الفصل الأول

العلوم في الميزان

إن علامة العقل المُتعلم هي الرضا بمدى الدقة التي تسمح بها طبيعة الموضوع وليس السعي وراء الدقة المتناهية عندما لا يكون متاحًا سوى التقدير.

أرسطو

العلم ليس مرادفًا للتكنولوجيا

العلم والتكنولوجيا وجهان لعملة واحدة، أليس كذلك؟

الإجابة هي كلَّا.

فمع أن التكنولوجيا التي تهيمن على الثقافة الحديثة مُستمدَّة من المعرفة التي قدمها العلم عن الكون، فإن كلًّا من العلم والتكنولوجيا ينبعان من دوافع مختلفة تمام الاختلاف. دعنا نتبيَّن هنا الاختلافات الأساسية بين العلم والتكنولوجيا. ففي حين يرجع السبب الأساسي في ممارسة العلم إلى الرغبة الجوهرية للبشر في معرفة الكون وفهمه، نجد أن السعيَ الحثيث وراء التكنولوجيا يرجع إلى الرغبة الجوهرية للبشر في التأثير على الحياة البشرية. وربما يتَّخذ ذلك التأثير شكل كسبِ قوت اليوم أو مساعدة الآخرين أو حتى استخدام القوة ضد الآخرين لتحقيق مصلحةٍ شخصية.

fig1
fig2
شكل ١-١: الأنشطة الفكرية.

وفي حين يجد الأفراد أنفسهم عادة يمارسون العلم «المحض» والعلم «التطبيقي» في آنٍ واحد، نجد أن المجتمع العلمي ككلٍّ يمكن أن يُجري أبحاثه الأساسية دون أن يكون همُّه الأساسي الوصول إلى تطبيقاتٍ نهائية. فذات يوم تحدَّث ويليام جلادستون وزير المالية البريطاني في القرن التاسع عشر مع مايكل فاراداي عن اكتشاف فاراداي الرئيسي الذي ربط بين الكهرباء والقوة المغناطيسية فقال: «كل هذا مُثير للاهتمام بشدة، لكن ما قيمته؟» فأجابه فاراداي: «سيدي، أنا لا أعلم الآن لكنك ستفرض عليه الضرائب يومًا ما.» وها قد جاء اليوم الذي نجد فيه ما يقرُب من نصف ثروات الدول المُتقدمة يأتي نتيجة لربط فاراداي الكهرباء بالقوة المغناطيسية.

قبل ترجمة الأفكار العلمية إلى تكنولوجيا، هناك أمور إضافية يجب أن تُؤخَذ في الاعتبار. فإلى جانب مسألة أي الآلات التي «يمكن» تصميمها، هناك مسألة أخرى وهي ما الذي «يجب» أن يُنتَج، وهي مسألة لعل علم الأخلاق هو المجال المناسب لمناقشتها. وعلم الأخلاق هو أحد فروع العلوم التي تتناول الأنشطة الفكرية البشرية والتي تندرج تحت اسم الإنسانيات. والموضوعية هي الفارق الرئيسي بين العلوم الطبيعية والإنسانيات. إذ تسعى العلوم الطبيعية لدراسة طريقة عمل الكون بطريقةٍ موضوعية قدر المُستطاع، في حين لا تهدف الإنسانيات لتحقيق مثل هذا الهدف وهو أيضًا ليس من مُتطلباتها. ويُمكننا هنا إعادة صياغة عبارة مارجريت وولف هانجرفورد (الروائية الرومانسية الأيرلندية في القرن التاسع عشر) التي تقول: «الجمال يكمن في عين من ينظر إليه»، فنقول: «الجمال، وكذلك الحق والعدل والإنصاف و… تكمن في عين من ينظر إليها.»

إن العلم بعيد كل البُعد عن أن يوصف بأنه كيان مُوحَّد لا يتعامل مع مجالات مختلفة. فالعلوم الطبيعية تدرس البيئة التي تُحيط بنا وفي الوقت نفسه تدرس البشر فيما يخصُّ تَشابُههم الوظيفي مع أشكال الحياة الأخرى، في حين تدرس العلوم الإنسانية السلوكيات العقلية والانفعالية للبشر والمؤسسات التي يُنشئونها من أجل التفاعُلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويعرض شكل ١-١ تمثيلًا بيانيًّا لهذه العلاقات.

وفي حين يساعد هذا التصور المنظَّم في فهم العلاقات بوجهٍ عام، فإن العالم الحقيقي أعقَدُ من ذلك بكثير. فعلم الأخلاق يُساعدنا في تحديد الموضوعات التي يتعيَّن بحثها، وأي مناهج البحث التي يمكن أن نستخدِمها، وأي التطبيقات التي ينبغي أن نتجنَّبها، لا لشيءٍ سوى لأنها قد تُمثل خطرًا جسيمًا على خير البشرية ومصلحتها. ويلعب أيضًا علم الاقتصاد والعلوم السياسية دورًا رئيسيًّا؛ إذ إن العلوم لا يُمكنها أن تدرس سوى ما تقبله الثقافة السائدة من ناحية معدات الإنتاج الرأسمالية والعمالة والقبول السياسي.

خطوات المنهج العلمي

إن نجاح العلوم في تحليل الطريقة التي يعمل بها الكون هو نتيجة للتفاعل الديناميكي بين الملاحظات والأفكار. وهذه العملية التفاعُلية تُعرَف باسم «المنهج العلمي». (انظر شكل ١-٢.)
fig3
شكل ١-٢: وصف عام للمنهج العلمي.

في خطوة «الملاحظة»، تُدرك الحواس البشرية ظاهرةً مُحددة سواء كان ذلك باستخدام أدوات مساعدة أو من دون استخدامها. وفي حين أن العلوم الطبيعية بها الكثير من العناصر المُتشابهة التي يمكن ملاحظتها (ذرات الكربون على سبيل المثال)، نجد أن العلوم الإنسانية بها عدد أقل من العناصر التي يختلف بعضها عن بعض بوضوح (ومثال ذلك البشر بل حتى التوائم المُتطابقة).

في عمليات التفكير الإنساني تُجْمَع البيانات أولًا قبل أن يبدأ العقل — أثناء سعيه للتوصل إلى نظام مُرتب — في تكوين أنماطٍ وتفسيرات. وهذه هي خطوة «الفرضية». إن المنطق الذي يستخدِم ملاحظات مُحددة لتكوين فرضية عامة هو الاستنتاج الاستقرائي. ويقوم هذا المنطق على التعميم، ولذلك فإنه أقل أنواع الاستنتاجات تأكيدًا. وفي حين يبرع بعض الناس في استباق الوصول إلى نتائج، فإن هذا الأمر مُقيد في المنهج العلمي؛ لأن الخطوات المُتعاقبة من المنهج تؤسس الفرضية في الواقع.

غالبًا ما تُصاغ الفرضية بشكلٍ كُلي أو جزئي بلغةٍ مختلفة عن تلك المستخدمة في حديثنا اليومي. هذه اللغة هي لغة الرياضيات. ولأن المهارات الرياضية تتطلب قدرًا كبيرًا من الجهد لاكتسابها، فإن شرح الفرضيات العلمية لغير المُتخصِّصين في الرياضيات يتطلَّب ترجمة المفاهيم الرياضية إلى لغة الحياة اليومية. غير أن معنى الفرضية قد يتأثر — للأسف — أثناء عملية الترجمة هذه.

وبمجرد صياغة الفرضية، يُمكن استخدامها للتنبُّؤ بحدَثٍ مستقبليٍّ ما من المتوقَّع أن يحدث بطريقةٍ معينة إذا كانت الفرضية صحيحة. وهذا «التنبؤ» يمكن أن يُستمَدَّ من الفرضية عن طريق استخدام الاستنتاج الاستنباطي. على سبيل المثال، يقول القانون الثاني لنيوتن: إن القوة = الكتلة × العجلة. لذا فإذا كانت الكتلة = ٣ وحدات، والعجلة = ٥ وحدات، إذن تكون القوة ١٥ وحدة. ومن المناسب أن تُنَفَّذ هذه المرحلة عن طريق أجهزة الكمبيوتر، حيث إنها تعمل على أساس الاستدلال الاستنباطي.

أما الخطوة التالية بعد «التنبؤ» فهي إجراء «تجربة» لنرى هل هناك دليل يدعم هذا التنبؤ أم لا. وهنا يجدُر القول إنه ربما يكون من اليسير تصميم بعض التجارب غير أن تنفيذ أغلب التجارب يواجِه صعوباتٍ جمَّة في معظم الأحيان. فحتى إذا ما توفرت الأدوات العلمية المُعقدة والباهظة الثمن التي تتطلَّب عددًا كبيرًا من العامِلين والتي عن طريقها نحصل على قدْر هائل من البيانات المفيدة، فكثيرًا ما يكون من العسير الحصول على التمويل اللازم، وبعد ذلك تكون هناك صعوبة في استثمار الجهد والوقت اللذَين تحتاجهما هذه الخطوة من أجل فهم وتفسير ذلك القدر الهائل من المعلومات. وفي حين تمتلك العلوم الطبيعية ميزة القدرة على عزل الشيء محل الدراسة (تأمَّل أنابيب الاختبار)، فإنه يتعين على العلوم الإنسانية أن تتعامل مع متغيرات متعددة والتي يجري التوصل إليها من خلال عقول أناس مُختلِفين لدى كلٍّ منهم أجندته الخاصة (تأمل الاستقصاءات).

وبمجرد اكتمال مرحلة التجربة، تُقارن النتيجة مع التنبؤ. وبما أن الفرضية تتصف بالعموم في حين تكون نتائج التجربة مُحددة، فإن النتيجة التي تتوافق فيها التجربة مع التنبؤ لا تُثبت صحة الفرضية بل تدعمها فحسب. وعلى الجانب الآخر إذا لم تتوافق نتائج التجربة مع التنبُّؤ فلا بد أن تكون بعض جوانب الفرضية خاطئة. ويُطلق على هذه الخاصية في المنهج العلمي اسم «قابلية الدحض» وهي من الشروط الأساسية التي يجب أن تتصف بها الفرضية. وكما قال ألبرت أينشتاين: «لا يستطيع أي عددٍ من التجارب إثبات صواب ما أقوم به، ولكن يمكن لتجربة واحدة إثبات خطئه.»

عندما يتبيَّن أن الفرضية خاطئة في بعض جوانبها ينبغي إعادة صياغتها؛ أي، يجب تعديلها تعديلًا طفيفًا، أو تغييرها جذريًّا، أو التخلِّي عنها تمامًا. وتحديد كم التغيير الذي يجب إحداثه قد يكون من المهام العسيرة للغاية. وعلى أية حال فإن الفرضيات المعدلة يجب أن تمر بالخطوات السابقة نفسها مرارًا وتكرارًا، وتُثبت نجاحها أو تفشل عند مقارنة نتائج التجربة بالتنبؤ.

هناك جانب آخر للمنهج العلمي يُحافظ على استمرار هذه العملية في التقدم وهو «التكرار». ويعني هذا الجانب أن أي مُلاحظ لديه الخبرة والأدوات المناسبة يجب أن يكون قادرًا على تكرار التجارب أو التنبؤات السابقة والحصول على نتائج مشابهة. بعبارة أخرى، إن العلم يشهد إعادة التحقق من الفرضيات والنظريات السابقة على نحوٍ مُستمر. فعلى سبيل المثال حاول فريق من العلماء في مختبر بيركلي بجامعة كاليفورنيا تخليق عنصر جديد عن طريق قصف أهداف من الرصاص بشعاع حادٍّ من أيونات الكريبتون ثم تحليل النواتج. بعدها أعلن علماء بيركلي تخليق العنصر ١١٨ وكان ذلك عام ١٩٩٩.

ويعد تخليق عنصر جديد أمرًا ذا أهمية كبيرة ويرجع ذلك إلى خصائص ذلك العنصر المختلفة والجديدة. وفي حالة العنصر ١١٨، فقد كان من شأن تخليقه أن يؤدي أيضًا إلى دعم الأفكار السابقة بشأن استقرار العناصر الثقيلة. ومع ذلك فقد عجز علماء في مُختبرات أخرى (مثل مختبر جي إس آي في ألمانيا، ومُختبر جي إيه إن آي إل في فرنسا، ومختبر آر آي كيه إي إن في اليابان) عن تخليق هذا العنصر. وعندئذٍ أعاد فريق كبير من مختبر بيركلي التجربة. غير أنهم فشلوا أيضًا في تكرار النتائج التي أُعلِنت من قبل. فقد أعادوا تحليل بيانات التجربة الأصلية باستخدام شفرات برمجية معدلة وعجزوا عن إثبات وجود هذا العنصر. ومن ثم تراجعوا عن النتائج التي أعلنوها من قبل. وتُشير هذه العملية التنقيحية إلى أن سعي العلم نحو فهم الكون هو أمر مُستمر، ويجب أن يكون كذلك.

أحيانًا يُعاد التحقُّق من التنبؤات والتجارب. ففي فبراير عام ٢٠٠١، أعلن مختبر بروكهافن الوطني في نيويورك عن نتيجة قائمة على تجارب متعلقة بخاصية تُعرف باسم العزم المغناطيسي للميون (والميون هو جسيم سالب الشحنة شبيه بالإلكترون، ولكنه ذو كتلة أكبر بكثير) والتي كانت أكبر قليلًا من تنبؤ النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات (والذي ستجد في الفصل الثاني المزيد من التفاصيل عنه). ولما كان النموذج القياسي دائمًا دقيقًا فيما يتعلق بالكثير من الجسيمات الأخرى، فإن هذا الاختلاف بشأن العزم المغناطيسي للميون يدل ضمنيًّا على وجود أخطاء في النموذج القياسي.

كان التنبؤ بمقدار العزم المغناطيسي للميون نتيجة عمليات حسابية معقدة ومطولة قامت، بها بشكلٍ منفصل، مجموعات من العلماء في اليابان ونيويورك عام ١٩٩٥. وفي نوفمبر ٢٠٠١ أعاد فريق من علماء الفيزياء الفرنسيين إجراء هذه الحسابات. واكتشفوا استخدام إشارة سالبة خاطئة في أحد الحدود، ونشروا النتائج التي توصَّلوا إليها على الإنترنت. نتيجة لذلك أعادت مجموعة بروكهافن التحقُّق من عملياتهم الحسابية وأدركوا الخطأ، ونشروا النتائج المُصححة. وكانت النتيجة النهائية هي تقليل الاختلاف بين التنبؤ والتجربة. ومن هنا نستطيع القول إنَّ النموذج القياسي في الواقع تنتظره تحديات مستقبلية والتي يجب أن يصمد أمامها وذلك مع استمرار سعي العلم نحو فهم الكون.

مثال تطبيقي للمنهج العلمي

لنُلق نظرة على أحد الأمثلة الكلاسيكية التي تُجسد الخطوات التي يتبعها المنهج العلمي.
  • الملاحظة: قبل قليل من حلول القرن العشرين لاحظ العالم جوزيف جون طومسون، الذي كان يعمل مديرًا لمعامل كافنديش في إنجلترا، وجود شعاع ضوءٍ في أنبوب أشعة مهبطية (وهو الأنبوب السابق على أنبوب الصورة الخاص بالتلفزيون). ولأن هذا الشعاع انحرف تجاه الصفائح الكهربية ذات الشحنات الموجبة ووصل إلى هدفه مُتسببًا في ومضات فردية من الضوء، يجب أن يكون محتويًا على جسيمات سالبة الشحنة، والتي سمَّاها فيما بعدُ عالم الفيزياء الأيرلندي جورج فيتزجيرالد «إلكترونات» في تعليقاته على تجربة طومسون. (وكان قد استعمل كلمة «إلكترون» قبل ذلك عالِم فيزياء أيرلندي آخر يُدعى جورج ستوني باعتبارها وحدة الشحنة الكهربية).
  • الفرضية: بما أن الذرات لا تحمل شحنة (أي، متعادلة)، ووجد طومسون جسيمات سالبة الشحنة فيها، فقد استنتج أنَّ الذرات لا بد أن تحتوي أيضًا على شحنة موجبة. وقد قدم طومسون عام ١٩٠٣ نظريةً مفادها أن الشحنة المُوجبة تتخلَّل جميع أرجاء الذرة، في حين أن الإلكترونات سالبة الشحنة مُدمجة داخل المادة الموجبة. ويُشبه هذا النموذج حلوى بريطانية معروفة، ولهذا سُمِّيَ بنموذج بودنج الخوخ الذري لطومسون.
  • التنبؤ: كان إرنست رذرفورد خبيرًا في الجسيمات الموجبة الشحنة التي تُعرف بجسيمات ألفا. وفي بداية القرن العشرين تنبأ إرنست أنه إذا أطلقت هذه الجسيمات على ذراتٍ تحتوي على الشحنة الموجبة المُتفرقة التي تتخلل الذرة بأكملها بحسب نموذج طومسون، فسيكون الأمر أشبَهَ بإطلاق كرات بولينج باتجاه الضباب. إن معظمها سيتَّخذ مسارًا مستقيمًا والقليل جدًّا منها سينحرف بمقدارٍ بسيط.
  • التجربة: في عام ١٩٠٩ أعدَّ هانس جايجر وإرنست مارسدن جهازًا لإسقاط جسيمات ألفا على صفيحةٍ رقيقة من ذرات الذهب. وكانت النتائج مختلفةً تمامًا عما توقَّعاه. فقد انحرفت بعض جسيمات ألفا بزوايا كبيرة بل ارتد حتى البعض الآخر منها إلى الخلف. وقال رذرفورد تعقيبًا على ذلك: «كان الأمر مدهشًا؛ فقد كان بمنزلة إطلاق قذيفة ١٥ بوصة على منديل ورق فلم تنفُذ خلاله بل ارتدَّت إليك لتُصيبك.»
  • التعديل: حلَّ نموذج النظام الشمسي لرذرفورد، الذي تتركَّز بموجبه الشحنة الموجبة داخل نواة صغيرة نسبيًّا في منتصف الذرة وتتحرك الإلكترونات (التي تُشبه الكواكب) في مدارات دائرية حول النواة (التي تُشبه الشمس)، محل نموذج البودينج الخاص بطومسون. ولاحقًا في القرن العشرين، وكنتيجةٍ للتجارب المُتتابعة، فقد حلَّت نماذج أخرى محل نموذج رذرفورد هذا الخاص بالذرة. فعندما تتعارض الأدلة التجريبية مع ما تتنبَّأ به فرضيةٌ ما، عندئذٍ يحين الوقت لتعديل هذه الفرضية.

وبالمثل، إن تحليل إسحاق نيوتن للحركة، وفرضيات جيمس كليرك ماكسويل الكلاسيكية الخاصة بالقوة الكهربية والمغناطيسية فُهِم منهما أن الزمان والمكان مُطلقان، وهي فكرة جذابة. استبدَلَت نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين بهذين المُطلقَين المُريحَين كميتَين نسبيتَين مخالفتَين للحدس وغير مرضيتَين فلسفيًّا. ولكن السبب الرئيسي الذي حمل الجميع على قبول نظرية النسبية هو توافق الأدلة التجريبية مع ما تنبأت به.

على الرغم من شيوع نظريةٍ سابقةٍ ما وشهرة مؤيديها، وعدم جاذبية النظرية الجديدة، والآراء السياسية لواضعها أو صعوبة فهم فكرتها، فإن العامل الأهم والحاسم هو الأدلة التجريبية.

تعقيدات

إن المنهج العلمي الذي قدَّمناه هنا هو تصوير عقلاني للطريقة التي تستخدِمها العلوم بالفعل. وهذه العملية المثالية تفوق في دقَّتها وبراعتها نظيرتها التي تحدُث في حياتنا اليومية. إذ ربما يشترك عددٌ كبير من الباحِثين، وربما تنقضي فترات زمنية طويلة بين خطوات المنهج التي لا تحدُث بشكل متتالٍ. لكن إمكانية تأمُّل مراحل التطور العلمي تُعطينا ميزة تدبر الأحداث الماضية بصورةٍ أوضح.

fig4

هناك بعض التعقيدات التي يجِب وضعها في الاعتبار. وفي مقدمتها أن العلم يضع بعض الافتراضات الفلسفية التي يرفضها بعض الفلاسفة. فالعِلم يفترض وجود واقعٍ موضوعي لا يعتمد في شيءٍ على من يلاحظه. ولولا هذه الموضوعية لكان من المُمكن أن تختلف الملاحظات والنتائج المُتماثلة من معملٍ لآخر، وما كان للباحثين أن يتفق بعضهم مع بعض حول أي فرضية. فضلًا عن ذلك فإن العلم يفترض أن الكون كان — ولا يزال — يسير وفقًا لقوانين ثابتة ومُحددة، وأن هذه القوانين ليست عصيةً على عقول البشر. فإذا لم يكن هناك نمط للمبادئ الحاكمة للكون، أو إذا لم يكن في وسعنا فهم هذه المبادئ، لما كان من الممكن أن تخرج إلى النور أيٌّ من هذه الفرضيات التي هي نتاج جهد العلماء. وبالنظر إلى أن فَهمنا وإدراكنا لهذه القوانين في نموٍّ مُطرد، وباتت التجارب تؤكد صحة التنبؤات المَبنية على أساس هذه القوانين، فإنه يتراءى لنا أن هذه الافتراضات مقبولة.

ولأن الفرضيات العلمية تتناول أحداثًا تجري خلال مدةٍ زمنية طويلة، فالكثير منها يتناول أحداثًا ماضية لا يمكن التحقُّق منها تجريبيًّا بطريقة مباشرة. ولهذا يكون الحل المُتبع عادة لهذه المشكلة هو فحص هذه الفرضيات والتحقُّق من صحتها من قِبل علوم متعددة في محاولة إلى الوصول إلى اتفاقٍ مشترك. ومثال ذلك تلك الفرضية التي تقول إنَّ عمر الأرض يتجاوز ٤ مليارات سنة؛ فقد دعمت صحة هذه الفرضية قياسات علماء الفلك لنسبة الهيليوم في باطن الشمس، وقياسات علماء الجيولوجيا لحركات الصفائح التكتونية، وكذلك قياسات علماء الأحياء لنمو الشعاب المرجانية.

fig5

ونظرًا لعدم توافر نتائج تجريبية لبعض الظواهر (كتلك التي حدثت في الماضي السحيق ولم يكن هناك بشر يُلاحظونها ليتناولوها بالدراسة، أو تلك التي تحدث في مناطق من الكون لا يمكن الوصول إليها)، فيمكن عندئذٍ تقديم أكثر من فرضيةٍ لتفسير حدثٍ ما. يجري التعامُل مع هذا الموقف الصعب والحرج — المُتمثل في وجود فرضيات متعددة مع استحالة وجود نتائج تجريبية تؤيد أو تدحض هذه الفرضيات — عن طريق أحد مبادئ التبسيط العلمي الذي يُعرف باسم شفرة أوكام. والفيلسوف البريطاني ويليام الأوكامي (١٢٨٥–١٣٤٩) كان راهبًا فرانسيسكانيًّا وكان كثيرًا ما يستخدِم في كتاباته الفلسفية مبدأً شاع في العصور الوسطى وهو: «لا ينبغي الإكثار من الكِيانات لما يتجاوز الضروري.» وقد أعطت الأوساط العسكرية هذا المبدأ صورة أكثر بساطة ومباشَرة من خلال عبارة «لتجعله بسيطًا أيها الغبي» أو عبارة «لتجعل الأمر بسيطًا وموجزًا». وبصرف النظر عن الصيغة، فإن هذا المبدأ يُرشدنا في حالة افتقارنا للدليل التجريبي. بمعنى أنه إذا كانت هناك فرضيات كثيرة، ولا يمكن القيام بأية تجربةٍ للاختيار من بينها، فيجب اختيار أبسط فرضية.

لقد أثبتت التجربة أن هذا النهج حكيم. فعلى سبيل المثال، في عام ١٩٧١، رصد القمر الصناعي «أوهورو» الذي يقيس الأشعة السينية، أن أشعةً سينية قوية تنبعث من مكانٍ أطلق عليه الدجاجة إكس-١ في كوكبة الدجاجة. لم يكن هناك مصدر واضح لهذه الأشعة التي ثبت فيما بعد أنها تنبعث من مكان يبدو أنه فارغ بالقُرب من النجم فوق العملاق المعروف باسم HDE 226868، الذي يبعُد عن الأرض ٨ آلاف سنة ضوئية. (انظر مجلد الأفكار ١٤، تجميع فهارس النجوم، للحصول على تفسيرٍ لتسمية النجم HDE.) وإحدى الفرضيات التي وضعت لتفسير هذه النتيجة كانت أن هذا النجم له جسم مُصاحب لا يمكن رؤيته. وهذا الشبح جذب الكتلة التي انفصلت عن هذا النجم. ونظرًا لانجذاب هذه المادة نحو الجسم غير المرئي، ازدادت درجة حرارته، ممَّا أدى لانبعاث هذه الأشعة السينية. وإذا أردنا أن نضع فرضية أخرى غير هذه فإن الفرضية الجديدة ستتطلَّب على الأقل وجود جسمَين غير مرئِيَّين يتفاعلان مع هذا النجم العملاق، وهذان الجسمان هما نجم عادي صغير جدًّا لا يمكن رؤيته، ونجم نابض نيوتروني يدور حوله (والذي هو عبارة عن قلب نجم أكمل دورة حياته ثم انكمش وأصبح كرةً نيوترونية). وفي حال وقوع هذه الأجسام الثلاثة في ترتيبٍ مُحدد، عندئذٍ يمكن أن تنبعث أشعة سينية مشابهة لتلك التي رُصِدَت.

من الصعب جدًّا إخضاع الجسم الذي يُسمى الدجاجة إكس-١ إلى الاختبار المباشر بسبب المسافة الشاسعة التي تفصل بينه وبيننا على الأرض، ناهيك عن أن كل إشعاعه انبعث منذ ٨ آلاف سنة ضوئية تقريبًا. لذا، كان لا بد أن نختار إحدى الفرضيتَين السابقتَين، فأيُّهما نختار؟ بناء على الدعم التجريبي يمكن اختيار أيٍّ منهما. ولكن باستخدام شفرة أوكام، يكون التفسير الأبسط الذي يفترِض وجود جسمٍ واحد هو الفرضية التي يجب أن تؤخَذ في الاعتبار. لذلك، أصبح جسم الدجاجة إكس-١ أول مثالٍ مُسجل لجسم مصاحب غير مرئي يعرف باسم «الثقب الأسود». ونتيجة لذلك، اكْتُشِفَ أكثر من ٣٠ جسمًا من أمثال هذه الأجسام في ظل ظروفٍ مُماثلة.

إن مبدأ شفرة أوكام لا ينبغي أن يُستخدَم إلا عندما يكون الدعم التجريبي غير مُتاح. وهو يقوم على اختيار أبسط الفرضيات التي تتفق مع الملاحظات. ولكن ليس معنى ذلك أن هذا المبدأ يمكن أن يستبعد الفرضيات الأخرى التي تدعمها الأدلة، مهما بلغت درجة تعقيدها. كما أن هذا المبدأ لا يُمكنه أن يُنَحِّي الدعم التجريبي جانبًا. وصحيح أن هذا المبدأ مُحبَّب إلى نفوس العلماء بدرجةٍ أقل من الدليل التجريبي الدامغ، غير أنهم في بعض الأحيان يلجئون إليه لأنه ليس أمامهم غيره.

المشكلات المُستعصية

والآن بعد أن رأيت إلى أي مدى يتوافق العلم مع النظام العام للنشاط العقلي الإنساني وكيفية عمله، يمكنك إدراك أن بِنيته المفتوحة تُتيح لك مسارات مختلفة عديدة من أجل الوصول إلى فهمٍ أفضل للكون. فهناك ظواهر جديدة تُرصد. والفرضيات الموجودة بالفعل لا تقدم أي معلومات حول هذه الظواهر. لذا يصوغ العلماء فرضياتٍ جديدة حتى تحلَّ الأفكار الفعالة محل هذا النقص في المعلومات. ومن ثم تُصبح التنبؤات أفضل من ذي قبل. كما تُصَمَّم أجهزة مُبتكرة لاستخدامها في التجارب. تؤدي كل هذه الأنشطة إلى وضع فرضيات تعكس طريقة عمل الكون على نحوٍ أكثر دقة. فالهدف الرئيسي من هذه الأنشطة هو فهم الكون، ابتداءً من أبسط التفاصيل حتى أوسعها وأعقدها.

يمكن أن يُنْظَر إلى الفرضيات العلمية باعتبارها إجاباتٍ على الأسئلة أو المشكلات التي تتعلق بالكون. وفي هذا الكتاب نهدف إلى بحث واستكشاف «أكبر خمس مشكلات» لم يتوصَّل العلماء إلى حلول لها حتى الآن. وكلمة «أكبر» هنا تعني أن هذه المشكلات تمتلك أكبر قوة تفسيرية، أو أنها أصعب مشكلات تواجِه العلماء، أو أن لها أعمق التأثيرات، أو أنها أكثر أهميةً فيما يخص فهمنا للكون، أو أنها تمتلك أكثر التطبيقات التي يمكن تطويرها في المُستقبل. وسيقتصِر بحثنا على الأمور التي تمثل أكبر مشكلةٍ في كل علمٍ من العلوم الطبيعية الخمسة، وسنحاول وصف نوع التقدم الذي يمكن أن نتوقعه من خلال الوصول إلى حلٍّ لكلٍّ منها. ومن المؤكد أن العلوم الإنسانية والإنسانيات والمجالات التطبيقية تحتوي على مشكلاتٍ مُستعصية مهمة هي الأخرى (مثل طبيعة الوعي)، ولكن مثل هذه المشكلات لا تقع في نطاق بحث هذا الكتاب.

وفيما يلي المشكلات التي وقع اختيارنا عليها لتكون أكبر المشكلات المُستعصية التي نرشحها لكل علمٍ من العلوم الطبيعية الخمسة، إضافة إلى الأسباب التي أدَّت بنا لاختيارها.
  • الفيزياء: إن الخصائص المرتبطة بالحركة للكتل، مثل السرعة والعجلة وكمية التحرك، وكذلك طاقتا الحركة والوضع الخاصَّتَين بها، مفهومة جيدًا. لكن طبيعة الكتلة نفسها — التي هي خاصية تُميز الكثير من الجسيمات الأساسية في الكون وليس كلها — غير مفهومة. وتُعد أكبر مشكلة مُستعصية في الفيزياء هي: لماذا لبعض الجسيمات كتلة والبعض الآخر عديم الكتلة؟
  • الكيمياء: لقد دُرِست التفاعُلات الكيميائية لكلٍّ من الكائنات الحية والكائنات غير الحية دراسة مكثفة وقد تَحقَّق قدر كبير من النجاح في هذا الشأن. وتُعد أكبر مشكلة مستعصية في الكيمياء هي: ما سلسلة التفاعلات الكيميائية التي استطاعت الذرات من خلالها تكوين أول الكائنات الحية؟
  • علم الأحياء: نجح العلماء حديثًا في تخطيط الجينوم، أي المُخطط الجزيئي للعديد من الكائنات الحية. فالجينومات تُشفر المعلومات الخاصة بمجموعة البروتينات المكونة للكائنات الحية أو ما يُسمى بالبروتيوم. وتعد أكبر مشكلة مُستعصية في علم الأحياء هي: ما البنية الكاملة للبروتيوم وما وظيفته؟
  • الجيولوجيا: يصف نموذج الصفائح التكتونية على نحوٍ مُرضٍ تأثيرات التفاعلات التي تحدث بين طبقات الأرض البعيدة عن المركز. ولكن الظواهر الجوية للأرض، وخاصة أحوال الطقس، تبدو عقبةً أمام المحاولات التي تسعى لصياغة نماذج تؤدي إلى تنبُّؤات أكثر دقة. وتُعد أكبر مشكلة مُستعصية في الجيولوجيا هي: هل يمكن التنبؤ بالطقس على المدى الطويل بدقة؟
  • علم الفلك: على الرغم من معرفة جوانب عديدة عن البنية العامة للكون، فإننا لا نزال لم نستوعِب جيدًا ديناميكيات هذه البنية. لقد أثبتت الاكتشافات الحديثة أن معدل تمدُّد الكون يتزايد وهذا يزيد احتمال استمرار عملية تَمدُّد الكون إلى الأبد. لذا، فتُعد أكبر مشكلة مُستعصية في علم الفلك هي: لماذا يتمدَّد الكون أسرع وأسرع؟

وأنت تقرأ صفحات الكتاب سوف تظهر أمامك أسئلة أخرى عديدة شيقة مرتبطة بهذه المشكلات، والتي ربما يُصبح بعضها أكبر الأسئلة المُستعصية في المستقبل. وسوف نناقش هذه الأسئلة باختصارٍ في قسم «مجلدات الأفكار» في نهاية الكتاب.

قال ويليام هارفي، الطبيب البريطاني في القرن السابع عشر الذي اكتشف طبيعة الدورة الدموية: «إن كل ما حصَّلناه من معارف لا يساوي شيئًا بالمقارنة بما لم نعرفه بعد.» فكن مُستعدًّا، فالأسئلة الجديدة تظهر قبل الإجابة عن الأسئلة القديمة. وكلما ازدادت دائرة ضوء العلوم زاد مُحيط الظلام الذي يعترض طريقها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥