الكيمياء
من الهراء أن نُفكر حاليًّا في أصل الحياة فحسب، فعلينا أن نفكر كذلك في أصل المادة.

الحساء البدائي
إن الخطوات المناسبة لعمل أي وصفةٍ هي وجود مكونات صحيحة. ومقادير مناسبة. ثم خلط هذه المكونات والمقادير معًا في ظلِّ درجة حرارة مناسبة. ولفترةٍ زمنية مناسبة. وبناءً على المكونات والمقادير ودرجة الحرارة والزمن، قد يكون الناتج كعكة عيد ميلاد أو طبقًا من الشوفان. أو قد يصف الحساء الكوني البدائي المُمتلئ ببعض الجزيئات العضوية. وعندما تندمج هذه الجزيئات العضوية الأولية تكوِّن جزيئاتٍ ذاتية التضاعف أكبر حجمًا تتكون من بروتينات وأحماض نووية. ويذكر أن تكوين مثل هذه الجزيئات الذاتية التضاعُف الكبيرة في الحجم ينتج عنه خلق الشفرة الوراثية وهو ما يرادف بالضبط خلق الحياة نفسها.
يتناول هذا الفصل الارتباط بين التطوُّر الكيميائي، أو قبل البيولوجي، والتطور البيولوجي. فهو يناقش المكونات والمقادير ودرجة الحرارة والزمن والتسلسلات التفاعُلية التي أدَّت إلى التحول الذي حدث منذ ما بين ٤٫٥ و٣٫٨ مليار سنة، ويناقش أيضًا كيف استطاع كوكب غير حي إنتاج أول كائنٍ حي خاص به.
تطور الأنظمة الكيميائية
بغضِّ النظر عن الطريقة التي تمكنت بها اللبتونات والكواركات من الحصول على كُتلها، فقد تمت المهمة بنجاح وحدث الانفجار الكبير. وأثناء تمدُّد الكون وتبرُّده، التحمت الكواركات لتُشكل البروتونات والنيوترونات. وحدث اندماج نووي كان كافيًا لإنتاج أنوية الهيليوم التي تُشكل ٢٥٪ من المادة الموجودة في الكون. وجاءت المادة المُتبقية المكوِّنة للكون في شكل بروتونات. وبمرور الزمن التحمت السُّحب الغازية العِملاقة بفعل الجاذبية وكوَّنت المجرات والنجوم. وأُنتجت أنوية ذرية أضخم من أنوية الهيليوم في مراكز هذه النجوم. وعند انتهاء دورة حياتها، انفجرت بعض هذه النجوم وأفرغت الكثير من أنويتها في المادة البين نجمية، حيث استطاع معظمها جذب الإلكترونات وبناء شكل المادة الذي نعرفه ونعشقه وهو الذرات. وبعد ذلك بفترةٍ أطول وجدت الذرَّات نفسها في سُحب كبيرة تُسمَّى السُّدم، ثم التحمت هذه السحب بفعل الجاذبية وكونت المزيد من النجوم إضافةً إلى الكثير من الأجسام الأصغر حجمًا، بما في ذلك كوكب الأرض.
ثم شاركت الذرات الإلكترونات مع ذرات أخرى وكوَّنت «الجزيئات». وهنا جاء دور الكيمياء لتُجيب على تساؤلات مثل: هل يمكن أن تندمج ذرات مُعينة أم لا، وعدد كلٍّ من الذرات المشاركة، وسرعة التفاعل، وحجم الطاقة المطلوب أو المُنتج، والكثير من الاعتبارات المُختلفة الأخرى. وتُمَثَّل التغيرات الكيميائية في شكل معادلات:

ومع أن الكيمياء استطاعت حل الكثير من الألغاز المُعقدة الخاصة بالتركيبات الذرية والجزيئية، فلا يزال هناك لُغز كبير لم يحل بعد وهو: ما سلسلة التفاعلات الكيميائية التي استطاعت ذرات كوكب الأرض الأولى من خلالها أن تتطوَّر إلى النظام المُعقد القائم على الجزيئات المتفاعلة التي تُبدي تلك السلوكيات التي نُطلق عليها الحياة؟
هناك ذرة واحدة تحمِل المفتاح إلى حلِّ لغز الأنظمة الحية، وهذه الذرة هي «الكربون». إذ تتطلَّب بنية إلكترونات الكربون أن تتشارك الإلكترونات (أي، تكون رابطة تساهُمية) وتكوِّن أربعة روابط، أو أزواج متشاركة من الإلكترونات. وقد تكون هذه الروابط فردية أو زوجية أو حتى ثلاثية. علاوة على ذلك تتَّحِد ذرات الكربون بسهولةٍ مع ذرات الكربون الأخرى. وتؤدي هذه المرونة في التشكيل الهيكلي إلى ظهور جزيئاتٍ تأخُذ صورًا وأشكالًا مُتعددة تتفاوت من أشكالٍ بسيطة جدًّا إلى أشكالٍ غاية في التعقيد.
تُسمَّى دراسة مركبات الكربون بالكيمياء «العضوية» نظرًا لوجود اعتقاد في الماضي بأن الأنظمة الحية (العضوية) هي وحدها التي يُمكنها إنتاج مثل هذه الجزيئات. على أننا علِمنا فيما بعدُ أن هذه المركبات يمكن أن تُخَلَّق صناعيًّا أو بواسطة الأنظمة الحية. وربما تكون قد بدأت الجزيئات القائمة على الكربون كجزيئات بسيطة نسبيًّا، وإمكانيات تكوين الروابط التي يتمتع بها الكربون هي التي مكَّنته من تكوين جزيئات أعقد فأعقد، أدت بدورها إلى هذا النظام المُعقد الذي نطلق عليه اسم الحياة. ويمكن تمثيل هذه العملية في شكل معادلة كيميائية يُمثل فيها كل سهمٍ سلسلةً من التفاعلات الكيميائية:


وضع فرضيات حول أصل الحياة
إننا نتناول مشكلة أصل الحياة باعتبارها أحد الألغاز الخاصة بعلم الكيمياء، على أن هذا لم يكن بكلِّ تأكيدٍ هو الخيار الوحيد المُتاح. فتاريخيًّا، الناس كان لديهم الكثير من الأفكار الأخرى حول كيفية نشأة الحياة على الأرض. وكان الكثير من هذه الأفكار بعيدًا تمامًا عن الأفكار الخاصة بالكيمياء. سوف نبدأ الآن بمناقشة بعض الأفكار والاعتقادات حول أصل الحياة من وجهة نظر تاريخية. وبعد ذلك سنُلقي نظرة على ما توصَّل إليه علماء الكيمياء بشأن هذه المسألة حتى الآن. وأخيرًا سوف نشرح لماذا لا تزال تنظر الكيمياء إلى مسألة أصل الحياة كمشكلةٍ مُستعصية.
الفرضية الأولى: أصل الحياة يعود لشيءٍ خارق للطبيعة
قبل أن تكون هناك أي دراسةٍ منظمة للكيمياء أو حتى وجود منهج علمي يتطلَّب وجود دليل، كانت هناك فرضية شائعة في العالَم الغربي بشأن أصل الحياة. وكانت ترى أن الكائنات الحية تواجدت على الأرض بواسطة قوى خارقة للطبيعة أو قوى إلهية. ويعرف هذا الاعتقاد باسم الخلق الخاص.
وتنشأ معضلة كبيرة نتيجة للاعتقادات التي تُعطي دورًا لقوى خارقة للطبيعة أو قوى إلهية والمُتمثلة في خلط الدين بالعلم. فالمُعتقدات الدينية مبنية على الإيمان، والإيمان قرار فردي وذاتي. وفي المقابل نجد أن العلم مبني على الدليل الموضوعي. وهكذا فإن العلم والدين مُختلفان أحدهما عن الآخر تمام الاختلاف بحيث لا يمكننا مقارنة الأفكار التي يحتوي عليها أحدهم بأفكار الآخر. ومع ذلك فنحن نقوم بهذه المقارنة لا لشيء إلا لأننا في النهاية بشر.
إن الذي يجعل دراسة أصل الحياة مسألةً في غاية الصعوبة هو أن أصل الحياة يرجع إلى عصورٍ سحيقة وموغلة في القِدم بحيث إن دراسة أي دليلٍ مباشر يعتبر ضربًا من ضروب المستحيل. يتشابه هذا الأمر مع رجلٍ يلعب الجولف بمفرده وبمعزلٍ عن أي شخصٍ آخر، ويُصوب هذا الرجل بعصاه الكرة نحو حفرة لا يراها لأنها على مسافةٍ بعيدة منه، وعندما يذهب الرجل إلى الحفرة يكتشف أن الكرة داخل الحفرة. فهل يمكن أن تدخل الكرة الحفرة من ضربة واحدة من كل هذه المسافة البعيدة؟ ربما. فهذا الرجل يعجز عن العودة بالزمن إلى الماضي حتى يعرف إن كانت الكرة قد دخلت إلى الحفرة من تلقاء نفسها أم بمساعدة شيء آخر.
لذلك، يرفض العلم وجود دور للإله في أصل الحياة ليس فقط لنقص الدليل ولكن أيضًا لأن الرب ينتهك مبدأ شفرة أوكام لكونه غير مادي. يؤمن الكثير من العلماء بالإله لكن عندما يرتدون قبعاتهم العلمية، لا بد أن يلتزموا بالقواعد العلمية. بالمناسبة، إذا كانت هناك حياة في مكانٍ آخر في الكون غير كوكب الأرض، فمن المؤكد أن ذلك ستكون له تبِعات فيما يتعلق بالاعتقادات الدينية وكذلك العلم. (انظر مجلد الأفكار ٤، الحياة خارج الأرض.)
الفرضية الثانية: أشكال الحياة المُعقدة تولَّدت بشكلٍ تلقائي
إذا وضعتَ قطعة من الملابس الداخلية المُتَّسخة بالعرق مع بعض القمح في وعاء مفتوح، فبعد نحو ٢١ يومًا ستتغير الرائحة، وستحول الخميرة الخارجة من قطعة الملابس الداخلية والمُخترقة لقشر القمح هذا القمح إلى فئران. لكن ما يُثير الدهشة أكثر هو أن القمح يخرج منه فئران من الجنسَين، وتتناسل هذه الفئران بنجاحٍ مع الفئران المولودة طبيعيًّا من أبوَين … والأكثر من ذلك هو أن الفئران التي خرجت للوجود بعد هذه العملية لم تكن فئرانًا صغيرة … بل كانت تامَّة النمو.
يطلق اسم التولد التلقائي أو ما يشير إليه البعض ﺑ «تولد الضفدع من جذع شجرة» على الفرضية التي تقول إن الكائنات الحية المُعقدة المُتعددة الخلايا يمكن أن تنشأ مباشرةً من موادَّ غير حية. ولكن قبل أن نسخر من أفكار مرَّ عليها ٤٠٠ سنة، يجب علينا أن نتوقَّف ولو للحظةٍ لنُدرك أن أفكارنا هي الأخرى ستبدو على الأرجح ساذجة بعد ٤٠٠ سنة.
ولكن بمجرد حدوث الثورة العلمية واعتبار التجربة الاختبار النهائي للفرضيات، اختبر فرانشيسكو ريدي — خليفة جاليليو في البلاط المديتشي بفلورنسا — نظرية التولد التلقائي. وفي عام ١٦٦٨، قام ريدي بتجربة وضع فيها قطعًا من اللحم في أوعية متنوعة. وكان بعض هذه الأوعية مكشوفًا للهواء والبعض مُحكم الإغلاق، وكان البعض الثالث مُغطًّى بنسيج شبكي ذا مسامَّ صغيرة لا تسمح بمرور أي شيءٍ سوى الهواء. حلق الذباب حول جميع الأوعية، ولكن بما أن اليرقات ظهرت في الأوعية المكشوفة فقط (وهي الأوعية التي استطاع الذباب أن يضع بها بيضه)، فإنه من الواضح أن اليرقات نشأت من الذباب وليس من اللحم. علاوة على ذلك وجد بيض الذباب مُترسبًا على النسيج الشبكي. وفي حين أنك ربما تتخيَّل أن تجربة ريدي قد تهدم نظرية التولد التلقائي تمامًا، لكن الحقيقة كانت غير ذلك. فلا يزال يؤمن الكثير من الناس بهذه النظرية. إذ إن الأفكار القديمة عنيدة ولا تختفي بسهولة. بل إن ريدي نفسه لم يتخلَّ عن الاعتقاد بأن التولُّد التلقائي قد يحدث تحت ظروف مُعينة.
وبعد وقت قصير من تجربة ريدي جاء اختراع أداة تجريبية جديدة وقوية وهي المجهر. وكان هذا الاختراع نعمةً ونقمة في آنٍ واحد. فقد كان نعمة كبيرة فيما يتعلق بالملاحظات البيولوجية، لكنه كان نقمة إذ أحيا اعتقادات التولُّد التلقائي لأن «الحييوينات» التي عرضها المجهر بدت وكأنها تنشأ تلقائيًّا.
في حوالي عام ١٨٦٠، قبِل لوي باستير تحديًا أحدث نقلةً نوعية في الجدل الدائر حول نظرية التولُّد التلقائي. فقد نشر أحد زملائه في الأكاديمية الفرنسية للعلوم وهو فليكس أرشيميد بوشيه نتائج لتجارب ادَّعى فيها أن بإمكانه توليد الكائنات الحية تلقائيًّا كلَّما شاء. ولكن باستير أوضح بعض الأخطاء في الطرق التجريبية التي اتَّبعها بوشيه، لذا طلب بوشيه من الأكاديمية الفرنسية تقديم جائزة لأي فردٍ يستطيع إثبات التولُّد التلقائي أو دحضه. إن أصدقاء باستير نصحوه بعدم السعي وراء هذه الجائزة لأن الهدف منها كان إحراجه. لكن باستير كان مُسلحًا بتجاربه السابقة الخاصة بالتخمُّر ولم يتهيَّب الأمر.
نفذ باستير سلسلةً من التجارب وصل في نهايتها إلى وضع حساءٍ مُعقم في أنابيب معملية ذات أعناقٍ على شكل حرف إس. وساعد هذا الشكل الزجزاجي لأعناق الأنابيب في دخول الهواء ومنع دخول أي كائناتٍ دقيقة. فبقي الحساء مُعقمًا، وهذا أدَّى إلى عدم حدوث تولد تلقائي للكائنات الدقيقة. وهنا قال باستير:
أيها السادة، أستطيع أن أشير الآن إلى هذا السائل [كان السائل موجودًا في مزرعة معملية مُعقمة بأنبوبة موضوعة أمامه على الطاولة] وأن أقول لكم إنني قد أخذت قطرةً من الماء من هذا الخلق العظيم، وقد أخذتها مليئة بالعناصر المُخصصة لنمو الكائنات الأولية. ثم انتظرتها وشاهدتها وسألتها وتوسَّلتُ إليها أن تُعيد لي المنظر الجميل لأول مخلوق. ولكني اكتشفتُ أنها بكماء، نعم بكماء لأن هذه التجارب بدأت من عدة سنوات، وهي بكماء لأنني أبعدتُها عن الشيء الوحيد الذي لا يمكن للإنسان إنتاجُه، ألا وهو الجراثيم التي تسبح في الهواء، فأبعدتها بذلك عن الحياة، لأن الحياة هي الجرثومة والجرثومة هي الحياة. ولن تقوم لفكرة التولُّد التلقائي قائمة بعد هذه التجربة البسيطة.
لا توجد ظروف معروفة الآن يمكن من خلالها إثبات أن الكائنات المجهرية جاءت إلى العالم بدون جراثيم أو بدون أبوَين مُشابهين لها. وهؤلاء الذين يؤكدون عكس ذلك يعيشون في الأوهام وخدعتهم التجارب الفاشلة المليئة بالأخطاء التي ربما لم يُدركوها أو لم يعرفوا كيف يتجنَّبونها.
فاز باستير بالجائزة، ولكن لم تقضِ تجربته الناجحة على نظرية التولد التلقائي تمامًا إذ كانت النظرية تطفو على السطح باستمرار. وكالأساطير الحديثة، كان لهذه النظرية طابعها الخاص. علميًّا، كانت تجارب باستير رائعة للغاية. فإذا كان كل كائن حي قد نشأ من كائناتٍ حية سابقة، فكيف إذن نشأ «أول» كائن حي؟
الفرضية الثالثة: أصل الحياة يرجع إلى الفضاء الخارجي
قدم أناكساجرس — وهو عالم يوناني عاش في الفترة من ٥٠٠ إلى ٤٢٨ قبل الميلاد — نظرية فلسفية حول ما يُعرَف باسم «بذور الحياة» التي اعتقد أنها موجودة في جميع الكائنات الحية. جرى النظر إلى هذه الفلسفة باعتبارها بدايةً لمفهوم البذور الكونية الذي يُقصد به أن الحياة على سطح الكواكب يرجع أصلها إلى مكانٍ ما في الفضاء. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، قال عالم الفيزياء الاسكتلندي ويليام طومسون — المعروف أيضًا باسم اللورد كلفن — الذي وجد الكربون في الأحجار النيزكية:
عندما تصطدم كُتلتان كبيرتان في الفضاء، فمن المؤكد أن جزءًا كبيرًا من كلٍّ منهما سوف ينصهر، ومن المؤكد أيضًا أن كميات كبيرة من الحطام الناتج عن هذا الانصهار يجب أن تنطلق في جميع الاتجاهات، والتغير الذي سيطرأ على الكثير من هذه الشظايا المُنطلقة سيكون ضئيلًا، مثله مثل التغير الذي يطرأ على قطع الصخر عند حدوث انهيارٍ صخري أو عندما تُفَجَّر بالبارود. فمثلًا إذا اصطدمت الأرض بما عليها من نباتات ومظاهر حياة بجسمٍ آخر يُماثلها من حيث الأبعاد، فسوف تتبعثر الكثير من الشظايا الكبيرة والصغيرة التي تحمل بذور النباتات والحيوانات الحية بلا شكٍّ عبر الفضاء. من هنا، وبما أننا كنا، ولا نزال، نؤمن جميعًا بوجود عوالم أخرى عديدة إلى جانب عالمنا، فيجب علينا أن نضع في اعتبارنا أنه من المُمكن وجود صخور جوية نيزكية لا حصر لها تحمل بذورًا وأشكالًا للحياة وتدور وتتحرك عبر الفضاء. فإذا افترضنا مثلًا أن الأرض لا تُوجَد عليها حياة في الوقت الحاضر، فيمكن لصخرةٍ واحدة من تلك الصخور إذا سقطت على الأرض أن تجعلها مُغطاة بالنباتات.
وقد دعم عالم الفيزياء الألماني هيرمان فون هيلمهولتس، الذي كان يعمل في نفس الوقت، هذه المفاهيم بقوله: «يبدو لي منطقيًّا تمامًا من الناحية العلمية، إذا فشلت جميع محاولاتنا في إنتاج كائناتٍ حية من مادة غير حية، أن نسأل أنفسنا هل أنشأ أحد هذه الحياة، وهل الحياة قديمة قدم المادة نفسها، وهل انتقلت البذور من أحد الكواكب إلى كوكب آخر ثم تطوَّرت هذه البذور في كل مكانٍ عند سقوطها على تربة خصبة.»
مع أن هذه الأفكار مُثيرة للاهتمام وعبَّر عنها علماء بارزون في زمانهم، فإنها لم ترتقِ إلى أن تكون فرضياتٍ يمكن من خلالها الوصول إلى تنبؤات ومن ثم إخضاع هذه التنبؤات للتجربة، لذا لم تؤدِّ هذه الأفكار إلى أي جديد، على الأقل من منظور المنهج العلمي.
في عام ١٩٠٧ كتب العالم السويدي سفانت أرينياس، وهو حاصل على جائزة نوبل تقديرًا لأعماله المُتعلقة بكيمياء الأيونات، كتابًا شهيرًا بعنوان «عوالم قيد الصنع». اقترح أرينياس في هذا الكتاب أن الحياة نشأت أولًا في مكانٍ ما، غالبًا كوكب، ثم اندفعت عبر غلافه الجوي وانتقلت عبر الفضاء على هيئة بذور حياة يدفعها الضغط الإشعاعي من النجم الذي يقع في مركز النظام الكوكبي هذا. وبالنظر إلى هذه الفكرة كفرضية، يمكن أن تتنبَّأ بأن البذور ستبقى محافظةً على خصائصها الحيوية بالرغم من وجود الإشعاع فوق البنفسجي للشمس إلى أن تصل إلى الأرض. ولكن اختبر عدد من العلماء البذور تحت ظروفٍ شبيهة بالفضاء، واكتشفوا أنها لم تستطع المحافظة على خصائصها الحيوية. ونتيجة لذلك توارت نظرية أرينياس وأصبحت فقط مصدر إلهامٍ لقصص الخيال العلمي.
وكان من أكبر الانتقادات التي وُجهت لنظرية البذور الكونية أنها لا تُقدم إجابة شافية لسؤال كيف بدأت الحياة. فهي فقط تُلقي بالمشكلة إلى مكانٍ آخر لا يُمكننا الوصول إليه. وسوف نستعرض الصور الأحدث من فكرة البذور الكونية على نحوٍ أكبر لاحقًا في هذا الفصل.
الفرضية الرابعة: الحياة نشأت تلقائيًّا عندنا على كوكب الأرض
في البدء كانت هناك محاليل بسيطة من المواد العضوية، والتي كان يجري التحكُّم في سلوكها عن طريق خصائص ذراتها وترتيب هذه الذرات في البِنية الجزيئية. ولكن تدريجيًّا، وكنتيجة للنمو والتعقُّد المتزايد للجزيئات، خرجت إلى الوجود خصائص جديدة، وفُرِضَ نظام كيميائي غروي جديد على العلاقات الكيميائية العضوية الأكثر بساطة. وقد حُدِّدَت هذه الخصائص الجديدة بواسطة الترتيب المكاني والعلاقة المتبادلة للجزيئات … وفي هذه العملية يظهر الترتيب البيولوجي بالفعل. وحُدِّدَ هذا الشكل للتنظيم المادي الذي يُميز الكائنات الحية الحالية بواسطة عدة عوامل مثل المنافسة، وسرعة النمو، والصراع من أجل البقاء، وأخيرًا الانتخاب الطبيعي.
كان قد اكتشف أوبارين أن محلولًا من البروتينات يمكن لمكوِّناته أن تتجمَّع معًا وتكوِّن تكتُّلًا. وأطلق على تلك التكتلات اسم «الكواسيرفات»، وادَّعى أن بإمكانها القيام بنوع من الأيض. لكن أعمال أوبارين لم تُصبح معروفة لدى الغرب إلا في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين نظرًا لاندلاع ثورة في روسيا في عشرينيات القرن نفسه.

وبما أن أوبارين وهولدين توصَّلا إلى الأفكار نفسها، كلٌّ على حدة، فقد دُمِجَت الفرضيتان وأُطلق عليهما اسم نظرية أوبارين-هولدين. ولكن مع أن أفكارهما كانت مُنسجمة، فإن هناك اختلافًا جوهريًّا، وهو أن أوبارين ركز على عملية الأيض في حين ركز هولدين على التكاثر. وأدى ذلك إلى تقسيم نظريات أصل الحياة إلى معسكرَين.

وبعد إجراء التجربة لعدة أيام اكتشف ميلر وجود جزيئات عضوية بسيطة في الماء. (انظر الجدول التالي.) وكان من بين هذه الجزيئات أحماض أمينية، التي تُعد وحدات البناء الأساسية للكائنات الحية. (انظر مجلد الأفكار ٥، الأحماض الأمينية.) ومن بين الأشكال العديدة للأحماض الأمينية الممكن تكوُّنها، لا يظهر إلا مائة حمضٍ أميني تقريبًا في الطبيعة. ويُوجَد منها عشرون حمضًا في الكائنات الحية. وقد تكوَّنت أربعة من بين تلك العشرين بواسطة التفاعُلات الكيميائية العشوائية في جهاز ميلر. وتكوَّنت كميات كبيرة من هذه الجزيئات العضوية البسيطة والمُميزة في الوقت نفسه في بضعة أيام فقط.
الجزيء | الصيغة الجزيئية |
---|---|
سيانيد الهيدروجين | CHN |
السيانوجين | C2N2 |
السيانواسيتيلين | C3HN |
الفورمالدهايد | CH2O |
الأسيتالدهايد | C2H4O |
البروبانالدهايد | C3H6O |
الجلايسين | C2H5NO2 |
الساركوزين | C3H7NO2 |
حمض الجليكوليك | C2H4O3 |
الأَلانين | C3H7NO2 |
إن-ميثيل-الأَلانين | C4H9NO2 |
حمض اللكتيك | C3H5O3 |
حمض الألفا أمينوبوتيريك | C4H9NO2 |
حمض الألفا أمينوإيزوبوتيريك | C4H9NO2 |
حمض الفورميك | CH2O2 |
حمض الأسيتيك | C2H4O2 |
حمض البروبيونيك | C3H6O2 |
اليوريا | CH4N2O |
حمض الأسبارتيك | C4H7NO4 |
حمض إيمينواسيتيك البروبيونيك | C5H9NO4 |
حمض السكسنيك | C4H6O4 |
حمض الجلوتاميك | C5H9NO4 |
قدمت هذه النتائج دعمًا تجريبيًّا قويًّا لنظرية أوبارين-هولدين. وبالطبع لم تتكوَّن كائنات حية تامة. ومع أن الجزيئات التي كانت موجودة في جهاز ميلر كانت فقط مكوناتٍ بسيطة للجزيئات الضرورية للحياة، فإن حقيقة أن الجزيئات تكوَّنت في خلال بضعة أيام قد قدمت دعمًا مهمًّا للنظرية.
كان الدعم التجريبي لنظرية أوبارين-هولدين حول أصل الحياة جيدًا ولكنه كان ناقصًا في الوقت نفسه؛ لأنه لم تكن قد تكشَّفت بعدُ تفاصيل الكيمياء الحيوية للحياة. ولكن بعد مرور عامٍ حدث تطوُّر كبير غيَّر كل شيء: ففي كامبريدج حدَّد العالمان جيمس واطسون وفرانسيس كريك البنية الأساسية للجزيء الذي يحمل مفتاح الشفرة الوراثية وهو الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين أو الذي يُعرَف اختصارًا باسم الدي إن إيه. وفي الوقت الذي بدأ فيه علماء علم الأحياء الجزيئي في تمييز التفاعُلات المعقدة بين الدي إن إيه، والآر إن إيه (الحمض النووي الريبوزي)، والبروتينات، والجزيئات الأخرى التي تساعد الكائنات الحية على القيام بوظائفها، فقد تكشفت معلومات إضافية حول التفاعلات الجزيئية. وكما هو الحال دائمًا، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل. فنظرية أوبارين-هولدين الخاصة بأصل الحياة لم تتضمَّن مجموعةً مفصلة من التفاعُلات الكيميائية لإنتاج الحياة لأن هذه الجزيئات لم تكن معروفة في ذلك الحين.
من الآن وحتى نهاية هذا الفصل، سوف نناقش الأفكار الحالية الخاصة بالأساس الجزيئي لوظائف الكائن الحي. وسوف نُسلط الضوء ونقتفي أثر ما قد يكون أول وأبسط كائن حي. ثم سنُلقي بعد ذلك نظرة على الأحوال البيئية وقت تكوُّن الأرض، وسنبحث كيف يمكن أن تكون التفاعلات الكيميائية قد حوَّلت الجزيئات البسيطة في هذا الخليط إلى الآلية الجزيئية التي تتحكَّم في العالم. وبعد ذلك سوف نستكشف بعض التعقيدات والإشكاليات الأخرى التي تجعل من أصل الحياة مشكلةً كبيرة ومُستعصية. وأخيرًا سوف نستعرض في بعض السبل التي ربما تقود إلى حل هذه المشكلة.
الحياة الآن: تركيب الخلية
تبدو الحياة ظاهرة معقدة للغاية وفقًا للمنظور الحالي. فبوجود الملايين من الأنواع البيولوجية (بينها ٣٥٠ ألف نوعٍ من الخنافس)، تجد أنه من الصعب توقُّع أن يكون أبسط كائن حي لا يزال موجودًا، ويمكن أن نُخضعه للدراسة. فهذا الأمر مُستبعد تمامًا. فبعد أكثر من أربعة مليارات سنة من الطفرات والتناسُل والمنافسة على الغذاء والتغيرات البيئية، يُصبح من البديهي أن نعرف أن أول كائن حي بدائي قد اختفى تمامًا منذ زمنٍ بعيد.
السؤال الآن: ما ماهية الحياة بالضبط؟ في عام ١٩٤٧ قال عالم الوراثة البريطاني جون بوردون ساندرسون هولدين: «لن أجيب عن هذا السؤال.» وقد كان مُحقًّا، لأنه بعد الدراسة المُكثفة لبعض الكائنات المعقدة التركيب مثل الفيروسات والفيرويدات والبريونات، وجد علم الأحياء أن صياغة تعريفٍ للحياة أمر صعب.
-
الأيض: وهي الحصول على طاقة واستخدامها ثم التخلُّص من الفضلات.
-
النمو والإصلاح: الوصول إلى حجم مُلائم وإصلاح النقائص.
-
الاستجابة للمُثيرات: القيام بردود أفعال بناء على الوقائع البيئية الخارجية.
-
التكاثر: إنتاج نسخة مُطابقة من الكائن.
أما الآن فيتَّخِذ علم الأحياء الحديث سبيلًا أبسط، والذي يقوم على فكرة أن «كل كائن حي هو كائن خلوي». فأي كائن بالتأكيد خلوي، سواء أكان يتكوَّن من خلية واحدة أم من مجموعةٍ معقدة من الخلايا المُتخصصة والمتفاعلة. علاوة على ذلك يُحيط بكل خلية غلاف غشائي يفصلها عن بقية العالم. ويوجَد داخل هذا الغشاء مجموعة كاملة من التعليمات والتي تخصُّ طريقة عمل وتكاثر الخلية. وتُشفَّر هذه التعليمات في جزيء الدي إن إيه.

يُوجَد الدي إن إيه الخاص بالعتائق في جزيءٍ دائري واحد، بخلاف حقيقيَّات النواة التي يُوجَد الدي إن إيه الخاص بها في عدة جزيئات مجدولة. وتتمُّ عملية الأيض في معظم العتائق بشكلٍ لا هوائي، أي لا تتطلَّب أكسجين، ويستطيع أن ينمو بعضها (ويُسمى العتائق المُحبة للظروف المتطرفة) في ظروف قاسية لا تتحملها مثيلاتها من الكائنات الأولية. ولقد اكتشفت العتائق المحبة جدًّا للحرارة، التي وُجِدَت تعيش في مياه تتعدى درجة غليانها ١٠٠ درجة مئوية (٢١٢ درجة فهرنهايت)، في الينابيع الساخنة في حديقة يلوستون الوطنية، وكذلك بالقرب من المنافس الحرارية قرب أعماق البحار التي تسمى بالمدخنات. في حين ينمو البعض الآخر في البيئات الباردة أو المالحة أو الحمضية، مثل البحيرات المتجمدة في القطب الجنوبي، والبحيرات المالحة، ومخلفات التنقيب عن الفحم. ولقد أثارت دراسة هذه الظواهر اهتمام الكثيرين منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.
يعتقد العلماء أن العتائق هي أقدم الخلايا وأنها تسبق حقيقيات النواة وبدائيات النواة. ولذلك قد تكون العتائق هي الأقرب من حيث الشكل للحياة الأولى عن أي خلية أخرى. إن افتقاد العتائق لنواة ولدي إن إيه بسيط يجعلها مرشحة جيدة لتكون قريبة من أول وأبسط كائن حي.
وظائف الخلية




تقوم البروتينات بوظيفة الخلية عن طريق تمكين أنواع معينة من التفاعلات الكيميائية من الحدوث داخل الخلية، وهذه التفاعلات هي التفاعلات التي تبني الأجزاء الضرورية وتهضم الطعام وتخزن الطاقة وتقوم بالوظائف الضرورية الأخرى. (بالمناسبة، لم نستطع حتى الآن استيعاب تفاصيل النظام التشغيلي للمعادلة السابقة بشكل كامل وخاصة البروتينات وطياتها، وهذا يشكل أكبر مشكلة في علم الأحياء؛ انظر الفصل الرابع).

ومن أجل إيضاح وظيفة إنزيمات البروتين، التي تُسهل حدوث تفاعلات كيميائية مُعينة فقط، تأمَّل الطريقة التي يكتسِب بها الجسم البشري طاقة؛ إذ يتأكسد السكر والدهون. تحدث عملية التأكسد هذه نفسها في العالَم الخارجي. فهل رأيتَ من قبل احتراق السكر الخام، أو شاهدتَ شحمًا يحترق؟ تتطلَّب كلتا العمليتَين درجات حرارة عالية للغاية، ومع ذلك فدرجة حرارة الجسم البشري تبقى من الداخل مُستقرة وهي ٩٨٫٦ درجة فهرنهايت (٣٧ درجة مئوية) أثناء حدوث عملية الأكسدة. تساعد البروتينات التي بُنِيت بواسطة الآر إن إيه في حدوث التفاعلات الكيميائية في درجة حرارة أقل كثيرًا، ومع ذلك فهي لا تتأثر بالتفاعل ولذلك فهي لا تنفد. وبصفةٍ عامة يُطلق على هذه الجزيئات اسم المحفزات.
في حالة الجزيئات البيولوجية، تقوم الإنزيمات بالوظائف التحفيزية. وغالبًا ما تربط الإنزيمات الجزيئات المُركَّبة بشكلٍ مؤقت. ومن خلال تقليل سرعة حركة هذه الجزيئات تسمح الإنزيمات للجزيئات بالارتباط بالجزيئات المُركبة الأخرى. وهذا الربط يعمل بآليةٍ تُشبه الآلية التي يتحرك بها المفتاح في القفل. فعندما نعود إلى المنزل في وقتٍ متأخر من الليل يكون من الأسهل أن نضع المفتاح في القفل إذا ظل القفل في مكانه. وربما يكسر المُحفز أيضًا أو يُكوِّن الروابط الأخرى للجزيئات آليًّا، ثم يُحررها. ومن أمثلة المُحفزات غير البيولوجية المحول الحفاز في السيارات. حيث تفكك الجسيمات الصغيرة للبلاتين أو البالاديوم أو الروديوم الأكاسيد النيتروجينية وتُطلق الأكسجين والنيتروجين، وتمزج أول أكسيد الكربون مع الأكسجين مكونةً ثاني أكسيد الكربون، وهناك آلية أخرى وهي فصل الهيدروكربونات غير المُحترقة وتكوين ثاني أكسيد كربون وماء. ولتقريب الصورة، تُشبه المحفزات متعهدي مباريات الملاكمة، فهم ينظِّمون المباريات للملاكِمين لكنهم لا يتدخلون في القتال بأنفسهم. (فكر في دون كينج.)
وكما يمكن أن ترى في الأشكال التخطيطية للجزيئات، تكون كل هذه الجزيئات كبيرةً ومُركَّبة، ومع ذلك فهي تتكوَّن من وحداتٍ أكثر بساطة. فيتكوَّن كل من الدي إن إيه والآر إن إيه من مجموعاتٍ من «النيوكليوتيدات»، والتي تتكوَّن كلٌّ منها من مجموعة فوسفات وسكر (ريبوزي أو ريبوزي منقوص الأكسجين) وقاعدة نيتروجينية. والبروتينات عبارة عن مجموعاتٍ طويلة ومرتبطة من الأحماض الأمينية. ويُطلق على كل مجموعة من هذه المجموعات الطويلة المُترابطة اسم بوليمر. وتمامًا مثل سور الحديقة الذي يمكن بناؤه بأشكالٍ وأحجام عديدة، بناءً على حجم وشكل الكُتل الحجرية التي تكوِّنه، فيمكن أيضًا بناء مجموعةٍ متنوعة من الجزيئات الكبيرة المُتعددة الأشكال من جزيئات صغيرة مرتبطة معًا. ويُطلق على الجزيئات الأُحادية اسم مونومرات ويُطلَق على العملية التي من خلالها تُرْبَط الجزيئات الصغيرة من أجل تكوين جزيئات كبيرة اسم عملية البلمرة.
يُعد التكثيف أحد أشكال تفاعُلات البلمرة، حيث يرتبط مونومران في حين يتكثف جزيء ماء بينهما، وهكذا سيرتبط المونومران ويكوِّنان ما يُسمى بالدايمر. ويُطلق على ثلاثة مونومرات مرتبطة اسم ترايمر، وعلى أربعة منها تيترامر وهكذا. بصفةٍ عامة، عندما يرتبط أكثر من مونومرين يُطلق على الجزيء الناتج اسم بوليمر. ومن الأمثلة على تفاعل بلمرة التكثيف غير البيولوجي معالجة الخرسانة. حيث تكوِّن مونومرات السيليكات بوليمرات، ويتبخر الماء الزائد، ويُغلف خليط الحصى والرمل في شكل بوليمر سيليكات. وهذا يؤدي في النهاية إلى حدوث رابطة قوية جدًّا.
باختصار، يحتوي الدي إن إيه على مُخططات جميع البروتينات بما في ذلك الإنزيمات، ويبني الآر إن إيه الإنزيمات التي يُحفز بعضها تضاعُف الدي إن إيه. ولا يمكن بناء الإنزيمات بدون المُخططات من الدي إن إيه، ولا يمكن أن يتضاعف الدي إن إيه بدون إنزيمات. وهذا يُشبه المُعضلة القديمة الخاصة بالدجاجة والبيضة.
اقترح عالم الكيمياء الحيوية ليزلي أورجل في ستينيات القرن العشرين أحد الحلول للخروج من هذه المعضلة. إذ قال إن الآر إن إيه حمل معلوماتٍ جينية إلى حدٍّ كبير، غير أنه إذا كان يستطيع أن يعمل أيضًا كمُحفز إنزيمي، فيمكن له أن يقوم بوظائف كلٍّ من الدي إن إيه والبروتينات. ولكن إذا كان الحال كذلك كما يقول ليزلي، فإن أول جزيءٍ عضوي ما كان يجب أن يكون دي إن إيه أو بروتينات، إذ كان من المُمكِن أن يكون آر إن إيه. بالإضافة إلى ذلك، إن تخليق جزيئات الآر إن إيه أسهل من تخليق الدي إن إيه، وأيضًا قد يمكن أن يتطوَّر الآر إن إيه إلى دي إن إيه.
في سبعينيات القرن العشرين لوحظ أن جميع الوظائف الإنزيمية يمكن التعامل معها بواسطة البروتينات. ولم يحدُث أن لُوحظ من قبل أن الآر إن إيه يعمل كإنزيم. ومع ذلك ففي بداية الثمانينيات اكتشف عالِما علم الأحياء الجزيئي توماس تشيك وسيدني ألتمان، كلٌّ على حدة، أن الآر إن إيه يُمكنه أن يعمل كمُحفز. وقد جرى التعرُّف حتى الآن على ما يقرُب من ١٠٠ إنزيم آر إن إيه، ويُطلق عليها اسم الريبوزيمات.
إذن حدثت المرحلة الأولى من التطوُّر عن طريق قيام جزيئات الآر إن إيه بالأنشطة التحفيزية الضرورية لتجميع نفسها من حساء النيوكليوتيدات. ثم بعد ذلك تطوَّرت جزيئات الآر إن إيه في أنماطٍ ذاتية التضاعف، عن طريق إعادة الاتحاد والتطفُّر لاستكشاف بيئاتٍ جديدة … ثم طورت مجموعة كاملة من الأنشطة الإنزيمية. وفي المرحلة التالية بدأت جزيئات الآر إن إيه في تخليق البروتينات، أولًا عن طريق تطوير جزيئات الآر إن إيه المحوَّل التي تستطيع ربط الأحماض الأمينية النشطة، ثم عن طريق ترتيبها وفقًا لقالب آر إن إيه باستخدام جزيئات آر إن إيه أخرى مثل لب آر إن إيه الرايبوسوم. وربما أنتجت هذه العملية البروتينات الأولى، التي تعمل ببساطةٍ كإنزيماتٍ أفضل من نظائرها الخاصة بالآر إن إيه … وإنزيمات البروتينات هذه … تتكون من عناصر بنائية صغيرة.

يُوجَد هناك بدائل لفرضية عالم الآر إن إيه، ومن أبرز هذه البدائل فرضية البروتين أولًا لعالم الكيمياء الحيوية سيدني فوكس وفرضية عالم الصلصال لعالم الكيمياء إيه جي كيرنز سميث. لكن لم تلقَ هذه النظريات اهتمامًا كبيرًا من جانب الباحثين، وسوف نؤجِّل مناقشتها حتى نُلقي نظرة مُتعمقة على نظرية عالم الآر إن إيه.
بريسول PreSol
سوف نبدأ رحلتنا في الطريق نحو أصل الحياة من الوقت الذي تبلورت فيه لأول مرة وحدات البناء الأساسية وهي الذرات. ولكي نرى كيف حصلت الأرض على ذراتها وخاصة الذرات الكربونية، فيجب علينا العودة بالزمن إلى الوراء. بل إلى الوراء كثيرًا!
منذ زمنٍ بعيد، وفي مكانٍ ما في مجرَّتنا درب التبانة، كان هناك نجم ولنُطلق عليه اسم «بريسول». وقد تكون بريسول بواسطة تكثيف الجاذبية لسحابة كبيرة من الهيدروجين والهيليوم من الوسط الواقع بين النجوم. ومثل معظم النجوم تكوَّن بريسول من قلب، وفيه تشدُّ الجاذبية البروتونات نحوَها بما يكفي لحدوث الاندماج النووي، وغلاف جوي من الغازات ترتفع درجة حرارته بواسطة الطاقة الناتجة من القلب. وخلال الجزء الأول من دورة حياة بريسول دمج قلبه أنوية الهيدروجين (البروتونات) لتكوين أنوية هيليوم (والتي تُسمَّى جسيمات ألفا). فتوهَّج الغلاف الجوي بواسطة الطاقة المُنبعثة من هذه العملية.
وبعد فترة نَفَدَت أنوية الهيدروجين من قلب النجم جزئيًّا. وأدى هذا النقص في الوقود إلى انكماش القلب وارتفاع درجة حرارته، مما أدى إلى تمدُّد واحمرار الغلاف الجوي. في غضون ذلك ارتفعت درجة حرارة القلب المُنكمش وبدأ في دمج ثلاث أنوية من الهيليوم لتكوين نواة كربون، وتُسمى تلك العملية باسم عملية ألفا الثلاثية. ونظرًا لامتلاك النجم بريسول لكتلةٍ كبيرة فقد كانت جاذبيته قوية جدًّا، ونفد الهيليوم بسرعةٍ كبيرة. انكمش القلب مرة أخرى، وازدادت درجة الحرارة مرة أخرى، ونتيجة لذلك فقد أوجدت تفاعُلات الاندماج الجديدة عناصر أثقل من الكربون. يحدث الاندماج في طبقات، ولذلك فإن قلب أي نجمٍ كبير يبدو شبيهًا بالبصلة، مع حدوث تفاعلات اندماج مختلفة في كل طبقة. يتمدَّد وينكمش الغلاف الجوي إلى حدٍّ ما، ولكن لا تستمر هذه العملية بسبب التغيرات التي تحدث للقلب. إذ إن القلب يعمل بنشاط محموم، محاولًا أن يوقف الانكماش الناتج عن الجاذبية، ومن ثم تندمج أنوية أضخم. وعندما تصل عملية الاندماج إلى عنصر الحديد تكون اللعبة قد قاربت على الانتهاء. حيث إن اندماج الحديد لا ينتُج عنه طاقة كبيرة، وكذلك اندماج الأنوية الثقيلة. وعندما انهار القلب كان الأمر مدهشًا. فقد انفجر بريسول مُشتِّتًا جزءًا من القلب وكل الغلاف الجوي في الوسط الواقع بين النجوم. (تُرى، ماذا حدث لما تبقى من القلب؟ الإجابة في الفصل السادس.)
وانطلقت مادة تتكوَّن من ٧٠٪ من الهيدروجين و٢٨٪ من الهيليوم و٢٪ من العناصر الثقيلة مُعظمها من الكربون بسرعةٍ فائقة. وفي الوقت الذي قلَّلت فيه الجاذبية من سرعة المادة المنطلقة من بريسول فقد دعمت الوسط الواقع بين النجوم بالأنوية الثقيلة.
في حين أن قصة النجم بريسول تفسر أصل الأنوية الثقيلة التي يَملكها نظامنا الشمسي وكوكب الأرض، هناك حقيقة أخرى يجب أن تؤخَذ في الاعتبار. إن النجوم الكبيرة تُكمل دورة حياتها بشكلٍ سريع جدًّا على المستوى الفلكي، حيث تستغرِق دورة حياة النجم الكبير من ملايين إلى مئات الملايين من السنين. ربما كان هناك الآلاف من النجم بريسول قبل تكوُّن نظامنا الشمسي. لذا فسحابة الغاز والغبار التي تكثفت بفعل الجاذبية وأدَّت إلى تكوين نظامنا (الحياة) ربما تكون قد دُعِّمَت بالأنوية التي تكوَّنت بواسطة الكثير من النجوم السابقة.
نظامنا الشمسي
إن الجزء الأول من قصة الشمس يُشبه الجزء الأول من قصة بريسول، باستثناء أن الشمس لها كتلة أصغر من كتلة بريسول. من المعروف أن عمر النجوم الصغيرة يكون أطول لأن كتلتها الأصغر لا تساعد على حدوث عمليات الاندماج بسرعة كبيرة. ولذلك سوف تبقى الشمس لفترة أطول إذ تقل مخاطر تعرضها للزوال. ومع ذلك فسيكون تركيزنا الرئيسي هنا على كوكب الأرض. ففي الحقيقة كانت عملية تكوُّن الأرض شبيهةً بعملية تكوُّن أي نجم، باستثناء أن الجسيمات المُلتحمة التي كانت على الأرض كانت تحتوي على كتلة صغيرة جدًّا، ولذلك فلم يحدُث أي اندماج نووي. فقد تصادمت الجُسيمات الملتحمة وتجمَّعت معًا، وغاصت المواد الأكثر كثافةً إلى القلب وطفت المواد الأقل كثافة إلى السطح.
تصادمت جسيمات الغاز والغبار بعضها مع بعض، وتكتَّلت معًا من خلال عملية تُسمَّى التراكُم، وفي النهاية كونت نسخةً مُبكرة وساخنة من الأرض. واستمرَّت الكُتَل المتراكمة التي تُسمى الكويكبات في الإمطار على سطح الأرض المتكونة حديثًا. وربما يكون أحد الكويكبات الكبيرة قد ضرب الأرض وأنتج مادةً كونت القمر وجعلت الأرض تدور. وفي النهاية أطلقت الشمس معظم الحطام إلى النظام الشمسي. فأصبحت المنطقة الداخلية للكوكب نظيفةً جدًّا، باستثناء تصادُمات حدثت من حينٍ لآخر بسبب كرات الثلج القذرة التي تُدفع عبر النظام بسبب التفاعلات مع الكواكب الخارجية الضخمة. وكرات الثلج هذه هي ما نطلق عليه الآن اسم المذنبات. وتتكون ذيول هذه المذنبات في الغالب من بخار ماء وثاني أكسيد كربون ناتجَين عن تحويل أشعة الشمس للثلج مباشرة من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية وهو ما يُعرَف باسم عملية التسامي.
تطوُّر الآر إن إيه

-
(١)
تتفاعل الجزيئات البسيطة كيميائيًّا لتكوين الأحماض الأمينية التي تُعد الصورة الأولية للقواعد النيتروجينية. أنتجت تجربة ستانلي ميلر (التي قام بها عام ١٩٥٣) مجموعة متنوعة من الجزيئات العضوية بواسطة عملية كيميائية عشوائية، وكان من بين هذه الجزيئات أحماض أمينية، والتي تُعد الصورة الأولية للقواعد النيتروجينية. وقد نُفذت تجارب شبيهة ولكن باستخدام مكونات مختلفة وباستخدام أشعةٍ فوق بنفسجية بدلًا من عمليات التفريغ الكهربي. ومع ذلك فالنتائج كانت متطابقة؛ فقد تكونت جميع الأحماض الأمينية العشرين الأساسية الموجودة في الكائنات الحية بكميَّاتٍ متنوعة. (انظر مجلد الأفكار ٥، الأحماض الأمينية.) ربما تكون قد بدأت هذه العملية في الغلاف الجوي ثم انتقلت إلى المُحيط. أو ربما تكون قد بدأت في أعماق المُحيط بالقرب من المنافس المائية الحرارية (وتُسمى المدخنات)، والتي ربما تكون قد ساعدت درجات الحرارة العالية فيها على توفير الطاقة ومن ثَم تسريع التفاعُلات الكيميائية. ونظرًا لأن الحياة لم تكن قد بدأت في هذا الوقت فقد تمكنت الجزيئات من التراكُم في المُحيط ولم تكن هناك كاسحات لتُزيحها في هذا الوقت كما يحدث الآن.
-
(٢)
تتفاعل الجزيئات البسيطة كيميائيًّا لتكوين الريبوز. بالرغم من ملاحظة هذا التفاعُل فإنه لم يُحَدَّد حتى الآن سلسلة التفاعلات الكاملة التي تنتج الريبوز كمنتجٍ رئيسي. أما في حالة التفاعلات التي يكون فيها الريبوز منتجًا ثانويًّا، فإن الكمية الناتجة في الغالِب لا تكون بوجهٍ عام كافية بحيث يُمكنها بناء قدْر كافٍ من الجزيئات الأولى للحياة. وربما لم يكشف الباحثون بعدُ النقاب عن التفاعلات الصحيحة لإنتاج الريبوز المطلوب، أو ربما كانت هناك محفزات فريدة غير عضوية أو عضوية. وبدلًا من الاستمرار على طريقة ميلر وطهي جزيئات بسيطة لتبقى فتراتٍ أطول وأطول من الوقت، قفز الباحثون قفزةً أسرع ودمجوا جزيئات متوسطة ليروا الكيفية التي قد تتم بها بقية العملية.
-
(٣)
تتفاعل الجزيئات البسيطة كيميائيًّا لتكوين الفوسفات. يكون هذا التفاعل تفاعلًا غير عضوي ومباشرًا ويتم بسهولة بواسطة ذرات الفسفور التي توفرها الصخور المتآكلة.
-
(٤)
تتفاعل القواعد النيتروجينية مع الريبوز كيميائيًّا لتكوين النيوكليوزيدات. لقد حقق الباحثون نجاحًا متواضعًا بشأن هذه التفاعُلات، ولكن لا يكون التخليق كافيًا بدون استخدام إنزيماتٍ لتحفيز العملية.
-
(٥)
تتفاعل النيوكليوزيدات والفوسفات كيميائيًّا لتكوين النيوكليوتيدات. تتكوَّن بعض النيوكليوتيدات بسهولةٍ شديدة، في حين تكون هناك صعوبة بالِغة في إنتاج البعض الآخر. ويُوجَد حجَر عثرة آخر وهو تكون مجموعة متنوعة كبيرة من النيوكليوتيدات. إن بعضها يُوجَد بشكلٍ طبيعي في الكائنات، أما البعض الآخر، فلا، وسيتداخل مع تضاعُف الآر إن إيه لأنه لن يرتبط مع النيوكليوتيدات التي تُوجَد بشكلٍ طبيعي. ومرة أخرى ربما كانت هناك مُحفزات غير عضوية أو عضوية ساعدت في هذا التفاعل. وربما تكونت هذه المُحفزات على كوكب الأرض أو جاءت من الفضاء على ذيول المُذنبات أو النيازك. فطبيعة هذه المحفزات غير معروفة حتى الآن (سوف نتحدَّث عن ذلك بشكلٍ أوفى فيما بعد). ومن المُحتمَل أن تكون قد حدثت تفاعلات غير إنزيمية، ولكن لم يتمكن الباحثون من تحديدها بعد.
-
(٦)
تتبلمر مونومرات النيوكليوتيدات لتكوين بوليمرات نيوكليوتيدات: الآر إن إيه. يمكن أن تكون البلمرة عمليةً صعبة في البيئات الغنية بالمياه. فربما يكون حساء الجزيئات مُخففًا جدًّا ويحتاج لمزيج أكثر كثافة. وربما تكون قد حدثت البلمرة بواسطة التكثيف في مُستنقَعٍ ضحل أو شاطئٍ رملي أو ساحلٍ طيني. لم تستطع الجزيئات العضوية الكبيرة الاحتفاظ بخصائصها الحيوية بسبب كثافة الإشعاع فوق البنفسجي، وهذا يقترح الحاجة إلى وجود حاجزٍ من نوعٍ ما لكي تحدث البلمرة. نظريًّا، ربما تكون جزيئات بخار الماء في الغلاف الجوي العلوي قد انفصلت بواسطة أشعة الشمس، وهذه العملية تُسمَّى بعملية التفكك الضوئي وتُنتج هيدروجين وأكسجين. ثم استطاع الهيدروجين أن يُفلت من القوة الجاذبة للأرض وتحول الأكسجين إلى أول طبقةِ أوزون للأرض O3، والتي منعت الأشعة فوق البنفسجية من الوصول إلى سطح الأرض. وكان الأكسجين عاليًا جدًّا في الغلاف الجوي ولم يدخل في التفاعُلات الكيميائية التي كوَّنت الحياة على سطح الأرض، وأدى حجب الأشعة فوق البنفسجية إلى حماية الجزيئات العضوية من التفكك. (استمرت ديناميكيات الغلاف الجوي في التطور، وساعدت في إحداث المشكلة المستعصية الخاصة بالطقس التي سوف نستكشف مَعالمها في الفصل الخامس.)
- (١) التي إن إيه (الحمض النووي الثريوزي) الذي يتكون من سُكر رباعي الكربون (ثريوز)، على عكس السكر خماسي الكربون (الريبوز) الذي يُكوِّن العمود الفقري للآر إن إيه. وربما خُلِّقَ التي إن إيه من جزيئات بسيطة في عالَم ما قبل الأحياء بشكلٍ أكثر سهولةً من الآر إن إيه حيث إنه يحتاج إلى قِطَع ثنائية الكربون مُتطابقة في حين يحتاج الريبوز إلى قِطع ثنائية وثلاثية الكربون. تكون بوليمرات التي إن إيه حلزونات مزدوجة تمامًا مثل الدي إن إيه وهي مُتوافقة مع الدي إن إيه والآر إن إيه. (انظر شكل ٣-٨.)
- (٢)
البي إن إيه (الحمض النووي البيبتيدي)، وهنا لا يتكون العمود الفقري من أي سُكَّر بل يتكون من بوليمر من الحمض الأميني إن-(٢-أمينو إيثيل) جليسين. ويُكوِّن هذا الجزيء أشكالًا ثنائية الحلزون، وتتخلق مكوِّناته بسهولةٍ بسبب التفاعلات الشديدة بين جزيئات بسيطة، كما يتبلمر بسهولة أيضا.

لم يتضح بعدُ ما إذا كان هناك شيء ذاتي التضاعُف يسبق الآر إن إيه أم لا. ولا يزال البحث مُستمرًّا للإجابة على هذا السؤال.
عالم الآر إن إيه
بمجرد وجود الآر إن إيه، يُصبح الطريق إلى أول خليةٍ أوضح. ولكن يتبقى هناك خمس مراحل مختلفة في عملية تطوُّر عالم الآر إن إيه.
(١) مرحلة التضاعُف
-
(أ)
يُنشئ شريط الآر إن إيه شريطَه المُكمل (C-G وA-U) عن طريق جذب أزواج القواعد للأحماض الأمينية بعضها لبعض. ربما تنتج تركيبات عدة، ولكن الأزواج غير المُستقرة لن يلتحم بعضها ببعض كما تفعل أزواج قواعد واطسون-كريك (AU وGC) ولذلك فسوف تُهيمن تلك الأزواج.
-
(ب)
ينفصل مُكمل الآر إن إيه عن الشريط الأصلي.
-
(جـ)
يُكوِّن المُكملُ مكمِّلَه الخاص، وهذا المُكمل يكون مطابقًا للآر إن إيه الأصلي.
-
(د)
ينفصل المُكملان الجزيئيَّان مما يُنتج نسخةً من جزيء الآر إن إيه الأصلي وجزيء آر إن إيه مُكمل، واللذَين يُمكنهما إنتاج نُسَخ أكثر بالطريقة نفسها.
ولكن تكرار جميع هذه الخطوات في ظروف مَعملية أمر غير ناجح بشكلٍ كامل حتى الآن. فربما تكون قد ساعدت المحفزات في إحداث هذه التفاعُلات. أو ربما تكون أسهمت المُحفزات غير العضوية الموجودة على هيئة طُفيليات مشحونة في هذه العملية عن طريق جذب الجزيئات ووضعها في الموضع الصحيح بالنسبة لبعضها البعض. وهناك احتمال آخر وهو أن تكون قد قامت جزيئات الآر إن إيه الذاتية التحفيز (الريبوزيمات) بعمليات التضاعف الضرورية. ومع ذلك فربما كانت هناك مُحفزات عضوية أخرى ولكنها لم تُكتشَف بعد. وتوجد صعوبة أخرى مُتصلة بالطبيعة المزدوجة لجزيئات الآر إن إيه والدي إن إيه الحلزونية، وهو ما سوف نتعرض له في القسم التالي.
على المستوى الجزيئي، ربما كان التطور الدارويني حاضرًا في جميع مراحل نشوء عالم الآر إن إيه. وتظهر تنويعات أثناء عملية التضاعُف نتيجة للطبيعة العشوائية للعملية. ولذلك تتنافس الجزيئات المتنوِّعة المُنتجة على الأحماض الأمينية، والجزيئات التي كانت أكثر فعاليةً تجمع أغلب الأحماض الأمينية ومن ثم تكون لها الهيمنة. لاحظ تطابُق هذا السيناريو مع عملية التطور لداروين للتنوُّع والمنافسة والانتخاب والتضخيم التي تعمل على مستوى الكائنات الحية.
(٢) تخليق البروتينات الموجهة بالآر إن إيه
لا بد أن الآر إن إيه الذي خلَّق جزيئات البروتينات قد حظِيَ بميزة داروينية ربما عن طريق حلقة تغذية راجعة غير مباشرة لم يُتَعَرَّف على هويتها بعد.
(٣) التقسيم إلى مجموعاتٍ خلوية
من المؤكد تكون أغشية من بروتينات مُعقدة أو جزيئات دهنية شحمية فصلت مجموعات الآر إن إيه بعضها عن بعض. وهذا قد يقوِّي المنافسة بين مجموعات الآر إن إيه وجزيئات البروتينات قبل وصولها إلى المرحلة الخلوية. ويشار إلى هذه المجموعات الخلوية باسم الخلايا البدائية أو الأولية.
(٤) الربط بين البروتينات والآر إن إيه
بافتراض أن جزيئات الآر إن إيه الأولى هذه قد قُسِّمت إلى جينات، والتي خلَّق كلٌّ منها بروتينًا واحدًا، فمن المُقدر أن طولها كان يبلغ ما بين ٧٠ و١٠٠ نيوكليوتيدة. وللمقارنة، يبلغ طول الجين البشري حاليًّا عدة آلاف من النيوكليوتيدات. ربما كان طول البروتين الأول نفسه (الذي كان في الواقع قطعةً صغيرة تُسمى البيبتيد) يتراوح ما بين ٢٠ إلى ٣٠ نيوكليوتيدة. وعلى الجانب النظري، لقد قُدِّر الحد الأدنى لعدد الجينات ﺑ ٢٥٦ جينًا ولذلك فمن المؤكد أن الآر إن إيه الخلوي الأول كان يبلُغ طوله ٢٠ ألف نيوكليوتيدة.
(٥) تخزين معلومات الدي إن إيه وتكوين مُحفزات إنزيمات البروتينات

في حين يُخزن الآر إن إيه المعلومات الجينية بقدْر كبير من الفعالية، إلا أن تخزين المعلومات في البنية المزدوجة الحلزون للدي إن إيه يُعَد أكثر استقرارًا من التخزين في الآر إن إيه الأحادي الحلزون. واستمرارًا مع فكرة أن الآر إن إيه يكوِّن الكثير من الجزيئات المختلفة بدوره كمخزن للمعلومات وكمُحفز إنزيمي، فمن المعقول من الناحية التطوُّرية أنه بمجرد تكوين الآر إن إيه لِدي إن إيه، يحل التخزين المُميز في الدي إن إيه محلَّ التخزين في الآر إن إيه. إضافةً إلى ذلك تقوم إنزيمات البروتين بالوظائف التحفيزية بفعاليةٍ أكبر من الآر إن إيه، لذا تحل البروتينات محله فيما يتعلق بتلك الوظيفة أيضًا. لذلك أصبح لجزيئات الآر إن إيه وظائف مُحددة تتمثل في نقل التعليمات وتسهيل الترجمة والمساعدة في تجميع البروتينات على الريبوسومات؛ لأن وظائفها الأخرى أُوكلت لجزيئات يُمكنها القيام بالمهمة بشكلٍ أفضل. يا لسرور داروين بهذا! وبمجرد أن أصبحت الخلية البدائية قادرة على القيام بعمليتَي الأيض والتكاثر، أصبحت خليةً تامة النمو. وبدأت الحياة.
بدائل عالم الآر إن إيه
توجَد سيناريوهات عديدة أخرى متصلة بالآر إن إيه، منها البروتين أولًا وعالم الصلصال.
- البروتين أولًا Protein First: أوضح سيدني فوكس عام ١٩٧٧ أن مخاليط مُعينة من الأحماض الأمينية، عندما تسخن بدون ماء، تتبلمر وتكوِّن أشباه بروتينات (عديدات بيبتيد قصيرة لها بعض الخصائص التحفيزية). وإذا وُضِعَت أشباه البروتينات هذه في الماء بعد ذلك تكوِّن أغشيةً وتأخذ شكلًا يُماثل الخلايا. وقد أطلق فوكس على هذه التركيبات الشبيهة بالخلايا اسم الكرات المِكروية. ويعتقد أن البروتينات حَفَّزَت تكوين الآر إن إيه والدي إن إيه داخل هذه الكرات المكروية.
-
عالم
الصلصال Clay World: في هذه الفرضية يزود النشاط الإشعاعي الأحماض الأمينية
بالطاقة لتتبلمر في صلصالٍ يحتوي على حديد وزنك، اللذَين
يعملان كمُحفزَين غير عضويين لتكوين كل من البروتينات والآر
إن إيه في الوقت نفسه. قدم هذه الفرضية العالم إيه جي كيرنز
سميث عام ١٩٨٢.
لم تخضع هذه الفرضيات البديلة لقدْر كبير من الدراسة، ولكن ربما يتغير هذا الوضع إذا اكْتُشِفَ أي دليلٍ مُقنع على صحة أحدها.
تعقيدات
كما رأينا تعد مسألة أصل الحياة عمليةً معقدة للغاية. فلا يزال هناك الكثير من الأسئلة المُبهمة، مثل ماهية ونِسَب المواد الخام، ودور درجة الحرارة، ومقدار المياه المُتوفر، وهل كانت المحفزات موجودة أم لا، وهل كانت المُحفزات عضوية أم غير عضوية، ومصدر هذه المُحفزات، وما العمليات الكيميائية التي حدثت، وما إلى ذلك. ولكن تبقى المُعضلة الأساسية هي أنه لا يُمكننا السفر إلى الوراء عبر الزمن للتحقُّق من هذه التفاصيل.
ربما بسبب الإحباط، يطلُب بعض الناس إجاباتٍ أبسط، مثل النظر للعملية ككلٍّ على أنها عملية إحصائية ووضع تقدير للاحتمال الإجمالي لتكوُّن الحياة. لقد قُدِّمَ الكثير من هذه التقديرات، وأوضحت هذه التقديرات بشكلٍ مُثير من خلال تعليق عالم الفلك فريد هويل، الذي قال إنَّ إمكانية أن تكون قد تكونت الحياة من جزيئات بسيطة تُشبه القول إنَّ «الرياح الشديدة التي تهبُّ على فناء به قطع حديد خردة يُمكنها تجميع طائرة بوينج ٧٤٧ من المواد الموجودة في الفناء». إن تجميع شيءٍ تقني مُعقد من مواد خام بسيطة في حدثٍ واحد أقرب إلى فكرة «تولد الضفدع من جذع شجرة» من العملية المُتعددة الخطوات التي أشرنا إليها فيما سبق. إضافة إلى ذلك، فالعملية بالكامل بلا ريب ليست عشوائية. فالمُحفزات تسرع التفاعُلات، والنظام الدارويني للتنوع والمنافسة والمكافأة وتضخيم الجزيئات الناجحة يجعل الكيمياء ذات فاعلية أكثر من كونها عملية عشوائية. إن الأمر أشبَه بتجميع الأجزاء معًا بشكلٍ مُتكرر والاحتفاظ بشيءٍ يبدأ في أن يبدو مثل طائرة بوينج ٧٤٧. وبهذا النوع من التغذية الراجعة، قد تُصبح لديك في النهاية تلك الطائرة.

توجَد إشكالية أخرى مُتعلقة بالبذور الكونية. ففي الستينيات من القرن الماضي أعاد عالم الفلك الأمريكي كارل ساجان مرةً أخرى أفكار أرينياس وحدد الظروف التي يُمكن من خلالها أن تنتقل الجزيئات الصغيرة كالبذور عبر الفضاء. وبخلاف الأرض، اتضح أن أقمار الكواكب الخارجية (مثل قمر تريتون الخاص بكوكب نبتون الذي يملك غلافًا جويًّا، أو قمر يوروبا الخاص بكوكب المشتري الذي به مخزون من المياه الجوفية) ستكون المكان الأمثل في هذا النظام الشمسي لوجود مثل هذه البذور. إن هذا الأمر لا يُساعد على فَهم أصل الحياة على الأرض لكنه يضع هدفًا للتعمُّق في استكشاف الفضاء.
وقد قدم أيضًا عالم الفلك البريطاني الأمريكي توماس جولد اقتراحًا آخر أيضًا في الستينيات من القرن الماضي. يتلخَّص اقتراحه في افتراض أنه إذا كانت قد استكشفت حضارة مُتقدمة هذا الكوكب في الماضي وتركت بقايا لزيارتها، فقد يكون هذا الحطام لا يزال موجودًا وبالتالي يؤثر على مسار تطوُّر الحياة هنا. لم يكن لهذه النظرية الغريبة والمُريبة أي قوة استنتاجية، ولكنها أثَّرت على التفكير بشأن رحلاتنا الاستكشافية للكواكب الأخرى.
شرع عالِما الفلك البريطانيان السير فريد هويل وإن تشاندرا ويكراماسنجهي في دراسة أطياف الغبار الكوني عام ١٩٧٨. وأصبحا على اقتناع بأن الأطياف العالية التعقيد الخاصة بهما تتوافق مع أطياف البكتيريا المُجمدة والمُجففة. واعتقدا أن البكتيريا تعيش في سُحب الغبار والغاز العملاقة في الفضاء. فعندما تتكثف سحابة كهذه لتكوين نظامٍ شمسي تُصبح حُبيبات الغبار أنوية للمذنبات وتمطر بكتيريا على الكواكب النامية. لا يتضح موقع تطور البكتيريا وكيمياؤها للوهلة الأولى، ولكن تُتيح لنا هذه النظرية على الأقل وقتًا أكبر لتطور الخلية الأولى، على عكس نظرية أوبارين-هولدين التي تُعطي بضع مئات الملايين من السنين فقط لعملية التطور.
وقد وجد باحثون آخرون دعمًا لبعض جوانب نظرية هويل وويكراماسنجهي. إذ جرى التعرُّف على أكثر من ١٣٠ جزيئًا مختلفًا من خلال وجود خطوط امتصاص في أطياف النجوم عبر سُحب الغبار. تحتوي الجزيئات الموجودة في سُحب الغبار على سُكريات وكحول فينيلي وجزيئات أخرى ذات أهمية بيولوجية. لكن الآلية التي تتكوَّن بها هذه الجزيئات المُعقدة في سحب ذات كثافة مُنخفضة للغاية غير واضحة على الإطلاق. فإذا عملت حبة غبار داخل سحابة كمُحفز، مُحتجزة جزيئات بسيطة حتى تتفاعل وتكوِّن جزيئات كبيرة، إذن كيف يفلت الجزيء الكبير؟ تكون التصادُمات مع الجسيمات الأخرى عنيفةً بما يكفي لفك رابطة المُحفز والجزيء. يحتاج هذا اللغز بالتأكيد إلى مزيدٍ من العمل.
يجري الآن اختبارٌ مُهم للمُذنبات والغبار البين كوكبي. في عام ١٩٩٩ أطلقت وكالة ناسا مَركبةَ الفضاء ستار داست والتي ستجمع عينات من ذيل المُذنب وايلد ٢ والغبار البين كوكبي وترجعها إلى الأرض في عام ٢٠٠٦ من أجل التحليل. وظهرت نتيجة تمهيدية مُدهشة وهي أن تلك المركبة وجدت بالفعل جزيئات ذات كتلةٍ جزيئية مقدارها ٢٠٠٠ وحدة كتلة. وفي حين أن هذه الجزيئات لا يمكن التعرُّف عليها بدقَّة حتى عام ٢٠٠٦، فهذه الجزيئات بالتأكيد قائمة على الكربون وسيكون حجمها تقريبًا أكبر ١٠ مرات من أي جزيئات لُوحِظت حتى الآن.
السؤال الآن: أيمكن لإنزيمٍ من خارج الأرض أن يكون قد حفَّز تفاعُلًا رئيسيًّا ما في الحساء البدائي؟ سيكون علينا الانتظار ومعرفة نوع الغبار النجمي الذي ستجده ستار داست.
حل اللغز: كيف ومَن ولماذا؟
كيف؟
هيا بنا نضع أهم فرضيتَين قابلتَين للاختبار عن أصل الحياة بصيغة منهج التفكير العلمي.
- الفرضية الأولى: البذور الكونية لهويل وويكراماسنجهي
- التنبُّؤ: بما أن البكتيريا تعيش على أنوية المُذنبات، إذن لا بد أن تكون هناك حياة، أو على أقل تقدير، جزيئات عضوية مُعقدة في مكانٍ آخر.
- التجربة: بإمكان بعثات الاستكشاف الفضائية التي تجوب المريخ والكواكب الخارجية أو ربما مركبة ستار داست حل اللغز. وإذا لم تُكْتَشف حياة، إذن فيجب تعديل الفرضية أو التخلِّي عنها. وإذا اكتشفت حياة، إذن … وإذا تلقى الباحثون العاملون في مشروع «البحث عن ذكاء خارج الأرض» في كاليفورنيا إشارةً يبدو أنها صادرة من كائنات حية ذكية، فإن أصل هذه الكائنات الحية سيكون ذا قيمة وأهمية كبيرة. (انظر مجلد الأفكار ٤، الحياة خارج الأرض.)
- الفرضية الثانية: التولُّد التلقائي الجزيئي لأوبارين وهولدين. إن هذه الفرضية — كما اتضح من مناقشتنا — لا تزال غير كاملة. وهناك تفاصيل عديدة يجب بحثها.
- التنبُّؤ: عندما تتَّضح تفاصيل الفرضية يجب تحديد سلسلة من التفاعلات المُهمة، والتي يمكن تكرارها جميعًا في المعمل.
- التجربة: ينتظر العلماء التنبؤ حتى يُمكنهم تصميم اختبارات مناسبة.

مَن؟
من بالتحديد يُمكنه أن يسهم في إكمال الفرضية وتنفيذ التجارب المعملية الصعبة؟ هذه قائمة صغيرة بأسماء المرشحين لهذه المُهمة: سيدني ألتمان، وديفيد بارتل، ورونالد آر بريكر، وأندريه بروك، وإيه جراهام كيرنز سميث، وتوماس تشيك، وكريستيان دي دوف، ومانفريد أيجن، وأندرو إلنجتون، وألبرت إشنموسر، وجيمس بي فيريس، وإريس فراي، ووالتر جيلبرت، وهارولد هورويتس، ووندي جونسون، وستيوارت كوفمان، ونعوم لاهاف، وبي إي إتش مادين، وبيتر إي نيلسن، وهارولد نولر، وليزلي أورجل، ونورمان بيس، وكوروش صاليحي أشتياني، وأورز ستماري، وبي جيه أنراو، وتشارلز ويلسون، وأرت زوج. أو ربما يكون أحد الأشخاص في مكانٍ ما مجهول مثل مكتب براءات الاختراع السويسري؛ فنحن بحاجةٍ إلى شخص يستطيع أن يفهم الصورة بحجمها الكبير إلى جانب التفاصيل الدقيقة التي تتضمَّنها تلك الصورة والتي تحتاج لأن تُجْمَع معًا.
لماذا؟
في عام ١٨٦٢ قبِل لوي باستير التحدي الكبير مُخالفًا بذلك نصيحة أصدقائه. ونجح في حل اللغز ببراعة وفاز بجائزة الأكاديمية الفرنسية للعلوم تقديرًا لجهوده. إن ما نحتاجه اليوم هو لوي باستير القرن الحادي والعشرين.