الأصحاب الصالحون
وقضى الله بعد كل ذلك أن أبقى وحدي في المرج فكنت محزونًا، وكان ذيلي المجروح من عضة حمار المسابقة يؤلمني.
ثم شعرت فجأة بيد ناعمة تلاطفني، وسمعت صوتًا جميلًا يخاطبني ويقول: مسكين يا هذا الحمار! إنهم عاملوك بقسوة، تعالَ عند جدتي فإنها تطعمك وتعتني بك أحسن من أولئك الأصحاب القساة، مسكين أنت! ما أشد نحافتك!
فالتفتُّ فرأيت طفلًا جميلًا عمره خمس سنوات، ورأيت أخته التي تزيد عنه ثلاث سنوات وهما يسيران مع مربيتهما.
فقالت روز تخاطب أخاها جاك: ماذا قلتَ لهذا الحمار المسكين؟
فأجاب: قلت له يحضر ليقيم عند جدتنا، لأنه يعيش هنا وحده، وهو بائس.
فقالت أخته: نعم نأخذه، انتظر، أنا أريد أن أركب على ظهره، يا دادتي ساعديني على ركوب الحمار.
فساعدتها المربية، واطمأنت روز على ظهري.
وأراد جاك أن يقودني فلم يكن لي لجام يمسك به.
فقال للمربية: انتظري، سأربط منديلي في رقبته بدل اللجام، وحاول جاك أن يلف منديله حول عنقي ولكنه كان صغيرًا لا يحيط به، فأعطته الدادة منديلها وكان أيضًا صغيرًا لا يكفي.
فكاد جاك يبكي لأنه لم يجد ما يستطيع أن يقودني به، وقال للمربية: ما العمل إذن؟
فأجابته: لنذهب أولًا إلى القرية نطلب لجامًا أو حبلًا، هلمي فانزلي يا روز. ولكن روز تعلقت برقبتي وقالت: لا، أنا لا أريد النزول، أنا أحب أن أبقى فوق ظهره حتى يوصلني إلى المنزل.
فأجابت المربية: كيف ذلك وليس معنا لجام نقوده به؟ وانظري فإنه واقف لا يتحرك كأنه حمار من خشب.
فقال جاك: انتظري يا دادتي وسترين، فأنا أعرف أن اسم هذا الحمار كديشون كما أخبرتني الأم ترانشيه، وها أنا سألاطفه وأقبله وأظنه بعد ذلك سيتبعني بغير لجام.
واقترب مني جاك، وقال لي في أذني بصوت خافت: امشِ يا كديشون، أرجوك أن تمشي؟
فتأثرت بما بدا من هذا الطفل من الثقة بي، ولاحظت أنه بدلًا من أن يطلب عصا يضطرني بها إلى التقدم فإنه فكر في طريقة ودية طيبة، ولذلك لم يكد يتم كلمته السابقة حتى أخذت أسير أمامهم.
فقال جاك: أرأيتِ يا دادتي، إنه يفهم كلامي، وهو يحبني؟ وكان مبتهجًا، وقد احمرَّ وجهه ولمعت عيناه فرحًا، ثم تقدمني ليعرِّفني الطريق، فقالت الدادة: هل تظن أن حمارًا يفهم شيئًا؟ إنه مشى لأنه ملَّ الوقوف هنا، فأجاب جاك: ولكن أنت ترين أنه يتبعني!
فقالت الدادة: ذلك لأنه يشم الخبز الذي في جيبك.
فقال جاك: أتحسبين أنه جائع؟
فأجابت: بغير شك! ألا ترى أنه في غاية النحافة؟
فقال جاك: هذا صحيح، يا كديشون المسكين! وأنا لم أفكر في إعطائه ما معي من الخبز. ثم أخرج من جيبه قطعة الخبز التي أعطتها له الدادة لطعامه في هذه النزهة، وقدمها إليَّ بيده اللطيفة.
ولكنني كنت ممتعضًا من كلام الدادة وظنِّها أنني لم أمشِ إلا تطلعًا إلى ذلك الخبز، فراق لي أن أثبت لها أنها لم تكن على صواب حين ظنت بي هذا الظن، وأن أؤكد لها أنني لم أحمل روز على ظهري إلا تلطفًا وتوددًا.
ولذلك رفضتُ تناول الخبز الذي قدمه إليَّ جاك، واكتفيتُ بأن ألحس يده.
فقال جاك: يا دادة، انظري! فإنه يقبل يدي، ولا يرضى قبول خبزي، فما أحسن طبعك يا كديشون! وما أحقك بالحب! أنت ترين الآن يا دادة أنه يتبعني لأنه يحبني، وليس لأن معي قطعة من الخبز.
فأجابت الدادة: لك رأيك إذا كنت ترى في حمار ما لا يراه الناس حتى تحسبه مثالًا! حسنًا، أما أنا فإنني أعرف أن كل الحمير أهل عناد وخبث ولذلك لا أحبها.
فقال جاك: كلا يا دادة، كديشون هذا ليس خبيثًا، انظري كيف هو طيب معي.
فقالت: سترى إذا كان هذا يدوم منه.
فالتفت إليَّ جاك، وقال بتلطف: أنت يا كديشون ستكون طيبًا لي وللدادة، وستستمر على هذا، أليس كذلك؟
فأدرت رأسي نحوه، ونظرت إليه نظرة حنو أدركها مع حداثة سنه، ثم أدرت رأسي نحو المربية وألقيت عليها نظرة جفاء حادة أحست بها، ولذلك قالت: ما أقسى نظرته! إن عليه سيماء اللؤم، فإنه ينظر إليَّ نظرة جارحة كأنه يريد أن يفترسني.
فدُهِش جاك وقال: كيف يمكن يا دادة أن تقولي هذا؟ فإنه ينظر إليَّ نظرة لطيفة كأنه يريد أن يقبِّلني.
والحقيقة أن كل واحد منهما كان مصيبًا في قوله، وأنا لم أكن مخطئًا، فإنني اعتزمت أن أكون طيبًا مع جاك وروز وأهل المنزل الذين يكونون طيبين معي، ونويت أن أكون شديدًا مسيئًا لمن يسيء معاملتي أو يشتمني كما فعلت الدادة.
ولكن هذه الرغبة في الانتقام كانت أخيرًا هي السبب فيما حلَّ بي من المصائب، فندمت على التخلق بالحقد وآثرت التسامح.
وكنا نمشي مع الاستمرار في الكلام، حتى وصلنا إلى منزل جدة جاك وروز فتركوني على الباب فوقفت وقفة حمار مهذب، بدون أن أتحرك وبدون أن أتذوق شيئًا من الأعشاب والخضرة المحيطة بالمنزل.
ثم عاد جاك بعد دقيقتين ومعه جدته وهو يقول لها: تعالي يا جدتي، انظري كيف ترينه لطيفًا، وكيف هو يحبني، لا تصدقي كلام الدادة عنه، وأرجوكِ أن تصدقيني أنا.
فضحكت الجدة وقالت: سنرى ما يكون من هذا الحمار الشهير، ثم اقتربت مني ولمستني ولاطفتني وأمسكت أذني ووضعت يدها في فمي، فلم يظهر عليَّ ما يجعلها تخاف من أنني أعض يدها، ولم أبتعد عنها.
وقالت الجدة: يظهر أنه لطيف جدًّا، فكيف قلتِ يا إميلي إن مظهره يدل على الخبث والمكر؟!
فقال جاك: أليس كذلك يا جدتي؟ هو طيب كثيرًا كما رأيتِ، وإنه يستحق أن نبقيه عندنا. فقالت الجدة: أنا أظن يا عزيزي أنه طيب جدًّا كما قلتَ، ولكن كيف نستطيع أن نبقيه عندنا وهو ليس لنا؟ والواجب أن يُعَاد إلى صاحبه.
فقال جاك: ليس له صاحب يا جدتي.
وكررت هذا القول أخته روز، وقالت: لا شك يا جدتي في أن ليس له صاحب.
فقالت الجدة: كيف لا يكون له صاحب؟! هذا مستحيل!
فأجاب جاك: حقيقة يا جدتي، ليس له صاحب هكذا أخبرتني الأم ترانشيه.
فقالت الجدة: إذن كيف فاز بجائزة السباق لأجلها، وما دامت أخذته لأجل السباق فلا بد أن تكون استعارته من أحد؟
فقال جاك: كلا يا جدتي، هو جاء وحده لكي يجري مع الحمير، ولكن الأم ترانشيه دفعت رسم السباق لكي تأخذ ما يربحه. وهو ليس له صاحب، فإنه هو كديشون حمار المسكينة باولين، التي ماتت وطرده أهلها، حتى إنه عاش طول الشتاء الماضي في الغابة وحده.
فقالت الجدة: كديشون! الحمار الشهير! الذي أنقذ من الحريق سيدته الصغيرة! إنني مسرورة بمعرفته، فإنه في الحقيقة حمار نادر يستحق الإعجاب. وتلفَّتتْ نحوي، ثم أطالت النظر إليَّ، فكنت فخورًا بأن أسمع أن شهرتي ذاعت كما رأيت، وانتعشت وفتحت خياشيمي وهززت ناصيتي طربًا وابتهاجًا.
وقالت الجدة: مسكين! ما أشد نحافته! إنهم لم يحسنوا مكافأته على إخلاصه. قالت ذلك بلهجة صدق وأسف وتأنيب.
وسنبقيه عندنا، يا أولادي، ما دام متروكًا ومطرودًا من الناس الذين كان يجب عليهم الاعتناء به ومعرفة حقه. ادعُ إليَّ «بولان» فإنني أريد أن أكلفه بأن يضعه في الإصطبل وأن يهيئ له أسباب الراحة.
ففرح جاك وأسرع يستدعي «بولان» فحضر على الأثر، فقالت له الجدة: هذا حمار اقتاده إلينا الأطفال، فضعه في الإصطبل وقَدِّم له الأكل والشرب.
فقال بولان: وهل يلزم أن نرده إلى صاحبه بعد ذلك؟
فقالت الجدة: كلا، فإنه ليس له صاحب، ويظهر أنه هو الحمار الشهير كديشون، الذي طردوه بعد موت صاحبته الصغيرة، وهو قد عاد إلى القرية ورآه الأولاد، فجاءوا به إلى هنا وسنبقيه عندنا.
فأجاب بولان: إن سيدتي أحسنت صنعًا باستبقائه، فإنه لا نظير له في هذه البلاد، ولقد حدثوني عنه أحاديث مدهشة، وقالوا إنه يسمع ويفهم كل ما يقوله الناس حوله، وسترى سيدتي مصداق ذلك. تعالَ يا كديشون لتأكل حتى تشبع من الشعير الجيد.
فالتفتُّ وتبعتُ بولان في ذهابه.
فقالت الجدة: هذا حقيقة مدهش، فإنه قد فهم الكلام! ثم عادت إلى المنزل، وتركت معي جاك وروز فتبعاني إلى الإصطبل فوضعوني فيه، وكان يرافقني فيه فرسان وحمار.
وقام بولان يساعده جاك بتهيئة موضع لنومي، ثم ذهب بولان لإحضار الشعير.
فقال جاك: زد له الشعير، فإنه يلزم له الكثير منه لأنه جرى طويلًا.
فقال بولان: لا يا سيدي، لا تكثر له، فإن الإكثار من الطعام يجعله حادًّا شرسًا، فلا تستطيع أن تركبه أنت ولا أختك.
فقال جاك: كلا، فإنه طيب، وإننا مع ذلك نستطيع أن نركبه معًا.
فزاد بولان في علفي وأكثر من الشعير، ووضعوا بجانبي جردلًا مملوءًا ماءً وكنتُ عطشان فبدأت بشرب نصف الجردل، وأكلت الشعير، وذكرني لطف هذا الطفل جحود الأم ترانشيه. ثم تمددت على القش ورأيتني مضطجعًا كأنني ملك، ثم أخذني النوم.