين نستطيع هذا الرأي من موقف «ليزي» الساقطة، والزنجي المعرض للقتل، و«فِرِد» الثري المترف، و«كلارك» عضو مجلس الشيوخ؛ إنه يتناول هذا المجتمع بالتجريح من ناحية المستوى العقلي متمثلًا في النظرة إلى الحياة، ومن ناحية المستوى الحضاري متمثلًا في النظرة إلى الإنسان، فبينما نرى العقلية الأمريكية تقيِّم الحياةَ على أساس الدولار، نرى الحضارة الأمريكية تقيِّم الإنسانَ على أساس اللون؛ ووسائل التقييم عندها لا تعرف شيئًا اسمه الضمير، فبالدولار تلجأ هذه العقلية إلى شراء الذمم وتدبير المؤامرات.
لقد حاول «فِرِد» ومعه أبوه عضو الشيوخ — بدولاراتهما الخمسمائة — أن يجعلا «ليزي» تغيِّر شهادتها أمام القضاء، لينجو «توماس» فتى العائلة الأبيض رمز الأمة الكريمة «العظيمة» والتاريخ «المجيد» من تهمة قتله لزنجي بريء؛ وعندما تجيبهما «ليزي» بأن الزنجي الشهيد لم يحاول أن يغتصبها، وإنما الذي قام بالمحاولة هو فتاهما الأبيض، وأنها مضطرة أمام القضاء إلى أن تعلن هذه الحقيقة، عندما تقول هذا يكون الرد المنطقي للعقلية الأمريكية، هو أنه لا يوجد هناك غير حقيقة واحدة: هناك بيض وسود ولا شيء غير ذلك! ومن خلال بعض اللقطات الجانبية لصورة المجتمع الأمريكي يبلغ سارتر قمة السخرية الجارحة، وهو يوحي إلى العقلية الأمريكية بأن المال يعجز في كثيرٍ من الظروف عن شراء الإنسان، وذلك حين اختار نموذجه الإنساني الرامز إلى هذه الحقيقة إحدى المومسات! ولقطة أخرى من لقطات سارتر، تطلعنا — بالنسبة إلى مستوى الحضارة الأمريكية — على مدى الوعي في اختيار الزاوية؛ يقول «فِرِد» للبغيِّ الفاضلة، وقد سيطر عليه جنون الرغبة في امتلاكها بالقوة، إنه قد اشتهاها وهو ينظر إلى زنجي قد علقوه فوق شجرة؛ لقد شارك في قتله، وكان معه مسدسه؛ ولا يدري لماذا كان يرى جسدها وهو يرى جسد الزنجي المتأرجح فوق الأغصان؛ لكأنما كان جسدها في تلك اللحظة — عبر رؤيته النفسية المزدوجة — يتأرجح هو الآخر فوق ألسنة اللهب؛ في تلك اللحظة التي مرت منذ دقائق، اشتهاها؛ وأطلق على الزنجي الرصاص!
إن قِيَم الحضارة الأمريكية من وراء منظار سارتر، تبدو وهي قائمة على لونين من الشهوة: شهوة الجنس وشهوة الدم!
إننا حين نتطلع إلى النموذج المنشود لكاتبنا المسرحي الذي نريده، فإنما نتطلع إليه متتلمذًا في البداية على مدرستَي سارتر وتشيكوف، في حدود هذه القيم الاتجاهية التي قدمناها على ضوء التحليل والتطبيق. وتواجهنا بعد ذلك مشكلة الجمهور، إذا ما وضعنا في حسابنا عنصر الملاءمة بين المستويات الفنية اللازمة لمسرحنا الحديث. إن مستوى الكاتب — على مدار قوى التطور — يستطيع أن يرفع إليه تدريجيًّا مستوى الجمهور. ومن طبيعة المجتمع في خطواته التطورية، أن يلائم بين عمليات التفاعل المندمجة في خط سير إنساني، يشترك في ميدان النشاط العملي مع بقية الخطوط، فإذا كانت هناك قوًى معينة من شأنها أن تسهم في تطوير المستوى العقلي لجمهور المسرح، حتى يستطيع أن يتجاوب مع مثل تلك القيم الاتجاهية تجاوب فَهْم وإدراك وتأثر، فإن من بين هذه القوى — وفي طليعتها — كاتبنا المسرحي الذي ينبغي له أن يقوم بدوره في عملية القيادة؛ إن أزمة جمهورنا المسرحي ليست أزمة الإقبال العددي على دور العرض، ولكنها أزمة التهيؤ العقلي لمسرحٍ جديد تتوفر له تلك القيم إذا ما نضج المستوى الاتجاهي للكتَّاب؛ لأنه لا جدوى إذا ما نجح الكاتب وسقط الجمهور!
إن سقوط الجمهور معناه أن يسقط العمل المسرحي على الرغم من نجاحه، وهذا هو حادث لمسرحية «الطائر البحري» لتشيكوف، عندما واجهت في أول عرض جمهورًا تخلَّف مستواه العقلي عن مستوى المضمون الرمزي للمسرحية؛ ولكنها في العرض الثاني وبعد ذلك بعامين، وعندما وجد الجمهور المتطور الإدراك، المكتشف لما وراء الرمزية الموضوعية من أفكار واتجاهات، تحقَّق لها ما هي جديرة به من تقديرٍ ونجاح. ولقد نجحت مسرحية «الذباب» لسارتر — على الرغم من رمزيتها الفلسفية المسرفة — لأنها عُرضت على جمهورٍ استطاع بإدراكه المرهف، أيام الاحتلال النازي واندلاع حركة المقاومة، أن يفهم المعاني الخفية التي أراد الكاتب توصيلها عن طريق الرمز إلى مواطنيه؛ ما دامت قوى الاحتلال تحول بين أصحاب القلم وبين حرية التعبير!