السوق
لما كان الناس لا يعرفون كل ما يعرفه حمار عالِم، فإنكم يا من تقرءون هذا الكتاب تجهلون بلا شك ما هو معروف لكل رفقائي الحمير؛ من أنه يُقَام في كل يوم ثلاثاء سوق في مدينة «ليجل»، يُبَاع فيها الخضار والزبدة والبيض والجبن والفواكه وأشياء أخرى فاخرة.
وكان ذلك اليوم يوم شقاء لرفقائي المساكين، وكان لي كذلك أيضًا قبل أن تشتريني سيدتي الكبيرة جدتك الكريمة التي أعيش الآن عندها، فقد كنت مملوكًا لفلاحة شرسة قاسية. تصور يا سيدي الصغير كيف أنها كانت تبالغ في القسوة حين تجمع كل البيض الذي يبيضه ما عندها من الدجاج، وكل ما يتجمع عندها من الزبدة والجبن الذي يُسْتَخْرَج من لبن ما تملك من البقر، وكل ما ينضج عندها أثناء الأسبوع من الخضر والفاكهة، ثم تملأ بكل ذلك سلالًا تضعها فوق ظهري.
فإذا تم لها كل ذلك وكنت محملًا بالأثقال في حالة لا أستطيع معها التحرك، كانت تجيء هذه المرأة الثقيلة وتجلس أيضًا فوق السلال، ثم تسوقني بغلظة وعنف إلى أن أصل إلى السوق وكان بينه وبين منزلها مسافة فرسخ، وكنت دائمًا في شدة الغيظ الذي لا أستطيع إظهاره لأنني أخشى وقع العصا التي كانت تحملها دائمًا، وهي عصا غليظة معقدة كانت تؤذيني أذى شديدًا كلما ضربتني بها. وكنت كلما اقترب وقت الذهاب إلى السوق أشهق وأنهق برقة أستعطف بها سادتي، فكانت هي تسرع إليَّ وتقول: اسكت أيها الكسول، ولا تصدعنا بصوتك المنكر «هي هان! هي هان!» كأنك تحسب هذا الصوت موسيقيًّا مطرِبًا. ثم تنادي ولدها «جول» وتقول له: قَرِّب هذا البليد من الباب لكي أضع الأحمال على ظهره؛ هناك سَبَت البيض وسَبَت آخر، والجبن والزبدة، والخضار أخيرًا. وهذا حمل تحصل من بيعه في السوق على بضعة ريالات، وتدعو ابنتها مارييت بعد تشييد الحمل على ظهري فتقول لها: أحضري كرسيًّا لكي تصعد أمك على الحمار. فإذا ركبت تناولت العصا، وبدأت تضرب ضربًا متكررًا، وكأنها تحسب الضرب مداعبة ضرورية، ثم تسير ولا تكاد العصا تقف أو تكف في يدها عن الضرب على رقبتي وعلى جنبي وأفخاذي، وكنت أسرع في السير وأحيانًا أجري، ومع كل ذلك فلا تنقطع الفلاحة عن استمرار الضرب، فكان من حقي أن أقسو وأن أنتقم بل حاولت الرفس لكي ألقيها على الأرض، ولكن كان الحمل ثقيلًا فلم أستطع هذه الحركة، ولكني كنت دائمًا أتحول في الطريق يمينًا وشمالًا، وكنت مع ذلك مسرورًا لأنني أشعر باضطرابها فوقي، فكانت تهددني وتقول لي: سأصلح هذا الاعوجاج بالعصا، وأعلمك الاستقامة في السير. ويستمر الضرب حتى كان يؤلمني كثيرًا المشي في الطريق إلى أن نصل إلى السوق، ثم تُرفَع الأحمال التي على ظهري وتُلْقَى على الأرض.
وتذهب سيدتي بعد أن تربطني لتأكل، ومع أنني كنت أكاد أموت من الجوع والتعب، فإنها لم تعطني لا شيئًا من الماء ولا قليلًا من البرسيم، لذلك احتلت على الاقتراب من سبت الخضار أثناء غيابها، فرطبت لساني وفمي بما ملأت به معدتي من الخضراوات والكرنب، ولم أذقْ في حياتي أطعم من هذه الخضراوات، وانتهيت من التهام آخر كرنبة في اللحظة التي عادت فيها سيدتي.
فصرخت حين أبصرت السبت فارغًا، ورأيتها ممتقعة متألمة لأنها أدركت فعلتي.
ولا أكرر على مسمع القارئ ألفاظ الشتم والسباب التي هالتها عليَّ وكانت لهجتها حادة شرسة، وكانت وهي غاضبة تقول من الكلام ما أحمرُّ منه خجلًا أنا الحمار.
ولم يكن مني إلا أنني كنت أتلمظ ثم ولَّيتها ظهري، فتناولت عصاها واستمرت في الضرب بقسوة إلى أن ضاع رشدي ونفد صبري فرفستها ثلاث رفسات؛ هشمت الأولى أنفها وكسرت بعض أسنانها، وخلعت الثانية يدها، وأصابتها الثالثة في معدتها وألقتها على الأرض.
فهُرِع إليَّ أشخاص كثيرون وأثقلوني ضربًا وإهانة، ثم حملوا سيدتي ولا أدري إلى أين، وتركوني مربوطًا بجانب المكان الذي ألقيت فيه أحمالي وبقيت وحدي فيه مدة، فلما رأيت أنه لا يفكر فيَّ أحد أكلت ما في سبت آخر من الخضار اللذيذ، ثم قرضت الحبل الذي ربطوني به وعدت بهدوء إلى طريق العزبة.
ودُهِش الذين رأوني في الطريق عائدًا وحدي، وصاروا يتهامسون ويتضاحكون، وقال بعضهم: إنه لا يحمل شيئًا فأين صاحبته؟ وأين ذهبت أحماله؟ فقال آخر: لا بد من أنه فعل فعلة سيئة، وقالت امرأة: قرِّبوه ليركب هذا الطفل على بردعته، فقال زوجها: إنه يستطيع أن يحملك أنت والطفل.
وأردت أن أحسن ظنهم بي وبحسن أخلاقي، فاقتربت بلطافة من الفلاحة ممهدًا لها سبيل الركوب على ظهري، فقال زوجها وهو يساعدها على الركوب: ليس خبيثًا هذا الحمار.
فابتسمت لهذا الكلام لأن الحمار الذي تحسن معاملته لا يكون خبيثًا، فإننا لا نكون مُغْضَبِين عنيدين إلا إذا أردنا أن ننتقم ونجازي على ما يُصَبُّ علينا من الأذى والإهانة، أما إذا عُومِلْنَا برفق فإننا نكون طيبين أحسن من كل أنواع الحيوان.
وذهبت مع هذه المرأة وطفلها إلى منزلها، وكان الطفل جميلًا عمره سنتان، فأحبني ولاطفني وأراد أن أبقى عندهم، ولكني فكرت في أن هذا لا يكون من الشرف، فإن سيدتي هي التي اشترتني فأنا مملوك لها، ولقد هشمت أنفها وخلعت يدها وآذيت معدتها وهذا كافٍ في الانتقام.
وأدركت أن الأم تهم بموافقة طفلها على استبقائي عندها فأسرعت فقفزت من جانبها، وقبل أن تستطيع اللحاق بي لتمسك لجامي ركضت حتى وصلت إلى المنزل.
وكان أول من أبصرني مارييت بنت سيدتي، فقالت: هذا كديشون، وقد عاد اليوم مبكرًا، يا جول اخلع عنه البردعة، فقال جول: كثيرًا ما يشغلنا هذا الحمار، وإلا فلماذا عاد وحده؟ أنا أراهن على أنه هرب. وشتمني ثم ضربني برجله على فخذي، وقال: لو تحققت أنك فررت من السوق لضربتك مائة ضربة.
وخلع عني البردعة واللجام فابتعدت راكضًا، ولم أكد أتوغل في المزرعة حتى سمعت أصواتًا من جهة العزبة، فتلفت فرأيت سيدتي قد عادت محمولة، وكان أولادها يصيحون فأصغيت لما يقولون، فسمعت جول يقول لأبيه: إنني سآخذ كرباج العربجي، وسأربط الحمار في شجرة وأضربه حتى يسقط على الأرض.
فقال له أبوه: اذهب ولكن لا تقتله، فنفقد الثمن الذي دفعناه، وإنني سأبيعه في السوق القادم.
وبقيت مضطربًا من الخوف لما سمعت حين أبصرت جول يجري إلى الإصطبل يبحث عن الكرباج، وصار الأمر واضحًا وتوقعت الأذى فلم أفكر هذه المرة في استفادتهم من الثمن الذي اشتروني به، وركضت إلى الزريبة التي تحجبني عن النظر، وجريت بسرعة وقوة حتى كسرت في طريقي كثيرًا من فروع الأشجار ووصلت إلى آخر المزرعة، ثم جريت في الغيط، واستمررت أجري طويلًا وأسرع كثيرًا وأنا أحسب أنهم يطاردونني، وأخيرًا حين عجزت عن الاستمرار في الجري وقفت وأصغيت فلم أسمع شيئًا، وصعدت ربوة فلم أرَ أحدًا فنعست واسترحت وابتهجت بتخلصي من شراسة هؤلاء الفلاحين.
ولكني سألت نفسي: ماذا يكون من أمري، فإذا بقيت في البلد فسيعرفونني وسيمسكونني، ثم يرسلونني إلى العزبة؟ فماذا أصنع، وأين أذهب؟!
ونظرت حولي فرأيت نفسي وحيدًا بائسًا وبكيت حالتي المحزنة، وكنت على مقربة من غابة جميلة فانتعشت وقلت إنني سأجد في هذه الغابة الحشيش الرطب والماء وما أشتهي من غذاء، فأقمت فيها أيامًا ثم ذهبت إلى غابة أخرى بعيدة جدًّا عن عزبة سادتي.
ودخلت هذه الغابة، ثم أكلت الحشيش المبسوط على الأرض بلذة، وشربت الماء الجاري من نبع عذب بهناء.
واقترب الليل فاضطجعت على بساط أخضر من الطحلب بجانب شجرة صنوبر، ونمت هادئًا إلى اليوم التالي.