الأخطل الصغير
«عندما يتزوج الفكر الحياة، تولد التجربة في الفن.»
إذا لم تخني الذاكرة، فألبير كامي هو صاحب هذه الكلمات، وبقدر ما تحمل كلماته هنا من روح الشعر، فهي تحمل الكثير من منطق التحديد العلمي الضابط للمقاييس النقدية؛ ذلك لأن مفهوم المزاوجة بين كل طرفين متقابلين، هو أن تكون عملية ارتباط تفاعلية، يتحقق فيها عنصر التبادل المثمر والمشاركة المنتجة، إنها عملية يتوفر فيها جانب الإرادة، كما يتوفر فيها جانب الإدراك؛ لأننا حين نفكر في أن نرتبط بالطرف المقابل لوجودنا الإنساني، ندرك ما وراء اتجاهنا من رغبةٍ ملحة في الشعور المكثف بالحياة؛ من خلال رؤية عقلية معينة، من هنا يتم تفتيت اللحظة الزمنية في بوتقة التفاعل المزدوج، بين الوجود الداخلي والوجود الخارجي، أو بين حركة التأمل الفكري للفنان، وحركة الحياة المندمجة في حركة الزمن. وتفتيت اللحظة الزمنية إلى جزئيات: متغيرة ونامية، هو ما نعبر عنه بمراحل التجربة. والتجربة النفسية في الفن تقتضي — لكي تتم لها كل أبعاد التجسيم — أن نعيش في قلب اللحظة الزمنية، وأن نراقب نموها من الداخل؛ ذلك لأن عملية المعايشة من الخارج، بعيدًا عن مجال المراقبة التأملية الدقيقة، لا يفتح من نوافذ الرؤية لمراحل النمو المطرد غير تلك النافذة التي نطل منها على مرحلة التبلور النهائي، عندما يقتصر الفنان على أن يعطينا خلاصة التجربة. وعملية المعايشة من الخارج يترتب عليها من جهةٍ أخرى أن تعرض التجربة وهي مبتورة، وبمعنًى آخر: وهي جذور بغير امتدادات. وإذا ما اقتصرت هذه المعايشة على دور التفاعل الحسي بيننا وبين مشاهد الحياة، فهنا تتلاشى التجربة النفسية المكثفة، لتأخذ مكانها اللوحة الوصفية المجردة.
بشارة الخوري أو الأخطل الصغير — في هذا المجال التحديدي وعبر الرؤية النقدية — يبدو وهو شاعر اللوحة وليس شاعر التجربة؛ إنه رسام لوحات مبدع، وصاحب لغة شعرية ممتازة. وهو في محيط التعبير بالألفاظ والصورة، يتيح للنقد أن يعتبره واحدًا من شعراء الجيل الماضي، وأن يعتبره في الوقت نفسه واحدًا من شعراء هذا الجيل. إن النقد — على ضوء السمات التعبيرية لشعره — يستطيع أن يُلحقه بمدرسة الشعر التقليدي إلى جانب شوقي ومطران، ويستطيع أن يلحقه بمدرسة الشعر التجديدي، إلى جانب إيليا أبي ماضي وعلي محمود طه؛ فكما نجد في شعره من ملامح المدرسة الأولى، ذلك الميل إلى التقرير والخطابية والاحتفاء برنين اللفظ، نجد من ملامح المدرسة الثانية تلك العناية بأن يحل التجسيم الإيحائي والموسيقى الداخلية والصورة المركبة، محل التقرير والخطابة والتعبير المباشر.
في محيط الشكل التعبيري؛ يمكننا أن ننسب بعض شعر الأخطل الصغير إلى المدرسة الأولى، وأن ننسب بعضه الآخر إلى المدرسة الثانية. وعندما نقول إنه ليس شاعر التجربة، فإنما نعني التجربة بشكلها الفني الناضج، كوليد كامل النمو لزواج الفكر بالحياة. إن عملية الارتباط التفاعلي بالوجود المقابل عند بشارة الخوري، تعتمد على حركة الحواس الخارجية اللاقطة، أكثر مما تعتمد على حركة المشاعر الداخلية المتأملة؛ وفي نطاق التخطيط الإطاري والموضوعي للقصيدة، نلمس بوضوح مدى تفوق اللوحة المرسومة على التجربة المعاشة، بل إن هذا التفوق ليبلغ من السيطرة ذلك الحدَّ الذي تتضاءل معه التجربة، بحيث تبدو لنا هي نقطة ارتكاز بغير انطلاقات. وإذا ما نظرنا إلى الشعر على أنه مزيج متعادل من المعايشة الحسية والنفسية للوجود المقابل، فإننا نستطيع أن نكتشف جوهر التفاوت بين نجاح اللوحة وإخفاق التجربة في شعر الأخطل الصغير. وجوهر التفاوت بين المدرسة الأولى والمدرسة الثانية، عندما نذكر «الطلاسم» مثلًا لأبي ماضي أو «الله والشاعر» لعلي طه، كنموذجين تطبيقيين لتلك العلاقة الزوجية بين الفكر الشعري وبين حقائق الوجود، ومدى ما توفر للتجربة من توازن الأبعاد الموضوعية المختلفة، في مجال انعكاس المد الخارجي على جدران الذات.
وإذا ما نظرنا إلى بشارة الخوري كواحدٍ من شعراء المدرسة الثانية — بالنسبة إلى الشكل التعبيري واتجاهات المضمون الشعري — فإنه يؤكد لنا أصالته كوجهٍ فني لا يعكس ملامح الآخرين. إنه هنا نسخة غير مكررة، لا تحمل طابع أبي ماضي ولا طابع علي طه، على الرغم من وحدة الخط التجديدي الذي يلتقي على امتداده الشعراء الثلاثة. إن من أهم القيم الفنية لشعرنا المعاصر، أن يكون لكل شاعر طعمه الخاص، ولونه المتميز وطابعه المستقل؛ إننا بذلك نضمن تنوع الشخصية الشعرية، على أساسٍ من تنوع الأداء، حتى لا يستطيع شاعر واحد يمثل مركزية الطابع والاتجاه، أن يلغي من وجودنا الذوقي كل المتفرعين من نقطة البداية. ولقد قلنا يومًا ونحن نشير إلى الفن الغربي، ممثلًا في القصة واللوحة والقصيدة، إن النسخة الأصيلة هناك، تبهرنا دائمًا حيث لا تحدث ظاهرة التكرار والتقليد لشكلية العمل الفني وموضوعيته، مهما اتحد الاتجاه المذهبي عند الكتاب والشعراء والمصورين؛ جان بول سارتر وألبير كامو بينهما اتجاه وجودي في القصة، وبول إيلوار ولوي أراجون يجمع بينهما اتجاه يساري في الشعر، وبابلو بيكاسو وسلفادور دالي يجمع بينهما اتجاه سريالي في التصوير، ومع ذلك فلن تجد واحدًا من هؤلاء — في حدود الاتجاه المذهبي — نسخة مكررة من الآخر؛ إنهم جميعًا يمثلون هذه الظاهرة الجميلة في تاريخ الفن، ونعني بها ظاهرة الاستقلال والأصالة.
هذه هي صورة الأخطل الصغير كشاعر مجدد، أما حين نلقاه كشاعر كلاسيكي من داخل الإطار الذي يضم صورتي شوقي ومطران، فإننا لا نستطيع أن نميز وجهه الشعري في زحمة الوجوه المتشابهة؛ ذلك لأن المجرى التعبيري العام لتدفق الطاقة الشعرية عند شعراء المدرسة الأولى، كان يعتمد على كثيرٍ من الروافد الجانبية للشعر العربي القديم، من هنا فقد شعر هذه المدرسة — وهي المدرسة التي اقتطعت جزءًا من الوجود الفني والزمني لبشارة الخوري — جوانب مهمة من مفهوم التنوع الحاسم للشخصية الشعرية، وهو التنوع الذي لا يمكن أن يقوم إلا على أسسٍ ثابتة من الاستقلال والأصالة.
ونعود بعد ذلك إلى مجموعةٍ من نماذج التطبيق، لنكرر القول بأنه شاعر اللوحة وليس شاعر التجربة. إنك في معرض هذا الشاعر الرسام، يواجهك عدد من اللوحات الوصفية، منها: «هند وأمها»، «سلمى الكورانية»، «الصبا والجمال»، «عمر ونعم»، «ندى ووداد». ونشير إلى هذه اللوحات؛ لأنها تمثل في مجال التعبير بالصور ملامح المدرسة التجديدية، وتقدم إلينا ذلك الطابع الاستقلالي المتميز، لواحدٍ من شعراء المدرسة الثانية، ولنقف أمام لوحة رسمتها ريشة الأخطل الصغير:
في هذه القصيدة صور جزئية، تعبر عن مختلف النقلات التخطيطية للريشة الراسمة؛ إن الشاعر يرسم لنا لوحة ممتازة، مضمونها إبراز المفاتن الجسدية لفتاة جميلة في دور التكوين، ثم يتيح لنا أن نتابعه وهو يتنقل بريشته من مرحلةٍ إلى مرحلة، وكأنه بسياحة خارجية لمعالم هذا التكوين الجسدي، من الوجه الأنثوي إلى القدم. وهو يستخدم الضحى والليل والروض والغصن والبحر، يستخدمها كمجالات خلقية لصوره المرسومة؛ ومن الملاحظ أنه لم يلجأ — كما هو الحال عند المدرسة الكلاسيكية — إلى التعبير المباشر في التشبيه، لم يلجأ إلى طريقة التجسيم التقليدية ليشبه بياض الوجه بنور الضحى، وسواد الشَّعر بظلام الليل، وبريق الأسنان بضوء النجوم، إلى آخر السلسلة من تلك القائمة الرتيبة والمكررة. لقد كانت وسيلته الأولى إلى التجسيم، قائمة على الرمز الإيحائي للصورة المركبة؛ صورة الضحى مثلًا في موقف التقبيل، الدجى في موقف العناق، والغصن في موقف الهمس والسجود، وما يكمن وراء كل حركة من أمثال هذه الحركات الموقفية من معنًى رامز أو دلالة موحية. أما وسيلته التجسيمية الثانية، فقد ارتكزت على ذلك الجو القصصي، الذي غلَّفت به أجزاء المشهد المعروض، فأكسبتها عنصرًا جديدًا من ثراء التلوين ودينامية الترابط. ولقد ختم الشاعر مجموعة لمساته الحسية، بلمسةٍ نفسية أخيرة في أسفل اللوحة، مضمونها أن غيرة المرأة الجميلة من المرأة الجميلة، شعور أصيل من شأنه أن يلغي أمام المنافسة، منطق الاعتراف للطرف المنافس بِقِيَمه الجمالية؛ لأن المقارنة في أساسها غير عادلة. وحين نقف وقفة أخرى أمام اللوحة الثانية، يواجهنا في بدايتها نفس الطابع الفني، الذي عرفناه في اللوحة السابقة، وهذه هي بداية «سلمى الكورانية»:
•••
لو قدمت إلينا هذه اللوحة لسلمى الكورانية، وهي غير موقعة أو غير «ممضاة»، أفلا نستطيع أن نضع عليها — دون خوفٍ من الوقوع في الخطأ — توقيع الشاعر، أو إمضاء الأخطل الصغير؟ إن لهذا العمل الفني قيمته التي لا تُنكر من الناحية الشكلية، ناحية الإطار القصصي وما يحتوي عليه من صور إبداعية في التعبير، واستخدام الطاقتين كوسيلة موفقة من وسائل التجسيم؛ ولكن كان من المفروض أن يضعنا الشاعر أمام تجربة عاطفية، عاشتها البطلة كموقف متطور، ومارستها كانفعالٍ حيٍّ. وتبعًا لأن المعايشة الخارجية قد اقتصرت على دور التفاعل الحسي مع الحدث، فقد أثر ذلك على حركة النمو الداخلي لتلك اللحظة الزمنية الطويلة، الحافلة بالصراع والتوتر، لتحيل التجربة في النهاية إلى لوحةٍ مجردة. وبدلًا من أن نخرج من موضوعية اللوحة بجوهر المضمون الصراعي لقصة حب مخفق، خرجنا بلمساتٍ سردية سريعة تمثل التخطيط الحدثي لهذا المضمون. ومن خلال رؤية شعرية غائمة، لم نستطع أن نتبين دوافع الانفصال بين سلمى وحبيبها فؤاد؛ لأن الأبيات التالية تضع المفتاح في ثقب الباب ولا تفتح:
إننا ندرك لماذا بكى فؤاد من أجل سلمى، وندرك ذلك بطريقةٍ إيحائية. معنى أن ينفصل محب عن إنسانة تحبه، معناه بالنسبة إلى هذه الإنسانة شعور بالضياع، في مثل هذه المواقف يحتاج الشعر إلى التركيز، ولا يحتاج إلى التفصيل؛ ولكن الذي يجب أن يفصَّل هو لماذا بكى من أجل البلاد، ماذا حدث لهذه البلاد حتى يرغم على هجرها وهجر حبه؟ خضوع وذل؟ ما هي حقيقة هذا الذل وهذا الخضوع؛ والصراع الذي دار في داخل البطل كمرحلةٍ رئيسية من مراحل التجربة، كتوتر انفعالي متبادل بينه وبين من يحب؟ كل ما عرفناه بعد ذلك أن «خمسًا من السنوات السود قد صبت بلاياها على رأس لبنان»، وأن حب سلمى ما يزال حيًّا يقتات على الذكريات؛ وهكذا نجد أنفسنا أمام لوحة قصصية يغلب فيها جانب التسجيل على جانب التحليل؛ لأن عملية المراقبة تتم من الخارج. وتستمر جولتنا في معرض الصور حتى نقف مرة ثالثة أمام هذه اللوحة لعمر بن أبي ربيعة، اللوحة الأولى جمعت بين هند وأمها، واللوحة الثانية جمعت بين سلمى وفؤاد، واللوحة الثالثة جمعت بين عمر ونعم؛ هذه الازدواجية الصانعة لنوعٍ من المقابلة بين طرفين، قيمتها في الشعر الوصفي أنها تنقذ اللوحة المرسومة من التسطح، وتجعلها لوحة ذات أبعاد؛ منها بُعْد الحركة، وبُعْد التجسيم، وبُعْد الخلفية المجالية. ولا بد من الإشارة إلى أن الحركة في لوحة «عمر ونعم»؛ تختلف في نوعيتها عنها في اللوحتين السابقتين؛ الحركة هناك ناتجة عن تدرج الأحداث وانبثاق المواقف، سواء أكان ذلك في منطقة الرؤية التحليلية أو منطقة الواقع المحس، ولكن الحركة هنا ناتجة عن تحويل المجرى التعبيري نفسه من منعطفٍ موضوعي إلى آخر، أشبه بحركة الكاميرا المنتقلة من زاوية إلى زاوية.
الموضوع الشعري في هذه الأبيات، يمثل نقطة البدء الانطلاقية لمجرى التعبير؛ ونشعر أن الحركة تنساب فوق أرضية مبطنة بأحلام التصور، إنها لوحة جزئية ممهدة، يلعب فيها الحلم الشعري دور التحضير لواقع حسي مغيب، الشاعر هنا يحلم بالرؤية؛ الرؤية المجسدة التي يمكن أن يتصور من خلالها حسية العلاقة بين نعم وعمر، على مدار هذه التوزيعات المشهدية.
وفي المقطوعة التالية، يتحول المجرى التعبيري إلى منعطفٍ جديد؛ ينتقل من غيب التهويم إلى حضور المواجهة، وبعد أن كانت حركة التعبير مصبوبة في قالب الحديث عن عمر، غيَّر الشاعر من اتجاهها لتصب في قالب الحديث إلى عمر:
ويتغيَّر الاتجاه مرة أخرى — في حركة صاعدة — من البعد المكاني للذكريات، إلى تلك الشرفة البعيدة التي تتحول إلى ساحة عرض صغيرة، لبعض جوانب الشخصية النسائية المسهمة في ازدواجية الصورة؛ ويلاحظ أن اتجاه الشاعر الأساسي إلى عملية التصوير من الخارج، هو الذي يدفعه غالبًا إلى أن ينظر إلى المرأة من زاوية التكوين الجمالي للوجه والجسد، حيث لا يظفر التكوين النفسي بما يحتاج إليه من سياحة داخلية:
هذه النظرة إلى المرأة كتكوين جمالي مقبولة في الشعر، إذا ما كانت انبثاقًا تجريديًّا لتجربةٍ حسية بحتة، ومقبولة نسبيًّا في «عمر ونعم»، وغير مقبولة على الإطلاق في «ندى ووداد»؛ ذلك لأن التجربة هنا عاطفية تحتل مكان القمة من مرتفع الإنسانية، إنها تجربة الشعور المتبادل بين عاطفة الأبوة وعاطفة البنوة، تجربة الوجود الإنساني الذي يلغى فيه معنى الإحساس بالعدم، حين يتحقق له امتداده الحياتي المتصل الحلقات بحركة الزمن الدائبة؛ إننا لا نكاد نرى «وداد» ابنة الشاعر وهي في العشرين، إلا من خلال رؤيته البصرية:
•••
الرؤية البصرية — في هذه الأبيات — هي الغالبة والمسيطرة؛ وعبر هذه الرؤية تلوح لنا «وداد»، وهي مجموعة من صور التكوين الجمالي: أنشودة وشعر، قامة من قصب السكر، حلاوة زائدة، ريحانة عبقة، زهرة يانعة؛ وهلِّل يا ربيع واجمد يا دهر، ولا تبرحي يا شمس. الشاعر الأب يسجل أكثر مما يحلل، ولو حدث العكس لاستحالت اللوحة على امتداد الرؤية النفسية إلى تجربة … تجربة تتفتت فيها تلك اللحظة الزمنية المفجرة لطاقة الانفعال، إلى جزئيات متغيرة ونامية، هذه اللحظة التي تعتبر مركز التفجير الانفعالي، هي تلك التي دار حولها الشاعر بمجموعة من اللفتات الذهنية؛ لحظة الإحساس بالوصول الزمني للابنة إلى سن العشرين. وإذا ما أردنا أن نفتت تلك اللحظة إلى جزئيات، أعني إلى لحظاتٍ فرعية ومتولدة، فمن الحتم علينا — ونحن نأخذ مكان الشعر — أن نعيش في قلب اللحظة، لنراقب نموها من الداخل؛ عندئذٍ تبدو لنا هذه اللحظات الجزئية الوليدة، وهي أشبه بانعكاسات الأشعة المنطلقة من مركز الضوء إلى كل اتجاه، لقد كانت اللحظة الزمنية — لحظة سن العشرين — هي مركز الانطلاق لأشعة الفكر الشعري بالنسبة إلى تجربة الشاعر، انطلاقة إلى الماضي وأخرى إلى الحاضر وثالثة إلى المستقبل، وتلك هي الاتجاهات النفسية التي يمكن أن تلتقي بعد ذلك في نقطة تجمع فكرية، أساسها ارتباط الأزمنة الثلاثة في الوجود الداخلي للطرفين المتقابلين، لنحقق فكرة الشعور بذلك الامتداد الحياتي، المتصل الحلقات بحركة الزمن.
وما نقوله هنا نقوله عن لوحة «ندى» وهي في الخامسة؛ إنها — في منظار الشاعر — بسمة الورد، وهمسة الطهر، وشعلة الحب، ووشاح الجمال، وأخت الفراشات. ولكن الأخطل الصغير يهزنا بعنف في ختام المقطوعة الأخيرة، يهزنا لأنه قد أعطانا على الأقل «خلاصة» التجربة؛ أعطانا مرحلة التبلور النهائي لوقع اللحظة الزمنية — لحظة سن الخامسة — على وجوده الداخلي كإنسان، هذا الواقع مجسم بانفعالٍ صادق ومركز، في الأبيات الثلاثة النهائية من هذه المقطوعة:
من أنت؟
بقدر ما كانت «ندى» — في بداية العمل الشعري — انعكاسًا لتكوين جمالي، عبر رؤية البصر والتخيل، أصبحت — في نهاية هذا العمل — وهي انعكاس لتكوين وجودي عبر رؤية الشعور والفكر … اللحظة التي تعض فيها الطفلة على الشفتين، وتصفق باليدين، وتغمغم بالكلمات، معناها بالنسبة إلى الأب، أن وجوده الإنساني قد بدأ بصورةٍ منطقية، من نقطة البدء الحقيقي لهذا الكيان الطفولي الذي ينتسب إليه؛ إنها عملية إثبات للوجود، وظاهرة امتداد ونفي للعدم، وكل هذا نستطيع أن نستشفه من خلاصة التجربة أو من مرحلتها النهائية، وهو في الوقت نفسه يؤكد لنا مدى الخسارة التي يمكن أن تلحق بالشعر، إذا لم تكتمل لتجاربه كل المراحل الزمنية لارتباط الفكر بالحياة.
وليس معنى هذا أن شعر بشارة الخوري يخلو من التجربة؛ تجربته الذاتية أو تجارب الآخرين، ولكن المشكلة هي طغيان اللوحة واحتلالها أكبر حيز من الموضوع الشعري، مما ينتج عنه أن ينكمش مضمون التجربة، فيصبح وهو تعريجة نفسية في مرحلة العبور الفكري للحظة زمنية، يقتضي الوصول إليها أن نسلك الكثير من المنحنيات، وإذا عثرنا عنده على تجربةٍ لا تطغى عليها اللوحة، واجهتنا مشكلة الأداء التكنيكي الذي يعرضها من خلال تصميم بنائي مترابط، تبدو فيه مراحل التجربة وهي وحدة عضوية متناسقة. ومن نماذج التطبيق التي يمكن أن تجسِّم لنا هذه المشكلة، تجربته المعاشة عن طريق «الذات» في قصيدته «إلى امرأة»، وتجربته المعاشة عن طريق «الآخر» في قصيدته «رب قل للجوع». النموذج الثاني مثلًا يقدم لنا تجربة فتاة شريفة، مات أبواها ولم يتركا لها غير ثروة ضخمة من الجمال، تعادلها في الضخامة ثروة من الفقر؛ وموطن التجربة لبنان وأرضيتها الزمنية أيام الحرب، وتنتهي مراحل الصراع بين الجمال الشريف وبين ذل الحاجة، إلى أن تغامر الفتاة بذهابها إلى قصر الحاكم — مخدوعة بكلمات قوادة عجوز؛ لتلتمس لنفسها ولأخيها الصغير، ما يعينها على الصمود في معركة الجوع، وهناك داخل حجرة مغلقة، أعطت الفتاة قبل أن تأخذ؛ أعطت شرفها وهي مرغمة.
لو اكتسب الأداء التكنيكي شيئًا من النضج في هذه القصيدة، لأتاح لمراحل التجربة أن تكون خيوطًا حية لنسيج عضوي موحد، فبدلًا من أن يهيئ الشاعر لهذه المراحل أن تتتابع — في خط سير نموها الاطِّرادي — دون حركة انفصال معوقة، رأيناه يقطع خطَّ السير في بعض المواضيع ليفسر موقفًا أو يعلِّق على حدث؛ ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا التدخل المتكرر أن تظهر الفجوات في البناء العضوي للتجربة، لتحول بين خيوطها الناسجة وبين وحدة التماسك. وإذا عدنا إلى نموذجه الشعري الأول بما فيه من تجربةٍ ذاتية، لمسنا اختلافًا جوهريًّا فيما يتصل بالأداء التكنيكي المناسب، فبقدر ما نشاهد هناك من انفصالٍ بين اللحظات الزمنية، الرامزة إلى مراحل التجربة، نشاهد هنا — في قصيدة «إلى امرأة» — من الإسراف في الترابط مظهرًا من مظاهر الضغط الذي يصيب الأبعاد التحليلية لكل مرحلة بشيءٍ من التقلص والضمور، وتتراءى لنا — تبعًا لذلك — كل المراحل وهي مجموعة من المفاتيح، أكثر مما تتراءى لنا وهي مجموعة من الغرف المفتوحة.
•••
الأبعاد التحليلية في هذه المراحل الثلاث من مراحل التجربة، مضغوطة إلى درجة الاختزال … وما دام الشاعر قد وضعنا أمام تجربة «بجماليونية»، تتحول فيها المرأة «التمثال» إلى امرأة «حية»، يتدفق في كيانها الرخامي — بفضل لمسات الفنان — كل معاني النبض والحركة، فقد كنا ننتظر من بجماليون الشاعر أن يحدثنا — بشيء من التفصيل — عن دوره الإحيائي للرخام البارد، وكيف تنكَّر له الرخام الحي، حتى قد قرر في النهاية، أن يقف من تمثاله هذا الموقف الذي يشبه التحطيم:
ما الذي نريد أن ننتهي إليه من وراء هذه الجولة النقدية الدارسة؟ هو ما قررناه في البداية من أن بشارة الخوري — من خلال هذه النماذج وكواحد من شعراء المدرسة الثانية — وجه فني أصيل ومتميز؛ لا يمكن أن تخطئه العين الفاحصة؛ هو على هذه الصورة بالرغم من كونه شاعر اللوحة، وليس شاعر التجربة. ويتضح من هذه الدراسة أنه يعيش تجاربه، ولكنه يعيشها بطريقته الخاصة التي تكسب لوحاته أولوية التفوق من الناحية الفنية، تبعًا لاكتمال الموهبة عند الشاعر الرسام، أكثر من اكتمالها عند الشاعر المفكر؛ وإذا كان هناك جانب النقص فهناك جانب التعويض؛ وفي ميدان الإضافة إلى هذا الجانب الأخير، إنه واحد من الأساتذة القلائل في شعرنا المعاصر، بالنسبة إلى ارتفاع المستوى التركيبي للجملة الشعرية.
أما حين نسلط عليه الضوء كواحد من شعراء المدرسة الأولى — وعلى مدار شعر الترديد والتقليد — فإننا لا نستطيع أن نحدد قسمات وجهه الشعري في غمرة الزحام؛ إن وجهه يختلط أحيانًا بوجه شوقي، ويختلط بوجه مطران، ويختلط أحيانًا بوجوهٍ أخرى في شعرنا العربي القديم. ونفس الظاهرة تنسحب على كل شعراء تلك المدرسة، ولا تقتصر على الأخطل الصغير:
أي شيء هنا يميز بشارة الخوري من ناحية الشكل والمضمون؟ إننا نواجه شعر «الأكلشيهات» اللفظية، التي تحمل طابع النسخة المكررة، ومن وراء هذا المطلع التقليدي للقصيدة، نستطيع أن نلمح وجه البهاء زهير؛ الشاعر المصري القديم وهو يقول:
هذا الموت «الرومانتيكي» كان بُعْدًا رئيسيًّا، من الأبعاد الموضوعية لشعر الغزل عند شعراء المدرسية الأولى، وهو مظهر من مظاهر التبعية لقافلة الغناء العربي المتوارث، حيث تتفرع من نقطة البداية في إيقاعٍ رتيب كل أنغام الحداة المتشابهة. وبشارة الخوري — كواحدٍ من هؤلاء الحداة — يتغنى مرة أخرى برومانتيكية الموت، ليذكرنا بقصيدة «أزواد بيت الله» للعباس بن الأحنف:
ويبقى بعد هذا كله من الناحية الاتجاهية؛ من ناحية الحكم عليه كشاعر صاحب موقف من قضايا مجتمعه الذي يعيش فيه. إن الشاعر كفنان — في مجال العرض والتقييم — لا يمكن أن نفصله عن الشاعر كملتزم، كمرتبط بمشكلات الجموع بصورةٍ أخلاقية؛ في هذا المجال نجد تجاوبًا واضحًا وتعاطفًا أصيلًا، بين الكيان النفسي للشاعر وبين الكيان القومي للبنان، كوطن محلي لوجوده الذاتي، وكوطن عربي لوجوده الإنساني الكبير، ولك أن تلقاه في «وكر النسور»، وفي ختام «سلمى الكورانية» وفي «نحن والموت صاحبان»، وفي «غنيت للشرق الجريح» وفي «لبنان عيد ما أرى»، وفي «غصة الشراب» وفي «ليالي الجهاد»، وفي «ثورة من دمنا» وفي «يا أمة غدت الذئاب»؛ وأخيرًا في «بني وطني» و«صدى القبلات»:
هنا شاعر اليوم والغد، شاعر الحاضر المشهود وشاعر التطلع إلى المستقبل، والخطاب موجه إلى وطنه العربي الكبير، وآماله المستقبلية تحلق في أفق التسليح والتثقيف والتصنيع، كوليد شرعي لوعي الرؤية العقلية البعيدة؛ إنها تجربة أحلام أمسية معاشة، وهي تعاش اليوم كتجربة واقع يومي محقق. ولا حاجة بالشاعر — في سبيل أمنية الأمس — إلى أن يكون الثمن المقابل هو التضحية بالحياة، وعلى امتداد التجاوب والتعاطف مع كل بقعةٍ من بقاع العروبة، تلوح له الأرض العربية المقدسة للوطن السليب.
في هذين النموذجين يعيش الأخطل الصغير، تجربة الجموع العربية في وطن بلا حدود؛ والشعور بالقومية في النموذج الأخير هو مركز التجربة وقلبها النابض، حين يلتقي معنى الجوع الديني المشترك من أجل فلسطين في وجدان الشاعر، بمفهوم وحدة الأرض واللغة والتاريخ والتقاليد. أما تجربة الجموع العربية في الوطن الذي وضع نقطة البداية لوجوده الإنساني، لبنان، فهي هنا مجسمة في هذه الزفرة التي أطلقها بشارة الخوري في يوم له تاريخ؛ وما أكثر أيام وطنه التي أذاقته طعم الغناء والبكاء.
وهو بعد ذلك شاعر الدعوة إلى العمل؛ وشاعر الدعوة إلى الحياة، والحياة من وراء منظاره سلوك جاد وأيدٍ خشنة، وسعي متصل وميدان للتضحية:
هذا هو الأخطل الصغير بناحيته الفنية والالتزامية؛ كصاحب طابع شعري متميز، وكصاحب موقف اتجاهي واضح المعالم، وحسبنا هذه النماذج من شعره لتتحدث عنه وتشير إليه.