من واقع الأدب في مصر
كل حديث عن حياتنا الأدبية اليوم، يجب أن يتناول التركيبة العضوية المكونة لهذه الحياة: الأديب الذي ينتج، والقارئ الذي يلتقي به عبر السطور، والمنبع الثقافي الذي يرسب في ذهن الأديب والقارئ مختلف القيم والمفاهيم، سواء أكان هذا المنبع معهدًا من معاهد الدراسة، أو مجالًا من مجالات الجهد الذاتي، تلك التي تقوم بدورٍ قد يفوق دور المعاهد في حقل التثقيف والتوجيه. هذه التركيبة العضوية التي تصنع واقع الأدب في مصر، تفرض على الجولة الذهنية الدارسة أن تضعها تحت المراقبة، لتقدم في النهاية تقريرها الفني عن جوهر ذلك الواقع.
إن المنابع الثقافية هي القوى المحركة للجهاز الأدبي، المكون من أداة الإرسال وهي الأديب، وأداة الاستقبال وهي القارئ. فما هي حقيقة تلك القوى المحركة، وما هي حقيقة ذلك الجهاز؟ كلية اللغة العربية في الأزهر وكلية دار العلوم، وكلية الآداب في جامعاتنا الثلاث، هذه هي المعاهد التي ينتظر منها أن تقدم إلى الحياة الأدبية منتج الأدب وقارئ الأدب؛ ذلك لأن المفروض فيها — تبعًا للقسط الأوفر من وظيفتها الدراسية — أنها البيئة الفنية المتخصصة في تلقيح الذوق الناشئ بمادة الفن الأدبي، حتى لتعد مسئولة عن أول مرحلة تكوينية لأداتي الإرسال والاستقبال، في ذلك الجهاز الحي.
وعندما نربط هذه المسئولية الفنية بتلك المعاهد، تبدو لنا كلية اللغة العربية وهي تشرف على الحياة من وراء سياجٍ قديم، إنها ما تزال حتى اليوم محصورة في حدود الثقافة العربية، الخالصة بنماذجها الموضوعية المألوفة. وكان مفهوم الأدب لديها تركة موروثة، لا يجوز التصرف فيها بتعديلٍ أو تجديد.
ولهذا نجد خريجي الأزهر — سواء أكانوا من منتجي الأدب أو من قرائه — نمطًا معينًا من الفهم والتذوق، يصعب عليه أن يتجاوب مع حركة التطور الجديدة، التي نسخت كلاسيكية الشكل والمضمون. والصعوبة هنا مرجعها إلى طول الألفة لمثل هذا الانطواء الثقافي، الذي يصل بالطاقة الذهنية إلى حد الجمود، ويعطل قابلية التفاعل الذوقي مع مختلف الهزات الأدبية الوافدة.
أما كلية دار العلوم فهي نموذج للذبذبة بين القديم والحديث، بين الطريقة السلبية المتبعة في الأزهر والطريقة الإيجابية المتبعة في كلية الآداب. وهي في الناحية الأخيرة تحاول أن تطرق أبواب التطور، ولكنها في رأينا محاولة قاصرة؛ لأنها تعتمد غالبًا على نوعٍ من الاجتهاد الفردي، الذي تنقصه الروافد الثقافية الأصيلة، ومن أهمها الإلمام بعددٍ من اللغات الأجنبية، التي يتم عن طريقها التمثل الحقيقي لذلك التطور في صورته العامة؛ ولهذا نجد خريجي دار العلوم — سواء أكانوا من منتجي الأدب أيضًا أو من قرائه، نمطًا آخر من الفهم والتذوق، يختلف عن النمط السابق في كونه يملك قدرًا من قابلية التفاعل. ولكن مما يحول بينه وبين التفاعل نفسه، أن النافذة التي يحاول أن يطل منها على حركة الدفع الجديدة؛ نافذة مغلقة أو شبه مغلقة. وإذا كان هناك بعض أفراد قد خرجوا من دائرة النمط «الدرعمي»، وتفاعلوا مع المفاهيم الأدبية المتطورة، فهم نتاج الجهد الذاتي الذي قلنا عنه إنه يفوق دور المعاهد في حقل التثقيف والتوجيه.
ويبقى بعد ذلك النمط الثالث الذي ينتسب إلى كلية الآداب، وهو يختلف كثيرًا من الناحية الفهمية والذوقية عن النمطين السابقين. وإذا كانت كلية الآداب لا تلتزم على الوجه الأكمل، تقديم الطريقة النموذجية في دراسة الأدب ونقده، فمما لا شك فيه أنها تحمل رسالة «التوجيه» إلى تلك الطريقة وتؤديها بوعي، وهو دور يقوم به بعض الأساتذة المتخرجين في الجامعات الأوروبية. ورسالة التوجيه هذه تحقق غايتها المرجوة، إذا ما نظرنا إلى هذه الحقيقة، وهي أن النافذة المغلقة التي تحجب الضوء عن الأزهريين والدرعميين؛ أعني نافذة الإلمام باللغات الأجنبية، تعد مفتوحة بالنسبة إلى النمط الجامعي، بحيث يستطيع من خلالها أن يبصر الطريق؛ ولهذا يمكننا القول بأن الجامعيين كأدباء وقراء، هم هذا النمط الذي لحق بالمد التطوري الجديد، في حركةٍ هاضمة ومستوعبة، وبخاصة من أضاف منهم إلى الأرصدة المعهدية رصيده الذاتي من الثقافة الغربية الحديثة.
هذا العرض الموجز لطبيعة الأسلوب الدراسي داخل هذه المعاهد، لا نقصد به النقد بقدر ما نقصد به إلى أن يكون مقدمة تفضي إلى نتيجة. والنتيجة التي نريد أن نصل إليها حول واقع الأدب في مصر، هي أن هذا الأدب ليس له مفهوم موحد؛ بل هو مبعثر المنهج موزع الاتجاه، بين عددٍ من المفاهيم المتناقضة عند عدد من الأنماط المنتجة والقارئة. ومن هنا تنبع الأزمة الحقيقية في حياتنا الأدبية؛ ذلك لأن الإنتاج الأدبي قد تعرض بسبب هذه الحواجز الاتجاهية لمثل هذه الظاهرة الملموسة، وهي أن هذا الإنتاج إذا كان أزهريًّا مثلًا فقد انحصر في دائرة القراء الأزهريين، وإذا كان درعميًّا فقد انحصر في دائرة القراء الدرعميين، وقل مثل ذلك عن الإنتاج الجامعي بالنسبة إلى خريجي كلية الآداب. وعلى ضوء هذه الحقائق نعرف سر المجال الضيق، الذي يتم فيه مثلًا فهم كتاب يحمل قيمًا أدبية جديدة؛ وكذلك توزيعه، إذا ما أضفنا إلى هذه الحقائق، قلة النسبة العددية لقراء الأدب الجامعيين وغيرهم من أصحاب الثقافة الذاتية؛ حين نذكر إلى جانبهم تلك الكثرة الغالبة من قراء الأزهر ودار العلوم.
إن الأزمة كما قلنا هي أزمة المفاهيم الأدبية غير الموحدة أو أزمة القيم الجديدة التي تعيش اليوم في شبه عزلة، ولن تستطيع أن تبسط نفوذها غدًا إلا إذا تغيرت بعض النظم المعهدية على الوجه الذي يشمل المناهج المفروضة والعقول الموجهة. وإذا استطعنا أن نحقق يومًا مثل هذه الغاية، فقد حصلنا على نوعٍ من الضمان الفني لمستقبل الأدب، خلاصته أن تتمركز الألوف المبعثرة من القراء في نقطة التقاء، أساسها وحدة الفهم القائمة على وحدة المنابع الثقافية؛ ذلك لأن موجة الركود الأولى التي يظن البعض، أنها نتيجة مباشرة للانصراف عن القراءة، ليست في الواقع إلا نتيجة لتشتت القراء — على كثرتهم — بين طرقٍ مختلفة ودروبٍ متباعدة.
وظاهرة أخرى تسجلها الجولة الدارسة عن مشكلة المفاهيم غير الموحدة، وهي تلك الخصومة الفنية بين شيوخ الأدب وشبابه، وهم هذا الفريق الذي قلنا عنه إنه لحق بالمد التطوري الجديد. إنها خصومة بين نظرتين في الأدب، ترتبط إحداهما بالأمس في خطواتٍ متقهقرة إن لم تكن جامدة، وتتعلق الأخرى باليوم والغد في خطواتٍ متقدمة إن لم تكن زاحفة، ولا مناص بعد ذلك من ثورة الجديد على القديم؛ ذلك لأن الشيوخ — في رأي الشباب ورأي الحق — لا يريدون أن يأخذوا مكانهم في ركب التطور، حتى تندفع القافلة المنتجة في اتجاهٍ فني واحد؛ وتندفع من ورائها القوافل. وما من شكٍّ في أن ظاهرة التنافر بين النظرتين في مشكلة الاتجاه، قد أنتجت ظاهرة تنافر أخرى في مشكلة التقييم؛ لأن المفاهيم الأدبية المتطورة عند الشباب، ما تزال تصيب الشيوخ بلونٍ من عسر الهضم التمثيلي، سواء أكانت هذه المفاهيم منعكسة على إنتاجٍ من النقد أو متبلورة في إنتاجٍ من الشعر والقصة، وتبعًا لهذا فقلما يظفر ذلك الإنتاج بتقديرٍ معنوي أو مادي، من لجان التحكيم المكونة من الشيوخ في تلك المسابقات الأدبية، التي ترصد لها جوائز الدولة أو مجمع اللغة العربية.
ولا وجه للمقارنة بين خصومة اليوم حول الجديد والقديم، وبين خصومة الأمس حول الموضوع نفسه، وعندما نشبت الخصومة الأخيرة منذ ربع قرن بين الرافعي وطه حسين. إن هناك فارقًا كبيرًا بين تعارض أفهام وأذواق حول أشكال الأدب ومضامينه، وبين تعارض أفهامٍ وأذواق أخرى، حول أشكال الأدب «وحدها» من ناحية النِّسب التقييمية. لقد كانت كلاسيكية الرافعي في مقياس طه حسين كلاسيكية شكل أو تعبير، ولم تتعدَّ المعركة بينهما هذا الحد، ولم تخرج في الكثير الغالب عن هذا النطاق، لم يقم الخلاف بين الرجلين وأنصارهما حول المضمون الفكري في ذلك الحين، وإنما قام حول أسلوب الرافعي الذي كان يعتبره صاحبه نوعًا من الرصانة التقليدية، ويعتبره الدكتور طه ضربًا من الحذلقة الموروثة المجافية لروح العصر؛ لأن مفهوم التطور العصري والأدبي يومئذٍ كان محصورًا في معنيين؛ هما: التحرر من أَسْر التقليد الأسلوبي، والتزام البساطة والوضوح.
إن معركة الأمس كان ينقصها التمثل الكامل لموضوعية الأدب بشطريها: الداخلي والخارجي؛ أعني الصورة الفكرية والتعبيرية؛ ومن هنا تبدو جوهرية التفاوت بينها وبين معركة اليوم حول المعايير الصحيحة التي تفرق وهي واعية بين حقيقة الجديد وحقيقة القديم.