في القصة المصرية القصيرة
ذكاء الملاحظة — عند الكاتب القصصي — يضعه الناقد أول ما يضع، في قائمة التقييم الفني لإنتاج هذا الكاتب؛ ذلك لأن الملاحظة الذكية — من ناحية الحكم النقدي على الأصالة — تمثل نقطة الارتكاز الجوهرية لكلِّ ما يملكه القصَّاص من ملكات؛ لا بد من توفر هذه الموهبة أولًا: موهبة التأمل والملاحظة ورصد الحركة الدقيقة الموحية، في نطاق الوجود الخارجي والداخلي للإنسان، وعلى الناقد بعد ذلك أن يضع في القائمة — على صعيد الترتيب الفني لإمكانيات الكاتب — كمية الرصيد الثقافي من تجربة الفهم للأصول التكنيكية، وتجربة التمثل للواقع المعاش. لقد كانت الملاحظة الذكية هي أكثر الأرصدة ثراء في فن أنطون تشيكوف، وكانت من وجهة النظر النقدية عند كثير من النقاد، هي نقطة الانطلاق الباهر لتفوق المدرسة التشيكوفية — في محيط أدب الغرب — على كل مدارس القصة القصيرة، إنه يبهرنا بصفاء الرؤية القصصية في فنه، رؤية الجزئيات الدقيقة التي يتكون منها موقف داخلي معقد، يتجسم بعد ذلك في انعكاسات حركة سلوكية معبرة؛ ومن هنا سُمي تشيكوف بحق، كاتب التفصيلات الصغيرة.
هذه التفصيلات الصغيرة، نستطيع أن نتتبعها في كل ما يكتب؛ ولكنها تجذبنا بصفةٍ خاصة، عندما يعرض تشيكوف إحدى شخصياته من خلال لحظة حرجة، بحيث تتدرج هذه اللحظة تدرجًا هرميًّا يصل بالشخصية إلى قمة أزمة نفسية معينة. هنا نرى ذكاء الملاحظة في رصد هذا التدرج الهرمي وتسجيل تطوراته، وكأنه تجربة كيميائية في المعمل؛ تتركب من محاليل مختلفة، وتمر بمراحل متتابعة، تمتزج فيها هذه المحاليل وتتفاعل، حتى نحصل في النهاية على خلاصة التجربة أو نتيجتها النهائية. ولقد كانت مفارقات الحياة غالبًا هي المحاليل المختارة لتجارب أنطون تشيكوف؛ ذلك لأن الحياة في حركتها الدينامية لا تقدم إلينا أعمق لحظاتها إلا من خلال المفارقة، من خلال ذلك التناقض المثير الذي لا نتوقعه، حين يخرج منطق الحياة أحيانًا عن خط سيره المرسوم؛ عندئذٍ يصطدم منطق الحياة مع منطق الأحياء، ومن هنا تحدث المفارقة، وقد تكون المفارقة مضحكة أو مبكية، تبعًا لجوهر التناقض بين منطقين أو اتجاهين، يحدث بينهما تصادم غير متوقع ولا منتظر.
إن العمل الفني في قصة الطابور — من ناحية المقاييس التحديدية لأركان القصة القصيرة — يخرج من خانة «القصة» ليوضع في خانة «الصورة». إنه لا يمثل ذلك القطاع الطولي الذي تلتقي على امتداده — كما هو الحال في القصة — تلك الخيوط الصانعة لنسيجٍ موضوعي موحد. ونحن تبعًا لذلك لا نرى شخصية بعينها تنمو على مدار التجربة من خلال الحدث، بحيث تنتهي بنا إلى موقفٍ معين ينتهي إلى اتجاهٍ إيجابي أو سلبي، استنادًا إلى جوهر التكوين النفسي لهذه الشخصية أو تأثرها بشتى الدوافع الموجهة؛ في محيط هذه المقاييس التحديدية نجد القصة القصيرة. أما «في الطابور» فهي «صورة» من حيث الإطار التكنيكي الذي يحيط بأبعادها الموضوعية؛ هي مجموعة من القطاعات المستعرضة لحياة مجموعة من النماذج البشرية، معروضة من خلال لحظة معينة تربط بين هذه النماذج من ناحية الموقف، ولكنها لا تربط بينها من ناحية الاختلافات في اتجاهات السلوك.
هذه القطاعات المستعرضة في نطاق مثل هذا التصميم البنائي، نجد لها مثيلًا — مع الفارق بين طبيعة العمل الروائي وطبيعة الصورة القصصية القصيرة — في رواية «الأب جوريو» للكاتب الفرنسي بلزاك، وفي رواية «زقاق المدق» للكاتب المصري نجيب محفوظ؛ الشخصيات عند بلزاك خليط متنافر من الأحياء، يجمع بينهم بنسيون مدام «فوكيه»، ونفس هذا الخليط المتنافر تجده عند نجيب محفوظ في «زقاق المدق»، وتجده عند محمد أبو المعاطي أبو النجا في «الطابور». ومما يلفت النظر هنا وهناك أن النماذج الإنسانية المريضة، هي التي تحتل مكانها في المقدمة من مسرح الأحداث، وإن كلًّا من «البنسيون» و«الزقاق» و«الطابور» قد بلغ مرحلة من التجسيم المادي، جعلته يبدو وكأنه شخصية حية من شخصيات العمل الفني.
وإذا ما استعرضنا الملاحظات الذكية التي يمكن أن نلتقطها من وراء المفارقة، يواجهنا موقف الكاتب وهو يرحب عقليًّا وشعوريًّا بأن يقف في الطابور، ويخضع لنظامه الصارم؛ ذلك لأنه يريد «أن يمارس تجربة الديمقراطية على مستوًى آخر غير مستوى الكلمات»، ولكنه وهو يعيش في قلب التجربة، يكتشف أخيرًا أن في هذه الديمقراطية — ديمقراطية الطابور الذي تتجمد فيه الحركة — شيئًا من الديكتاتورية؛ «إنه منطق الطابور اللعين يجعل كل فرد هنا أسير مصيره، أسير حظه الذي وضعه في مكان لا حرية له في اختياره!»
ونحن في الطابور — ذلك القطاع الحي من قطاعات الحياة — قد نجد أنفسنا رغم كل الجهود في المؤخرة، أو على الأقل خلف أناس لا يملكون مثل رصيدنا من القيم والإمكانيات، سبقونا لأن لهم وسائلهم الخاصة في الوصول قبل غيرهم. إن الوصوليين في كل طابور تبطئ فيه الحركة أو تتجمد، حريصون دائمًا على أن يحتلوا مكانهم في مقدمة الصفوف.
وفي الحياة أكثر من طابور، ولكل طابور وضعه ونظامه وخط سيره الحياتي، الذي لجأ إليه عن إرادة أو غير إرادة؛ وحين تلتقي هذه الطوابير كما الْتقت في أول عمل فني من أعمال هذه المجموعة، يبدو كل طابور وهو غريب في منطق الطابور الآخر، وتتحول هذه الغرابة إلى حركة تعبير خاصة، تجسم وجهات النظر المتبادلة بين الطوابير: طابور صامت وكأنه يتخذ من الصمت شعار احتجاج صارخ على وضعه ومصيره، وهو طابور الأولاد المشردين. وطابور يعبر بوجهة نظر أخرى عنصرها اللامبالاة، ووسيلتها للأداء إخراج اللسان وهز الأرداف، وهو طابور البنات الساقطات. وطابور يواجه لغة التشرد ولغة السقوط، بما يناسب اختلاف المستويات العقلية لجموع الواقفين فيه، وهو طابور الراغبين في إثبات وجودهم بطريقةٍ رسمية!
وكل شيء في الحياة إنما يستمد قيمته من مقدار حاجتنا إليه: بقدر ما نحتاج يصبح الشيء في تقديرنا وهو شيء، وبقدر ما نستغني يصبح الشيء في تقديرنا وهو لا شيء؛ إن قيم الأشياء نسبية بحتة، يحدث هذا عندما لا نحس شيئًا من الفراغ والوحدة في طابور الحياة؛ في مثل هذه اللحظة يبدو لنا الإنسان العادي، وهو كمٌّ مهمل لا حاجة بنا إليه، أما عندما نمارس تجربة الوحدة والفراغ ومرارة السأم، فإننا نتلهف على أن يؤنس وحدتنا ويقضي على سآمتنا أي مخلوق ولو كان أَبْلَهَ؛ «الشيخ الذي أمامي لا يزال يقرأ، لا يزال يتمتم بصلواتٍ وأدعية، يبدو أنه ليس لديه أي استعداد لأن يتحدث مع أحد، كأنما جاء إلى هنا ليتفرغ للعبادة؛ آه أين أنت يا صديقي الأبله؟ إن الإنسان لا يدرك أحيانًا قيمة أن يتحدث إليه أي شخص، أي حديث ولو كان هذيانًا، لا شك أن الحيوانات كائنات تعسة للغاية؛ لأنها لا تستطيع أن تثرثر.»
أما الواقعية بالنسبة للشخصيات فهي واقعية نمط؛ الرجل الذي يشتغل في كل مهنة ولا يستقر في مكان، ويتزوج خمس مرات وله أولاد لا تربطهم به صلة، مثل هذا الرجل الأبله نمط؛ والعامل الذي يشكو من الضغط المادي لحياة المدينة الكبيرة، والذي كان الأبله ينصحه بأن يشتغل «مرسال صنف» ليحيا حياة مريحة، مثل هذا العامل نمط؛ والموظف الصغير المثقل بأعباء العمل، والذي يحيله الإرهاق المتواصل إلى آلة، تتعامل مع الناس على أنهم مجرد أسماء وعناوين وأعمار ومهن، مثل هذا الموظف نمط؛ والشيخ الذي يذكر الله بطريقةٍ ميكانيكية تشغله عن كل ما حوله، حتى ليخيل إليك أنها تشغله عن الله نفسه، مثل هذا الشيخ نمط؛ وكل دمية بشرية كانت تقف في طابور البنات أو طابور الأولاد، وينبئ مظهرها الخارجي عن حقيقتها الداخلية، مثل هذه الدمية نمط … وكل نمط من هذه الأنماط البشرية يمثل مجموعة متشابهة من الأحياء.
وحين نترك «في الطابور» لنلتقي بالعمل الفني الذي يليه وهو «حارس المقبرة»، نجد أن هذا العمل الفني قد اكتملت له كل الأركان اللازمة للقصة القصيرة: نجد فيه ذلك القطاع الطولي الذي أشرنا إليه من قبل، ونحن نفرِّق بين القصة والصورة، وقلنا عنه إنه تتلاقى على امتداده تلك الخيوط الصانعة لنسيجٍ موضوعي واحد، ونجد فيه الشخصية التي تنمو من خلال الحدث على مدار التجربة، حتى تصل مع النمو النفسي المطرد إلى عملية تطوير موقفية معينة. إن المشكلة التي يقدمها إلينا الكاتب كنقطة ارتكاز للحدث، تتحول بعد ذلك إلى نقطة انطلاق للموقف المتطور، هي مشكلة كل إنسان فقير ومحروم، حين يضطر أمام قهر الظروف وتحت ضغط الحرمان والحاجة، إلى أن يسلك سلوكًا قد يبدو في رؤية الناس وهو غير مشروع. عبد العال هو الشخصية التي ترمز إلى المشكلة، وتشير إلى جذورها الطويلة الضاربة في تربة الوضع الاجتماعي لأمثاله من أبناء القرية المصرية، الإنسان الضائع الذي يعيش الحياة يومًا بيوم، بلا أمل في الحاضر ولا ضمان، لجأ إلى الموتى بعد أن فقد الضمان والأمل في صحبة الأحياء؛ لجأ إلى الموتى ليأخذ منهم، لجأ إلى الناس الطيبين الذين كانوا يرعونه ويرعون أمثاله، يوم أن كانوا على قيد الحياة؛ لقد خلتِ الحياة بعدهم من الرحمة والخير، وحين أتاحت له الظروف أن ينزل ضيفًا عليهم، قرر بعد تفكيرٍ مرهق ومعذب، أن يمد إليهم يده!
محمد أبو المعاطي أبو النجا يقودنا إلى هذه المسالك النفسية، وهو يرسم لنا شخصية عبد العال من الداخل، وهو في أثناء الرسم، كثيرًا ما يستخدم اللقطات الجانبية التي توضح بعض الأوضاع الخاصة للشخصية المرسومة: عبد العال وهو يقرر أن يسرق أكفان الشيخ عوض، ليشتري بها كسوة لأولاده، لا يقرر ذلك لأنه لص؛ بل لأنه فقير ومحتاج! والملاحظة الذكية التي تواجهنا من وراء المفارقة، أن عبد العال قد كلِّف بأن يكون حارسًا للمقبرة، يحمي أكفانها من سطو اللصوص! إنها المفارقة التي تجسم المشكلة من خلال ذلك الصدام غير المتوقع، بين منطق الحياة ومنطق الأحياء؛ المنطق الأخير يفرض عليه أن يقف موقف الحارس، والمنطق الأول يرغمه على أن يقف موقف اللص، ومن هنا يحدث الصدام المضحك أو المبكي بين موقفين!
وعبد العال بعد ذلك — وتلك هي المفارقة الثانية — ما زال محتفظًا بقيمه كرجلٍ عاش طول عمره، وهو عف النفس رغم أنه فقير؛ ولهذا لم يحاول أن يجرد الجثة من «كل» أكفانها كما يفعل اللصوص، ولكنه يكتفي بأخذ كفنين اثنين من أكفان الشيخ عوض الثلاثة، إنه منطق الشرف حين ترغمه الحاجة، وهو في رأيه منطق عادل؛ إن بعض الأحياء من أمثاله لا يجدون إلا ثوبًا واحدًا، في الوقت الذي يتدثر فيه الموتى بثلاثة أثواب! لو كان الحاج أحمد الذي يرقد في قبرٍ مجاور — والذي كان يمثل خلاصة الناس الطيبين — على قيد الحياة، لوقف وقال بأعلى صوته: «يا بلد لازم نكفن الميت في كفن واحد، وبقية قماش الكفن نفرقه على الناس الغلابة!»
وعبد العال وهو يرتجف تحت برد الليل وقسوة المطر، تتلون أفكاره بألوان اللحظة النفسية التي تمر به وتعكس ألوانها في حلم اليقظة: «كان يتصور أن شريطًا عريضًا من قماش الأكفان، ينبعث من هذه المقابر يشده رجلان، وأن هذا الشريط يمكن أن يغطي القرية كلها، ويصنع فوقها خيمة كبيرة لا يخترقها المطر!»
والكاتب يبرز لنا — من أعماق إحدى الزوايا في عمله الفني — جانبًا من الجو العقائدي الذي يعيش فيه كل الفقراء والمحرومين؛ إنهم يحلمون بالعالم الآخر، بالجنة، بتلك المائدة الحافلة التي يمكن أن تعوضهم عن كل ما وجدوا في عالمهم من حرمان. فتحية بنت عبد العال — وهي تتحدث إلى أبيها بجوار القبر — تمثل هذه الأحلام العقائدية التي يلقنها الكبار للصغار، والتي تمثل بدورها واحدًا من الشعارات النفسية لطبقةٍ معينة من طبقات المجتمع.
إلى هنا ومحمد أبو المعاطي أبو النجا يجسم المشكلة من خلال الملاحظة الذكية وهي في قالب المفارقة، ولكن المشكلة حين تتحول إلى مأساة، تبلغ ذروة التجسيم من داخل عملية السرد نفسها في الموقف الأخير من مواقف القصة؛ موقف عبد العال وهو مهدر الآدمية تحت أقدام القطيع البشري في حواري القرية.
إن أعنف ما يهزنا من موقف الإنسانية في لحظات الضعف، هو أن يتحول ضعفها النبيل إلى ذل رخيص وتافه؛ إذا كان الذين يحيلون ضعف الإنسان إلى ذل، رخصاء وتافهين!
على ضوء هذه الذروة التجسيمية يمكننا أن ننظر إلى مأساة عبد العال؛ إن الكاتب يرسِّب المأساة في نفوسنا ترسيبًا عميقًا عن طريق عملية التصوير المادية لحركة الموكب الثائر الشامت، موكب القرويين وهم يزفون بطل القصة، من داخل هذه «الحركة» لم نكن نرى وجه البطل، ولكننا كنا نستخلص الصورة الحقيقية لهذا الوجه من خلال الواقع الإيحائي، بكل ما يرتسم على قسماته من ذلٍّ صامت أو معبِّر. لقد استخدم الكاتب حركة الموكب كمجال خلفي كبير للصورة المرسومة، وفي نهاية الحيز الامتدادي لهذا المجال الخلفي الكبير، نرى اللمسات الأخيرة التي تكمل ما في الصورة من زوايا وأبعاد؛ عبد العال معروض أمامنا بواسطة موكب آخر يفترق عن الموكب الأول في كونه يعلق ولا يتحرك، موكب من النساء يكتفي بأن يزف بطل القصة مجموعة من الكلمات تمثِّل في جملتها وجهتين من وجهات النظر: «يعني كان حد قال له يروح يسرق الكفن؟ دول ناس آمنوه لأنه راجل طيب يقوم يعمل كده؟ والله ما تخافي إلا من الطيبين دول»؛ «هوه لو ما كانش طيب كان اتمسك؛ أولاد الحرام اللي بيسرقوا كتير، إنما ده كونه راجل طيب مسكوه» … وجهتا نظر تقدمان إلينا الجوهر الحقيقي للطبيعة البشرية ممثَّلة في موقفين: موقف الذين يسيئون الظن بالإنسان، وموقف الذين يحسنون الظن بالإنسان!
ومرة أخرى نجد الأركان الفنية اللازمة للقصة القصيرة تكتمل بصورةٍ ملحوظة في «الآخرون»، وهي العمل الثالث من أعمال هذه المجموعة. بطل القصة — وهو مراسل حربي لإحدى الصحف المصرية في معركة القنال — نموذج بشري يمثل نمطًا من الأحياء في المجتمع المصري وكل مجتمع آخر … نمطًا يحدد اتجاهه السلوكي دافع واحد، هو حب الذات، الحب الذي ينكمش فيه «الأنا» بحرصٍ بالغ داخل قوقعة الفردية، ثم تتضخم جدران الواقع ذلك التضخم الذي يحول دون رؤية العالم الخارجي، هناك حيث يقف الآخرون.
وبطل القصة — من خلال زاوية أخرى من زوايا صورته العامة — شخص يتحدث إلى الناس بلغةٍ أخرى غير اللغة التي يتحدث بها إلى نفسه؛ إنه مع نفسه — حين ينفرد بها — شجاع لا يخشى الصراحة، ولكنه مع الناس؛ جبان تعيش مشاعره الحقيقية في الظلام، ومن هنا كان الدافع الرئيسي الذي حبب إليه دوره الصحفي في معركة القنال، هو أن يلقى هؤلاء الفدائيين عن طريق التسلل إلى حقيقتهم النفسية، ليعرف أي سر يكمن وراء المقامرة بحياتهم في سبيل هدف — هو بالنسبة إليه — غير منطقي وغير واضح.
«إنه يفهم أن يكافح الإنسان من أجل سعادته؛ أن يناضل، أن يتألم، أن يشقى من أجل حياة سعيدة، أما أن يفقد الإنسان حياته فيها، فهذا ما لا يمكن تصوره بحال، هل هناك شيء أغلى من الحياة نفسها حتى يمكن أن نبذلها من أجله؟ يقولون الحرية! ولكن، ما هي الحرية؟ إنها إحدى حاجات الحياة، وحين نفقد الحياة، نفقد معها حاجتنا إلى الحرية، يقولون الحرية من أجل الآخرين، ولكن مَن هم الآخرون هؤلاء؟ إنه لا يكاد يحس بهم، وهم أيضًا هل تراهم يحسون به؟ هل يحسون به إلا حين يحتاجون إليه؟ وهل يحس بهم إلا حين يحتاج إليهم؟ وحين يموت الإنسان؛ ماذا يبقى منه ليحتاجه الآخرون؟»
هذا التحليل الموفَّق الذي يرسم به الكاتب خط الاتجاه النفسي، لنمط إنساني معين يمثِّله بطل القصة، هو بمثابة عنصر التبرير الموضوعي لموقف البطل إزاء الحياة وإزاء الآخرين. إن الواقع الداخلي لمشكلة هذا النمط من الأحياء، هو واقع السلبية المطلقة التي تحول دون التعاطف الشعوري بينهم وبين الغير، وتحصرهم داخل وجود انعزالي، تفصله عن وجود الآخرين زحمة الدوافع الفردية، والكاتب أمام هذه الزحمة قد وقف واعيًا ليختار، ليقتطع من جسم الواقع أهم منطقة نفسية، يمكن أن يجسم من خلالها المضمون الكلي للمشكلة؛ مشكلة السلبية المطلقة؛ وذلك حين وضع بطل القصة — وهو رمز النمط البشري المنعزل — تجاه حركة دفع إيجابية هدفها أفدح تضحية في سبيل المجموع!
إننا نرى البطل — في المرحلة التخطيطية للحدث — وهو يناقش أحد الفدائيين محاولًا من وراء النقاش أن يتسلل إلى حقيقته النفسية؛ وفي تلك الأثناء تقبل عليهما عربة جيب إنجليزية ثم تقترب، ويطلق جنودها النار في هجمة مفاجئة؛ ويرد الفدائي بالمثل فيصيب العجلات وتتعطل العربة عن السير في منطقةٍ مكشوفة؛ وتبدأ معركة ظالمة غير متكافئة؛ بندقية واحدة تناضل ضد مجموعة من البنادق، تحصَّن أصحابها وراء عربة الجيب، وأخيرًا تتوقف البندقية الواحدة بعد أن عجزت عن الصمود في وجه سيلٍ جارف من الرصاص، ويصمت الفم الذي تحدث حتى الثرثرة، عن عذوبة التضحية في سبيل الآخرين، ويتحول الحدث إلى موقفٍ بالنسبة إلى المراسل الصحفي، ويتكشف الموقف عن سوء عملية تطوير إيجابية.
«وفي هذه اللحظة كانت مشاعر محمود — المراسل الحربي — تعاني انقلابًا هائلًا؛ لقد بدأ يحس كأن حسن — الفدائي المصري — ليس شخصًا آخر منفصلًا عنه، وإنما يحس كأنه قد صار قطعة منه؛ ووجد نفسه يزحف إلى جواره، ويأخذ منه البندقية، ويغير مكانه قليلًا، ويعاود إطلاق الرصاص، ولا يدري كيف حدث ذلك أيضًا، لقد أحس كأن حمى هائلة تجتاح كيانه، وتكتسح أمامها كل خوف وتردد؛ وفجأة توقفت البندقية وأدرك أنه قد أصيب؛ إنه هو الآخر سيموت، ولكنه لم يمت بعد، إنه لا يزال حيًّا، إن حسن هو الذي منحه هذا القدر من الحياة، هذه اللحظات التي يعيشها الآن، وبدأ يدرك أنه هو الآخر يمنح الحياة أناسًا آخرين، يحس بهم كأنهم أيضًا قطعة منه … ولأول مرة بدأ يدرك الصلة التي تربطه بهم، إنه يمنحهم الحياة التي يفقدها هو، إنه يتيح لحياتهم أن تستمر، أن تبقى، أن تمتد؛ وذاب في أعماقه شعور بالأسف، إنه يفقد الحياة بعد أن عرفها لأول مرة، وأدرك في قسوة أنه لم يَعِشْ قبل هذه اللحظات، لا بل كان يعيش؛ كان يعيش داخل قوقعة مظلمة، داخل ذاته، وحين انطلقت بعض الرصاصات وحطمت تلك القوقعة؛ بدأ يحس بالآخرين!»
إن القصة — كعملٍ فني — تصوير للواقع وتجسيم للمشكلة، ووراء التصوير والتجسيم شيء يريد أن يقوله لنا الكاتب؛ محمد أبو المعاطي أبو النجا يقول لنا هذا الشيء في كثيرٍ من أعماله الفنية، قاله لنا في «الطابور» وفي «حارس المقبرة»، كما قاله لنا في «الآخرون»؛ إنه هنا كما كان هناك صاحب رأي أو صاحب فكرة، وكل منهما — أعني الرأي والفكرة — يمكن أن يستخلصه الناقد والقارئ من أعماق المضمون الاتجاهي للمشكلة المعروضة. إنها خصيصة أخرى من خصائص المدرسة التشيكوفية، وكاتبنا — كتلميذٍ مجتهد في هذه المدرسة — يريد أن يقدم لنا هذا الرأي. إن مشكلة السلبية التي تمارسها بعض الأنماط البشرية في حياتنا لا يمكن أن تعالج بالنظريات، وإنما تعالج بكل وسيلةٍ عملية. الانعزاليون لا يمكن أن نعلمهم معنى الارتباط بالحياة، إلا إذا دفعناهم دفعًا إلى قلب الحياة، إلا إذا صهرناهم في بوتقة التجربة. الأنانيون لا يمكن أن نلقنهم دروس البذل والعطاء إلا على يد فئةٍ معينة، فئة بلغت درجة الأستاذية في مدرسة التضحيات. فلنضع هؤلاء السلبيين أمام الإيجابيين وجهًا لوجه، ومن التقاء القطب السالب بالقطب الموجب، يمكن أن تندلع شرارة الإحساس بشرف الفناء؛ في سبيل المجموع!
والكاتب في عمله الفني الرابع: «خروج عن الموضوع»، يريد أن يقول لنا كعادته، هذا الشيء الذي يمكن أن نستخلصه عن طريق الإيحاء؛ إننا في هذا العمل الفني أمام «صورة» من حياة مدرس في مدرسة بنات، مدرس يضيف بخروج تلميذاته عن المعنى المحدود لموضوعات الإنشاء، هذا الخروج الذي كأن هناك يدًّا خفية ترغمهن عليه، ويجد نفسه — حيال الظاهرة المتكررة — أعجز من أن يصل إلى تفسير معقول. والعدسة اللاقطة تصور لنا تلال الكراريس، وعناء المهنة المرهقة، والملامح النفسية للتلميذات من خلال الموضوعات الإنشائية، وشخصية الأستاذ حسين المدرس كواجهة عرض تجسيمية لمجموعة المدرسين، وذكاء الملاحظة وهي مصبوبة في قالب المفارقة، حين يلتقط الكاتب مركز الصدام المضحك بين منطق الحياة ومنطق الأحياء. المنطق الأخير يفرض على الأستاذ حسين أن يطالب تلميذاته بعدم الخروج عن الموضوع، وحين يكتب الأستاذ خطابًا لصديقه، يرغمه المنطق الأول — منطق الحياة — على أن يخرج هو نفسه وبلا إرادة، عن الموضوع. إن اتجاه المضمون يوحي إلينا بهذا الشيء الذي يريد أن يقوله لنا الكاتب: إن الحياة تعاملنا في كثيرٍ من الأحيان بمثل هذا المنطق؛ قد تكون لنا قيم معينة نحرص عليها، أو خط سير مستقيم نطالب الغير بأن يسلكه ونفرض على أنفسنا أن نسير فيه؛ ومع ذلك، فما أكثر ما ترغمنا يد خفية أو ظروف ضاغطة، على أن نخرج بلا إرادة عن موضوع حياتنا الذي اخترناه!
وإذا ما انتقلنا إلى العمل الفني الخامس في هذه المجموعة، واجهتنا «تجربة مع الموت». إن المضمون الاتجاهي في هذه القصة، كما هو في «الآخرون» التزامي هادف، قطاع من حياتنا في لحظة صراع بطولي من خلال معركة، عاشها كل منا بوسيلته الخاصة: الفدائي بروحه ودمه، والكاتب بوجدانه وقلمه؛ بطل القصة وهو خارج التجربة، كان قد رسم للموت صورة محددة الملامح مكتملة الخطوط، ولكنها — على الرغم من ذلك — لم تكن صورة حقيقية؛ ملامحها لم تكن مستمدة من الواقع المعاش، وخطوطها كانت تنطلق من جوانب الوجود الخارجي للموت. أما حين أصبح داخل التجربة في أعماقها، بين جدرانها المطبقة، فقد عجز عن تحديد موقفه العقلي والشعور إزاء الموت، وعجز تبعًا لذلك أن يقدم إلينا صورته. إن صورة الموت ونحن خارج التجربة تعد نوعًا من التصور … أما ونحن داخل التجربة فإن الرؤية تتعذر، وتتعطل الحواس المهيأة لعملية التصوير.
هذه هي الدلالة الإيحائية التي نستخرجها من المنعطفات الاتجاهية للمضمون، كلونٍ من الإضافة التفسيرية إلى المشهد الواقعي المكون من أحداثٍ ومواقف. ولكن محمد أبو المعاطي أبو النجا يخطئ هذه المرة فنيًّا واتجاهيًّا، وهو يقدم هذه الدلالة الإيحائية إلى القارئ في بداية القصة. إن الإيحاء بالفكرة يفقد كل ما فيه من عوامل الإثارة، إذا لم يستخلصه القارئ أو الناقد من السلوك الموقفي للشخصيات؛ هذا السلوك الموقفي أشبه بمجموعةٍ من الغرف المغلقة، على الكاتب أن يعطينا مفاتيحها وينصرف، وعلينا نحن بعد ذلك — ما دامت المفاتيح موجودة — أن نقوم بتلك المحاولة المثيرة؛ محاولة اكتشاف ما في الغرف المغلقة من محتويات نفسية. أما أن يسبقنا الكاتب إلى مثل هذا العمل، فماذا يبقى لنا ليثير فينا متعة البحث والتنقيب؟!
ونخطو بعد ذلك خطوات أخرى إلى هاتين القصتين وهما: «مملكة نبيل» و«فتاة في المدينة». إن التخطيط الإطاري والموضوعي لهاتين القصتين — في حدود أحداثهما ومواقفهما والتكوين النفسي الخاص للشخصيات — تخطيط ناضج، ولكن المشكلات فيهما كما يعالجها الكاتب مشكلات فردية؛ ومن هنا لم تكن واقعية النماذج البشرية المعروضة واقعية نمط. ترى هل نجد الكثير من أمثال نبيل، في مثل هذه البيئة التي نشأ فيها، والتكوين النفسي الذي صنع منه هذا السلوك؟ هل نجد نماذج متعددة من طراز هذا الفتى الصغير، الذي يحس سعادته الحقيقية في حرية الانطلاق وحب الناس والتجاوب معهم، ولو ضحى في سبيل ذلك بجزءٍ من دخله اليومي، وهو في أشد الحاجة إليه؟ صحيح أن الكاتب قد قدم إلينا عنصر التبرير الموضوعي لهذا السلوك، وهو أن الفتى الصغير — حين قرر أن يترك عمله الممل في دكان البقالة — كان قد مارس من قبل نفس التجربة الشعورية، التي تصنع في اندماجه مع الناس مملكته الكبيرة، يوم أن كان بائعًا للصحف يجوب القرى العديدة جريًا وراء الرزق؛ ولكننا مع ذلك لا نجد في بيئة نبيل كثيرًا من أمثاله.
إننا في واقعية النموذج الفردي لا نحس إحساسًا كاملًا بأن الشخصية تنبض بدم الحياة والحركة، بل إن الإحساس الذي نتعرض له هو أن الشخصية، لم تكن إلا «مجرد» رمز لفكرة في ذهن الكاتب؛ هذه الفكرة هي أننا نستطيع أن نخلق من حب الناس مملكتنا الخاصة! إن هناك فارقًا ملموسًا بين واقعية النموذج الفردي وواقعية النمط الجماعي؛ الشخصيات في الواقعية الأخيرة لا تتحول إلى رموز لأفكار، ولكنها تتحول إلى رموز لمشكلات اجتماعية ضخمة، تستمد ضخامتها من ضخامة الكم العددي الذي يمثلها من النماذج الإنسانية، كما رأينا ذلك بصورةٍ مجسمة في «الآخرون» و«حارس المقبرة». وإذا وجدنا في واقعية النمط شيئًا من الرمز لفكرة، فهو كما قلنا من الإضافة التفسيرية التي يستخلصها القارئ من المضمون الإيجابي لمشكلةٍ يعيشها المجموع.
وما نقوله عن شخصية نبيل نقوله عن شخصية الفتاة المأزومة، التي عقَّدتها طبيعة العلاقات السطحية المنهارة في حياة المدينة. إن الكاتب يثير عطفنا على البطلة، وهو يكثف الأزمة تكثيفًا نفسيًّا مطردًا، يتناول الجذور والامتدادات، ولكننا نشعر أن التركيبة النفسية للبطلة كإنسانة مرهفة الحس، لا تمثل ظاهرة عامة. صحيح أننا حين نتعرض في قلب المدينة الكبيرة لأزمةٍ من أزمات فقد الثقة في قيمةٍ من القيم، صحيح أننا تبعًا لذلك قد نفقد ثقتنا بكثيرٍ من أمثال هذه القيم، ولكن هذا لا يحدث كثيرًا بالنسبة إلى القيم العاطفية التي تعيش في أعماق الصخب والضجيج. إن الأغلبية المطلقة من فتيات المدينة قد أَلِفْنَ هذه العلاقات السطحية المنهارة، لدرجة أن الفتاة التي ترمز إلى هذه الأكثرية إذا فقدت ثقتها فيمن تحب، فإن ذلك قد لا يترتب عليه أن تفقد ثقتها في الآخرين. البطلة التي اختارها الكاتب إذن تمثل واقعية النموذج الفردي، ولا تمثل النمط في محيط المشكلة الجماعية!