مشكلة العلاقة بين مي وجبران
إذا وصفتُ العلاقةَ بين مي وجبران بأنها مشكلة، فأنا لا أعدو الواقع بالنسبة إلى الحقيقة التي عاشت في نفسي ردحًا من الزمن، وكانت مفرق الطريق بيني وبين غيري من الدارسين؛ هل كانت علاقة مي بجبران لونًا من الصلة الشعورية، التي تندرج تحت كلمة الحب حينًا وكلمة العاطفة حينًا آخر، وتتصل من قريبٍ ومن بعيد بأنوثة المرأة ورجولة الرجل، إذا ما حددنا العاطفة الأنثوية نحو الطرف المقابل بأنها تفضيل وتمييز وإيثار؟ هذه هي المشكلة؛ المشكلة التي يتطلب بحثها الكثير من الوعي والكثير من الحذر والكثير من الأناة؛ لأن الباحث المسرع في الدراسة أشبه بالسائق المسرع في القيادة، كلاهما وهما في سبيل الوصول إلى هدفه المنشود في أقرب وقت قد يرتكب جريمة قتل، وفي خلال الطريق قد يكون المقتول بالنسبة إلى السائق رجلًا وبالنسبة إلى الباحث حقيقة؛ والحقيقة التي قتلها الدارسون «المسرعون»، هي أن عاطفة «الأنوثة» في مي لم تتجه يومًا إلى جبران!
إن صورة تلك العلاقة قد بدأت في نفسي، وهي داخل إطار من الشك المثير. أما مصدر هذا الشك فهو طبيعة من الأنثوية. لقد بدت لي هذه الطبيعة يومًا وهي مغلفة بالانحراف ملفعة بالشذوذ، حتى استحالت في بوتقة الفكر إلى سؤالٍ حائر ينتظر الجواب: هل كانت مي امرأة؟ امرأة ورثت كغيرها من النساء تلك التركة الخالدة عن الأم الأولى وهي حواء؟ إن المرأة الطبيعية في رأيي هي تلك التي يستيقظ في أعماقها الشعور بالرجل، سواء أكانت هذه اليقظة في صورة حب مضطرم، أم كانت في صورة عاطفةٍ جياشة، أم كانت في صورة حسٍّ مشبوب؛ هذه هي المرأة الطبيعية. أما المرأة الشاذة فهي تلك التي «تنام» في أعماقها مثلُ هذه «اليقظة»، هي تلك التي تلهب دون أن تحس بين جنبيها وهج النار، هي تلك التي تثير ولا تثار؛ هي مي في حقيقتها العميقة التي لم «تتذوق» طعم الحب؛ لأنها فقدت «شهية» الأنوثة، وهذا هو الباب المغلق الذي يحتاج لِيفتح على مصراعيه إلى طرقٍ عنيف!
سيدتي ملكة الإلهام؛ ما أسكت هذا القلم عن مناجاتك إلا حرب الأيام، إنه منذ أيام كثيرة أسيرها الذي لا يرجى فكاكه. غير أني كنت أناجي روحك كلما بدت لعيني أشياء من محاسن هذا الوجود؛ كم وقفت أمام الأبيض المتوسط أرتجل العبرات، هذه أشعاري لا أهديها إليك، إني لأشفق أن أحييك بغير الابتسامات؛ وكم دخلت الروض أساجل قماريَّه، تلك أغانٍ أرجعها لديك، إني لأخاف أن أغنيك بغير المسرات. والآن عندي قبلة هي أجمل زهرة في ربيع الأمل أضعها تحت قدميك، إن تقبليها تزيدي كرمًا وإن ترديها فقصاراي الامتثال. وبعد، فإني في انتظار بشائر رضاك، وطاعة لك وإخلاص!
أسلوب في الأدب والحب عند ولي الدين يَكَن، يلتقي مع أسلوب مماثل عند الرافعي. واستمع له هو الآخر وهو يوجه الخطاب بعد المقدمة الشعرية إلى مي فيقول:
هذا، وإن النفس لتنازعني إليك، ولكن لم أتطفل على أحدٍ من قبلك ولن أتطفل عليك مرتين، نقول الشمس والقمر والنجوم، فإذا أنت تريدين أن نراك من مرصدٍ فلكي! وأي بليغ يراك ولا يعرف فيك فنًّا جديدًا في حسن معانيه ومبانيه، ويعرفك ولا يرى فيك أبدع البديع فيما يعانيه من افتنانه؟ لله الحمد أن جعلنا نتلقَّى الماء ولم يجشمنا أن نصعد من أجله السماء!
أسلوبان كلاهما في الحب ذليل وفي الأدب مصنوع، وكم قلت لنفسي وأنا أستعرض ما فيهما من المواكب اللفظية، المواكب التي كانت تمر تحت شرفة مي، وهي تقدم تحية المقهور وولاء التابع وضراعة المبتهل: أتكون مي قد نظرت إلى الرجلين نظرة المرأة المدلة بكبرياء الأنوثة إلى كل حبٍّ ذليل؟ أم تكون قد نظرت إليهما كأديبين نظرة الأديبة المعتزة بشرف الثقافة إلى كل أدب غير خلاق؟ فرضان إذا وضعتهما تحت مجهر الفكر لم يظفر أحدهما بما ينشده الباحث من وسائل الإقناع. تريد أن تطمئن إلى كلا الفرضين فيقلقك هذا الخاطر الذي يثب من مكمنه ليعترض عليك: ألم يكن في حياة مي محب كريم على نفسه؟ محب لا تنحني بين شفتيه ظهور المعاني ولا تخر على قدميها الكلمات؟ ألم يكن في حياة مي أديب تثق بفنه؟ أديب لا تختنق في أدبه الأخيلة تحت ضغط الصنعة المسرفة، ولا تتحول الصور إلى جثثٍ محنطة قد أطبقت عليها توابيت الألفاظ؟ يعترض هذا الخاطر فلا تملك إلا أن تعترف بالواقع، الواقع الذي يشير في حياة مي إلى وجود جبران … وعندئذٍ تتبخر في الفضاء كل الظنون وتنهار تحت أقدام الفكر كل الفروض!
لقد كانت طبيعتها الأنثوية واحدة هنا وهناك؛ فتور عجيب يزلزل في نفسك قوائم الإيمان بأنها كانت امرأة، امرأة يضطرب بين جنبيها الإحساس الخالد بالأنوثة، وينطلق من وجودها الداخلي نداء الأعماق. إن بين أيدينا رسائلها ورسائله، فتعالَ نبحث بين السطور عن أثر الأنثى الطبيعية، وتعالَ بعد ذلك نفتش بين ركام الألفاظ عن المفتاح؛ المفتاح الذي نديره في ثقب الباب المغلق ليُفتح على مصراعيه، إذا لم يؤمن الذين نادوا بحب مي لجبران بنتيجة الطَّرق العنيف!
أنا ضباب يا مي؛ أنا ضباب يغمر الأشياء ولكن لا يتَّحد وإياها؛ أنا ضباب وفي الضباب وحدتي، وفيه انفرادي ووحشتي، جوعي وعطشي. ومصيبتي هي أن الضباب وهو حقيقتي، يتوق إلى استماع قائل يقول: لست وحدك ونحن اثنان، أنا أعرف من أنت!
أخبريني يا مي، أفي ربوعكم مَن يقدر ويريد أن يقول لي: أنا ضباب آخر أيها الضباب؛ فتعالَ نخيِّم على الجبال وفي الأودية، تعالَ نسير بين الأشجار وفوقها، تعالَ نغمر الصخور المتعالية، تعالَ ندخل إلى قلوب المخلوقات وخلاياها، تعالَ نطوف في تلك الأماكن البعيدة المنيعة غير المعروفة؟ قولي يا مَي: أيوجد في ربوعكم من يريد ويقدر أن يقول لي ولو كلمة واحدة من هذه الكلمات؟
لقد قصصت شَعري؛ وعندما ترى من صديقاتك بعد اليوم يا جبران من هنَّ في هذا الزي يمكنك أن تذكرني، وأن تقول لهن في سرك إنك تعرف مَن يشبههن! كنت إلى شهورٍ راغبة في التخلص من هذه الذوائب، التي يقولون إن لطولها يدًا في قِصر عقل المرأة، وهو افتراء طبعًا. ولكن عندما رأيت شعري بحلكته وتموجه الجميل وعقاربه الجريئة مطروحًا أمامي، تداعبه يد المزين شعرت بأسفٍ على هذه الخسارة! غير أن المزين طيب خاطري بعباراتٍ، تكسرت فيها الكلمات الألمانية والإيطالية، وهو روماني على ما يقول، فهل كان في وسعي أن أضحك؟ لقد مضى يصف لي جمال الشعر القصير ومنافعه ومميزاته، لا سيما وأنه، على ما زعم المزين الصالح، يليق لي كثيرًا؛ وسألته إلى كم امرأة يقول كل هذه الكلمات، فأجاب: «أنت فيلسوفة!» أرأيت هذه الفيلسوفة التي تسعى إلى قصِّ شعرها ثم تحزن عليه، ثم تضحك لأن المزين يعزيها عن فقده بكلماتٍ مسرحية؟!
هذه هي المرأة التي كان يخاطبها جبران؛ المرأة التي كان يخاطبها بلغة الشِّعر فتخاطبه بلغة الشَّعر، ويحدثها عن قلبه وهو بين يدي الأشواق، فتحدثه عن رأسها وهو بين يدي الحلاق، وإنه لحديث الأنوثة المكفنة بأثواب العدم، ومن حولها صرخة من أصدق صرخات الوجود!
جبران! لقد كتبتُ كلَّ هذه الصفحات ضاحكةً لأتحايد كلمة الحب؛ إن الذين لا يتاجرون بمظاهر الحب ودعواه في السهرات والمراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميتية رهيبة، قد يغبطون عليها الذين يوزعون عواطفهم في اللألاء السطحي؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم ويفضلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيرًا، فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر! أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، الجفاف والقحط واللاشيء في الحب خير من النزر اليسير؛ كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا، وكيف أفرط فيه؟ لا أدري! الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضرًا بالجسد لهربت خجلًا بعد هذا الكلام ولاختفيت زمنًا طويلًا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى!
حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانًا؛ لأني بها حرة كل الحرية؛ أتذكر قول القدماء من الشرقيين إنه خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب. إن القديس توما يظهر هنا، وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هو شيءٌ أبعد من الوراثة. قل أنت ما هو هذا؟ وقل لي ماذا كنت على ضلال أو هدًى، فإني أثق بك وأصدِّق بالبداهة كلَّ ما تقول.
… لقد فهمتَ ما أريدُ وإنما في غير معناه الحقيقي، وفهمتَه على وجهٍ لم أقصده! ثم سطت عليك الكبرياء، كبرياء الرجل، فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة، نحن اللذين تكاتبنا أبدًا كصديقين مفكرين؛ آلمني سكوتك من هذا القبيل، وأرهف انتباهي، فأعلَمني أنك لم تشاركني ارتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية؛ لأنك لو كنت سعيدًا بها مثلي لما كنت رميت إلى أبعد منها! وصار معنى سكوتك عندي: «إما ذاك وإما لا شيء»، وأنت أدرى بأثر هذا في نفسي!
تناقض بين موقف اليوم وموقف الأمس، وكلمات يطلقها اللسان هناك ويكذبها هنا واقع الشعور. وما زلنا بعد هذا كله نفتش بين ركام الألفاظ عن المفتاح؛ مفتاح الطبيعة الأنثوية الشاذة، التي لم ينبض فيها عرق بعاطفة نحو رجل من الرجال! وقبل أن نقدم إليك هذا المفتاح نحب أن نرجع إلى تلك العبارة، التي ذكرت فيها مي اسم «توما» القديس، وأثر الوراثة في حياتها النفسية. هناك — كما تقول لجبران — ما هو أبعد من أثر تلك الوراثة في تكوين نفورها من الحب، هذه الكلمات التي تحمد الله على أنها لم تنطلق من بين شفتيها، وإنما انطلقت من بين شفتي القلم … هناك «شيء» آخر تسأل عنه جبران، وتستنجد بذكائه ليلهمه الجواب، ومعذرة للذكي النابغ إذا لم يفطن لهذا «الشيء»، وهو بالنسبة إلى المشكلة مفتاح الباب؟ معذرة لجبران إذا لم يفهم لغة مي النفسية لأنه كان يحب، وفي الحب تقرأ القلوب وحدها ولا تقرأ العقول؛ إن عقل جبران لو لم يكن أمام لغة مي معصوب العينين، لرأى هذا «الشيء» البعيد وكأنه يراه من مدًى قريب!
… لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى مَن وأين أنت؛ وكثيرًا ما أنسى أن هناك شخصًا، أن هناك «رجلًا» أخاطبه! فأكلمك كما أكلم نفسي، وأحيانًا كأنك «رفيقة» لي في المدرسة!
هكذا تكلمت مي، وإذا تكلمت مي فليس هناك زيادة لمستزيد؛ إن ذلك «الشيء» الذي سألت عنه جبران، قد أجابت عنه هنا في لحظة غضب ثائرة، ولم يكن في كلمةٍ واحدة غير «الأنوثة المقتولة»، وإذا ما قُتلت الأنوثة في أعماق المرأة فقد قُتل إحساسها بالرجل، وانمحت الفوارق الجنسية في عالم الشعور؛ يبدو الرجل في منظارها وهو لا يختلف عنها في شيء؛ لأنها حُرمت حاسة الجنس وسُلبت توجيه الغريزة، وقل بعد ذلك أنه فقد الشهية نحو الأشياء، وما يترتب عليه من أثرٍ في سلوك الأحياء: تفقد شهية الطموح فتزهد في المجد، وتفقد شهية القراءة فتشغل عن العلم، وتفقد شهية الأكل فتعزف عن الطعام؛ وكذلك المرأة حين تفقد شهية الأنوثة فتنسى الرجل وتنفر من الحب! لقد كانت مي في تلك السطور الأخيرة التي كتبتها لجبران، هي المرأة التي «نسيت» أن هناك «رجلًا» تخاطبه، وكل امرأة تتعرض لهذا الشذوذ فهي واحدة من اثنتين: امرأة يتجرد إزاءها الرجل من أعمق صفات الرجولة، فإذا هو بوتقة إحساسها «رفيقة» من عالم النساء، وامرأة تتجرد إزاء الرجل من أبرز خصائص الأنوثة، فإذا هي في البوتقة نفسها «رفيق» من عالم الرجال، ومن هنا ينقطع «التيار» العاطفي بينها وبينه وكأنه تيار كهربائي بين قطبين سالبين … وهذا هو المفتاح!
لدي أمورٌ كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفَّاف وغيره من العناصر، ولكن عليَّ أن أبقى صامتًا عنها، وسوف أبقى صامتًا حتى يضمحل الضباب، وتتفتح الأبواب الدهرية ويقول لي ملاك الرب: تكلَّم فقد ذهب زمن الصمت، وسِرْ فقد طال وقوفك في ظلال الحيرة! متى يا تُرى تتفتح الأبواب الدهرية؛ هل تعلمين؟ هل تعلمين متى تنفتح الأبواب الدهرية ويضمحل الضباب؟ ها قد بلغنا قمة عالية فظهرت أمامنا سهول وغابات وأودية، فلنجلس هنيهة يا مي ولنتحدث قليلًا، نحن لا نستطيع البقاء هنا دائمًا؛ لأنني أرى عن بُعْدٍ قمة أعلى، وعلينا أن نبلغها قبل الغروب!
أتعلمين يا مي أني ما فكرت في الانصراف الذي يسميه الناس موتًا، إلا وجدت في التفكير لذة غريبة وشعرت بشوقٍ هائل إلى الرحيل؟ ولكني أعود فأذكر أن كلمة لا بد من قولها، فأحار بين عجزي واضطراري وتُغلَق أمامي الأبواب. لا لم أقل كلمتي بعد، ولم يظهر من هذه الشعلة غير الدخان، أقول لك يا مي، ولا أقول لسواكِ، إني إذا انصرفت قبل تهجئة كلمتي ولفظها، فإني سأعود لأقول الكلمة التي تتمايل الآن كالضباب في سكينة روحي؛ أتستغربين هذا الكلام؟ إن أغرب الأشياء أقربها إلى الحقائق الثابتة، وفي الإرادة البشرية قوة اشتياق تحوِّل السديم فينا إلى شموس!
إني أتعذَّب شديد العذاب يا جوزف، ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة وينبغي خلق تعبير جديد، لتفسير ما أحسه فيَّ وَحَوْلي. إن هناك أمرًا يمزِّق أحشائي ويميتني في كلِّ يوم، بل في كل دقيقة! لقد تراكمت عليَّ المصائب في السنوات الأخيرة وانقضَّت عليَّ وحدتي الرهيبة — التي هي معنوية أكثر منها جسدية — فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذابًا كهذا! وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية، فكنت أعمل وأعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة، لعلِّي أنسى فراغ مسكني، أنسى غصة نفسي، بل أنسى كل ذاتي!
وقفة متأملة عند بعض الصور التعبيرية في هذه الرسالة؛ لأن تلك الصور ما هي إلا اعترافات نفسية لم تفصح عن مدلولها الكلمات؛ ما هو هذا «الأمر» الذي كان يمزق أحشاء مي، ويميتها في كل يوم كما تقول؟ أليس هذا الأمر الذي يرمض جوانحها بالعذاب، هو ذلك «الشيء» الذي كانت تسأل عنه جبران؟ أليس هو الشعور بأثر «الأنوثة المقتولة» التي حرمتها الرجلَ حبيبَ قلبٍ وأنيسَ وحدةٍ وشريكَ حياةٍ؟ ألا تسمعها وهي تشكو «فراغ المسكن» وتصور وحدتها الرهيبة، بأنها كانت «معنوية أكثر منها جسدية»؟ لقد كانت وحدة نفس أكثر مما كانت وحدة جسد؛ لأن المرأة التي تُقتل فيها الأنوثة، قلما تحس ذلك القلق الناتج عن كبت الغريزة، وإنما الشيء الذي يكثر إحساسها به من غياب الرجل هو فراغ الحياة! لقد كانت أضواء الشهرة تحول بين ناظريها وبين رؤية هذا الفراغ، كما كانت صيحات الإعجاب تغطي على طنينه الضخم، كلما طرق السمع من حين إلى حين … وعندما أقبل اليوم الذي همدت فيه من حولها كل حركة، وخفت كل صوت وانطفأ كل بريق، تجلَّت لها الدنيا على حقيقتها المفزعة، التي لا وهم فيها ولا خداع!
على ضوء هذا كله نستطيع أن نقول إن علاقة مي بجبران، لم تكن علاقة قلب وإنما كانت علاقة فكر، وإن عاطفتها نحوه لم تكن عاطفة حب، وإنما كانت عاطفة إعجاب؛ ولقد كان جبران جديرًا بإعجابها وتقديرها وتفضيلها له على كل معاصريه من الأدباء؛ لأنه في رأينا ورأي الحق قد سبق بفهمه لحقيقة الفن، ذلك الجيل الذي عاش فيه! إن الفن في جوهره كما قلنا عنه يومًا ليس فهمًا للحياة، يقف بنا عند حد الرؤية المادية والإثارة العقلية، حين تقوم هذه من تلك مقام النتيجة من المقدمة أو مقام النهاية من البداية، وإنما هو إلى جانب هذا حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يتبعها انفعال، انفعال يُحدِث تلك المشاركة الوجدانية بين منتج الفن وبين متذوق الفن، نتيجة لذلك الفناء الشعوري بين الفنان وبين مصدر التلقية الأولى والإلهام الوليد.