رواية «الأرض»
هذه القصة الطويلة التي سماها كاتبها «الأرض»، والتي صور فيها كفاح رقيق الأرض ضد مختلف القوى المسيطرة على وجودهم الإنساني، فقد فيها الاتجاه الملتزم رسالته التأثيرية الموجهة؛ فقدها لأن الكاتب عني بالاتجاه أكثر مما عني بالأصول التكنيكية لبناء الرواية، ومن هنا خرجت «الأرض» وهي أقرب إلى الريبورتاج الصحفي في طريقته وأسلوبه، منها إلى العمل الروائي بمقوماته الفنية.
كان هذا هو رأيي في «الأرض» لمؤلفها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، سجلته وأنا أتحدث عن فردية الاتجاه في الأدب الملتزم، ولكن الناقد المصري الأستاذ محمود العالم قد خالفني في هذا الرأي، بما يثبت العكس من الناحية التقييمية؛ إن «الأرض» من خلال منظاره النقدي: «عمل روائي تتحقق له مقومات فنية أصيلة في بناء أحداثه وشخصياته وأنماطه وتطوير عناصره»، حتى لقد طالبني في النهاية من باب المساجلة النقدية أن أحدد له أوجه النقص في هذا العمل الروائي، تحديدًا تفصيليًّا موضوعيًّا يمكن أن يتضح فيه الكثير من مسائل النقد المعلقة.
من هنا أضع نقطة البداية لهذا النقد التفصيلي الموضوعي، فأقرر كما سبق أن قررت، أن «الأرض» ليست رواية بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بالنسبة إلى التقييم النقدي؛ والمؤلف نفسه يضع مثل هذه النقطة التقريرية حيث يقول في أول صفحة من صفحات الكتاب: «لست أريد بهذه الصفحات أن أكتب رواية طويلة؛ ولا أن أروي هنا تاريخ بعض الرجال أو النساء، ولا ذكرياتي، ولست أحتال على القارئ لأسرق اهتمامه ويقظته، فأؤكد له أن الأبطال الذين يضطربون عبر هذه الفصول، لم يعيشوا أبدًا إلا في الخيال، لن أخدع القارئ لأسرق اهتمامه إلى هذا الحد … فخيالاتنا في النهاية لا تستطيع أن تخلق الكائنات التي تمضي مع الحياة مثقلة بالحياة: تحلم وتتعذب، وتعرف المتاع واليأس والهوى والدموع والضحكات والأمل الغامض وتصنع المستقبل في إصرارٍ حزين، وما أنا بزاعمٍ أني عرفت حياة الذين أتحدث عنهم، فنحن في مصر لا نكاد نعرف قصة كاملة لإنسان؛ وقصة الإنسان في مصر تظهر فجأة، وتمضي فاترة رتيبة يخالجها الاحتدام والغليان لبعض الوقت، ثم تمهد وتغيض، تغيض شيئًا فشيئًا كمياه منسابة على الرمال، هكذا كانت حياة وصيفة وعبد الهادي وخضرة وعلواني ومحمد أبو سويلم والشيخ يوسف، والشيخ الشناوي ومحمد أفندي والشيخ حسونة، وكل النساء والرجال الذين عرفتهم في قريتي منذ عشرين عامًا.»
لم يحاول المؤلف إذن أن يكتب رواية طويلة، ولا تاريخًا لغيره، ولا ذكريات؛ أما أنه لم يُرِدْ أن يقدم إلى القارئ عملًا روائيًّا، فحقيقة يؤيدها الواقع في كثيرٍ من الإنصاف، ولكن هذا المنطق التبريري الذي يمهد به كقضية متبلورة لنفي الصفة الروائية عن عمله، يثير قبل التعرض لهذا العمل بمختلف خطوط النقد هذا السؤال: هل صحيح أن قصة الإنسان في مصر تظهر فجأة، وأننا في مصر لا نكاد نعرف قصة كاملة لإنسان؟ وهل يمكن أن نطبق هذا المفهوم الاجتماعي على قصة الحياة في الريف المصري، بحيث تندرج تحته أسماء وصيفة ومحمد أبو سويلم وعبد الهادي وعلواني والشيخ يوسف، وبقية النماذج البشرية التي تكوِّن في مجموعها جوهر المضمون الإنساني لعمل المؤلف؟ الذي أعرفه عن يقينٍ أن قصة هؤلاء جميعًا؛ أعني قصة وجودهم الضائع بما كان فيه من حيرة المصير، هي قصة الأرض نفسها التي ارتبط بها هذا الوجود؛ وقصة الأرض في مصر قصة كاملة، لها مقدمات ولها بداية ولها تاريخ. إن قصة الأرض التي هي قصة هذا القطيع البشري التعس، يتحدث فصلها الأول عن مفهوم شيءٍ اسمه الإقطاع، ويتحدث فصلها الثاني عن أثر هذا الإقطاع في نظام المجتمع، حين يتحول هذا المجتمع إلى فريقين: قلة تملك كل شيء، وإلى جانبها كثرة لا تكاد تملك شيئًا؛ ثم إلى طبقتين: طبقة السادة، وطبقة الرقيق، أعني سادة الأرض ورقيق الأرض. ويتحدث فصلها الثالث عن أثر هذه الطبقية في تكوين الجهاز النفسي للفريق الآخر، وهو الجهاز المعقد الذي يوجِّه سلوك القطيع البشري في طريق الحياة.
هذا القطيع الذي يمثل الإنسان الحقيقي في مصر، لا يمكن إذن أن تظهر قصته فجأة، وإنما كان لها تلك الجذور الضاربة في أعماق التاريخ؛ ولو نظر المؤلف إلى وضع الأرقاء من أبطاله الروائيين من خلال الرواية الحقيقية لتكوينهم النفسي، لاستطاع أن يتجه بخط التطوير في العمل الفني اتجاهًا آخر، لا تنطمس فيه الأبعاد النفسية على هذه الصورة، التي اهتزت فيها أيديولوجية الواقع.
توهم «الفجائية» في ظهور قصة الإنسان «الفلاح» في مصر، هو الذي جعل المؤلف يبرز مشكلة وضعه الاجتماعي، من خلال مضمون إنساني لا عمق فيه، أين هو هذا العمق في مثل هذه الملاحظة السطحية، التي تصور لصاحبها أن حياة الفلاح متوقفة على حياة الأرض، وأن حياة الأرض متوقفة على وفرة مياه الري، وأن هذه هي العلاقة النفسية بين الفلاح وأرضه في معركةٍ معينة من معارك الكفاح؟ لقد كانت الملاحظة عند المؤلف من هذا الطراز؛ مشاهد متتابعة لتلك المعارك الكفاحية حول الماء، وهي حينًا تقع بين الفلاحين بعضهم وبعض، وهي حينًا آخر تقع بينهم وبين رجال الحكومة، وتنتهي كما هو المألوف في عهد حكومة «صدقي»، إلى نوعٍ من المقاومة السلبية المتمثلة في الشكاوي المكتوبة، يكتبها أمثال محمد أفندي من المدرسين الإلزاميين، يوم أن كانوا هم النماذج البشرية المتميزة في كل قرية، أو تنتهي إلى نوعٍ من المقاومة الإيجابية المتمثلة في اختلاس الماء، الذي تغدقه الحكومة على أرض نائبها «الباشا» بشتى الطرق، وتحدي رجال الإدارة عن طريق التمرد الخاضع في النهاية لأوامر المسئولين. والنتيجة كما كان يسجلها الواقع المشهود، هو أن تبدأ حركات القبض على الجموع المتمردة، ثم تتعرض هذه الجموع لألوانٍ خسيسة من التأديب الذي يهدر كرامة الإنسان.
هذا هو الواقع «المجرد» الذي شاهدته في قريتي، كما شاهده المؤلف في قريته، وكما شاهد الألوف من أبناء هذه القرى المصرية في ذلك الحين؛ ولكن ما هو موقف الروائي إزاء هذا الواقع؟ هل ينقله هذا النقل الريبورتاجي الذي جردت فيه الصور من مجالاتها الخلفية؟ إن المجال الخلفي الذي يمثِّل أيديولوجية الواقع بالنسبة إلى صور المواقف الكفاحية للفلاح المصري، لا يلوَّن بمثل هذا اللون الباهت، الذي أبرز عنصر التكوين النفسي وهو معطل الإحساس برواسب المشكلة، ثم أبرز عنصر التطوير تبعًا لذلك، وهو منحرف عن الاتجاه الطبيعي كما يجب أن يكون. إن الإقطاع في مصر قد سلب الفلاح المصري وجوده، سلبه حاضره ومستقبله، وكل حقه المشروع في تقرير المصير، ومع ذلك فهذا الفلاح عند المؤلف ومن خلال منظاره الروائي، عندما تحتدم الثورة في نفسه على «الباشا» وعلى الحكومة التي تقف من ورائه، فهي لا تحتدم على هذا الباشا بصفته ممثلًا للإقطاع، ولا على هذه الحكومة بصفتها حامية لهذا الإقطاع، وإنما تحتدم عليه بصفته «نائبًا» لحزب الشعب، وتحتدم عليها بصفتها مسئولة عن تنفيذ رغبات ممثليها من النواب؛ وهكذا ظهرت قصة الفلاحين «فجأة»، وكأن لم يكن لهم تكوين نفسي سابق، وظهرت قصة الأرض «فجأة»، وكأن لم يكن لها مقدمات تاريخية سابقة. ولا عجب بعد ذلك إذا ما بدا الفلاحون ثائرين في منظار المؤلف، لا لأنهم قد سُلبوا «دهرًا» كلَّ وجودهم الإنساني، ولكن لأنهم قد سُلبوا «يومًا» في سبيل مصلحة أرض الباشا نصف الفترة المقررة لهم في دور مياه الري، ثم قطعة من الأرض — ستدفع لهم الحكومة تعويضها المناسب — لإنشاء طريق عبر الحقول!
ولقد وقع المؤلف في خطأ تكنيكي بارز، عندما جعل مقدمته التفسيرية لماهية الوجود الإنساني في مصر، وما تلاها من عرضٍ لبعض ذكرياته العاطفية التي استنفدت خمسين صفحة من صفحات الكتاب، بمثابة التخطيط الخارجي للمشكلة؛ إن التخطيط الخارجي يجب أن يكون داخل الحدود، أعني داخل حدود الأبعاد الموضوعية للعمل الفني، بحيث تنبع منه نقطة الانطلاق الروائي للمواقف والأحداث: المواقف التي تبرز عملية التكوين النفسي لكل شخصياته، والأحداث التي تهيئ عنصر التبرير الموضوعي لكل موقف، حين يتحول هذا الموقف إلى مجموعةٍ من السلوك الحركي على مدار الخط الروائي الصاعد.
إن نقطة الانطلاق الروائي في «الأرض»، تبدأ على التحديد في الصفحة الحادية والخمسين، أما الصفحات السابقة كلها فتعتبر خارج الحدود؛ لقد خصصها المؤلف لذكرى علاقة شخصية كانت تربطه في الصغر بوصيفة، ووصيفة كما تبدو لنا من خلال تلك الصفحات كتلة من شباب الجسد، كانت تهز في أعماق الفتى الصغير كل مشاعر الجنس؛ وهي فورة مبهمة قبل الأوان. ويمضي هو فيشرح لنا أدوار تلك العلاقة من خلال الصور الجسدية الملونة لوصيفة، ومن خلال كل موقفٍ جمع بينهما مع صبيان القرية، وهم يستحمون عراةً في مياه الترعة فيتحسس جسدها الفائر المليء، ثم وهو يمثل معها بأحلام الطفولة وفي مصلَّى الشناوي، ذلك الوضع الجنسي لكل زوجين في ليلة الزفاف، ثم وهو ينفرد بها ذات مساء تحت جميزة عبد الهادي، ليقطف بأوهام الرجولة كل ثمار هذا الجسد؛ إلى آخر تلك المواقف الفردية، التي لا تندمج في المضمون الجماعي للمشكلة، ولا تتصل بالخط الاتجاهي الذي تتبلور في حدوده الأحداث، فضلًا عن كون شخصية المؤلف قد أقحمت في العمل الروائي على بقية الشخصيات الصانعة للتجربة، حتى بدت وهي «نشاز» في النغم العام لمثل هذه التجربة الإنسانية المعاشة!
ولقد ترتب على هذا الإقحام أن عملية الرصد المادي للأحداث، وكذلك عملية المراقبة النفسية للمواقف، قد أصبحت كلتاهما تُنقَل إلى القارئ بواسطة المؤلف نفسه، بعد أن تموضعت شخصيته في مركز الضمير الأول في السرد الروائي؛ وهنا يكمن خطأ تكنيكي آخر لا يقل عن الخطأ الأول جسامةً؛ ذلك لأن عملية الرصد والمراقبة — عندما تكون العدسة الروائية مسلطة على تجارب الآخرين — لا يمكن أن تتم عن طريق الضمير الأول إلا في حدود اللقطة البصرية أو السمعية، فإذا ما أراد المؤلف أن يتخطى حدود اللقطتين، ليقدم صورة تحليلية تكشف لنا عن مضمون الوجود الداخلي للشخصيات، فهو ملزم تكنيكيًّا بأن يقدم هذه الصورة، في إطار الحركة الخارجية الدالة على طبيعة هذا المضمون.
لقد انطلق عبد الهادي مثلًا إلى الجسر يبحث مرتاعًا في الظلام عن وصيفة، بعد أن أخبره المؤلف أنه رآها تتسلل خلسة إلى أحد الحقول، ولعلها كانت مع علواني على ميعاد؛ إلى هنا وكل شيء في حدود المنظور أو المسموع: انطلاق عبد الهادي يفتش في كل مكان عن الحبيبة الضالة، وعن الغريم الذي كاد أن يسلبه أعز ما يملك، واطمئنانه بعد ذلك إلى أن الرواية التي نُقلت إليه كانت من صنع الخيال؛ ولكن المؤلِّف يتخطى بعد لحظاتٍ حدود اللقطة البصرية والسمعية، إلى اللقطة الاستبطانية التي تخرج في النقل الروائي عن اختصاص الضمير الأول، ما دامت هذه اللقطة الأخيرة لم تعرَض من خلال السلوك الحركي، وما فيه من معنى الدلالة الموحية: «وارتاح عبد الهادي قليلًا، وهمهم لنفسه أن علواني يشبه خضرة تمامًا، وأن ما جمع بينهما وفق حقًّا؛ فهي أيضًا تعيش في القرية بلا أرض ولا أهل، وأقاربها قد تنازلوا عنها منذ تركوها للبيه الأعزب، تخدم في ضيعته الصغيرة ذات الثلاثين فدانًا، وطردها محمود بيه بعد أن خدمته سنتين؛ وهاجت نفسه في الصمت والظلام والفضاء، وشعر بحاجة إلى أن يحدث أحدًا، وتمنى لو أن معه وصيفة — زوجة له — تجلس إلى الساقية أمام ثورٍ كبير يدور بالساقية، وهو يروي أرضه من بعيد: هي تغني على الساقية، وهو يغني هناك وسط الماء المنسكب؛ وشعر بحبٍّ مباغت لكل شيء لوصيفة ولعلواني وخضرة ولكل ما في القرية.»
هكذا يختم المؤلف عملية الرصد الحدثي بمثل هذا الاتجاه المنحرف عن الأصول التكنيكية؛ وهو اتجاه يتكرر في أكثر من موضع، بل إنه ليزداد انحرافًا في مواضع أخرى حين يفرض على مفهوم السمعيات والمرئيات، أن يتسع حتى للتجربة الغيرية التي تنعزل تمامًا بمواقفها الخاصة، عن طاقة الأبعاد التصورية لواقع النقل الروائي بواسطة الضمير الأول؛ لقد كانت القرية مثلًا تعلم أن خضرة الساقطة، تهب اللذة بثمنٍ بخس لبعض الشباب الضائعين من أمثال علواني، تعلم عن طريق النقل السماعي لا عن طريق الرؤية البصرية. والمؤلِّف حين ينقل إلينا بدوره كل ما يدور في القرية من أحاديث، تستحق الجهر أو تدعو إلى الهمس، يخطئ تكنيكيًّا حين يقدم إلينا الواقع المسموع، من خلال تجربة تصوِّر موقفًا من مواقف اللقاء الجنسي بين علواني وخضرة، ثم هو يصف لنا هذا الموقف بتفاصيله وجزئياته، وكأنه قطاع عرضي من حياة القرية قد انحصر في دائرة المنظور!
والواقعية في «الأرض» سواء أكانت واقعية حدث أو واقعية موقف، كثيرًا ما تتسم بالمغالاة التي تنتج حينًا من ضعف الرؤية القصصية لمجرى الخط الانسيابي لحركات الشخوص، وتنتج حينًا آخر عن فرض أيديولوجية مزورة على المضمون الاتجاهي لعناصر التطوير؛ لقد انفرد المؤلف ذات مساء وتحت جميزة عبد الهادي بوصيفة، وكانت هي الفائرة الواعية بنت السابعة عشرة، مهيأة الشعور والجسد للحظةٍ جنسية مشتهاة، لم يهيأ لها بحكم عمره الفتى الصغير الحالم ابن الثانية عشرة. وهتف هو في صوتٍ حنون هامس وقد أحاط خصرها بذراعيه: «يا غرامي؛ أحبك.» وفتحت هي عينيها المكحولتين في دهشةٍ بالغة لتقول له: «يا اختي بلا وكسة! انت تتكلم كده ليه يا اخويا؟ والنبي ما انا فاهمة منك حاجتن تخلق، أصل أنا ما اعرفش الكلام الإنكليزي اللي انت بتقوله ده!» من يصدق أن وصيفة إن مادية الإحساس «الواعية» التي استمدت وعيها من اختلاطها الطويل بخضرة الساقطة، ومن السنوات الخمس التي قضتها في عاصمة الإقليم مع أختها المتزوجة، لا تعرف معنى كلمة «غرامي» وكلمة «أحبك»؛ حتى لتبدو لنا من خلال الرؤية القصصية عند المؤلف وكأنها تسمع — ولأول مرة — كلامًا «إنجليزيًّا» لا معنى له؟!
ومع ذلك نمضي مع المؤلف إلى نهاية الموقف؛ لقد أغراها بزجاجة عطر لتلاقيه في الظلام، وعندما سألته عنها اعتذر بالنسيان ثم منحها «بريزة»، أو قطعة من ذات العشرة قروش؛ وهنا أوشكت وصيفة أن تطير من الفرح، وتهيأت تمامًا لتلك اللحظة الجنسية المشتهاة: راحت تجذبه إليها في عنف، وتوقعه معها على الأرض، وتسأله ماذا يصنع مع فتيات مصر، وكيف يصنعن مع الرجال، ثم تلف جسده بذراعيها وتضع خدها على رأسه، وهي تقول له: «مش بنات مصر بيعملوا كده؟» ومع ذلك، ومع كل هذا الإغراء الذي زلزل كيان الفتى الصغير، فإنه لم يستجب لما كانت تدعوه إليه وصيفة، لم يستجب لا لأنه تبعًا لمنطق الواقع، ولحكم تكوينه الجسدي كان عاجزًا عن أن يستجيب، ولكن لأن المؤلف «اليوم» بعد أن تجاوز الثلاثين، قد خلع على نفسه «بالأمس» وهو لم يتجاوز الثانية عشرة، ثوبًا من الوعي الإنساني والاجتماعي تنسج خيوطه المتنافرة مثل هذه التجربة النفسية: «ولم أجب أمام المفاجأة، وأخذت أفكر فيما صنعت قروشي بوصيفة، وبدأ اللوم يزحف إلى قلبي؛ لأنني أعطيت وصيفة نقودًا، وخيِّل إليَّ أنني اشتريت منها لحظات سعيدة، وكأنما أنا واحد من الذين يخدعون الفتيات الفقيرات بالمال. وغاظني هذا التصوَّر فنحَّيت وصيفة بعيدًا، وأوشكت أن أصرخ في وجهها بما في نفسي، بينما كانت صور النار والفاحشة وشراء فتاة فقيرة، تملأ مني القلب بالندم وترهق إحساسي بالعار!» وهكذا في سبيل نوعٍ من الأيديولوجية المزورة، تنحرف التجربة الداخلية تحت قوة الدفع الخارجي عن المجرى الروائي الممتد، لتتم عملية تطوير معينة لا تترتب تلقائيًّا على فسيولوجية الحدث كبُعدٍ موضوعي خاص!
هذه الأيديولوجية؛ أيديولوجية الفن لواقع الحياة، وهي في مثل تلك الصورة المهزومة التي يعرضها المؤلف، تواجهنا في مواقف أخرى نقتطع واحدًا منها لفتى الأمس الصغير، وهو يستعير وعي التجربة من إنسانٍ آخر، يكبره اليوم بعشرين عامًا على الأقل أو يزيد! لقد كان هذا الفتى الصغير — ابن الثانية عشرة — يسترجع من خلال صراع القرية ضد مختلف القوى المسيطرة، ما قرأ في الصيف من كتب الأدب، يسترجع «زينب» لهيكل، و«إبراهيم الكاتب» للمازني، و«الأيام» لطه حسين، ليخرج أخيرًا بمثل هذه الملاحظة الفكرية الواعية: «وتمنيت لو أن قريتي كانت هي الأخرى بلا متاعب، كالقرية التي عاشت فيها «زينب»، الفلاحون فيها لا يتشاجرون على الماء، والحكومة لا تحرمهم من الري، ولا تحاول أن تنتزع منهم الأرض، أو ترسل إليهم رجالًا بملابس صفراء يضربونهم بالكرابيج، والأطفال فيها لا يأكلون الطين ولا يحط الذباب على عيونهم الحلوة. وتمنيت لو أن قريتي كانت هي الأخرى كقرية «زينب»، لا ينزل فيها من الرجال والنساء بعد البول دم وصديد، ولا يدهم أهلها المرض المفاجئ في جُنوبهم فيتلوى الإنسان منهم لحظة، ويطلق صرخات يائسة فاجعة من حدة الألم، ثم يسكت؛ يسكت إلى الأبد!»
مثل هذه الملاحظة الفكرية بما فيها من انبثاقات التفتح العقلي الراصد، لا يمكن أن تتلاءم بحالٍ مع الواقع العمري والثقافي لتلميذٍ، كان يعبر المرحلة الأولى من مراحل التعليم؛ ذلك لأننا هنا أمام نقدية مستكشفة لمضمون إنساني مزيف في قصة «زينب»، وأمام إفرازات نفسية منعكسة من امتصاصٍ شعوري مرسب لتجربة القرية. وكل هذه المنعطفات الاتجاهية المصطنعة، مردها إلى سيطرة الدافع الأيديولوجي على ذهن المؤلف، ثم إلى الخطأ الرئيسي في التكنيك حين تمَّت عملية السرد الروائي، كما سبق أن قلت، من زاوية الضمير الأول، أو حين تركزت في بؤرة «الأنا» كأشعة مضمونية مقحمة على تجارب الآخرين!
ولا أعرف مفهومًا محددًا لعملية التطوير، كوضعٍ من الأوضاع الفنية بالنسبة إلى الوعي الروائي للمؤلف؛ هل هو أن يبدأ الحدث بوصول «الهجانة» إلى القرية ليلزم الفلاحون بيوتهم من المغرب، وليلهب الشاويش عبد الله ظهورهم بكرباجه الطويل، ويشيع في نفوسهم وينشر في طريقه الإرهاب، ثم يتحول الحدث إلى موقف، يبدو من خلاله الشاويش عبد الله وهو يتطور نفسيًّا — بلا مقدمات — في اتجاهٍ إنساني صاعد، حتى يتقوقع في التجربة الجماعية للقطيع التعس، وحتى يبلغ التطوير حد التزوير، فينهال بكرباجه على ظهر «المأمور»، وهو يحاسبه على إهماله في تأديب الفلاحين؟! إن المؤلف حقًّا لا يعرف قصة هؤلاء الذين يتحدث عنهم، لا يعرف قصة الأبعاد النفسية للهجانة من خلال نموذج بشري يمثل هذه الأبعاد وهو الشاويش عبد الله؛ ومن هنا كانت هذه المغالاة، التي تتحول معها أيديولوجية الواقع إلى ما يشبه خيالية الأسطورة. إن الروائي يجب أن يكون على معرفةٍ تامة بالتركيبة النفسية لشخصياته، حتى يستطيع — بمجموعةٍ من الخطوط الحاسمة — أن يهيئ عنصر التبرير الموضوعي للحركة الخارجية، وهي مرتبطة — كمسلك انعكاسي ممتد — بحركة الوجود الداخلي لهذه الشخصيات.
لا أعرف للمؤلف مفهومًا محددًا لعملية التطوير كما قلت؛ لأننا — وعلى سبيل المثال لا الحصر — أمام حدث آخر نرى من أبطاله «العمدة»، وهو يوزع شفويًّا أوامر الحكومة على خفراء القرية، ويطلب إليهم أن يشددوا المراقبة على الفلاحين الذين يسرقون المياه، وأن يقبضوا على كل مخالفٍ للأوامر وهو متلبس بجريمة السرقة. ومرة أخرى يتحول الحدث إلى موقف، يبدو من خلاله الخفير عبد العاطي وهو يتطور أيضًا بنفس الطريقة، ويتقوقع بنفس الأسلوب، وإذا هو يقف من زملائه في مركز القيادة الثورية على العمدة، لتحوله إلى أداة تنفيذ ذليلة في يد الحكومة … ولكن عبد العاطي الثائر يختلف في نهاية التطوير عن الشاويش عبد الله الثائر: إنه هنا لم يحاول مطلقًا أن يعترض على العمدة، وهو يأمره بأن يحضر له العصا من داخل البيت، ولا هو يأمره بأن ينام على الأرض كعبدٍ ذليل، ولا هو ينهال عليه بالضرب المبرح حتى تتعب يداه … ومعذرة لأنني نسيت أن عبد العاطي قد اعترض مرة واحدة بأن النوم على الأرض — وهي مبللة — سينتج عنه أن تتسخ بدلة الحكومة!
لا أدري إن كان المؤلِّف قد عُني بتقديم موقف إنساني جادٍّ على طريقة الكتَّاب الروائيين بحقٍّ، أم أنه كان منصرفًا إلى عرض مشاهد هزلية مضحكة على طريقة كتَّاب «الصالات» في مصر! إننا بعد هذا أمام موقف روائي ثالث، يدور في نفس الفلك الكوميدي الهازل: لا مناص قبل تطوير الموقف من تخطيط الحدث، والحدث في هذه النقلة التخطيطية الجديدة يبدأ بموت العمدة، ثم بإقامة سرادق العزاء، ثم بإقبال وفود المعزين: الأعيان ورجال الحكومة في الإقليم وعلى رأسهم المأمور. وتبدأ علمية التطوير الموقفي داخل السرادق؛ هؤلاء المكافحون من أهل القرية ينتمون شعوريًّا إلى حزب الوفد، حزب القيادة الشعبية في ذلك الحين، أما المأمور ورجاله فينتمون شعوريًّا ورسميًّا إلى حزب الشعب، وهو حزب الأقلية الحاكمة بزعامة صدقي؛ والقرية تريد أن تنتهز المناسبة لتعبر عن شعورها الحاقد المكبوت، بالثورة السلبية التي تتنفس من خلال سلوك لفظي ساخر، وعندما يحس الشيخ إبراهيم مقرئ السرادق بقدوم رجال الحكومة، يبدأ في تلاوة آية جديدة ليوجه مضمونها اللفظي إلى المأمور، هي: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ … وتنطلق الضحكات هنا وهناك، وتشيع التعليقات الساخرة، وترتسم علامات التشفي على مختلف الوجوه، وتتركز النظرات على شخصٍ واحد كان هو المقصود بالآية، كلما تعمد المقرئ أن يعيد تلاوتها من جديد … وأخيرًا ينفجر المأمور في صوت المغيظ المحنق: «صدق الله العظيم؛ طيب يا أخي ما تقرأ آية وحشرناهم يوم القيامة وفدًا! طيب يا بلد، مش انتو بتوع يحيا الوفد!» ويعقب أحد الفلاحين في سخرية: «شوف شوف؛ وانظر الى حمارك؛ بس يا بتاع وانظر الى حمارك!» ليسمح لي مؤلف «الأرض» والناقد الذي دافع عن أصالة العمل الروائي في «الأرض»، أن أقول لهما دون أي تجنٍّ أو مغالاة: إنني أشتم هنا رائحة المؤلف المصري في برامجه الهزلية التي يقدمها لروَّاد الصالات!
إنها تجربة شمية على حد تعبير الأستاذ الناقد. ونحن ما زلنا في حدود هذه التجربة عندما نرى عبد الهادي وعلواني على الجسر، يتحدثان عن الأيام السود التي عرفتها القرية في عهد حكومة صدقي — وكأن القرية المصرية في نظر المؤلف قد عرفت الأيام المضيئة في ظل العهود الأخرى السابقة — ويستعرضان حالهما وأحوال الآخرين، حين مر عليهما مهندس من الري ومعه أحد أتباعه، ليسألهما عن سر هذا الحديث الذي خُيِّل إليه أنه خاص بسرقة المياه؛ لقد تصدَّى له علواني ليطلعه على حقيقة الموقف، بمثل هذه البهلوانية اللفظية: «لا والنبي يا جناب الباشمهندس؛ وحياة مقامك ورقبتك؛ والله ما في حاجة من دي أبدًا يا حضرة الهندزة؛ واحنا أصلنا قاعدين هنا كده يعني؛ أصل الحكاية يا حضرة الحكومة …» علواني هذا الذي أضفى عليه المؤلف صفة الوعي، فعرف أن الشخص الذي يخاطبه هو «جناب الباشمهندس»، كيف تجرد فجأة من هذه الصفة فأصبح هذا الشخص مرة وهو «حضرة الهندزة»، ومرة أخرى وهو «حضرة الحكومة»؟ إننا هنا كما كنا من قبل نصطدم بواقعية لفظية مزيفة، نتيجة لضعف الرؤية القصصية لمجرى الخط الانسيابي لحركات الشخوص.
والمؤلِّف يقدِّم إلينا أحيانًا مفاتيح مواقف؛ بلا مواقف! لقد كانت القرية كلها تتحدث يومًا عن الإهانة، التي ألحقها العمدة بشيخ الخفراء السابق وشيخ الثائرين: محمد أبو سويلم؛ إهانة تتعلق بشرف زوجته، وتمس العرض في الصميم، ومع ذلك فلا يتحرك الثائر المثالي، والقرية كلها من خلال العمل الروائي تنتظر أن يتحرك، وتتوقع أن يكون دم العمدة هو الثمن الوحيد؛ ونسي المؤلف هنا أن يرسم موقفًا من المواقف الحية الزاخرة بالتطوير، على أساس البعد المحدد من قبل لتلك الشخصية الرئيسية، وعلى أساس الوضع الاجتماعي لمشكلة الأعراض في الريف المصري؟
وشخصيات المؤلف في مجموعها شخصيات مسرحية، أعني أنها تتسم بهذا الطابع المسرحي سواء في الحركة أو الحوار؛ إنهم جميعًا باستثناء الشيخ الشناوي ومحمد أفندي يصيحون دائمًا في لهجةٍ خطابية رنانة، ويتحركون دائمًا بأسلوب دراماتيكي مصطنع؛ وهي حلقة أخرى في سلسلة الأخطاء التكنيكية، تضاف إلى أن القارئ لا يخرج بأي رسمٍ تخطيطي لشخصية الباشا مثلًا، مع أنها الشخصية الواقفة بكيانها الموضوعي الضخم على الطرف الآخر من خط الصراع!
والعمل الروائي في «الأرض» لم يخضع لمفهوم الاختيار في الفن؛ إنه عبارة عن حشدٍ مبعثر من المواقف والأحداث، لم «يتخير» منه المؤلف مضمونًا محددًا لمشكلة معينة، أهو يريد أن يعرض مشكلة الأرض من خلال هذا المضمون السطحي الذي أشرت إليه، أم يريد أن يتحدث عن مشكلة الوضع السياسي لعهد صدقي في مصر، أم يريد أن يسجل مشكلة الوضع الاقتصادي للريف المصري في ذلك العهد، أم يريد أن يروي طرفًا من ذكريات الطفولة في ملاعب القرية؟ إن القارئ يجد نفسه مبعثر الشعور بين كل هذه المنحنيات والتعاريج، إن الريبورتاج الصحفي هو الذي ينقل إليك هذا الواقع «كله»، دون أن يقوم بعملية اختيار؛ لأنه عبارة عن «محضر تحقيق» في عرف التسمية الصحفية!