الحريقة
لم أكد أبدأ في النوم ذات ليلة حتى أيقظني صراخ وأصوات تنادي: الحريق! الحريق! فدعاني الخوف والاضطراب إلى التملص من اللجام الذي كنت مربوطًا به، ولكني حاولت عبثًا، وكانت تدور بي الأرض، لأن ذلك اللجام كان متينًا لا يُقطَع. وأخيرًا اهتديت إلى فكرة حسنة هي أن أقرضه بأسناني، فظفرت بذلك بعد مجهود غير قليل.
وكان لهيب نار الحريق يضيء ما حولي في الإصطبل، وازداد الصراخ وعلا الضجيج، ثم سمعت أصوات الخدم وسقوط الحيطان وطقطقة الأخشاب وملأ الدخان الإصطبل ولم يفكر فيَّ أحد، ولم يخطر في بال أحد شيء عني، ولا فكرة يسيرة بفتح باب الإصطبل لأخرج منه.
وازداد اللهيب شدة وأحسست بحرارة لاذعة.
فقلت في نفسي: لقد قُضِي الأمر وجرى القضاء بأن أموت محترقًا هذا الموت الفظيع، وتذكرت عزيزتي باولين وقلت: يا سيدتي العزيزة، لقد نسيتِ خادمك المسكين كديشون.
ولم تكد تخطر في بالي هذه الكلمة دون أن أنطق بها حتى فُتِح الباب عليَّ بقوة وسمعت صوت باولين وهي تقول: «يسرني أنك نجوت»، فتقدمت نحوها واجتزنا الباب أنا وهي. في لحظة اضطرنا فيها صوت قرقعة السقوف إلى التقهقر، وكانت الأنقاض تملأ كل الممر، وكادت سيدتي الصغيرة تعرض نفسها للخطر بسبب إنقاذي، وأوشكنا أن نختنق من شدة الدخان وتراكم الغبار وهول الحرارة.
وسقطت باولين على الأرض بجانبي، فابتدرت حركة خطرة ولكن فيها وحدها النجاة لنا، فقبضت بأسناني على ثوب سيدتي الصغيرة التي كانت كالمغمى عليها، واقتحمت الممر الذي كان ممتلئًا بالأنقاض الملتهبة التي تغطي الأرض، وكان من حسن حظي أنني استطعت أن أجتاز الممر بدون أن تعلق النار بثيابها. ثم توقفت لأنظر من أي جهة أستطيع أن أسير، وكل ما كان حولنا كان يحترق، ومع أنني كنت يائسًا متضعضعًا من الخوف والاضطراب، فإنني وضعت باولين التي كانت غائبة عن صوابها إلى الأرض وذلك حين لمحت كهفًا مفتوحًا، فتقدمت إليه مطمئنًّا إلى أننا صرنا في مأمن.
فألقيت باولين بجانب وعاء مملوء بالماء لكي تستطيع أن تبل وجهها حين عودتها إلى صوابها، ومن حسن الحظ أنها أفاقت بسرعة.
فلما وجدت نفسها قد نجت، وأنها صارت في مأمن من كل خطر، جثت على ركبتيها وصارت تصلي بخشوع تامٍّ شكرًا لله على النجاة من ذلك الخطر الهائل، ثم التفتت إليَّ برقة واعتراف بالجميل أثَّرا في نفسي كل التأثير.
وشربت قليلًا من الماء وأنصتت، وكانت النار لا تزال متقدة، وكنا نسمع صراخًا وأصواتًا مبهمة دون أن نستطيع تمييز الأصوات.
فقالت باولين: مسكين أبي! ومسكينة أمي! فإنهما سيعتقدان أنني هلكت في سبيل تخليص كديشون مخالِفة أمرهما في التوجه إليه والبحث عنه، فالآن يجب انتظار انطفاء النار. ثم قضينا الليل كله في الكهف، وقالت باولين: إنك طيب يا كديشون، فإنني بك وحدك صرت عائشة، ولم تزد على هذا القول. وكانت جالسة على صندوق متكسر، ورأيت أنها نامت، وكان رأسها مستندًا على برميل فارغ. وأحسست أنا بالتعب وكنت عطشان فشربت الماء الذي كان في ذلك الوعاء، وتمددت بجانب الباب ولم يطل عليَّ الوقت حتى أخذني النوم أيضًا.
واستيقظت ساعة الفجر، وكانت باولين لا تزال نائمة، فأيقظتها بتلطف، وذهبت إلى الباب وفتحته، ونظرت فرأيت كل شيء محترقًا، ورأيت كل شيء منطفئًا، وكان من الممكن اجتياز الطريق والوصول إلى خارج المنزل، ولأجل إيقاظ سيدتي العزيزة همهمت «هي! هان!» ففتحت عينيها ورأتني بجانب الباب، فجرت ونظرت فيما حولها، ثم قالت بحزن: كل شيء قد احترق، وكل شيء قد فُقِد، فلست أعود أرى المنزل فإنني سأموت قبل إعادة بنائه، وهذا ما أشعر به فإنني ضعيفة ومريضة مرضًا شديدًا كما تقول أمي عني.
ثم بعد أن استمرت تفكر مدة وهي لا تتحرك نادتني قائلة: تعالَ يا كديشون، ولنخرج الآن، ومن الواجب أن أرى أبي وأمي لأجل أن يطمئنَّا عليَّ فإنهما يظنان أنني مت.
ومرت بخفة على الحجارة الساقطة والحوائط المتكسرة والكتل التي لا تزال مدخنة، وتبعتها فوصلنا إلى خضرة الحديقة، وهناك صعِدتْ على ظهري واتجهت إلى القرية، ولم يطل علينا الوقت حتى أدركنا المنزل الذي هاجر إليه أهل باولين وهم يظنون أنها احترقت فكانوا لذلك في حزن شديد، فلما أبصروها صاحوا صيحة السرور وأقبلوا عليها فرحين، فَقَصَّتْ عليهم كيف أنني بأي ذكاء وبأي شجاعة عملت على إنقاذها.
وبدلًا من أن يتقدموا إليَّ بشكر، فإن أمها نظرت إليَّ نظرًا شزرًا، أما أبوها فلم ينظر إليَّ أدنى نظر.
وقالت لها أمها: من أجل هذا الحمار كاد يدركك الخطر يا عزيزتي، فلو لم تأخذك حماقة الرغبة في فتح باب الإصطبل لتخليصه لكان توفر علينا الهم الطويل والحزن الشديد في الليلة الماضية التي قاسيناها بحزن أنا وأبوك.
ولكن باولين أسرعت فأجابت: ولكن هو الذي … فبادرتها أمها وقالت: اسكتي، اسكتي، ولا تحدثيني عن هذا الحيوان الذي أبغضه كثيرًا لأنه كاد يسبب لك الموت.
فتنهَّدت باولين ونظرت إليَّ وهي متألمة وسكتت.
ومنذ ذلك اليوم لم أعد أراها، فالاضطراب الذي سببته الحريقة والتعب الذي أصابها في ليلة لم تذقْ فيها طعم الراحة والنوم، وخصوصًا ما أصابها من رطوبة الكهف؛ كل ذلك ضاعف أسباب الألم الذي كانت تشكو منه من زمن، واستولت عليها الحمى منذ الصباح ولم تفارقها، ووضعوها على سرير لم تنزل عنه، وأكمل برد الليلة الماضية الألم والضجر اللذين استوليا عليها، وكانت مريضة بذات الصدر فاشتد عليها المرض ولم تلبث شهرًا حتى ماتت غير آسفة على الحياة ولا خائفة من الموت، وكانت تتحدث عني كثيرًا وتناديني وهي في بُحْرَان الحمى.
ولم يعد أحد يسأل عني ولا يعتني بي، فكنت آكل ما أجد لا ما أشتهي، وأنام في العراء مع شدة البرد والمطر.
ولما رأيت نعش سيدتي العزيزة وهم يخرجون به من المنزل تملَّكني الأسى والحزن، فتركت البلد ولم أعد إليها من ذلك الوقت.