الأثر الفني بين الفهم والتذوق
هناك فنان فهم الحياة حقَّ الفَهْم وخبرها كلَّ الخبرة، ومع ذلك فهو يتذوقها بقدرٍ محدود لا يتناسب وخبرته العميقة، ولا يتفق وفهمه الأصيل. فما هو الفارق بين طبيعة «الفهم» وطبيعة «التذوق» في حياة الفنان؟ لتوضيح هذا الفارق الفني بين الطبيعتين نقول: إنك تفهم الشيء بعقلك وتتذوقه بشعورك، نعني أن الفهم أداته الذهن الثاقب وأن التذوُّق أداته الإحساس الرهيف … إنهما طاقتان: طاقة عقلية وطاقة شعورية، والذين قَويت عندهم الطاقة الأولى وضعفت الثانية، هم الذين تتوقَّد في وجودهم شعلة الفَهْم وتخبو شعلة التذوق، بالنسبة إلى أي قيمةٍ من قيم الفن وأي معنًى من معاني الحياة. إن هناك مثلًا من «يفهم» قصيدة من الشعر، يفهم فيها اللفظ والصورة، ويفهم فيها الوزن والقافية، ويفهمها اتجاهيًّا إذا طلبت إليه الشرح والتفسير، ومع هذا كله لا يستطيع أن «يتذوق» فيها وحدة العمل الفني، ولا إيحائية التركيب اللفظي، ولا تماسك التجربة الشعورية، وهي معروضة تفصيليًّا من خلال مضمون. وقل مثل ذلك عن الذي يفهم أصول النوتة الموسيقية للحنٍ من الألحان، ثم لا يتذوق جمال اللحن، ولا يهتز لروعة الإيقاع، ولا يستجيب لتصويرية النغم.
إن فهم الحياة هو أن نفتح «لمشاهدها» أبواب العقل، أمَّا تذوُّق الحياة فهو أن نفتح «لتجاربها» أبواب الشعور؛ إننا «نراها» هناك تحت إشعاع الومضة الذهنية، ولكننا «نتلقاها» هنا تحت تأثير الدفقة الوجدانية، وعلى مدار هذه الكلمات نستطيع أن ننظر إلى كل عملٍ يمتُّ إلى الفنِّ بسببٍ من الأسباب.
هذه الكلمات هي معالم الطريق إلى «الأداء النفسي»، أو إلى هذه المحاولة المذهبية التي تحمل ذلك العنوان، وهدفها أن تزن قِيَم الفنِّ بميزانٍ جديد، سواء أكان الفن ممثلًا في قصة تحليلية أم في لوحة أم في مقطوعةٍ موسيقية أم في قصيدة، وسواء أكان الفهم أو التذوق في كل أثرٍ من هذه الآثار متعلقًا بموقف الفنان من مشاهد الحياة وتجارب النفس حين ينتج، أم كان منتسبًا إلى موقف الذين يحكمون على الفن ويقيمون له الميزان عن طريق الذهن أو عن طريق الشعور. إن الفن في جوهره ليس فهمًا للحياة يقف بنا عند حد الرؤية المادية والآثار العقلية، حين تقوم هذه من تلك مقام النتيجة من المقدمة أو مقام النهاية البداية، وإنما هو إلى جانب هذا حركة في الوجود الخارجي، تعقبها هزة في الوجود الداخلي يتبعها انفعال، انفعال يُحدِث تلك المشاركة الوجدانية بين منتِج الفن وبين متذوِّق الفن؛ نتيجة لذلك التجاوب الشعوري بين الفنان وبين مصدر التلقية الأولى والإلهام الوليد؛ نريد أن نقول إن اللقطة البصرية في الإنتاج الفني حيث يعقب عليها العقل وحده، ليست كل شيء مهما بلغت الطاقة الذهنية في التفكير والتعبير عن صورٍ شتى وآفاق، وإنما العبرة باللقطة النفسية التي تفتح نوافذ الحسِّ ثم تنحدر إلى كوى الشعور، وتستقر آخر الأمر في أعماق الذات الشاعرة في الطبيعة الإنسانية.
وعندما نقول الوجود الخارجي والوجود الداخلي، فإنما نقصد بالتعبير الأول ذلك المسرح الكوني الزاخر بالمشاهد المادية ونعني به الحياة، ونقصد بالتعبير الأخير ذلك المعرض الإنساني الحافل بالصور الوجدانية ونعني به النفس، هناك حيث ترقب المدركات الحسية وتتأمل، وهنا حيث تتلقى المدركات النفسية وتسجل. ولا بد من المشاركة الفنية التي يتم فيها التوافق بين عالم النفس وعالم الحياة، لنحصل على هذا المزيج الأخير من واقعيتين.
هذه الخواطر التي يثيرها في الذهن كلُّ مشهد مادي في الواقع الخارجي، يجب أن يصهرها الفن في تلك البوتقة الداخلية لتتحول إلى مشاعر. أليس الفن في حقيقته المثلى عملية استقبال حسية تعقبها عملية إرسال نفسية؟ إنه لكذلك على التحقيق، وإننا لنفرق تبعًا لهذا التحديد بين إنتاجٍ فني لا يهز من الكيان الشاعر غير الحواس الخارجية، وبين إنتاجٍ آخر يثير في هذا الكيان ما أثاره الإنتاج الأول، ثم يزيد عليه حقيقة أخرى حين يطرق أبواب الشعور في صدقٍ وأصالة.
كلمات نؤيدها بالدليل حين ننتقل إلى مرحلة التطبيق، ونقدم أول مثال: دُعي الموسيقار العظيم فرانز لِست إلى حفلٍ من تلك الحفلات الخاصة، التي كانت تزخر بها الصالونات الباريسية، ويدعى إليها جمهور خاص من الطبقة الأرستقراطية التي كانت تعشق فيما تعشق من متع الحياة أنغام الخالدين؛ وحين نهض لِست ليأخذ مكانه من البيانو، طلب إليه المدعوون أن يعزف شيئًا من آثار بتهوفن، وشيئًا من آثار ذلك العبقري الآخر الذي كان يجلس بين الصفوف في انتظار العزف، صديقه فردريك شوبان. ومن المعروف عن لِست أنه كان يجمع إلى موهبته الفذة في التأليف الموسيقى، موهبة أخرى لا يختلف في تقديرها النقاد، وهي أنه كان أقدر القادرين على عزف موسيقى بتهوفن خاصة، وموسيقى غيره من أقطاب النغم على العموم.
وحين انتهى لِست من عزف مقطوعة «ألا داجيو» من سوناتة «دودييز مينير» لبتهوفن، أقبل عليه المدعوون وفي مقدمتهم شوبان، ليثنوا بمشاعرهم التي أغرقها في فيض الذهول سحر النغم، على تلك القدرة الفائقة التي أعادت إلى الأذهان صورة حية من صور بتهوفن الخالد. ومرة أخرى طلب الحاضرون إلى لِست، أن يعزف لهم مقطوعة خاصة من مقطوعات «البريلود» لشوبان، وكانت مقطوعة يعتز بها الموسيقار البولوني ويعتز بها الفن؛ لأنها قطعة من نفسه الشاعرة في فترةٍ من فترات ألمه النبيل، ذلك الذي طالما تحدَّث عنه إلى الناس في أنغام، وعندما فرغ لِست من عزف المقطوعة ظهر عدم الارتياح على وجه شوبان؛ إن لِست لم يخرج على أصول النوتة، ولم تخنه المقدرة على العزف في يومٍ من الأيام، ولم يستطع صديقه صاحب «البريلود» أن ينكر هذا عليه، ولكن؛ ولكن كان هناك شيء ناقص أحسه شوبان ولم يحسه أحد سواه، إلا حين نهض ليأخذ مكان لِست من البيانو ويبدأ عزف المقطوعة من جديد.
لقد لمس الحاضرون أن هناك فارقًا ملحوظًا بين الأنغام، حين انطلقت في المرة الثانية من بين أنامل شوبان، ولقد كانت «مشاعرهم» هي المرصد الدقيق لتسجيل الفارق الفني هنا وهناك، حتى لقد أقبل لِست على صديقه يعانقه ويقبِّله ويقول له: حقًّا يا عزيزي شوبان إن اللحن قد خرج من بين يديك وهو شيء آخر؛ لقد بعثت فيه من روحك لأنه قطعة من حياتك أنت.
هذا هو الأثر الفني بين الفَهم والتذوق حين يتمثل في مقطوعةٍ موسيقية، لقد كان الفارق الملموس بين لِست وشوبان، هو الفارق بين مَن «فهم» اللحن بعقله حين نقله عن أصول النوتة، وبين من «تذوق» اللحن بشعوره حين نقله عن حديث الوجدان، ومن هنا بَدَتْ مقطوعة «البريلود» عند لِست جسدًا جميلًا بغير روح، وبدت عند شوبان جسدًا يفوق الأول جمالًا؛ لأن فيه الروح الذي يضفي على الفن كل معنًى من معاني الحياة.
هنا، في هذا المثال، مفرق الطريق بين أسلوبين في تقديم الأثر الفني إلى الجماهير: أسلوب يعتمد على الذهن «الفاهم»، وأسلوب يعتمد على الشعور «الذوَّاق»، أو قل إنه اختلاف بين طبيعتين: طبيعة تتلقى الإثارة عن طريق الحس، وطبيعة تتلقى الإثارة عن طريق النفس، أو قل مرة أخرى إنه اختلاف بين مزاجين: مزاج يحلق بالتجربة المادية في آفاق الفكر، ومزاج يحلق بالتجربة النفسية في آفاق الشعور …
وإنه لَذلك الاختلاف الذي تبرزه الفوارق الدقيقة بين فنانٍ تذوَّق الحياة منعكسة على الذات الشاعرة، وبين فنَّان فهم تلك الحياة منعكسة على الورقة الناقلة؛ ونعني بها النوتة الموسيقية التي نقل عنها لِست فترةً من حياة صديقه نقلًا ذهنيًّا لا حرارة فيه.
اقرأ قصة «أم» لفرانسو مورياك، إنها قصة لا تطالعك بتلك الطاقة التحليلية الضخمة، التي تطالعك بها آثار كاتب مثل بلزاك أو دستوفسكي أو ستندال، ولا بذلك الفهم الواسع الذي يحيط بصور الحياة، ليفرغها بعد ذلك في إطار؛ ليس فيها شيء من هذا الذي أشرنا إليه، ولكن فيها الفنان الذي يعيش في موضوع قصته، ويتمثل التجربة تمثلًا شعوريًّا لا غلو فيه، ويتذوق الحياة في لحظاتها النفسية النادرة، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق.
هناك لحظة من تلك اللحظات النادرة التي نعنيها في قصة مورياك، وقبل أن نقف بك عند تلك اللحظة، نلخص لك مضمون القصة بصراعه النفسي، وهو مضمون العلاقة «الخالدة» بين كلِّ أمٍّ وكلِّ زوجة ابنٍ، تحتدم في أعماقهما المعركة حول الرجل الذي تربطه بالأولى روابط البنوة وبالثانية صلات الزوجية. هذا الرجل الذي يقف بين «العدوَّتين» موقف الحائر المتردد، الذي تتعرض حياته في كلِّ وقتٍ لهبوب العواصف والأعاصير. الابن هنا، وهو فرنان كازيناف، رجل ضعيف الشخصية مسلوب الإرادة، يعطف على زوجته ولكنه لا يستطيع أن يجهر بهذا العطف؛ خوفًا من تلك الأم التي بقيت له بعد وفاة أبيه، وطبعته منذ صباه الباكر بطابع الخضوع والرهبة؛ فهو لا يستطيع أن يجادل ولا أن يعترض ولا أن يقف في وجهها عندما تتعقد الأمور. والأم كازيناف امرأة تحب ابنها برغم قسوتها عليه، وما كانت قسوتها تلك إلا نتيجة لهذا الحب، الذي تريد به الأمومة أن تملك وأن تتحكم وأن تستأثر، ولا يشاركها في هذا اللون من حب التملك إنسان. والزوجة، وهي ماتيلد كازيناف، فتاة لقيت من ظلم الحماة وإهمال الزوج وقسوة الحياة، ما ينوء به الطوق ويفرغ معه الصبر؛ ومع ذلك فقد صبرت واحتملت، ولقيت متاعب العيش بالرضا القانع والصبر الجميل.
وتمضي القصة في طريقها لتصوِّر لك أدوار الصراع، الصراع الذي انتهى بموت الزوجة بعد حالة وضع، قوَّضت من الجسد المتهالك آخر حصن من حصون المقاومة، أو آخر مَعْقل من معاقل الكفاح، ولقد ماتت وحيدة، لا همسة عطف من الابن، ولا نظرة رثاء من الأم، ولا موعد لقاء مع رحمة القدر … وحين انتهى كل شيء، وسكتت كل حركة، ودفنت في تراب الموت كل خصومة، استطاع فرنان كازيناف أن يصعد إلى حجرة الشهيدة، وأن يحس لذع الندم وأن يوجِّه إلى أمه كلمة عتاب.
ونلتقي باللحظة التي يصوِّر فيها مورياك موقف النادم أمام الجثة الهامدة؛ تلك اللحظة النادرة من لحظات «التذوق» لمشهدٍ من مشاهد الحياة منعكسًا على صفحة الشعور. لقد وقف فرنان أمام جثة الشهيدة، وكأنه يقف أمام قديس ليعترف له بما جنت يداه، بما اقترف من إثم، بما حمل من ذنوب؛ تُرى من أغمض عينيه كل تلك الأعوام فلم يرَ هذا الجمال؟ ومن أغلق قلبه كل تلك السنين فلم ينعم بهذا الصفاء؟ وهذا الطهر، وهذا الصبر، وهذا الإيمان، وهذه القيم الإنسانية من حال بينه وبينها، حتى لكأنه يبصرها لأول مرة، ويستشعرها لأول مرة وينكشف له منها في لحظةٍ عابرة، ما غاب عنه فيما مر من أيام دنياه؟ ترى هل يستطيع أن يفعل شيئًا لهذا الجسد، الجسد الذي احترق في موقد العذاب، وتألم، وحمل من الشقاء فوق ما يحمل طوق الأحياء؟ شيئًا ولو كان صغيرًا ضئيلًا لا قيمة له، يُشعره بأنه قدم إليه في رحاب الموت ما عجز أن يقدمه في رحاب الحياة؟ إنه يريد الآن أن يعبِّر للجسد الهامد عن عطفه، عطفه الذي لم يستطع أن يعبر عنه في يومٍ من الأيام، ولقد قدِّر له أن يعبر عن هذا العطف، حين خطر «لذبابة» هائمة أن تستقر على الوجه الحزين؛ لقد انتفض كالمصعوق ليرد العدوان الأثيم عن تلك البقعة «الآمنة»، البقعة التي لن يسمح بعد الآن بأن «تقلق» أمنها هجمات المعتدين.
هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلًا في قصة تحليلية، إن مورياك في هذه القصة كما قلنا لك، لا يطالعك بذلك «الفهم» الواسع، الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار، ولكنه يطالعك بذلك التذوق للحياة في لحظاتها النفسية، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق؛ تلك اللقطة النادرة في جملةٍ عابرة، اللقطة المتمثلة في تصوير الندم والشعور به، وفي الإيحاء بالذنب والتكفير عنه، وتلك الزاوية الفريدة التي اختارها ليركز فيها ذلك الإيحاء، بلمساتٍ قليلة موجزة قوامها «الذبابة الهائمة»، التي راح يدفع عدوانها عن الوجه الحزين؛ كل هذه القيم التصويرية التي ارتفعت بالمشهد النفسي إلى آفاقٍ متسامية في فن القصة، نستطيع أن نلخصها في معنًى واحد هو المحور الرئيسي، الذي ندور حوله منذ البداية، ونعني به التذوق الشعوري الكامل للوجود الخارجي، حين يتحول إلى تجربةٍ داخلية كاملة في النفس الإنسانية.
أما عن الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلًا في لوحةٍ تصويرية، فارجع إلى اللوحة الثمينة التي رسمها جيرار لمدام ريكامييه، قف أمامها طويلًا، وتأمل نظرة العينين في ذلك الوجه الساحر الآسر، إنها ومضة الأسى الدفين اللافح يشع من عيني امرأة؛ امرأة كانت وحيًا ملهمًا لأقطاب الشعور والتصوير والأدب. إن جيرار لم يكن يعلم كل شيء عن قصة مدام ريكامييه، التي كان واقع حياتها أعجب من الخيال وأغرب من الأسطورة، هذا الواقع الذي لم يفهم كل الفهم سره العميق ولكنه تذوقه، حين أوحى التذوق إلى ريشته البارعة، أن تصور هذا الأسى اللافح في العينين الساحرتين.
هذا المعنى الأخير، استطاع جيرار الفنان أن يتذوقه وأن يستشفه، وأن يصبه صبًّا في نظرة العينين الحالمتين. إنه كما قلنا لم يكن «يفهم» الكثير من قصة تلك الحياة، ومع ذلك فقد استطاع أن ينفذ شعوره الملهم إلى ما وراء المجهول، وأن «يتذوق» الحياة في قصة، وأن يصورها في نظرة، وأن يتحدث بها إلى الناس في ألوانٍ وظلال.
هذا التذوق الشعوري الكامل هو أساس الأداء النفسي، أو هو الطريق إليه في مختلف الفنون. لقد كان طريق شوبان إلى هذا الأداء الذي نعنيه في مقطوعة «البريلود»، وكان طريق مورياك إلى هذا الأداء نفسه في قصة «أُمٍّ»، وقل مثل ذلك بالنسبة إلى جيرار في لوحة «مدام ريكامييه».
ونحن بعد هذا لا ننكر أثر «الفهم» كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، ولكن الذي نريد أن نقوله وقد سبق أن قلناه، هو أن الفن في جوهره ليس فهمًا للحياة، يقف بنا عند حد الرؤية المادية والإثارة العقلية، وإنما هو — إلى جانب هذا — حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يعقبها انفعال؛ وكل هذه النقلات المترابطة تكوِّن في مجموعها عملية التذوق، التي تمهد الطريق للأداء النفسي. ولو قدِّر للفنان أن يملك هذه الموهبة، فلا بد له من أن يملك القدرة على التعبير الصادق ليبلغ الهدف الأخير من ذلك الأداء.
إن الأداء النفسي لا يكمل معناه، إلا وهو قائم على دعامتين، هما: الصدق الشعوري والصدق الفني؛ متحدين في مجال صورة تعبيرية. أما الصدق الشعوري فهو ذلك التجاوب بين التجربة الحية وبين مصدر الإثارة، أو هو تلك الشرارة المشعة التي تندلع في الوجود الداخلي من التقاء تيارين: أحدهما نفسي متدفق من أعماق الشعور، والآخر حسي منطلق من آفاق الحياة؛ هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما الصدق الفني فميدانه التعبير، التعبير عن دوافع هذا الإحساس بحيث يستطيع الفنان أن يلبس تجاربه ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور.