الكلب ميدور
عرفت الكلب ميدور من زمن بعيد، كنت حَدَثًا صغيرًا وكان هو أيضًا حدَثًا حين تعارفنا وتحاببنا، وكنت حينئذ أعيش عيشة البؤس عند أولئك الفلاحين الذين اشتروني من بائع حمير، وهم الذين تخلصت منهم بكثير من المهارة.
وكنت نحيفًا لأنني كنت دائمًا أتألم من الجوع، أما ميدور فقد كان يُعَامَل معاملة كلاب الحراسة وكان من أحسنها وأقواها، ولذلك كان أقل بؤسًا مني، وكان يسلي الأطفال الذين يعطونه خبزًا ولبنًا.
وفوق ذلك فإنه اعترف لي أنه حين يدخل إلى مخزن اللبن مع سيدي أو مع الخادم، فإنه كان يجد الفرصة لتجرُّع ما يصل إليه من اللبن أو القشدة، وأن يفوز بكثير من قطع صغيرة من الزبدة التي تتناثر من أوعيتها.
وكان ميدور طيبًا، فإنه أشفق عليَّ لنحافتي وضعفي، وأحضر إليَّ ذات يوم قطعة من الخبز وقدمها إليَّ بهيئة الظافر، وقال لي بلسانه: كُلْ هذا، فإن عندي كثيرًا من الخبز الذي يعطونه إياي لأجل غذائي، أما أنت فليس عندك إلا قليل من الشوك والحشائش التي تكاد تكفي لإمساك الرمق.
فأجبته: إنك طيب يا ميدور، ولقد تكلفت من أجلي كثيرًا، وإنني شاكر لمجهودك، ولكنني لست كما تظن كثير التألم، فقد تعودت الإقلال من الطعام والنوم والإكثار من العمل، وكثيرًا ما ذقت الضرب وتحملت العناء.
فقال ميدور: أنا لم أتكلف شيئًا، وإنني أؤكد لك أني غير جائع، وأرجو أن تبرهن لي على محبتك إياي بقبولك هذه التقدمة الصغيرة، هي شيء قليل ولكني أقدمه لك بسرور، وإذا رفضت فإنني أستاء منك.
فأجبت: قبلت إذن لأنني أحبك، وأؤكد لك أن هذا الخبز لازم لي فإنني جائع كثيرًا. وأكلت خبز ميدور الكريم، وكان مسرورًا وهو ينظر إليَّ وأنا أمضغ وأبلع، ووجدت لذة في هذه الأكلة التي لم أكن متعودًا مثلها.
وذكرت ذلك لميدور مع حسن اعترافي بصنعه الجميل، واقتضى هذا الرضا والشكر أنه استمر على أن يحضر لي في كل يوم أكبر قطعة من الخبز الذي يقدمونه له.
وكان يجيء ليلًا وينام بقربي تحت الشجرة، أو على النبات الذي أستحسن أن أقضي الليل فوقه.
وكنا نتفاهم حينئذ ولا يسمعنا أحد، لأننا كنا نتحدث بغير كلام فنحن الحيوانات لا ننطق بكلمات مثل الناس، ولكنَّا نتفاهم بلحظات العيون وبحركات الرءوس والآذان والأذيال، ونتفاهم بها فيما بيننا كما يتفاهم الناس بالكلام.
وفي ذات ليلة رأيته عائدًا إليَّ حزينًا مكتئبًا، وقال لي: يا عزيزي، إنني أخشى ألَّا أستطيع في المستقبل أن أحضر إليك ما تعودت من الخبز، لأن سادتي قرروا أنني كبرت ولم يعد من اللازم أن أكون مطلق السراح طول النهار، ولذا فلا يُحَلُّ رباطي إلا في الليل لأجل الحراسة. وفوق ذلك فإن سيدتي عنَّفت الأطفال على ما كانوا يعطونه إياي من الخبز الكثير، ومنعتهم من أن يعطوني شيئًا في المستقبل لأنها تريد أن تطعمني بنفسها طعامًا قليلًا، وذلك في زعمها يجعلني كلب حراسة مقتدر.
فقلت له: يا حبيبي ميدور، إذا كان الخبز الذي كنت تحضره إليَّ هو الذي يكدرك فتأكد أنني الآن لست في حاجة إليه.
وذلك لأنني اكتشفت في هذا اليوم فتحة صغيرة في مخزن الدريس (البرسيم الناشف)، وقد سحبتُ قليلًا منه، وأظن أن في إمكاني أن أتناول منه كل يوم كفايتي.
فأجاب ميدور: إنني مسرور بما تقول، ولكني أُسَرُّ كثيرًا إذا قاسمتك ما يصل إليَّ من الخبز، ويحزنني كثيرًا أن أكون مربوطًا طول النهار فلا أستطيع أن أراك.
ثم تحادثنا أيضًا مدة من الزمن وتركني متأخرًا.
وكان فيما قاله لي: إنني عندي الوقت الطويل لأنام نهارًا، وأما أنت فليس عندك ما تصنعه في هذا الفصل.
ومضى نهار اليوم التالي دون أن أرى وجه هذا الصديق، فلما جاء الليل انتظرت بصبر نافد، ثم سمعت صوته فركضت نحو الزريبة فرأيت الفلاحة الخبيثة تقبض عليه من جلد رقبته، وكان جول وهي تمسكه يضربه بكرباج طويل.
فوثبت داخل الزريبة من شرم لم يكن مقفولًا، وألقيت نفسي على جول وعضضته في ذراعه بحالة اضطرته إلى إلقاء الكرباج من يده، وأفلتت الفلاحة الكلب ميدور من يدها فنجا، وهذا هو الذي أردته، ولذلك تركت ذراع جول بعد تركها رقبة ميدور. وبينما أنا عائد إلى مكاني، شعرت بمن يقبض على أذني، وكانت هي الفلاحة، قبضتْ عليَّ بيديها وصرختْ في وجه جول وهي تقول: أعطني الكرباج الكبير وأنا أؤدب هذا الحيوان الشرس الذي لم أرَ أرذل منه في الدنيا، هات الكرباج أو اضربه أنت بنفسك.
فأجابها جول: أنا لا أستطيع تحريك ذراعي، فإن العضة خدَّرتها وهي تؤلمني ألمًا شديدًا.
فقبضت الفلاحة بيديها على الكرباج الساقط على الأرض وسعت نحوي لكي تنتقم مني لابنها المجرم، ولم أكن أحمق لأنتظر أذاها كما يمكن أن تفتكروا ذلك، فقفزت قفزة شديدة حين هَمَّتْ أن تقبض عليَّ، فاستمرتْ تتبعني واستمررت في الجري تخلصًا منها، مجتهدًا في أن أكون بعيدًا عن مدى الكرباج الذي في يدها، وراق لي هذا الجري كثيرًا، ورأيتُ غضب الفلاحة يتزايد حتى تعبتْ، وذلك لأنني أتعبتها في الجري حتى سال منها العرق، فلم تقدر أن تصل إليَّ بشر، ولم تستطع أن تضربني ولا بطرف الكرباج لشدة ما نالها من التعب.
وسرني أني قد أخذت لصديقي بثأره.
وبحثت عنه بنظري لأنني رأيته يجري حول الإصطبل، ولكنه كان ينتظر حتى تغيب عن نظره سيدته القاسية.
وسمعتها تصيح وهي مغضبة تقول لي: سأنتقم منك وأجازيك أشد الجزاء حين تكون تحت البردعة.
وبقيت وحدي، ورأيت ميدور يخرج رأسه بخوف وحذر من الحفرة التي كان قد اختبأ فيها، فركضتُ نحوه وقلت له: لقد ذهبتْ.
ثم سألته: ماذا فعلتْ بك؟ ولماذا أذنتْ لجول بضربك؟
فأجاب: ذلك لأنني قبضت على قطعة خبز ألقاها بعض الأولاد على الأرض، فلما رأتني نهضت إليَّ ونادت جول وأمرته أن يضربني بغير رحمة.
وسألتُه: ألم يوجد من فكر في الدفاع عنك؟!
فقال منكرًا: هم يفكرون في الدفاع عني؟! كلا، فإنهم بمجرد رؤيته يحمل الكرباج ويهم بالضرب تصايحوا: اضربه يا جول، لكيلا يعود إلى ما كان منه. وأجابهم جول: إنني لا أتركه حتى تسمعوا صياحه، فلما صرخت أول مرة صراخ الاستغاثة من شدة الضرب صفقوا بأيديهم وقالوا: برافو! برافو! اضرب ثانيًا.
فتأسفتُ وقلتُ: ملاعين هؤلاء الصغار، ولكن قل لي يا ميدور لماذا أخذت تلك القطعة من الخبز؟ ألم تكن تناولتَ فطورك؟
فأجاب: نعم، كنت أفطرت، ولكن الخبز الذي كان في فطوري كان قليلًا جدًّا لا يكاد يكفيني، ولو كنت استطعت أن أنقل إليك تلك القطعة الكبيرة التي ضُرِبْتُ من أجلها، لكنت أحضرتُ لك أكلة لذيذة.
فقلت: مسكين يا صديقي ميدور! إذن كان ضربك من أجلي، أشكرك يا صديقي، ولا أنسى مودتك وفضلك، ولكن أرجو ألَّا تعود لمثل هذا. وهل تظن أن هذا الخبز يلذُّ لي إذا كان يسبب لك ألمًا؟! أنا أفضِّل ألَّا أعيش إلا بالحشائش والشوك وأنْ أعلم أنهم يحسنون معاملتك.
ثم تحادثنا أيضًا طويلًا، وطلبت منه ألَّا يعرض نفسه بعد هذه المرة للأذى من أجلي.
ثم إنني في نفس اليوم أوقعت جول وأخته في حفرة مملوءة بالماء، وتركتهما يتخبطان فيه وتخلصت. وفي مرة أخرى تتبعت الطفل الذي عمره ثلاث سنوات بحالة أوهمته أنني سأعضه، فصاح وجرى وهو مرعوب. وفي مرة ثالثة كان على ظهري حمل من البيض، فتظاهرت بأن عندي مغصًا وصرت أدور في الطريق وأجري حتى تكسر أكثر البيض.
ومع أن الفلاحة كانت مغتاظة فإنها لم تجسر على ضربي، فإنها ظنت أنني كنت حقيقة مريضًا وحسبتْ أنني سأموت، وأن الثمن الذي دفعوه في شرائي سيضيع عليهم، فبدلًا من أن تضربني أخذتني برفق وأحضرت إليَّ شعيرًا ونُخَالة، ولم ألقَ في حياتي أحسن من هذه الرحلة. وفي المساء حدثت ميدور بكل ما جرى فاستلقينا من الضحك.
وفي مرة رابعة رأيت كل ثياب الفلاحة منشورة على الحبال، فأخذتها بأسناني قطعة فقطعة ثم ألقيتها في حفرة مملوءة بالماء القذر ولم يرني أحد، فلما رجعت الفلاحة لم تجد الغسيل على الحبال، وبعد بحث طويل وجدَتْها في ذلك المستودع فتغيظت كثيرًا وضربتِ الخادم، والخادم ضربتِ الأولاد، والأولاد ضربوا القطط والكلاب والخرفان، وكانت موقعة لطيفة لديَّ لأنهم كانوا كلهم يضجون ويلعنون وهم مغتاظون. وضحكنا كثيرًا في مساء ذلك اليوم أنا وميدور.
ولما تفكرت فيما جرى مني ندمت كثيرًا، لأنني جازيت الأطفال الأبرياء بذنوب غيرهم، وعاتبني ميدور على ذلك ونصحني بأن أكون أحسن أخلاقًا، ولكني لم أصغِ إليه بل ازددت سوءًا عُوقِبْتُ عليه عقابًا شديدًا كما سترى أيها القارئ.
ففي يوم من أيام البؤس والشقاء والحزن، مرَّ رجل فرأى ميدور فناداه ولاطفه، ثم توجه إلى صاحب المزرعة واشتراه منه بمائة فرنك، وكان صاحب المزرعة فرحًا مسرورًا لأنه يعرف أنه يشتري كلبًا آخر ببعض هذا الثمن.
وفي الحال رُبِط صديقي بحبل وقاده سيده الجديد، وذهب وهو ينظر إليَّ نظرة حزن وأسف على الفراق، فجريت كثيرًا ودرت في أنحاء الزريبة لكي أجد ممرًّا أخرج منه فلم أجد، وأسفت كثيرًا لأنني لم أستطع القيام بتوديع صديقي وتشييعه في سفره.
ومنذ ذلك اليوم اشتد بي الضجر، وكان هذا بعد حادثة السوق بمدة وبعد هروبي إلى الغابة، وفي أثناء السنين التالية لذلك فكرت كثيرًا في صديقي، ولكن أين أجده وقد عرفت أن سيده الجديد لم يكن يسكن البلدة، وأنه لم يكن جاءها إلا لرؤية صديق له؟
ولما قادني جاك نحو جدته دُهِشْتُ دهشةً عظيمة حين أبصرت صديقي ميدور عندها، وكانت دهشة عظمى للناس جميعًا حين أبصروا ميدور يهرول نحوي ويتودد إليَّ وأنا أتبعه حيث كان، وظنوا أن ذلك الفرح من ميدور كان سببه أنه وجد له رفيقًا في النزهة.
ولو أنهم كانوا يستطيعون أن يعرفوا محادثتنا، لفهموا ما بيننا من المودة والإخاء. وصار ميدور مسرورًا من كل ما قصصتُ عليه؛ من معيشتي الهادئة البسيطة، ومن طيبة أسيادي، ومن شهرتي المجيدة في البلد بعد حادثة السباق.
وكان يتألم معي إذا حكيت له ما أصابني من المتاعب، وكان يضحك وهو يعتب عليَّ لتلك الأفعال التي فعلتها مع تلك الفلاحة التي اشترتني، ثم يأسف على ما سمع من جحود أهل باولين وإنكارهم جميلي في إنقاذ بنتهم من النار، وذرفتْ عيناه دمعة حارة حزنًا على تلك الطفلة المسكينة.
ولم يفتْه الانتقاد على الأم ترانشيه لأنها تركتني بعد فوزي لها بالجائزة وإن كان لها عذر من الفقر.