السفينة
تحدث جاك مع إخوانه فقال: ما أحسن أن يكون لنا دائمًا غداء لذيذ كالذي كان في الأسبوع الماضي، لقد كان سائغًا مستحسنًا.
فأجاب لويس: تذكر كيف كان مع ذلك غذاء جيدًا تامًّا.
فقالت كاميل: إن الذي أعجبني هو سلطة البطاطس والتوابل، التي كان ما فيها من الخل يجعلها شهية.
فردت عليها مادلين: أنا أعرف السبب، ذلك لأن والدتك تمنعك غالبًا عن الطعام الذي فيه شيء من الخل، والإنسان يشتهي ما غاب عنه.
فقالت كاميل: هذا جائز، فإن الأشياء التي يندر تناولها تظهر أحسن من غيرها، خصوصًا إذا كان الطبع يشتهيها.
وقال بيير: أي شيء تختارون اليوم أن نتسلى به؟
فهذا يوم الخميس يوم الفسحة وعندنا راحة إلى وقت الظهر.
فقال هنري: هيا بنا نصطاد سمكًا من البحيرة الكبيرة.
فقالت كاميل: فكرة طيبة، وبذلك يكون عندنا لطعام الغد طبق من السمك اللذيذ.
فقالت مادلين: كيف نصطاد؟ هل عندنا أدوات صيد؟
فأجاب بيير: عندنا صنارات كثيرة، والذي ينقصنا هو القضبان التي يكون في طرفها الخيط الذي تُرْبَط الصنارة به.
فقال هنري: يمكن أن نطلب من الخادم أن يشتري لنا ما يلزم من القرية.
فأجاب بيير: ذلك لا يوجد في القرية، ولا بد من الذهاب إلى المدينة وهي بعيدة.
وقالت كاميل: هذا أوجست مقبلًا، ولعل عنده ما يلزم لنا أو هو يذهب مع الخادم.
فقال جاك: أنا أذهب ولكن مع كديشون.
فقال هنري: لا يمكنك أن تذهب بعيدًا هكذا وحدك.
فأجاب جاك: ليس بعيدًا جدًّا، فالمسافة نصف فرسخ.
ووصل أوجست فقال: ما الذي تريدون أن تبحثوا عنه مع كديشون يا إخواني؟
فأجاب بيير: نبحث عن قضبان وخيوط للصيد، فهل عندك منها؟
فقال أوجست: ليس عندي، ولكن لا نحتاج للذهاب بعيدًا لأجل الحصول عليها، فبالسكين يمكننا أن نصنع من الأغصان ما نريد من القضبان.
فقال هنري: هذا صحيح، وكيف لم نفكر في ذلك مع بساطته؟
فقال أوجست: هيا بنا نقطع ما يلزم لنا من الغابة، وهل معكم المطاوي؟ أما أنا فمعي واحدة في جيبي.
فقال بيير: أنا عندي واحدة جيدة أحضرتها إليَّ كاميل من لندرة.
وقال هنري: وأنا عندي واحدة أهدتها إليَّ مادلين.
وأجاب جاك ولويس بأن كلًّا منهما يحمل واحدة أيضًا.
فقال أوجست: تعاليا معنا إلى الغابة، وفي أثناء قطعنا القضبان تنزعون أنتم القشر والأغصان الصغيرة منها.
وقالت كاميل ومادلين وإليزا: ونحن؟ ماذا نصنع في أثناء ذلك؟
فأجاب بيير: تصنعن باقي ما يلزم للصيد، فتحضرن خبزًا ودودًا وصنارات.
ثم قام كلٌّ منهم إلى عمله.
أما أنا فاتجهت بهدوء إلى البحيرة، وانتظرت وصول الأطفال مدة نصف ساعة، ثم رأيتهم قادمين ومعهم كل ما يلزمهم لأجل الصيد.
فقال هنري: أظن أنه يلزم أن نضرب في الماء لكي يعلو السمك بقرب سطحه.
فأجاب بيير: كلا، بل يلزم الهدوء التام، لأن السمك يهرب إلى قرار الماء إذا أخفناه.
فقالت كاميل: أظن أن الأحسن أن نجلب الأسماك إلينا بإلقاء قطع صغيرة من الخبز.
فأجابت مادلين: ولكن يلزم أن يكون ما نلقيه قليلًا فإننا إذا أكثرنا لا يعود السمك جائعًا، ومتى كان غير جائع لا يقبل على ما في الصنارة.
فقالت إليزا: انتظروا، واتركوني أجهِّز قطع الخبز في أثناء تركيبكم الصنارات.
وأخذت إليزا الخبز، وبمجرد إلقائها قطعًا منه صعد إلى سطح الماء نحو ست سمكات، ولما رأت ذلك إليزا ألقت أيضًا خبزًا، فتبعها لويس وجاك وهنريت وجان، وأرادوا مساعدتها في الإلقاء أيضًا، فألقوا كثيرًا منه حتى شبع السمك ولم يعد يمسها.
فقالت إليزا بصوت خافت تخاطب لويس وجاك: أخشى أن نكون ألقينا الكفاية من الخبز.
فقال جاك: كيف هذا؟ بل سيأكل الباقي في هذا المساء أو غدًا.
وقالت إليزا: ولكن أنا أخشى أن السمك لا يعض في الصنارات لأنه لم يعد جائعًا الآن؟
فقال جاك: إذا صح هذا فإن أقاربنا لا يكونون مسرورين.
فقالت إليزا: لا تقولوا لهم شيئًا، هم مشغولون بالصنارات، ومع ذلك فربما كان السمك يعض في الطُّعْم.
وأقبل بيير وقال: ها هي الصنارات جاهزة، فليأخذ كل واحد منا وليلقِ في الماء صنارته.
فأخذ كل واحد صنارة وألقاها في الماء كما قال بيير، وانتظروا بضع دقائق ساكتين حذرًا من الضوضاء، ولكن السمك لم يعض في شيء منها.
فقال أوجست: ليس هذا الموضع موافقًا فلننتقل إلى مكان آخر.
وقال هنري: يظهر أنه لا يوجد هنا سمك، فقد ألقينا كثيرًا من قطع الخبز ولكنها باقية لم تُؤْكَل.
فقالت كاميل: هيا إلى طرف البحيرة بجانب السفينة.
فأجاب بيير: الماء هناك عميق جدًّا.
فقالت إليزا: وماذا تخشى من ذلك، أتحسب أن السمك لا يعوم هناك؟
فقال بيير: لا أخاف هذا، ولكن أخاف على أنفسنا إذا سقط منا واحد في الماء.
فأجاب هنري: وكيف تخاف؟ نحن لا نقترب من الشاطئ كثيرًا لكيلا نصل إلى المكان العميق.
فقال بيير: هذا صحيح، ولكني لا أحب أن الأطفال الصغار يذهبون إلى هناك.
فقال جاك: يا سلام، يا بيير دعني أذهب معك، وليكن جلوسنا بعيدًا عن الشاطئ.
فقال بيير: كلا، يجب أن تبقى في مكانك هذا، ونحن نعود لنأخذكم إذا اقتضى الحال، لأنني لا أظن أنه يوجد هناك سمك أكثر مما يمكن أن يوجد هنا. ثم خفض صوته وزاد فقال: ولكن الحق عليكم إذا نحن لم نحصل على شيء، فإنني رأيتكم وأنتم تلقون من الخبز في الماء أكثر من اللازم حتى ضاعفتم الخبز أكثر مما ينبغي عشر مرات، وأنا لا أريد أن أذكر ذلك لهنري وأوجست وكاميل ومادلين، ولكن من العدل أن تلقوا جزاء ما كان منكم من الطيش.
وامتثل الأطفال فلبثوا في ذلك المكان مؤمِّلين أن يصطادوا بعضًا من السمك فيه.
أما أنا فتبعت بيير وهنري وأوجست في ذهابهم إلى طرف البحيرة، فألقَوْا أدوات صيدهم فلم يجدوا من النجاح فوق ما كان هناك، فغيروا مواقفهم وجربوا الصنارات ولكن لم يظهر لهم سمك.
فقال أوجست: يا إخواني، عندي فكرة ناجحة هي أننا بدلًا من أن ننتظر أن السمك يجيء وحده حتى نأخذه، يمكننا أن نصطاد منه ١٥ سمكة مرة واحدة.
فقال بيير: كيف نعمل لنستطيع أن نصطاد منه ١٥ في مرة واحدة، مع أننا لم نقدر أن نصطاد سمكة واحدة؟!
فأجاب أوجست: ذلك بواسطة شبكة الصيد.
فقال هنري: لكن ذلك عمل صعب، فإن أبي يقول إنه يجب أن يعرف الإنسان كيف يلقي الشبكة.
فقال أوجست: صعب؟! أي صعوبة؟! أنا ألقيت الشبكة عشر مرات وعشرين مرة، وإلقاؤها سهل.
فسأل بيير: وهل أخذت بها كثيرًا من السمك؟
فأجاب أوجست: كلا، لم آخذ شيئًا من السمك لأنني لم ألقها في الماء!
فقال بيير: فكيف إذن؟! وأين ألقيتها؟
فأجاب أوجست: كان ذلك على الخضرة وعلى الأرض، وذلك لكي أتعلم كيف ألقيها.
فقال بيير: ولكن ليس الأمر واحدًا في الحالتين، وأنا أظن أنك إذا ألقيتها في الماء سيكون إلقاؤك رديئًا.
فقال أوجست: أنت تظن أنني أرمي الشبكة رميًا رديئًا؟ سترى إذا كنت أطرحها رديئًا أو جيدًا إذا أنا أحضرت الشبكة المنشورة في الحوش.
فقال بيير: لا يا أوجست، فأنا أخشى أنه إذا حدث أمر أن أبي يعنفنا.
فأجاب أوجست: وماذا تظن أنه يحدث ما دمت قد عرفتك أنهم عندنا يصطادون كثيرًا بالشبكة؟ أنا ذاهب، فانتظرني ولن أغيب.
ثم ذهب يجري وترك بيير وهنري وهما غير مطمئنَّيْن، ولم يلبث حتى عاد وهو يجر وراءه الشبكة، وقال وهو يبسطها على الأرض: الآن فليحذر السمك. ثم ألقاها بنظام وسحبها بتحفظ وتمهل.
فقال له هنري: اسحب بسرعة لأجل أن تنتهي.
فقال أوجست: كلا، بل يجب التمهل والهدوء لكيلا تتقطع الشبكة ولا تفر منها سمكة واحدة. واستمر في سحب الشبكة، ولما تم اجتماعها عنده كانت كلها فارغة ولم يُؤْخَذ فيها شيء من السمك.
فقال: إن مرة واحدة لا تُحْسَبُ، ولا يجوز اليأس، وسأعاود.
وعاود إلقاء الشبكة، ولكن لم يزد نجاحه في المرة الثانية عن الأولى.
فقال: عرفت السبب، ذلك لأنني قريب جدًّا من الشاطئ وليس فيه الماء الكافي، سأدخل في السفينة ونظرًا لأنها طويلة فسأكون بعيدًا عن الشاطئ، وبذلك يمكنني أن أبسط الشبكة كما ينبغي في الماء العميق.
فأجاب بيير: كلا يا أوجست، لا تفعل، ولا تذهب إلى السفينة ومعك الشبكة، فربما اختلطت بالحبال وربما انقلبتَ أنت في الماء.
فقال أوجست: أنت خائف كأنك طفل عمره سنتان، أنا أشجع منك وسترى. ثم تقدم إلى السفينة وطلع عليها وتجوَّل فيها يمينًا ويسارًا، وتبيَّن فيه الخوف وإن كان متظاهرًا بالضحك. وأَوْجَسْتُ خيفة من سوء تصرفه فتشبث بأن يلقي الشبكة، ولم يُحْسِنْ إلقاءها لأنه كان مضطربًا غير متوازن الجسم بحركة السفينة، فلم يتمكن من إجادة القبض بيديه على أطراف الشبكة فالتفَّت على قدميه.
وحمله الزهو مع ذلك على أن يحملها ثم يلقيها، ولكنه وقف فجأة خائفًا من السقوط في الماء، فتعلقت الشبكة بكتفه اليسرى والتفَّتْ عليه وهزَّتْه هزة شديدة رمت به إلى البحيرة، وكان رأسه أول ما لمس الماء.
فصاح هنري وبيير صيحة فزع، أعقبها صراخ الخوف والجزع الذي صرخه المسكين أوجست حين سقوطه وقد التفَّتْ عليه الشبكة وعاقته عن الحركة، فلم يتمكن من العوم ليعلو على سطح الماء ويقترب من الشاطئ، وكان كلما حاول نفض الشبكة عنه كانت تشتد التفافًا على جسمه، فأبصرته يغرق في الماء شيئًا فشيئًا ولم يمضِ إلا وقت قليل حتى غمر جسمه.
ولم يكن بيير وهنري يستطيعان أن يقدما له أي مساعدة لأن كلًّا منهما لا يعرف العوم، ولاحظت أنه إذا تأخر إنقاذ أوجست حتى يتجمع الناس فإنه يكون قد هلك.
فلم أقصر ولم أضيع الوقت قيامًا بواجبي، فبادرت وألقيت بنفسي في الماء وسبحت نحوه ثم طفوت لأنه كان على عمق كبير من الماء، ثم قبضت بأسناني على الشبكة التي كانت محيطة به وسبحت نحو الشاطئ وأنا أجره ورائي وكان وجهه وشعره يقطران ماءً.
وكنت حذرًا من أن يصطدم بحجر أو بجذع شجرة وأنا أجره، حتى وصلت به إلى الخضرة فأبقيته فوقها ولكنه كان جامدًا لا يتحرك.
وكان بيير وهنري مضطربين فتقدما نحوه، وخلَّصاه بجهد شديد من الشبكة التي كانت تضمه وتضغط عليه، ولما أبصرا كاميل ومادلين توجَّها إليهما وطلبا منهما السعي في طلب المساعدة.
وأقبلت الأطفال الصغار التي شاهدت عن بعد أوجست وهو يسقط.
ولم يتأخر خدم المنزل عن المجيء فحملوا أوجست، ومكث معي الأطفال وحدهم.
فقال لي جاك: أحسنت يا كديشون، فإنك خلَّصت حياة أوجست. ثم التفتَ إلى إخوانه وقال: أرأيتم كلكم بأي شجاعة ألقى كديشون نفسه في الماء؟
فأجاب لويس: نعم، شاهدنا ذلك، ورأينا كيف كان يعوم لتخليص أوجست.
وقالت إليزا: وكيف قاده بلطف إلى البر!
وقال جاك: مسكين كديشون! فإنه مبلول بالماء الكثير.
فقالت هنريت: لا تلمسه يا جاك لئلا يبل ثيابك، ألا ترى الماء يسيل من جسمه من كل ناحية؟
فقال جاك: وماذا في الأمر إذا كنتُ أبتل بالماء؟ ثم طوَّق رقبتي بيديه وقال: إذا بلَّني الماء فهو لا يبلغ مقدار ما بلَّ كديشون.
فقال لويس: أحسن من أن تعانق كديشون وتثني عليه أن تقوده إلى الإصطبل، حتى تستطيع هناك أن تنشف جسمه وأن تقدم إليه الشعير استجماعًا لقوته.
فقال جاك: هذا صحيح، ومعك الحق، تعالَ يا كديشون.
وتبعتُ جاك ولويس في ذهابهما إلى الإصطبل بعد أن أشارا إليَّ بأن أتبعهما، فلما دخلنا الإصطبل أقبل الطفلان يجتهدان في تنشيف جسمي، وكانا يفركانه بقبضة من القش. ولما تم التنشيف جاءت هنريت وجان بمشط فسرَّحا شعر رأسي وذيلي، فكنت بعد ذلك على أحسن حال وتناولت بشهية حسنة كل ما قدموه إليَّ من الشعير.
وفي أثناء ذلك قالت هنريت بصوت خافت تخاطب جان: كديشون عنده شعير كثير جدًّا.
فأجابت: لا بأس بالزيادة، فهو طيب جدًّا وهي مكافأة له.
فقالت جان: أنا أستحسن أن نقدم له قليلًا منه.
فقالت هنريت: لماذا؟
فأجابت جان: لكي نعطي للأرانب التي ليس عندها شعير، وهي تحبه كثيرًا.
فقالت هنريت: إذا أبصرك جاك ولويس وأنت تأخذين الشعير من كديشون فإنهما يوبخانك.
فقالت جان: هما لا يرياني، لأنني أنتظر حتى لا ينظرا إليَّ ثم آخذ.
فقالت هنريت: إذن تكوني سارقة، لأنك تسرقين الشعير من كديشون المسكين الذي لا يستطيع أن يشكو لأنه لا يقدر أن يتكلم.
فأجابت جان وهي متأثرة: هذا صحيح، ولكن أرانبي تكون مسرورة إذا حصلت لها على شيء من الشعير.
ثم جلست بقربي تنظر إليَّ وأنا آكل.
فقالت هنريت: لماذا تجلسين هنا يا جان؟ تعالي معي نسأل عن أخبار أوجست.
فأجابت جان: أنا أفضل أن أنتظر حتى يفرغ كديشون من أكله، فإذا بقي منه شعير أحمله للأرانب وبذلك لا أكون سرقته.
فحاولت هنريت أن تأخذها معها فلم تقبل، فتركتها وذهبت. واستمرت جان تنظر إليَّ وتراقبني وأنا آكل وكأنها كانت تقول: أنا خائفة أن يأكل الشعير كله، وليته كان يبقي منه قليلًا! فإنني أكون مسرورة وآخذ ما يتركه لأجل الأرانب.
فأكلت أكثر ما كان أمامي، ولكنني أشفقت على تلك الطفلة الصغيرة، وأعجبني منها أنها لم تمس شيئًا من طعامي مع شدة رغبتها في إطعام أرانبها، ولذلك تظاهرت بأنني شبعت ورفعت رأسي تاركًا بعض الشعير إرضاءً لها. فلما أبصرتْ ذلك فرحتْ كثيرًا، وقامت إلى مكان الشعير فأخذت منه بيديها، ووضعته في طرف مريولها الأسود، وقالت: ما أكرمك وما ألطفك يا كديشون! أنا ما رأيت في حياتي حمارًا أحسن منك، ومن أحسن طباعك أنك لستَ شرهًا تحب الأكل الكثير، وكل الناس يحبونك لأنك طيب وكريم، والأرانب ستكون مبتهجة، وأنا سأقول لها إنك أنت الذي أبقيت لها الشعير. ثم ذهبت وهي تجري.
ورأيتها حين وصلتْ إلى مأوى الأرانب وسمعتها وهي تحكي لهم كيف أنني كنت كريمًا وطيبًا وأنني لم أكن نهمًا، وأنها ستكون مثلي، وأنه ما دمت أنا أبقيت من طعامي للأرانب فيجب على الأرانب أن تبقي من الشعير لصغار الطيور.
ثم قالت للأرانب: وسأعود قريبًا لأرى إذا كنتم قنوعين، وإذا كنتم صنعتم كما صنع كديشون. ثم أغلقت الباب على الأرانب، وذهبت تسأل عن أوجست، فتبعتُها لكي أطمئن على هذا المسكين، فلما اقتربت من المنزل سَرَّني أنني رأيت أن أوجست كان جالسًا على الخضرة مع إخوانه بكل ارتياح. فلما أبصرني قادمًا نهض وتقدم إليَّ وقال ملاطفًا: هذا هو الذي أنقذني، ولولاه لكنتُ هلكتُ، وقد كنت فقدت صوابي في اللحظة التي كان فيها كديشون قابضًا على الشبكة حين ابتدأ يجرني إلى البر، ولكنني رأيته جيدًا حين ألقى بنفسه في الماء وساعة كان يعوم لأجل إنقاذي، فلست أنسى أبدًا المعروف الذي صنعه معي، ولست أحضر إلى هنا مرة أخرى بدون أن أسلم عليه وأشكره.
فقالت جدته: هذا الذي تقوله حق وصواب يا أوجست، فإن الواجب على كل عاقل أن يشكر مَنْ أحسن إليه سواء أكان إنسانًا أم حيوانًا، أما أنا فإنني أتذكر دائمًا الخِدَم التي أداها لنا كديشون، ومهما يكن من الأمر فإنني عزمت على ألَّا أدعه يفارقنا.
فقالت كاميل: لكنك منذ أشهر كنتِ يا جدتي قد عزمت على إرساله إلى المطحنة ليشتغل فيها.
فأجابت الجدة: نعم، ولكنني لم أرسله، إنما خطر ذلك في بالي، وكان السبب ما حدث منه أولًا ضد أوجست حين ألقاه في الحفرة، وكان هذا على أثر عدة شكاوى ضده من سكان المنزل، أما الآن فإنني عزمت على الاحتفاظ به في المنزل مكافأة له على خدماته العديدة، ولست أكتفي ببقائه عندنا بل أريد أن يكون هنا منعَّمًا مستريحًا.
فابتهج جاك وصاح: أشكرك كثيرًا يا جدتي، وأنا أحب أن أكون الشخص الذي يعتني بكديشون، لأنني أحبه وهو يحبني أكثر من الآخرين.
فقالت له جدته: لماذا تريد أن يحبك كديشون أكثر من حبه للآخرين، وليس هذا من العدل أو الشهامة؟!
فأجاب جاك: بل هو العدل يا جدتي، لأنني أحبه أكثر مما يحبه أولاد عمي، وفوق ذلك فإنه حينما كان غير صالح ولم يكن أحد يحبه كنت أنا أحبه قليلًا. ثم أضاف بعد هذه الجملة: وكنت أيضًا أحبه كثيرًا … قالها وهو يضحك ملتفتًا إليَّ قائلًا: أليس كذلك يا كديشون؟
فجئت على الأثر واعتمدت برأسي على كتفه، فضحك جميع الحاضرين. واستمر جاك يقول: ألا ترون يا أولاد عمي، وكيف كنتم تظنون أن كديشون لا يحب غيركم؟
فضحكوا وقالوا: نعم، نعم.
فقال جاك: ألا ترون أيضًا أنني أحب كديشون، وأنني أحببته دائمًا أكثر مما كنتم تحبونه؟
فأجابوا كلهم بصوت واحد: نعم، نعم.
فقال جاك: وأنت ترين يا جدتي أنه نظرًا لأنني أنا الذي جلبت كديشون إلى المنزل، وأنني أحبه أكثر من غيري؛ فمن الحق أن كديشون يحبني أكثر منهم.
فأجابت الجدة وهي ضاحكة: أنا لا أعارض في ذلك وهو يسرني، ولكن إذا كنت غائبًا فمن الذي يعتني بكديشون؟
فبادر جاك وقال: أنا هنا دائمًا يا جدتي.
فأجابت جدته: لا يا عزيزي، فإنك لا تكون هنا دائمًا، لأنك ستذهب مع أبيك وأمك متى ذهبا.
فاكتأب جاك وظل مفكرًا وذراعه ممدودة فوق ظهري ورأسه معتمد على يده، ثم أشرق وجهه فجأة وقال: هل تسمحين يا جدتي بأن تهبي لي كديشون؟
فأجابت: أهبه لك كما تحب يا ولدي العزيز، ولكنك لا تستطيع أن تأخذه معك إلى باريس.
فقال: هذا صحيح، ولكنه سيكون لي، فمتى صار أبي صاحب منزل كبير فإننا نضع فيه كديشون.
فأجابت: أهبه إليك على هذا الشرط، وإلى أن يتم ذلك يعيش هنا، وربما يطول عمره أكثر مني فلا تنسى حينئذ أن كديشون لك، وأنني أترك لك العناية به حتى يعيش سعيدًا.