الفصل الثاني

الفيزياء

لماذا لبعض الجسيمات كتلة والبعض الآخر عديم الكتلة؟

العلامات الأولى للكتلة العملاقة للأشياء التي ستحدث بوجهٍ عام.

ويليام شكسبير
من مسرحية «ترويلوس وكريسيدا»
الفيزياء تدرس خصائص المادة سواء أكانت ساكنةً أم متحركة، وكذلك الصور المختلفة للطاقة. وهناك أمور قد فهمناها جيدًا كالخصائص المرتبطة بالحركة مثل السرعة والعجلة وكمية الحركة وكذلك طاقة الحركة وطاقة الوضع. لكن هناك أمورًا لا تزال غير مفهومة مثل طبيعة الكتلة، التي تُعَد إحدى الخصائص المُميزة لمعظم صور المادة. وفي الحقيقة، يُعد أصل الكتلة أكبر المشكلات المُستعصية في علم الفيزياء حاليًّا.

الكتلة

إن حقيقة وجود الكتلة من الأمور التي نألفها جميعًا. فالكتلة أمر واضح وبديهي. وبعضنا كتلته كبيرة للغاية والبعض الآخر كتلته صغيرة للغاية. فالكتلة هي التي تجعل دفع سيارة مُعطلة أصعب من دفع عربة أطفال. والكتلة هي ما تبذل عليها الجاذبية قوة سحب لتجعلنا نثبُت على كوكب الأرض.

fig6
fig7
شكل ٢-١: وحدات البناء الأساسية للمادة.

ومع كل ذلك يبقى أمر «أصل» الكتلة غير واضح تمامًا. إن معظم — ولكن ليس كل — الجسيمات الأساسية في الكون لها كتلة. فلماذا نجد بعض الجسيمات لها كتلة في حين أن جسيمات أخرى ليست لها كتلة؟ وما الذي «يمنح» الكتلة لبعض الجسيمات ولا يمنحها للبعض الآخر؟ وحتى في الجسيمات ذات الكتلة هناك تباين، فإننا نجد جسيمات كتلتها أكبر من كتلة جسيمات أخرى، فما السبب؟ وهل الجسيمات عديمة الكتلة ينقصها شيء آخر غير الكتلة؟ ربما تكمُن إجابة جميع هذه الأسئلة في شيءٍ يُطلق عليه مجال هيجز، لكننا سنحتاج لأن نتزوَّد ببعض المعلومات الأساسية قبل أن يصير بإمكاننا فهم واستيعاب مجال هيجز المراوغ.

نستهل هذه المناقشة بقولنا إننا نعلم أن كتلة الجسم مرتبطة بمقدار المادة التي يحتوي عليها، ونحن نمتلك معرفةً كبيرة بمكونات المادة: فهي تتكوَّن من مجموعات وتجميعات من الذرات. ولكن ممَّ تتكوَّن الذرة؟ إنها تتكون من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات. ولكن ممَّ تتكون الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات؟ الإجابة على هذا السؤال هي أن الإلكترونات هي وحدات أولية أساسية (أي، إنها لا تتكوَّن من «أي شيء آخر»)، غير أن البروتونات والنيترونات ليست كذلك. فكلاهما يتركب من كواركات، ومن هنا نستطيع القول إنَّ الإلكترونات والكواركات هي ما يمكن أن نُطلق عليها بحق وحدات أولية أساسية.

وقبل أن نناقش المسألة المستعصية الخاصة بطبيعة الكتلة يجب علينا أولًا أن نعرف من أين أتت الكواركات. (انظر شكل ٢-١.) وفي أثناء ذلك سيتصادف أن نتقابل مع بضعة جُسيمات أولية أخرى، وسوف نرى أن المجالات يُنظَر إليها باعتبارها أكثر أوليةً من الجُسيمات نفسها، وسوف نتعرَّض بالبحث لأفضل نظريات المجال الفيزيائية وهي نظرية النموذج القياسي. وبعد ذلك سنعرض وجهَي القصور في هذه النظرية وهما أنها لا تُحدد بالضبط مصدر الكتلة، علاوة على أنها تتجاهل الجاذبية برمَّتها. وأخيرًا سنستكشف النظريات التي يُمكن أن تحلَّ محل نظرية النموذج القياسي والتي قد تُساعدنا على حلِّ مشكلة أصل الكتلة.

الكوارك هو وحدة البناء الأولية وليست الذرة

لمعرفة المزيد عن الكواركات، يجب علينا أولًا أن نُلقي نظرة على الذرات. ففي بداية القرن العشرين أدى اكتشاف إرنست رذرفورد لجُسيم ألفا إلى اكتشاف النواة (ارجع للفصل الأول)، ولكن لم يكن هذا إلا البداية فقط. فقد كشفت أبحاث علماء الفيزياء — سواء التجريبية أو النظرية — تفاصيل أكثر وأدق بشأن وحدات البناء الأساسية للكون. فقبل عام ١٩٢٠، استُكشِفت بِنية الذرة جيدًا واتضح أنها تحتوي على نواة تحتوي على بروتونات موجبة الشحنة، ونيوترونات متعادلة (مع أنه آنذاك لم يكن هناك دليل تجريبي على وجود النيوترونات)، مع وجود إلكترونات تدور حول النواة.

ولكن سرعان ما تهاوى هذا التصوُّر. ففي عام ١٩٠٠، عندما كان عالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك يُحاول تفسير انبعاث الإشعاع من الأجسام الساخنة، رأى أن الطاقة الضوئية تنبعِث على هيئة حزم أسماها كموم (والمفرد «كم») ولا ينبعث بأي كميةٍ مثلما كان يُظَن من قبل. (فكر في قطعة السجق الواحدة وفي قطع السجق المجمَّعة معًا.) ووقتها أيقن بلانك أن علم الرياضيات هو الذي حلَّ هذه المشكلة. ولكن في عام ١٩٠٥ أعاد ألبرت أينشتاين النظر بجديةٍ أكبر في فكرة الكمِّ التي وضعها بلانك. وأوضح أنه إذا كان الضوء فعلًا ذا طبيعة كمية فإن شرح الجوانب الغامضة لمسألة التأثير الكهروضوئي سيكون أمرًا سهلًا.

يظهر التأثير الكهروضوئي عندما يسقط الضوء على معدن، مما يؤدي إلى انبعاث إلكترونات من هذا المعدن. تنبعث الإلكترونات على الفور ولكن إذا كان تردُّد الضوء مُنخفضًا جدًّا، فلن تنبعِث أي إلكترونات بصرف النظر عن كثافة مصدر الضوء. وقد أوضح أينشتاين أن الضوء يعمل كجُسيم فهو يمنح كل طاقته لأحد الإلكترونات مما يُحرر ذلك الإلكترون. وهكذا فُسِّرت العلاقة التي أوجدها بلانك بين الطاقة والتردد أنه عند انخفاض التردُّد الضوئي لن تنبعث إلكترونات. أي أن فوتونات الضوء لا تحتوى على الطاقة الكافية لتحرير الإلكترونات. وهكذا بدا أن سلوك الضوء كجُسيم أكثر منه كموجة.

في العشرينيات من القرن العشرين، اتسع نطاق فكرة الكم ليشمل الذرات، ونتيجة لذلك ظهر النموذج الميكانيكي الكمي للذرة. وقد عكست هذه النظرية موقف الضوء عن طريق مُعاملة إلكترونات الذرة ذات الخصائص الشبيهة بالجُسيمات كما لو أن لها خصائص شبيهة بالموجات. وتوافقت التنبُّؤات الميكانيكية الكمية بشأن ألوان الضوء المُنبعث من قِبل الذرات المُثارة مع الأدلة التي حُصل عليها عن طريق التحليل الطيفي، وهكذا نجحت هذه النظرية تجريبيًّا. ومن ثم أصبح التناظُر مكتملًا. بمعنى أن الضوء يمكن أن يظهر كموجةٍ أو جُسيم، وكذلك الإلكترون (أو البروتون أو النيوترون) يُمكن أن يظهر كجُسَيم أو موجة، ويعتمِد كل هذا على نوع التجربة التي نقوم بها.

كان مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج هو أحد النتائج التي ترتبت على نظرية ميكانيكا الكم. ويقول هذا المبدأ إن هناك حدًّا لحاصل الضرب الرياضي لعدم اليقين في موضع الجُسيم وعدم اليقين في كمية تحرُّكه، وحدًّا مناظرًا لحاصل ضرب عدم اليقين في الطاقة وعدم اليقين في الزمن. ويعني هذا المبدأ أنه كلما حدَّدنا موضع الإلكترون على نحوٍ أكثر دقةً ترتب على ذلك أن تحديدنا لكمية تحرُّكه سيكون أقل دقة، والعكس صحيح. وهذا الحد قليل جدًّا وليس له تقريبًا أي تأثيرٍ في قياسات الأشياء ذات الحجم العادي. لكن النتائج الفلسفية المُترتبة على هذا المبدأ كثيرة جدًّا؛ أهمُّها أن هناك حدودًا لمعرفتنا. وهو أمر وجد كثير من العلماء — بما فيهم أينشتاين — صعوبةً كبيرة في تقبُّله. ومع ذلك فلا بد أن نتقبَّل هذا المبدأ لأنه قائم على فرضية صحيحة.

بعد ذلك كان يجب أن يحدُث تكامُل بين ميكانيكا الكم والفكرة الثورية الأخرى التي ظهرت في بداية القرن العشرين ألا وهي نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين. ففي عام ١٩٢٨ تمكن عالم الفيزياء البريطاني بول أندريان موريس ديراك من التوفيق بين هاتين النظريتين. ولم تكن معادلته الجديدة شاملة فحسب بل تسببت في الوقت نفسه وعلى نحوٍ غير مقصود في التوصُّل إلى معلوماتٍ جديدة أُضيفت إلى علم الفيزياء؛ فقد تنبأت بوجود جُسَيم جديد مُماثل للإلكترون ولكن الفرق هو أن هذا الجُسيم شحنته هي +١ في حين أن الإلكترون شحنته هي -١. وأُطلِق على هذا الجسيم اسم الإلكترون المضاد أو البوزيترون (أي، الإلكترون الموجب).

الأشعة الكونية تُنقذ الموقف

تُعد التنبؤات التي تفترض وجود جسيمات جديدة هي مجرد مرحلة ويجب أن تكتمِل عن طريق الدليل التجريبي. ونظرًا لغياب الدليل على وجود البوزيترون، فقد كان هناك شكٌّ في وجوده. وفي مطلع ثلاثينيات القرن العشرين بدأ عالم الفيزياء الأمريكي كارل دي أندرسون في استخدام طريقةٍ جديدة لدراسة المادة، وهي الجُسيمات المعروفة باسم الأشعة الكونية. يُذكر أن هذه الأشعة هي عبارة في الغالب عن بروتونات، أو جُسيمات ألفا (بروتونين ونيوترونين مُتحدين؛ بعبارة أخرى، نواة ذرة هيليوم) أو ضوء ذي تردُّدات مُتباينة. وتوفر هذه الجسيمات نطاقًا واسعًا من الطاقات، وهي تسقط على كوكب الأرض من جميع الاتجاهات، ويصل معدل الإسقاط إلى جُسيم تقريبًا في كل ثانية. ومع أن الشمس تُعَد مصدرًا كبيرًا للأشعة الكونية فلا بد أن مصدر جسيمات الأشعة الكونية الأكثر نشاطًا التي رُصدت هو عمليات أخرى تحتاج لطاقةٍ أعلى لا يمكن أن تُوفرها الشمس.

إن الأشعة الكونية غير مرئية، وتأثيرها على المادة ضئيل جدًّا بحيث تصعُب ملاحظته. واستخدم أندرسون تقنيتَين لاستكشاف الجسيمات: مجالًا مغناطيسيًّا قويًّا، وإحدى غُرَف ويلسون السحابية. فالمجال المغناطيسي جعل مسارات الجسيمات المشحونة تنحني داخل الغرفة السحابية المُحتوية على هواء نظيف مُشبع ببخار الماء. وجعلت الجسيمات التي تتحرك بسرعة داخل الغرفة جزيئات الهواء تتأيَّن. وهكذا وفَّرت جزيئات الهواء المتأيِّنة نقاط تجمُّع لبخار الماء مما كوَّن في النهاية سحبًا. وهذه السحب تسمح بملاحظة المسارات تمامًا كما يحدُث في الغلاف الجوي للأرض عندما نرى ذيل الدخان الناتج عن طائرةٍ تطير على ارتفاعٍ عالٍ، مع أن الطائرة نفسها قد لا تكون واضحةً للعين.

أجرى أندرسون تجاربه في ولاية كولورادو حيث يعمل الارتفاع الكبير على تقليل التأثير الواقي للغلاف الجوي لكوكب الأرض على الأشعة الكونية القادمة للأرض. وأظهرت إحدى صورِه أحد المسارات الذي اتَّجه في عكس اتجاه مسار أحد الإلكترونات. وهذا دلَّل على وجود البوزيترون. واتضح أن كلَّ الجسيمات تقريبًا لها جسيمات مضادة قرينة تختلف عنها في الشحنة الكهربية، وتتمايز عنها أيضًا في أمورٍ في غاية الدقة. (انظر مجلد الأفكار ١، المادة المضادة.)

fig8

وبالنظر إلى أن فرضية ديراك قد تنبَّأت بوجود البوزيترونات، فإن اكتشافها دعَّم معادلته الميكانيكية الكميَّة النسبية (التي مزجت بين ميكانيكا الكم ونظرية النسبية الخاصة). ولكن اكتشف أندرسون شيئًا آخر أحدث إرباكًا أكبر. فقد لاحظ مسارَين لجُسيمَين جديدَين لكلٍّ منهما كتلة أكبر ٢٠٠ مرة من كتلة الإلكترون. كان أحدهما مُوجَب الشحنة والآخر سالب الشحنة. وقد أُطلِق عليهما في النهاية اسم الميون والميون المضاد. وقد أدى اكتشاف هذَين الجسيمَين، وكذلك خصائصهما، إلى حدوث ارتباكٍ كبير لأن الميونات لم يكن لها موضع يمكن تحديده بوضوح في منظومة المادة. ولعلَّ الذعر الذي أصاب الوسط الفيزيائي قد تجسَّد في رد فعل إيسيدور إيزاك رابي، عالم الفيزياء الحاصل على جائزة نوبل، الذي عند سماعه للمرة الأولى عن إعلان اكتشاف الميون علق بقوله: «من ذا الذي طلب هذا؟!»

القوى الأربع

وكما لو أن هذه الجسيمات الجديدة لم تتسبب فيما يكفي من الارتباك، فقد اكتُشِفت في ثلاثينيات القرن العشرين قوتان جديدتان أيضًا. فإضافةً إلى القوتَين المعروفتَين بالفعل وهما الجاذبية والكهرومغناطيسية، اكتُشِفت قوتان جديدتان وهما «القوة النووية القوية» التي أبقت على البروتونات والنيوترونات داخل النواة، و«القوة النووية الضعيفة» المسئولة عن بعض عمليات التحلُّل الإشعاعي النووي. وما يُثير الانتباه هو أن القوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة كانت تصِلان إلى أقصى قوتهما في المسافات الصغيرة جدًّا، وتتلاشيان نهائيًّا إذا تباعدت الجُسيمات بعضها عن بعض بمِقدار أكبر من مقدار المسافات النووية. ولذلك لم نتمكَّن من رؤيتها لأن هذه القوى تعمل في مسافاتٍ من الدقة بمكان حيث لا يمكن رؤيتها.

وفي ثلاثينيات القرن العشرين صاغ عالم الفيزياء الإيطالي إنريكو فيرمي نظريته عن القوة النووية الضعيفة التي تنبَّأت بوجود جُسَيم آخر جديد. كان هذا الجسيم متعادلًا كهربيًّا وكانت وظيفته نقل الطاقة المفقودة أثناء إحدى عمليات التحلُّل الإشعاعي المرصودة. وأطلق فيرمي على هذا الجسيم اسم «الجُسيم المتعادل الصغير» أو «النيوترينو». وكان النيوترينو تقريبًا جسيمًا شبحيًّا يتفاعل مع المادة العادية على نحوٍ نادر لدرجة أنه قد يحتاج الأمر إلى حاجز مصنوع من الرصاص سُمكه ثماني سنوات ضوئية (أي، أكبر من ضعف المسافة بين الشمس وأقرب نجم لها) لإيقاف حركة نصف النيوترينوات في مجموعة. ومع ذلك فقد اكْتُشِفَت النيوترينوات تجريبيًّا على يدِ عالِمَي الفيزياء الأمريكِيَّين فريدريك راينس وكلايد كووان، وكان ذلك عام ١٩٥٣. وكأن هذا هو ما كان يحتاجه علماء الفيزياء: جسيم آخر!

تحدِّي تجزئة الجُسيمات

كان العلماء في حاجةٍ كبيرة إلى أدوات تجريبية لاستكشاف هذه الجسيمات الجديدة، غير أن الأشعة الكونية التي استخدموها اتَّصفت بقدرٍ هائل من عدم الانتظام نظرًا للتنوع الشديد لطاقاتها، إضافة إلى أنها كانت تأتي من اتجاهاتٍ تبدو عشوائية. لذا صُمِّمَت آلات جديدة في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين لاستخدامها في تنفيذ تجارب نظامية استخدمت فيها حُزَم من الجسيمات ذات طاقة معروفة. وأصبحت هذه الآلات التي سُمِّيت «مُسرعات الجسيمات» هي الأداة الأساسية لفيزياء الطاقة العالية، وأصبحت أهميتها للفيزياء كأهمية المجهر لعلم الأحياء والتلسكوب لعلم الفلك.

صُمِّمَ نوعان مختلفان بشكلٍ أساسي من المسرعات وهما: المُسرع الخطي والمسرع الدائري والذي يُسمى أيضًا السيكلترون. في المُسرع الخطي، تُسَرَّع الإلكترونات بواسطة مجالات كهربية عبر مسارٍ فارغ طويل (يبلُغ طول نموذج جامعة ستانفورد على سبيل المثال أكثر من مِيلَين) وتنحني بواسطة مغانط حتى تصطدم بهدفٍ ما. وتسجل كواشف نتائج هذا التصادُم.

أما في المُسرع الدائري، فتُسَرَّع الجُسيمات المشحونة في الفجوة التي تقع بين نصفي المسرع (يكون كلٌّ من هذَين النصفَين على شكل حرف دي) وتنحني مساراتها بواسطة مجالاتٍ مغناطيسية داخل النصفَين. وتنتقِل الجسيمات في أقواسٍ أوسع عندما تُصبح أكثر نشاطًا. وعندما تصِل في النهاية إلى أقصى طاقة تنحرف خارج المُسرع الدائري وتدخل في المنطقة المستهدفة التي تحدث فيها التصادمات، ثم ترصد كواشف المواد الناتجة عن التصادم. (انظر مجلد الأفكار ٢، المُسرعات.) وقد حاول إرنست أو لورانس، مخترع المسرع الدائري، جاهدًا أن يبنيَ مُسرعات دائرية أكبر، والتي أطلق عليها «مغازل البروتونات»، ولكنه واجه صعوباتٍ كثيرة أوقفت محاولاته.

الشئون الدولية تُعرقل التقدُّم

شهدت ثلاثينيات القرن العشرين اضطرابًا آخر تمثَّل في نشوب الحرب العالمية الثانية.

فإلى جانب عقبة تقلُّص تمويل الأبحاث انشغل السواد الأعظم من علماء الفيزياء بالجهود الحربية، وانضمَّ معظمهم للعمل في مشروع مانهاتن الذي انطلق عام ١٩٤١. في البداية كانت أهداف هذا المشروع هي بحث الطاقة الناتجة عن انشطار النواة في الذرات الكبيرة مثل اليورانيوم ومعرفة إمكانية استخدام هذه الطاقة الناجمة عن الانشطار لصناعة سلاح فتَّاك، وإذا كان الأمر كذلك، الإنهاء السريع لهذا العمل قبل أن ينجح العلماء النازيون في صنع مثل هذا السلاح. (هناك مسرحية اسمها «كوبنهاجن» للمؤلِّف مايكل فراين تعرض مشاريع القنبلة النووية لألمانيا والحلفاء عن طريق العلاقة بين العالِمَين نيلز بور وفيرنر هايزنبرج.)

وفي حين أن الجزء الخاص بالفيزياء في هذه المهمة كان يكمن في فهم النواة، تضمَّن الجزء الخاص بالتقنية تحويل هذه المعرفة إلى أداة تفجيرية. ولكن الجانب الأخلاقي احتل الصدارة، عندما هُزم الألمان، مع أنهم لم يُطوروا قطُّ مثل هذه القنبلة. فبعد أن استسلمت ألمانيا فيما يُسمى بيوم النصر في أوروبا عام ١٩٤٥، ترك بعض علماء الفيزياء في الولايات المتحدة العمل في مشروع مانهاتن. ولكن استمرَّ البعض الآخر حتى طوروا القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية، مما أدى إلى عواقب امتدَّت آثارها حتى يومِنا هذا.

الفيزياء تستأنف تقدمها

بعد انتهاء الحرب عاد السباق لاكتشاف جُسيمات جديدة، وكان المُسرع هو الأداة المفضلة لدى العلماء لتلك الاكتشافات. فقد أُرسِلت الجُسيمات لتصطدم بالأهداف، وحُلِّلَت أجزاء الجسيمات الناتجة عن التصادم بمُنتهى الدقة. وباستخدام الطاقات المُنخفضة نسبيًّا — التي كانت متاحةً في ذلك الوقت — التحمت البروتونات بالأنوية الكبيرة وأنتجت أنويةً أكبر حجمًا ولكن أقل عمرًا. وكانت بعض هذه الأنوية مشعَّة وتحللت إلى أنويةٍ أصغر وجسيمات أخرى. وفضلًا عن ذلك فإن الأنوية الكبيرة أدَّت إلى زيادة حجم الجدول الدوري للعناصر مما أسعد علماء الكيمياء، في حين لم تحصل الفيزياء على جُسيمات جديدة.

fig9
fig10
لذلك استمرَّ بناء مُسَرِّعات أكبر فأكبر مما أدى إلى إنتاج جُسيمات ذات طاقة أعلى. ونظرًا للتكافؤ بين الكتلة والطاقة (معادلة أينشتاين الشهيرة: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء) فإن أعلى التصادمات طاقةً بإمكانها إنتاج جسيمات أكبر حجمًا. على أنه بعد التوصُّل إلى طاقاتٍ أعلى، أصبحت المُسرعات مصدرًا لاكتشافاتٍ ناجحة. فقد أظهرت صور الغُرَف السحابية مساراتٍ جديدة للجُسيمات لم تُرَ من قبل، وهي البيونات المشحونة ( ، ) والكاونات المشحونة (K+، K)، والبيونات والكاونات ذات الشحنة المتعادلة، وجُسيم لامدا وجسيم سيجما، إلى جانب الكثير من الجسيمات الأخرى. ومع عدم استقرار هذه الجسيمات وتحلُّلها بعد مدةٍ قصيرة إلى جسيمات مألوفة أكثر، فإن هذه الجسيمات أشارت إلى أن المادة لا تزال لديها الكثير من المفاجآت.

اشتعل سباق الجسيمات. وشرع العلماء في استعمال عددٍ أكبر من المُسرعات الدائرية التي شهدت تطورًا في تصميمها. وعن طريق أداة تُسمى المُسرع الدائري التزامني (السنكروترون)، جرى تزامن مجال التسريع لضمان وجود نصف قطر شعاع جسيمي ثابت. وفيه حلت الغرفة الفقاعية محل الغرفة السحابية، حيث يساعد تكوين الفقاقيع في هيدروجين سائل فائق التسخين في جعل مسارات الجسيمات مرئية. ولكن بدا الأمر كأنه بحث عن إبرة داخل كومة قش. وقد خصص أحد طلاب الدراسات العُليا مشروع تخرجه — الذي أشرف عليه أحد مؤلِّفي هذا الكتاب — لهذا الأمر وحلَّل ٢٤٠ ألف صورة من صور الغرفة الفقاعية بواقع صورةٍ في كل مرة، يا له من صبور!

كانت نتيجة جميع هذه الجهود هي تَصوُّر حدوث انفجارٍ افتراضي للجُسيمات: وقد اكتشف أكثر من ١٠٠ جسيم. وتعقيبًا على ذلك، قال العالم الحاصل على جائزة نوبل إنريكو فيرمي لتلميذه ليون ليدرمان (الذي حصل أيضًا على جائزة نوبل فيما بعد): «يا فتى، لو كان بإمكاني تذكر أسماء كل هذه الجسيمات لكنت أصبحت من علماء النبات.»

اللجوء إلى الكواركات

لقد أدى اكتشاف هذه المجموعة الكبيرة من الجسيمات إلى خلق حالة في الفيزياء يمكن مقارنتها بما واجهتْه الكيمياء قبل ظهور الجدول الدوري للعناصر على يد ديمتري مندليف عام ١٨٦٩. فقد كان لا بد من وجود بنيةٍ تحتية ما، ولكن ما البِنية التحتية هذه؟ ابتكر علماء الفيزياء تنظيماتٍ متنوعة للجُسيمات على المستوى النظري بحثًا عن أنماطٍ داخل تنظيماتهم. وقد سُميت الجسيمات ذات الكتلة الثقيلة والمتوسطة بالهدرونات، وقُسِّمَت الهدرونات فيما بعد إلى باريونات وميزونات. وشاركت جميع الهدرونات في التفاعُلات القوية. أما الجسيمات الأقل كتلةً فقد أطلق عليها اسم اللبتونات وقد شاركت في التفاعُلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة. ولكن مثلما كانت هناك حاجة لوجود الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات لنتمكَّن من تفسير مجموعة العناصر، كانت أيضًا هناك حاجة ضرورية لشيءٍ ما يكون أوليًّا لا ينقسِم لوحداتٍ أصغر، وذلك من أجل تفسير جميع هذه الجسيمات.

في عام ١٩٦٤ قدم عالِما الفيزياء الأمريكيَّان موري جيل-مان وجورج زوايج، اللذان عمِلا بشكلٍ منفصل، تخطيطًا جديدًا. وفيه يمكن تمثيل جميع الهدرونات بوصفها مُركبات يتكوَّن كل مركبٍ منها من ثلاثة جُسيمات أصغر منه وجُسيمات مضادة مناظرة لها. وقد أطلق جيل-مان على هذه الجُسيمات الأولية الجديدة اسم «الكواركات»، وذلك بعد قراءته لسطرٍ في رواية بعنوان «يقظة فينيجان» لجيمس جويس يقول: «ثلاثة كواركات للسيد مارك». ولقد أطلق على هذه الكواركات الثلاثة (الأولى) اسم كوارك علوي (u) وكوارك سفلي (d) وكوارك غريب (s)، وحملت شحنات كهربية كسرية وهي +٣/٢، و−٣/١، و−٣/١ على التوالي، مع شحنات معاكسة للكواركات المضادة المناظرة.

وباستخدام هذا النموذج يمكن بناء البروتونات والنيوترونات من ثلاثة كواركات: كواركَين علوِيَّين وكوارك سفلي؛ وكوارك علوي واثنَين سفليَّيْن، على الترتيب. إضافة إلى ذلك أمكن بناء المجموعة الكبيرة للميزونات الجديدة من أزواج الكواركات والكواركات المضادة. فعلى سبيل المثال، يتكوَّن البيون السالب من كوارك سفلي وكوارك مضاد علوي. لقد ظهرت فكرة الكوارك كفكرةٍ مبدئية، ورغم أنها استطاعت حل مشكلة تنظيم هذه المجموعة الكبيرة من الجسيمات بطريقة رياضية، فإن حقيقة الكواركات كانت محل شك نظرًا لأن أحدًا لم يكن قد لاحظها حتى ذلك الحين.

من الناحية التجريبية كانت البروتونات والنيوترونات مجرد كُتَل مُبهمة تُشبه الذرة كما صورها نموذج بودينج الخوخ لطومسون. لكن البروتونات والنيوترونات اتصفتا بأنهما أصغر حجمًا بكثيرٍ ولم تكن هناك إمكانية لاستكشافهما بواسطة إطلاق جسيمات ألفا على الذرات كما فعل رذرفورد. فقد كانت جسيمات ألفا كبيرة جدًّا ولم تساعد في كشف أي شيء.

درس فريق من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في ستانفورد، يعمل على مُسرع ستانفورد الخطِّي، النواة عن طريق إطلاق إلكترونات على الهيدروجين والديوتيريوم (وهو النظير الأثقل للهيدروجين وتحتوي نواته على بروتون واحد ونيوترون واحد). وقاس الفريق زاوية الإلكترونات وطاقتها بعد التصادُم. وباستخدام طاقاتٍ إلكترونية مُنخفضة كان انتشار الإلكترونات الناتج مُتوافقًا مع البروتونات والنيوترونات، التي لكونها بِنيات «ليِّنة» جعلت معدل انحراف الإلكترون بعد الاصطدام بها ضئيلًا جدًّا. ولكن عندما استخدم أعضاء الفريق حزمًا إلكترونية عالية الطاقة للغاية وجدوا أن بعض الإلكترونات فقدت مُعظم طاقتها الأولية وانتشرت على مجالٍ واسع بزوايا كبيرة. وعلى غرار العمل الخاص بانتشار جُسيمات ألفا الذي قام به رذرفورد أثناء قيامه بالخطوات الأولى لتحديد هوية النواة، فسر عالِما الفيزياء الأمريكيان ريتشارد فيليبس فاينمان وجيمس بيوركن بيانات انتشار الإلكترونات بأنه مؤشر لوجود بِنيةٍ داخلية للبروتونات والإلكترونات، أي الكواركات التي جرى طرح تصوُّرها النظري قبل ذلك. إذن فقد آن الأوان لأخذ فرضية الكواركات مأخذ الجد.

توحيد النظريات

تتَّسم الفيزياء بنزعتها الشديدة نحو تبسيط الأمور عن طريق دمج النظريات. فقبل نهاية القرن التاسع عشر أدى اعتراف جيمس كلارك ماكسويل بأن الطاقة الكهربية والطاقة المغناطيسية هما ببساطة وجهان لظاهرةٍ واحدة إلى دمج هاتَين الطاقتَين. وجرى نحت اسمٍ جديد يجمع هاتَين الطاقتَين هو الطاقة الكهرومغناطيسية. وفي الخمسينيات من القرن العشرين دمج عالِما الفيزياء الأمريكيان ريتشارد فيليبس فاينمان وجوليان شوينجر وعالم الفيزياء الياباني سين-إيتيرو توموناجا النظرية الكهرومغناطيسية مع نظرية ميكانيكا الكم وتوصَّلا في النهاية إلى نظرية الديناميكا الكهربية الكمية. وفي هذه النظرية تتفاعل الإلكترونات بعضها مع بعض عن طريق تبادُل فوتونات الضوء. غير أن الفوتونات لا يُمكن ملاحظتها لأن الإلكترونات تقوم بعمليات إطلاق وامتصاص هذه الفوتونات داخل منطقة تخضع لمبدأ عدم اليقين لهايزنبرج (ارجع لقسم «الكوارك هو وحدة البناء الأولية وليست الذرة» في جزءٍ سابق من هذا الفصل). ونظرًا لعدم القدرة على ملاحظتها فقد أطلق عليها اسم الفوتونات الافتراضية.

وبينما كان يجري التحقُّق من الكواركات تجريبيًّا في أواخر ستينيات القرن العشرين كان يُعَدُّ لمشروع جديد لتوحيد النظريات، وكانت تتضمَّن هذه النظرية اثنين من التفاعلات الأساسية الأربعة. فقد صاغ العلماء ستيفين واينبيرج وشيلدون جلاشو في أمريكا وعالم الفيزياء الباكستاني محمد عبد السلام في تريستي بإيطاليا، كلٌّ على حدة، نظرية دُمِجَت فيها التفاعُلات الكهرومغناطيسية والتفاعُلات الضعيفة في نظريةٍ واحدة عُرفت باسم نظرية التفاعُل الكهروضعيف. ويُذكَر أنه إلى جانب قدرة هذه النظرية الجديدة على تفسير الأحداث المُلاحظة بالفعل في سياقٍ أعم، فقد أضافت إلى قائمة الجُسيمات عن طريق التنبؤ بوجود جُسيمات جديدة: جُسيم متعادل ويتوسط التفاعل الكهروضعيف (الذي يُسمى الآن Z0)، والجُسيمان W+ وW، وجسيم آخر ضخم يُسمى جسيم هيجز (والذي سوف نُناقشه مناقشةً أوفى بعد ذلك).

في عام ١٩٧٣ حدث تطوُّر نظري جديد: فقد اقتُرحت نظرية مجال كمِّي للتفاعل القوي لأول مرةٍ على يد موري جيل-مان وعالم الفيزياء الألماني هارالد فريتش. وكانت هذه النظرية، التي أُطلِق عليها اسم نظرية الديناميكا اللونية الكمية تُشبه نظرية الديناميكا الكهربية الكمية حيث تتفاعل الجسيمات الأساسية، الكواركات، عن طريق تبادُل جُسيمات افتراضية عديمة الكتلة (في نطاق عدم اليقين) تُسمَّى الجلوونات. ونظرًا لعدم رؤية الجلوون فكُنَّا لا نزال بحاجة إلى دليل يُثبت وجوده.

النموذج القياسي

بحلول مُنتصف سبعينيات القرن العشرين، كان قد جرى استيعاب التطوُّرات النظرية والتجريبية ولُخِّصَت في نظرية واحدة سُمِّيت بالنموذج القياسي. والاستدلال الرياضي — وهو ليس موضوع هذا الكتاب — يُشكل أساس الكثير من هذه الأفكار، لذا عليك أن تفطن إلى أن هذا النموذج يحمل في طيَّاته الكثير من المصاعب الرياضية.

والأساس الذي يقوم عليه النموذج القياسي هو فكرة أنَّ وحدات البناء الأساسية للكون هي المجالات وليس الجسيمات. ويُذكر أن المجالات قد ظهرت في الأصل لتتعامل مع مسألة الفعل عن بُعد الكلاسيكية. فكيف يؤثر جسم على جسمٍ آخر عندما يكونان مُتباعدَين ولا توجَد مادة بينهما؟ وقد أجاب نيوتن على هذا السؤال بالقول إن كِلا الجسمَين يؤثر كلٌّ منهما في الآخر.

ولكي نستطيع فهم المجالات يجب أن نذهب بهذه الفكرة المجردة إلى مستوًى أبعد. أَزِحْ أحد الجسمَين. والآن تخيَّل أن الجسم المُتبقي يُمكنه التأثير على أي جسمٍ يتصادف مروره. وهذا التأثير هو المجال الذي يستخدِمه الجسم الموجود. وإذا كان الأمر كذلك، فهناك احتمال أن يكون «المجال» بمنزلة «قوة». فمجال الجاذبية، على سبيل المثال، يُرْسَم غالبًا على شكل أسهُم تُشير باتجاه كتلة، كما يتَّضح في شكل ٢-٢. ومن المعروف أن الفضاء لا يحتوي على خطوطٍ أو أسهم فيزيائية، غير أن أي جسمٍ حقيقي عندما يُوجَد في أي نقطةٍ سيشعر بقوة، وستتَّجِه هذه القوة في الاتجاه الذي تُظهره الأسهم.
fig11
شكل ٢-٢: مخطط مجال الجاذبية.

وبالطريقة نفسها تُحيط خطوط المجال الكهربي بالشحنات الكهربية، وتُحيط خطوط المجال المغناطيسي بالمغانط. ونظرًا لأن برادة الحديد تتمتع بطاقةٍ مغناطيسية قوية جدًّا، فقد ساعدت النماذج الفيزيائية وصور الكتب التي تَعرض نماذج من برادة الحديد المُحيطة بالمغانط في جعل المجالات المغناطيسية تبدو وكأنها شيء ملموس.

ومع أن فكرة المجال بدأت كأداةٍ تخيلية فإنها الآن تقوم بدورٍ محوري في الفيزياء. ويري النموذج القياسي ما يأتي:
  • المجالات هي وحدات البناء الأساسية للكون.

  • تَنْتُج الحزم الصغيرة للطاقة (الكواركات أو اللبتونات) عندما تُطبَّق المبادئ الكمية على المجالات.

  • تحدث التفاعُلات بين الجسيمات عن طريق تبادل حزم طاقة أخرى (البوزونات)، وهذه البوزونات لا يمكن ملاحظتها نظرًا لاعتبارات مبدأ عدم اليقين.

لذلك، استُبدل بصورة الفعل عن بُعد الكلاسيكية التي تقرُّ بوجود قوة بين الجسيمات تفاعلٌ يتضمَّن تبادُل حزم طاقة افتراضية (كانت تُعرَف سابقًا باسم الموجات) بين حزمٍ كمية لطاقة المجال (التي كانت تُعرَف سابقًا باسم الجسيمات). ونتيجة لذلك فقد تغيرت الاعتقادات السابقة جذريًّا.

لذا، يتضمن النموذج القياسي نوعَين من التفاعلات، وهما التفاعُل القوي والتفاعل الكهروضعيف.
  • (١)
    التفاعل القوي: يُطلق اسم الكواركات على الجسيمات التي تنتج عن تطبيق المبادئ الكمية على مجموعةٍ من المجالات. وتُوجَد هناك ستة كواركات معروفة حتى الآن (بالإضافة إلى الكواركات المضادة التي تُصاحبها) وتصنف في ثلاث عائلاتٍ كما هو موضح في شكل ٢-٣. وقد سُمِّيت هذه العائلات كالآتي:
    • العائلة الأولى: علوي وسفلي.

    • العائلة الثانية: ساحر وغريب.

    • العائلة الثالثة: قمِّي وقاعي.

    fig12
    شكل ٢-٣: الكواركات.
    fig13
    شكل ٢-٤: اللبتونات.

    تتفاعل الكواركات بعضها مع بعضٍ عن طريق التفاعل القوي، ويتضمَّن هذا التفاعُل تبادل الجسيمات الافتراضية التي تُسمَّى بالجلوونات.

  • (٢)
    التفاعل الكهروضعيف: يُطلَق اسم اللبتونات على الجسيمات التي تَنتج عن تطبيق المبادئ الكمية على مجموعةٍ أخرى من المجالات. تُوجَد ستة لبتونات (ولبتونات مضادة مناظرة) وتُصنف في ثلاث عائلات كما هو موضح في شكل ٢-٤. وقد سُمِّيت هذه العائلات كالآتي:
    • العائلة الأولى: الإلكترون والنيوترينو الإلكتروني.

    • العائلة الثانية: الميون والنيوترينو الميوني.

    • العائلة الثالثة: التاو والنيوترينو التاوي.

fig14
شكل ٢-٥: الجسيمات الأساسية.
تتفاعل اللبتونات عن طريق تبادل جُسيمات افتراضية تُسمَّى الفوتونات، وجُسيمَين W، وجُسيم Z.
باختصار، يوضح شكل ٢-٥ الجُسيمات الأساسية وناقلات التفاعل.

يتضمن الجدول الآتي كلًّا من هذه الجسيمات ومداراته وشحناته وكُتلته. لاحظ النطاق الواسع للكتل أثناء مشاهدتك لعمود الكتل؛ وهو أمر سنتعرَّض له بالتفصيل بعد ذلك.

جدول ٢-١: الجُسيمات الأساسية وكُتلها
الجسيمات الكتلة التقريبية
(بوحدات الجيجا إلكترون فولت*)
الفرميونات
كوارك علوي ٥ × ١٠−٣
كوارك سفلي ٩ × ١٠−٣
إلكترون ٠٫٥١ × ١٠−٣
نيوترينو إلكتروني >٧٫٢ × ١٠−٩
كوارك ساحر ١٫٣٥
كوارك غريب ٠٫١٧٥
ميون ٠٫١٠٦
نيوترينو ميوني >٢٫٧ × ١٠−٤
كوارك قمي ١٧٤
كوارك قاعي ٤٫٥
تاو ١٫٧٨
نيوترينو تاوي >٣ × ١٠−٢
البوزونات
فوتون صفر
W وW+ ٨٠٫٢
Z ٩١٫٢
جلوون صفر
هيجز (لا يُوجَد دليل على وجوده بعد) من ٦٣ إلى ٨٠٠
حُدِّدَت الكتلة وفقًا إلى وحدات الطاقة المعروفة باسم «جيجا إلكترون فولت» وهي تُساوي مليارات من الإلكترون فولت، (وقد جرى التوصُّل إليها وفقًا لمعادلة أينشتاين: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء.

ووفقًا للنموذج القياسي ها هي الطريقة التي تعمل بها الذرة. تترابط البروتونات والنيوترونات في النواة بواسطة تبادُل جلوونات افتراضية بين الكواركات التي تكوِّن هذه البروتونات والنيوترونات. ثم تترابط الإلكترونات مع البروتونات في النواة بواسطة تبادل فوتونات افتراضية. لاحظ وجود ثلاث عائلات من الكواركات ويُماثلها بالضبط ثلاث عائلات من اللبتونات. بالطبع، لا أحد يعرف لماذا تُوجَد ثلاث عائلات تحديدًا من الكواركات واللبتونات. وتُعَد العائلة الأولى في كلٍّ من الكواركات واللبتونات مُستقرةً وتُشكل كل المادة التي تُحيط بنا. ولكنَّ العائلتَين الأُخرَيَين غير مُستقرتَين وبعد وقتٍ قصير يتحللان إلى أقربائها الأكثر استقرارًا. وإذا كنت تتساءل عن إمكانية وجود عائلات أخرى من الكواركات واللبتونات فلم تُكْتَشَف بعد، ففي الحقيقة يُوجَد دليلان تجريبيان يشيران إلى أن عدد هذه العائلات هو ثلاثة فقط. يعتمد الدليل الأول على نتائج المُسرع عام ١٩٩٨ بشأن عدد النيوترينوات عند تحلُّل جُسيم معين (جسيم لامدا صفر)، واعتمد الدليل الآخر على بيانات فلكية (سنتعرض لهذا الموضوع بالتفصيل في القسم التالي).

يتضح من الجدول أن جميع الجسيمات لها كتلة باستثناء الجلوونات والفوتونات التي كتلتها صفر. وتفسر الكتلة الصفرية للفوتون المدى الطويل للتفاعل الكهرومغناطيسي لأن ناقله يمكنه أن ينتقل بسرعة الضوء. ويملك التفاعل الضعيف مدى أقصر كثيرًا لأن جسيماته الناقلة لها كتلة كبيرة ولا يُمكنها أن تنتقِل بنفس سرعة الفوتونات. وتخضع جميع الكواركات واللبتونات لمجموعةٍ من القواعد الإحصائية أَعَدَّها العالِمان فيرمي وديراك، وتُسمى بالفرميونات. ويُتَحَكَّم في ناقلات التفاعُل بواسطة مجموعة أخرى من القواعد أعدها عالم الفيزياء الهندي ساتيندراناث بوز وأينشتاين، وتُسمى بالبوزونات. (انظر مجلد الأفكار ٣، الفرميونات والبوزونات).

اختبار النموذج القياسي

أُعْلن عن النموذج القياسي لأول مرةٍ عام ١٩٧٤. وفي ذلك الحين لم تكن قد اكتُشفت بعد السبعة جسيمات التي تنبأت بها هذه النظرية. وفي أثناء العشرين عامًا التالية من البحث التجريبي اكتُشفت جميع الجسيمات ما عدا جسيم هيجز، وذلك من خلال تجارب مُتتالية وباستخدام تصادُمات مُسرِّعات أعلى طاقة.

وإلى جانب ملاحظة الجسيمات نفسها، اخْتُبِرَت تجريبيًّا الكثير من خصائصها التي تنبَّأ بها النموذج القياسي، وكان هناك توافُق ملحوظ بين التنبُّؤ والتجربة. وتُعتبر إزاحة لام أحد الأمثلة على ذلك. ففي عام ١٩٤٧، قاس عالم الفيزياء الأمريكي ويليس لام التبايُن في تردُّد الإشعاع المُمتص أو المُنبعث عندما ينتج الهيدروجين تحولًا بين مُستويَين من الطاقة قريبَين للغاية من حيث المسافة. بعد ذلك، وباستخدام النموذج القياسي، جرى التنبؤ بأن تردُّد الضوء المنبعث بواسطة هذا التحول سيكون ١٠٥٧٫٨٦٠ +/−٠٫٠٠٩ ميجاهرتز. وعندما قاس لامب التردُّد كانت النتيجة ١٠٥٧٫٨٤٥ +/−٠٫٠٠٩ ميجاهرتز. ويتَّضح من ذلك أن الاختلاف بين القيمتَين هو حوالي جزء من اﻟ ١٠٠٠٠٠ فقط. وعندما يؤخَذ عدم اليقين في الاعتبار يتوافق التنبُّؤ مع التجربة جوهريًّا. وقد حدث هذا التوافُق الملحوظ في الكثير من التنبؤات والتجارب الأخرى التي حدثت في ظلِّ النموذج القياسي، الذي يُقدم النظرية مع دعمٍ تجريبي قوي.

يتطلَّب البحث عن المزيد من الجُسيمات الكبيرة مسرِّعات أضخم. والفيزياء لجأت — لأسباب اقتصادية — إلى استخدام طُرق اختبار مُنخفضة التكاليف. فكما استخدم كارل أندرسون الأشعة الكونية التي تحدث بصورةٍ طبيعية كمصادر للجسيمات العالية الطاقة، حاول علماء الفيزياء البحث عن ظهور طبيعي للجسيمات العالية الطاقة أكثر التي تحدَّث عنها النموذج القياسي. وكانت المرة الوحيدة التي ظهرت فيها هذه الجسيمات العالية الطاقة بصورةٍ طبيعية هي أثناء اللحظات الأولى من الانفجار الكبير عندما بدأت كل مادة الكون وطاقته في التمدُّد. فقد كانت الظروف المناخية خلال الجزء الأول من الثانية لأول كرة نار للانفجار الكبير حارةً وكثيفة. وفي ظلِّ هذه الظروف وُجِدَت جميع عائلات الجُسيمات الأساسية، لذا فقد وفرت اللحظات الأولى من الانفجار الكبير مختبرًا هائلًا لاختبار النموذج القياسي. ومع صعوبة العودة إلى تلك الفترة فإننا من المُمكن أن نتنبَّأ بالظروف الحالية ونُقارنها بالواقع المقاس.

كثيرًا ما كان عالِم فيزياء الجسيمات الفلكية ديفيد شرام يُردد القول الآتي الذي اقتبسَه من عالِم الفيزياء السوفييتي ياكوف زلدوفيتش: «الكون هو مُسَرِّع الرجل الفقير، حيث التجارب لا تحتاج إلى مالٍ لإجرائها، وكل ما علينا فعله هو جمع البيانات التجريبية وتفسيرها تفسيرًا صحيحًا.» على سبيل المثال، إذا كانت تُوجَد «أربع» عائلات من الجسيمات الأساسية فسنجد أن مقدار الهيليوم الذي تكوَّن أثناء الدقائق الأولى لتمدُّد الانفجار الكبير كان سيُشكل أكثر من ٢٦٪ من الكون الموجود حاليًّا. وإذا كانت هناك «ثلاث» عائلات من الجُسيمات الأساسية فسنجد أن مقدار الهيليوم الذي تكوَّن كان سيُشكل ٢٥٪ فقط من الكون. وحيث إننا قد اكتشفنا أن مقدار الهيليوم في الكون هو ٢٥٪، فإن اشتمال النموذج القياسي على ثلاث عائلات بالضبط من الكواركات واللبتونات يلقى دعمًا تجريبيًّا قويًّا.

إن الجمع بين جهود فيزياء الطاقة العالية والفيزياء الفلكية فيما يخص تحليل اللحظات القليلة الأولى للانفجار الكبير قد قدم أفكارًا مثمرة. على سبيل المثال، إن الجمع بين ثلاثة ثوابت أساسية كونية (ثابت بلانك، وسرعة الضوء، وثابت الجاذبية) بطرُق عديدة ينتج عنه الحد الأدنى من قِيَم الكميَّات الأساسية مثل الزمن والكتلة والطاقة. وتُسمى هذه القِيَم بمقاييس بلانك، وهي كما يأتي:

الزمن: ١٠−٤٣ ثانية الطول: ١٠−٣٥ متر الطاقة: ١٠٩ جول

على أنه إذا رُكِّزَت طاقة بلانك في حجمٍ قدرُه مكعب طول بلانك، فسنجد أن الكتلة المكافئة (الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء) الموجودة في هذا الحيز الصغير ستكون كثيفةً للغاية لدرجة أن الضوء لن يستطيع المرور خلالها وسينعزل عن باقي العالم، أي سيكون ثقبًا أسود. وإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية فسنجد أنه لن يكون هناك أي معنًى للمسافات أو الأزمنة إذا كانت قِيَمها أصغر من قِيَم مقاييس بلانك، فهذا هو المستوى الذي يكون تحته الزمن والمكان مجرد «رغوة كمية» حيث لا ينطبق أي قانون من قوانين الفيزياء.

يقدم الاستدلال المَبني على مقاييس بلانك صورةً محتملة لبداية الكون. فقد جرى إخضاع التقلُّب الكمِّي تحت المجهري إلى مرحلة تضخُّمية من التمدُّد الهائل السرعة، حيث حدثت بعض التحولات، أما القوى الأربع فقد «تجمَّدت» في ظلِّ برودة درجة الحرارة، وهذه العملية تُشبه الطريقة التي تتحوَّل بها المياه السائلة إلى ثلج. ويمكن القول إنَّه إذا كانت التفاعلات مع مجال هيجز تُحدد كُتَل الجسيمات (انظر القسم بعد التالي)، فربما تحددت قيم هذه الكتل بشكل عشوائي، بناءً على تفاصيل عملية التبريد. وإذا كان الحال كذلك فربما تكون أكوان عديدة قد تكوَّنت بالطريقة نفسها، ولكن مع وجود اختلافٍ طفيف في قِيَم كُتَل الجسيمات الأساسية. انظر قسم «مجلدات الأفكار» للحصول على المزيد من المعلومات حول هذا الموضوع.

الجانب المظلم في النموذج القياسي

يواجِه النموذج القياسي اعتراضاتٍ عديدة. يستند الاعتراض الأول على أُسس رياضية. فغالبًا يتطلَّب حلُّ معادلات النموذج القياسي المُتعلقة بخصائص الجسيمات استخدام أسلوبٍ رياضي تقريبي يُسمى الاضطراب. وفيه تُحَدَّد قيمة أي كميةٍ بأي مستوًى مرغوب من الدقة عن طريق زيادة عدد الحدود الرياضية في مُتسلسلة مُحددة رياضيًّا بناءً على قوى أكبر بشكلٍ متتالٍ من كمية ما يطلق عليها اسم المعامل. وما دامت هذه القيمة صغيرة تُصبح الحدود الرياضية المُتتالية في المتسلسلة أصغر، لذا قد لا تكون هناك حاجة لحدود كثيرة جدًّا للحصول على الدقة المطلوبة. لكن نظرًا لأنه ليست جميع المُعاملات صغيرة، تتطلَّب بعض العمليات الحسابية حدودًا كثيرة. وعلاوة على ذلك، غالبًا تظهر نتائج لانهائية على نحوٍ غير مُتوقَّع في العمليات الحسابية التي تتضمَّن النموذج القياسي. ويلزم هنا استخدام عملية رياضية بارعة تُعرف باسم إعادة الاستنظام لتجنُّب هذه الانحرافات المُربكة. وتتضمَّن عملية إعادة الاستنظام طرح مُتسلسلة لانهائية واحدة من متسلسلة أخرى والإبقاء على الحدود الرياضية التي تتوافق مع النتيجة المعروفة فقط.

ينتقِد الكثير من المُنظِّرين النموذج القياسي بسبب هذه الصعوبات الرياضية مُعتبرين أن هذا النموذج غير ملائم. ربما يكون عدم رضا الفيزياء عنه مرتبطًا بالافتراض الفلسفي الذي يقول إنه لا يجب معرفة الكون فقط، بل معرفتنا يجب أن تكون بسيطةً ومرتبة وتامَّة في ذاتها رياضيًّا. بالطبع، لا تؤثر هذه الانتقادات على مدى التوافُق الملحوظ بين التنبؤ والتجربة الذي يُقدمه النموذج القياسي، كما أنها لا تُقلل من أهمية النموذج القياسي في تفسير العديد من الظواهر الكونية. على أن هذه الانتقادات هي ما تدفع المُنظرين إلى البحث عن نظريةٍ أفضل.

على مستوًى علميٍّ أعمق يتضمَّن النموذج القياسي نقطة ضعفٍ جوهرية، يُشار إليها بمصطلح كسر التماثُل الكهروضعيف. إن الفوتون، وهو عبارة عن بوزون عديم الكتلة، ينقل الجزء الكهرومغناطيسي من التفاعُل الكهروضعيف. ومن أجل المحافظة على التماثل، فإن الجزء الضعيف من التفاعُل الكهروضعيف يجب أن ينقله أيضًا بوزون عديم الكتلة. غير أن هذا لا يحدث. إذ إن ناقلات التفاعُل الضعيف هي جُسيمان W وجسيم Z ولكل منها كتلة كبيرة على نحوٍ يجعلها تفوق حجمًا معظم الكواركات. وهكذا يُكسر التماثل ولا يملك النموذج القياسي تفسيرًا لهذه النتيجة.

وكانت أكثر الانتقادات خطورة للنموذج القياسي تتعلَّق بالجاذبية وأصل الكتلة. فالنموذج القياسي يتجاهل الجاذبية تمامًا، كما أنه يتطلَّب قياس كُتل الجسيمات وشحناتها والكثير من الخصائص الأخرى بشكلٍ تجريبي لكي تُدرج في المعادلات. وأيًّا ما كانت النظرية التي ستحل محل النموذج القياسي فيجب عليها أن تتعامل مع هذه المُشكلات، ومع ذلك تتفق مع النموذج القياسي في المجالات التي تتوافق فيها تنبؤاته مع الواقع توافقًا كبيرًا.

مشكلة أصل الكتلة أو مشكلة مجال هيجز

على أساسٍ رياضي بحت افترض عالِم الفيزياء الاسكتلندي بيتر هيجز وعلماء آخرون في عام ١٩٦٤ وجود مجالٍ نافذ أُطلق عليه فيما بعدُ اسم مجال هيجز. وتكتسب جميع الجسيمات التي تتفاعل مع مجال هيجز كتلةً نتيجة لتفاعُلها مع هذا المجال. أو بمعنًى آخر، تتكوَّن الكتلة كلها نتيجة لهذا التفاعل.

لقد شُبِّهَت آلية منح الكتلة هنا بالجنود الذين يخوضون في دبس السكر. حيث يزداد حجم هؤلاء الجنود نتيجةً لالتصاق الدبس بهم أثناء السير. وهناك تَشبيه آخر وهو حفلة الكوكتيل التي يتوزَّع فيها الضيوف بانتظامٍ حول غرفةٍ ما. وعندما تدخل شخصية مُهمة جدًّا، يلتفُّ حولها أقرب الموجودين منها وهذا يزيد من كتلتها الفعلية. وكلما زادت أهمية الشخصية، زاد الالتفاف حولها من كُتلتها.

ووفقًا لهذه النظرية تتفاعل الجسيمات المختلفة بشكلٍ مختلف مع مجال هيجز، مما يمنح كتلًا كبيرة لجسيمات W وجسيم Z، وكتلة صفرية للفوتون والجلوون. لذا، فإذا كانت آلية مجال هيجز تمنح كتلةً حقًّا إلى الجسيمات الأساسية فهي بذلك تُقدِّم على الأقل إجابةً جزئية للمشكلة المُستعصية المتعلقة بأصل الكتلة.

ولكن كيف يُمكننا التأكُّد من أن مجال هيجز حقيقي وليس مجرد تصوُّر رياضي؟ والإجابة هي أنه يمكن لصدمة كبيرة بالقدْر الكافي — مثل وقوع تصادم قوي للغاية بين الجُسيمات داخل حدود الدبس الكوني المعروف بمجال هيجز — أن تحدث اهتزازًا لهذا الدبس. ويُمكن تسجيل هذا الاهتزاز. ومن المؤكد وجود جسيم هيجز «ينقل» مجال هيجز بالطريقة نفسها التي «ينقل» بها الفوتون المجال الكهرومغناطيسي.

في الشكل الأبسط للنظرية، جُسيم هيجز واحد فقط «ينقل» تفاعل هيجز. وتقول النظريات الأكثر تعقيدًا إنه يُوجَد الكثير من جسيمات هيجز، ولكن يبقى جسيم واحد يُعَد هو الأخفَّ من بينها. ومن المُحتمل أن يكون هذا الجسيم الخفيف في نطاق المسرعات الحالية.

لعدة سنوات بحث معمل سيرن (وهو المعمل الأوروبي لفيزياء الجسيمات في جينيف بسويسرا) عن جُسيم هيجز في مُسَرِّع يُعرَف باسم مُسرع «مصادم الإلكترونات والبوزيترونات الكبير». سُجِّلَ حدوث أحد الأمور المُحتملة وإن كانت غير متوقَّعة عند ١١٥ جيجا إلكترون فولت (انظر جدول كُتَل الجسيمات السابق)، ولكن هناك حاجة لبيانات أكثر لضمان أن الخلفية لم تتدخَّل في النتائج. في عام ٢٠٠١، أغلق معمل سيرن هذا المُسرع لكي يبني مُسرعًا أعلى طاقة باستخدام النفق نفسه. وقد سُمِّيَ هذا المُسرع بمسرع «مصادم الهادرونات الكبير» ومن المُنتظر أن يعمل في عام ٢٠٠٥، وستكون لهذا المُسرع طاقة أكبر (إذ تصل طاقته إلى ٨٠٠٠ جيجا إلكترون فولت/حزمة) لتجعله أكثر فعاليةً بكثير. ويذكر أنه منذ مارس ٢٠٠١، بدأ معمل مسرع فيرمي الوطني في باتافيا بولاية إلينوي في البحث عن جُسيم هيجز في التيفاترون الخاص به (١٠٠٠ جيجا إلكترون فولت/حزمة)، ولكن الأحداث التي كان من المتوقَّع أن تدلَّنا على جسيم هيجز كانت متباعدةً بحيث ربما يستغرق الأمر وقتًا طويلًا للحصول على بيانات كافية حتى تكون ذات أهميةٍ إحصائية. وأقر الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب «المصادم الفائق ذا التوصيل الفائق» عام ١٩٨٧، وكان الهدف الرئيسي لهذا المصادم هو البحث عن جُسيم هيجز، وقد دُعِّم بطاقة كبيرة (٢٠ ألف جيجا إلكترون فولت/حزمة) وقوة حزم هائلة من أجل هذه المهمة. ولكن أوقف الكونجرس الأمريكي العمل بهذا المصادم عام ١٩٩٣.

fig15

وإذا حاولنا استباق نتائج البحث عن جُسيم هيجز، وقلنا إننا وجدناه وكانت كتلته في نطاق قدرة المُسرع الحالي، فيمكن للنموذج القياسي أن يمتدَّ ليشمل آثاره. ومع ذلك فلن يحل هذا مشكلة أصل الكتلة أو يُبدد جميع صعوبات النموذج القياسي، ولكن فلتكن هذه هي البداية.

ولكن إذا جرى الوصول إلى جُسيم هيجز وتعدتْ كتلتُه النطاقَ المتوقَّع، فيجب أن يتوقَّف النموذج القياسي لأنه يتنبأ بأحداثٍ تتخطى نسبة احتمال ظهورها ١٠٠٪. وسوف يتطلب هذا الموقف إصلاحًا جوهريًّا للنموذج القياسي أو إحلاله بنظرية أخرى.

أما إذا جرى الوصول إلى الكثير من جُسيمات هيجز فستُوجَد حاجة إلى نظرياتٍ جديدة تتجاوز النموذج القياسي.

أما إذا لم يُكْتَشف جسيم هيجز فسيتطلَّب الأمر مرة أخرى إحلالًا للنموذج القياسي. وسنُناقش تلك النظريات التي ربما تحلُّ محلَّ النموذج القياسي في القسم التالي.

لذلك يُعد اكتشاف جسيم هيجز، أو على الأقل وضع حدٍّ أقل لكُتلته، أمرًا مُهمًّا لبداية فَهم النمط المُعقد لكتل الجسيمات. ومع ذلك فبعض النظريات تعتقِد أن مجال هيجز هو مجرد حلٍّ سريع غير فعَّال ولن يحلَّ مشكلتنا الأساسية وهي أصل الكتلة. فقد وُصف جُسيم هيجز بأنه بساط الجهل الذي تُجرف تحته المشكلات الجوهرية للنموذج القياسي.

يُمثل تجاهل النموذج القياسي للجاذبية جانبًا آخر لمشكلة الكتلة غير المحلولة. وإن أسهل طريق يمكن اتباعه في هذا الشأن هو ابتكار نظرية جاذبية كمية. وتُعَد نظرية النسبية العامة لأينشتاين أفضل نظرية جاذبية، لذا فلماذا لا نطبق فقط المبادئ الكمية على نظرية النسبية العامة؟ لأن الأمر ليس بهذه السهولة. فالنسبية العامَّة هي نظرية كلاسيكية تدور حول كيفية ارتباط الهندسة المرِنة الواسعة النطاق للكون بالكتلة. وهذه النظرية تعمل بشكلٍ جيد مع المسافات الكبيرة، ولم تُنفَّذ أي تجارب واسعة على المسافات بين الجُسيمات التي تقل عن مليمتر. ويعني ذلك أن قوة الجاذبية تمتدُّ ببساطة إلى عالَم الكائنات الدقيقة. ولكن على الجانب الآخر يُعامِل النموذج القياسي المجالات وكأنها مكونة من جسيمات فردية ويعمل في نطاق صغير جدًّا. لذا فعندما حاول المنظِّرون تطبيق المبادئ الكمية على نظرية النسبية العامة أنتجت النظرية نتائج لانهائية لكمياتٍ تبدو أنها نهائية بجلاء.

توجَد صعوبة أخرى تكمن في الضعف الكبير للجاذبية مقارنةً بالقوى الأخرى. ولكي تكون الجاذبية على المستوى نفسه مع التفاعُل القوي والتفاعل الكهروضعيف، تحتاج أن تكون بالقوة نفسها. ويشار إلى هذا الأمر بمشكلةِ التسلسل الهرمي. حيث تُوجَد فجوة طاقة هائلة بين الطاقات التي ينطبق عليها النموذج القياسي والطاقة التي تُصبح عندها الجاذبية الأضعف مُماثِلةً من حيث القوة للتفاعل القوي والتفاعل الكهروضعيف. ولا أحد يعرف لماذا توجد هذه الفجوة الهائلة في الطاقة.

الحاجة إلى فيزياء جديدة

في الحقيقة لا يُوجَد دعم تجريبي لأي نظريةٍ سوى نظرية النموذج القياسي. ومع ذلك فنظريات كثيرة مُحتملة تنتظر أن تخضع للاختبار. وفيما يأتي بعض هذه النظريات:

  • النظريات الموحدة الكبرى ونظريات الكل: يبدو هذان الاسمان مُضلِّلَين لأنهما يَعِدان بأكثر مما يستطيعان أن يُقدماه. وفي حقيقة الأمر إنهما مصطلحان جامعان يُشيران إلى دمج التفاعلات المعروفة في نظرية واحدة شاملة. فالنظريات الموحدة الكبرى تدمج التفاعل الكهروضعيف والتفاعل القوي. ولكن نظريات الكل وهي أكثر طموحًا فهي لا تتضمَّن التفاعل القوي والتفاعل الكهروضعيف فحسب بل تتضمَّن أيضًا تفاعل الجاذبية. ولكن حتى لو حُدِّثَت هذه النظرية فهي لن تُنذر بنهاية البحث العلمي. فهناك الكثير من المشكلات الأخرى التي تواجه العِلم. وهذا الكتاب مليء بتلك المشكلات.
  • نظرية إم: يقول عالم الفيزياء بجامعة برينستون إدوارد ويتن إن حرف إم في مصطلح نظرية إم M-theory يرمز إلى الكلمات «سحري» Magical أو «غموض» Mystery أو «غشاء» Membrane. وتتكون هذه النظرية الشاملة من نظريات جزئية سابقة مثل نظرية الأوتار ونظرية الأوتار الفائقة أو النظريات الغشائية. فبدلًا من معاملة الكواركات واللبتونات كجُسيمات نقطية (أحادية الأبعاد)، تقول هذه النظرية إن هذه الجسيمات ثنائية الأبعاد (الخطوط أو الأوتار) أو حتى لها أبعاد (أغشية) أكثر. تدمج هذه النظريات جميع القوى، بما في ذلك الجاذبية، ولا تتضمَّن قِيمًا لانهائية مُربكة تتطلب إعادة استنظام مثل النموذج القياسي. ونظرًا لأن جميع هذه النظريات تتطلَّب أكثر من أربعة أبعاد (١٠ و١١ و٢٦ هي أكبر الخيارات حتى الآن)، ربما تتفاوت الأبعاد الإضافية، ما بين أبعادٍ صغيرة جدًّا لا يمكن قياسها في حدود تقنيات القياس المتوفرة الآن، وبين أبعادٍ كبيرة للغاية تصِل إلى ما لا نهاية. تقول إحدى النظريات إن جميع أبعاد الكون بدأت بالحجم نفسه، ثم انفصلت وتغير حجمها في الوقت الذي استمر فيه التمدُّد، وبردت درجة الحرارة. إن إحدى الصعوبات التي تُواجهنا أثناء الاختيار من بين النظريات العديدة في هذه الفئة، هي أن خبرتنا أو بديهيتنا لا تستطيع أن تتسع لتتخطى حدود الأبعاد الأربعة التي نعيش فيها.
  • التناظر الفائق: إذا كان من المُمكن للفرميونات والبوزونات أن نضع أحدهما مكان الآخر، فيجب أن تظلَّ المعادلات التي تصف التفاعلات الأساسية سارية. تتنبأ هذه النظرية بوجود نظائر فائقة أضخم لجميع الجُسيمات الموجودة. وإذا ما وُجِدَت هذه النظائر الفائقة فربما يكون لواحِدٍ أو أكثر منها كتلة صغيرة بما يكفي للتحول إلى البحث عن بوزون هيجز. ربما تفسر النظائر الفائقة التناظر أيضًا المادة المُظلمة (انظر الفصل السادس). (تُسمَّى النظائر الفائقة بإضافة السابقة «س» بالنسبة للفرميونات؛ فالنظير الفائق للإلكترون يُسمى السلكترون، والنظير الفائق للبروتون يُسمى السبروتون، وهكذا. في حين تضاف اللاحقة «ينو» لتسمية النظائر الفائقة للبوزونات؛ فالنظير الفائق للفوتون يُسمى الفوتينو وذلك الخاص بجسيم W يُسمى الوينو وهكذا.)
  • نظرية التكنيكلر: تنظر هذه النظرية إلى الكواركات واللبتونات على أنها مركبات تتكون من جُسيمات صغيرة. وحيث إن هذه النظرية تتنبأ بوجود جسيماتٍ جديدة فيمكن اختبار هذه الفكرة.
  • نظرية تويستور: أُعيدت في هذه النظرية صياغة كلٍّ من النموذج القياسي ونظرية النسبية العامة، باستخدام أعدادٍ مُركبة تمثل الزمكان. (والعدد المُركب يتحدَّد من العلاقة a + ib حيث i هو الجذر التربيعي ﻟ −1 وكلٌّ من a وb عدد حقيقي). لكن المَغزى من وجود الأعداد المُركبة في العالم الحقيقي لم يتَّضح حتى الآن؛ فلا يمكن استخدامها لحساب أو قياس أي كياناتٍ ملموسة.

كالعادة، لتجنُّب الدخول في فئة النظريات المُهملة يجب على كل فرضيةٍ علمية أن تقدم تنبُّؤات مدعمة بالدليل التجريبي. يكون بعض هذه النظريات الجديدة مجردًا للغاية ولا يؤدي إلى تنبؤات يمكن إخضاعها للتجارب، ويكون البعض الآخر صعبًا للغاية ولا يُتيح القيام بعملياتٍ حسابية، ويتضمن البعض الثالث كمياتٍ لا يُمكننا الوصول إليها في عالَمنا المُحيط بنا حتى نتمكن من تطبيق أي قيودٍ بناءً على خبرتنا أو بديهتنا. وسيتطلَّب توفير الدليل التجريبي لبعض الجُسيمات، الضخمة جدًّا المُحتمَلة، أن يكون لدَينا مُسرع بنفس حجم النظام الشمسي.

يرى مبدأ التناظُر الخاص بنيلز بور الذي ظهر في عشرينيات القرن العشرين أن ميكانيكا الكم يجب أن تتوافق مع الفيزياء الكلاسيكية في حالاتٍ تكون فيها النظرية الكلاسيكية دقيقة. وبتطبيق هذا المنطق على هذه الحالة، يجب على أي نظريةٍ جديدة أن تتوافق مع النموذج القياسي خاصةً في الحالات التي يُدَعَّم فيها النموذج القياسي بالدليل التجريبي. قد يستغرق الوصول لمِثل هذه النظرية بعض الوقت.

هل هناك حاجة إلى لغةٍ جديدة؟

مع أن أوصاف النموذج القياسي والنظريات التي من المُمكن أن تحلَّ محلَّه مفاهيمية محضة، فلا يجب أن ننخدع. فاللغة التي جرى استخدامها للتعبير عن النموذج القياسي هي لغة رياضية، وهذه اللغة نفسها ربما تكون غير ملائمة. وربما تكون هناك حاجة لمفاهيم رياضية جديدة. على سبيل المثال، حتى يتمكن نيوتن من تفسير الحركة ابتكر التفاضُل والتكامل الذي يمكن أن يُستخدَم مع الدوالِّ المُتغيرة والأعداد الصغيرة. ونحن نعرف اليوم أن الكون يتكون من دوالَّ غير مستمرة وأعداد كبيرة، ولكن لا يزال الكثير من المعادلات يُصاغ بلغة التفاضل والتكامل. (سنتعرض في الفصل الخامس للتنبؤ بالطقس، والذي يحتوي على صعوبات مُماثلة.) وتتضمن الكثير من النظريات التي تسعى لتحلَّ محلَّ النموذج القياسي مفاهيم رياضية تتصف بمستوًى أكثر تعقيدًا من التفاضل والتكامل، مثل الزمرات والحلقات والمِثاليات والهياكل الطوبوغرافية. وينبغي علينا إدراك أن كتابة المعادلات التي تصف عمل الكون شيء. وأن حلَّ هذه المعادلات على نحو دقيق وصحيح فيزيائيًّا شيء آخر.

حل اللغز: كيف ومن وأين ومتى؟

  • كيف؟: باختصار، نحن لا نزال نجهل من أين حصلت وحدات البناء الأساسية للكون على كتلتها، ونحن حتى غير متأكدين من أننا استطعنا تحديد جميع هذه الوحدات. ومع ذلك فهناك احتمالات نظرية وتجريبية لتعميق فَهمنا لتلك الأمور.
  • مَن؟: على الجانب النظري، هناك الكثير من المُنظِّرين الذين يعملون بجدٍّ واجتهاد وربما يُحقق أي منهم أحد الإنجازات العلمية في أي وقت. ومن أمثلة هؤلاء العلماء، إدوارد ويتن، وفرانك فيلتشيك، وميتشيو كاكو، وإم جيه دوف، وروجر بينروز، وجوردون كين، ولي سمولين.
  • أين ومتى؟: تجريبيًّا، يستمر البحث عن جسيم هيجز في معمل فيرمي، وسوف يُستأنف البحث عنه في معمل سيرن في عام ٢٠٠٥. وربما يجري تصميم وبناء أدوات أخرى بعد ذلك.

    ولتتبع هذه التطورات تابع الروابط الموجودة في القسم الذي بعنوان «مصادر للتعمق». ومن المتوقع أن تكون الاكتشافات المستقبلية مهمةً ومفيدة ومدهشة أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥