علم الأحياء
أيًّا كانت الطريقة التي ربما تكون قد حدثت بها عملية تحول الأرض من كوكبٍ بلا حياة إلى كوكب يحمل حياة على ظهره، فإن ذلك التحول مهَّد الطريق لأن تكون الأرض كوكبًا يعجُّ بكائنات حية شديدة التنوع. ويُعْنَى علم الأحياء بدراسة الكائنات الحية هذه والعمليات التي تعيش من خلالها. وحتى وقت قريب كانت أكبر مشكلةٍ مستعصية على الحل في علم الأحياء هي صياغة نص المُخطط الجزيئي، أو الجينوم، للكائنات الحية الفردية. ولكن الآن، وبعد أن جرى التوصُّل إلى مُخطط الجينوم البشري وجينومات الكائنات الحية الأخرى ومعرفة تتابُعاتها، فقد انتقلت المشكلة إلى مرحلةٍ جديدة وهي كيف تُسهم جزيئات البروتينات — التي تكوَّنت بفعل أوامر من تلك الجينومات — في بنية الكائنات الحية ووظائفها؟ وكيف تُمكِّن جزيئات البروتينات هذه حدوث ذلك التفاعل الجزيئي المُعقد بشدة الذي يُسمى الحياة؟
بكتيريا الإيشريكيا كولاي
أسرع في تناول الطعام. أسرع في النمو. أسرع في التكاثر. أسرع في الاستجابة. إن العجلة عند الخلايا هي طريقة حياة.
بطريقةٍ أو بأخرى، تؤدي الجزيئات كل هذه الوظائف الخلوية الحيوية. ووفقًا للعقيدة المركزية لعلم الأحياء الجزيئي، تُنسَخ رسالة الدي إن إيه في شكل آر إن إيه، ويُترجِم الآر إن إيه بعد ذلك الرسالة إلى بروتينات، وهذه البروتينات عبارة عن بوليمرات تسلسُلية طويلة ذات عددٍ كبير من المجموعات الجانبية المختلفة المُلتفَّة بطول عمودٍ فقري مُتكرر. وبدورها تقوم هذه البروتينات بمهمة جعل الخلية تعمل بنجاح.
يتفوَّق نظام تشغيل الحياة تفوقًا شديدًا على أي إصدارٍ من إصدارات نظام تشغيل ويندوز. فالحزمة الجزيئية الصغيرة للحياة تُحقق أهدافها على نحوٍ موثوق، وفي مجموعة متنوعة من البيئات، وبعددٍ ضئيل من الأعطال. ومع أن علم الأحياء قد خطا خطواتٍ واسعة في فهم الكائنات الحية، فإن تفاصيل نظام تشغيل الحياة مُعقَّدة للغاية لدرجة أنها تُشكل أكبر المشكلات المُستعصية في علم الأحياء.

ولكي نُدرك طبيعة هذه المشكلة يجب أن نُحلل أولًا بعض تعقيدات الرقصة الجزيئية التي تحدث عندما يقوم أي كائنٍ حي بسيط نسبيًّا بأحد الأنشطة الأساسية للحياة مثل التفكُّك الأيضي لجزيء سُكر. لقد حُلِّلَت العملية التي سنُلقي عليها الضوء الآن لأول مرةٍ في ستينيات القرن العشرين على أيدي علماء فرنسيين هم جاك مونو وفرانسوا جاكوب وأندريه لوف. وسوف نبدأ بالتركيز على البكتيريا الدقيقة التي تعيش (عادةً على نحوٍ سلمي) في الأمعاء الغليظة (القولون) لكثير من الكائنات الحية بما فيها البشر. ويطلق على هذه البكتيريا اسم الإيشريكيا كولاي، التي تعرف عادة اختصارًا بالإي كولاي. ولكونها أحد الكائنات الحية المُفضلة لدى الباحثين في علم الأحياء (لأسبابٍ سوف نُناقشها فيما بعد)، فلقد دُرست وبُحثت بشكلٍ مُستفيض. هناك سلالة غير ضارَّة بالمرة من هذه البكتيريا تُسمى كيه-١٢ وكثيرًا ما تُستخدَم في المعامل والأبحاث. ولقد رُسِمَ مخطط كامل للدي إن إيه الخاص بها (جينومها) ووجد أنه يحتوي على ٤٦٣٩٢٢١ من أزواج القواعد. ومن الدي إن إيه لسلالة كيه-١٢، يُنْسَخ ٨٩ جزيءَ آر إن إيه، مما يؤدي إلى بناء ٤٢٨٨ بروتينًا مختلفًا. وعندما تعمل هذه الآلية الجزيئية القوية على سُكرٍ بسيط (أحادي) وجلوكوز وبعض الأيونات غير العضوية، يكون بإمكانها تخليق جميع الجزيئات العضوية الضرورية لعمليات الأيض والنمو والاستجابة والتكاثر. ونتيجة لقدرته على التكيُّف يستخدم هذا الكائن الحي الدقيق المُنظم بشكلٍ فعَّال في المزارع الغنية بالجلوكوز في المعامل البيولوجية حول العالم.
المشغلات الحيوية للإيشريكيا كولاي
يرتبط التكيف الجزيئي للإيشريكيا كولاي ارتباطًا وثيقًا بوجود المُشغلات الحيوية أو الأوبيرونات وهي وحدات جينية تُوجَد على جزيء الدي إن إيه الذي يُعرَف بالكروموسوم، وتتكوَّن من مجموعةٍ من الجينات ذات وظائف مترابطة. يُطلَق على أحد هذه المشغلات اسم مشغل «لاك» لدوره الرئيسي في عملية أيض لاكتوز السُّكر. ويحتوي مُشغل لاك على ثلاثة جينات، وهذه الجينات مسئولة عن إنتاج ثلاثة بروتينات التي تقوم بدورها بإدخال اللاكتوز إلى الخلية ثم تُحلِّله إلى جلوكوز ونوع آخر من السُّكر وهو الجلاكتوز.

تعد استجابة الإيشريكيا كولاي لهذا التطور مهمةً للغاية. حيث يهدأ كل شيءٍ لفترةٍ ما. فلا تقوم الإيشريكيا كولاي بعملية أيض اللاكتوز، وتقلُّ النشاطات الأيضية الأخرى، ويتوقَّف انقسام الخلية. ويبدو الأمر كما لو كانت الإيشريكيا كولاي في مأزق. ولكن بعد فترةٍ قصيرة يبدأ اللاكتوز في الخضوع لعملية أيض، وتعود الإيشريكيا كولاي للعمل. يُشير تحليل كيمياء الخلية إلى وجود ثلاثة بروتينات جديدة لم تكن موجودة قبل نفاد الجلوكوز. وهذه البروتينات هي البرمياز، الذي يُرافق جزيئات اللاكتوز عبر غلاف الخلية ويسمح لها بالدخول ويسمح بهضمها؛ والبيتا-جلاكتوسيديز الذي يُحَلل اللاكتوز إلى جلوكوز وجلاكتوز؛ وناقلة الأسيتيل التي وظيفتها غير مفهومة بشكلٍ واضح.

ربما تظن أن وجود اللاكتوز في الخلية سيعمل ببساطةٍ بمنزلة حافز يساعد على نسخ الآر إن إيه الذي ينتج هذه الإنزيمات البروتينية الثلاثة. على أن هذه العملية في الواقع الفعلي تتصف بقدرٍ أكبر من التعقيد. حيث إن منح تعليمات إنتاج الإنزيمات البروتينية المُختلفة يتطلَّب وجود اللاكتوز وعدم وجود الجلوكوز. فهيَّا بنا نستعرِض هذه العملية من الناحية الجزيئية ونرى كيف تعمل.
من المُعتقد أن الدي إن إيه هو جزيء وحيد ومُنعزل وآمِن بسبب بِنيته القوية التي تحمي المعلومات الحيوية للخلية. ولكن الأمر ليس كذلك. ففي الحقيقة يتعرَّض الدي إن إيه باستمرار للضغط والنغز والثني والفتح بواسطة الإنزيمات البروتينية المُتنوعة. إن النشاط داخل هذا الجزيء ينافس ذلك الخاص بنظام المعلومات الفائق السرعة.
إن أساس كل هذه العملية هو شكل الدي إن إيه وتوزيع الشحنة الكهربية الخاص به. فالحلزون المزدوج يحتوي على أخدودَين، يُشار إلى الأول بالأخدود الرئيسي والثاني بالأخدود الثانوي، وتحتوي كل قاعدةٍ من قواعد النيوكليوتيدات على أنماطٍ فريدة للشحنة الكهربية. (يحتوي مجلد الأفكار ٦، بناء نموذج دي إن إيه، على معلومات عن كيفية بناء جزءٍ من الدي إن إيه باستخدام ألعاب البناء.) تمتلك بعض البروتينات الحجم والشكل المناسبَين اللذين يتوافقان مع هذين الأخدودَين. وربما تلتحم كل من البروتينات والدي إن إيه بعضهما ببعض بقوةٍ نتيجة لتوزيع الشحنة الكهربية الخاص بهما. ولكن مع ذلك لا يكون هذا التجاذُب بنفس قوة الروابط التساهمية الموجودة داخل كل جزيء. ويشار إلى هذا التجاذب بين جزيءٍ وآخر بالارتباط. وبناءً على شكل البروتينات وتوزيع الشحنة الخاص بها، ترتبط البروتينات في مواقع مُعينة على طول الدي إن إيه. وفي الوقت الذي تتصادم فيه الجزيئات — كاستجابةٍ للحركات الحرارية العادية — ترتبط البروتينات وتُحرَّر بشكل مستمر.
غالبًا يجري التفكير في الارتباط بين الأشكال الجزيئية المُعقدة من خلال مجاز القفل والمفتاح. حيث يتلاءم عدد قليل من الأشكال بما يكفي للارتباط. ويمكن للبروتينات أيضًا أن ترتبط مع بروتينات أخرى وهذا يُشكل وحدة جديدة تُسمى بالمركب. وعادة ما يكون للمُركب شكل مختلف وتوزيع شحنة مختلف عن الجزيء الأصلي. ويُطلق على هذا التغيُّر اسم «التغير التكويني»، وهو يقوم بدورٍ كبير في عملية بناء البروتين لأن بإمكانه أن يجعل «المفاتيح» تتوافق مع «أقفال» مختلفة، وبإمكانه أيضًا أن يجعلها لا تتوافق مع الأقفال التي كانت تتوافق معها من قبل.
يتكوَّن الآر إن إيه بمساعدة إنزيم بروتيني يُسمى إنزيم البوليميريز الذي يُلْحَق بموقع ارتباط على الدي إن إيه، ويفتح الحلزون المزدوج من الوسط تمامًا كالسحَّاب، وينسخ ترتيب أزواج القواعد للدي إن إيه إلى جزيء آر إن إيه. يترك الآر إن إيه بعد ذلك الدي إن إيه ويترجَم ترتيب أزواج قواعد النيوكليوتيدات عن طريق بناء بروتين في جزءٍ من تلك الآلية الجزيئية التي يُطلق عليها اسم الريبوسوم. بعد ذلك تُحدد كل مجموعة تتكوَّن من ثلاث قواعد نيوكليوتيدات، تسمى الكودون، (انظر مجلد الأفكار ٧، الكودونات) حمضًا أمينيًّا معينًا لإضافته للبروتين. ثم يرتبط إنزيم بوليميريز الآر إن إيه مع الدي إن إيه عند المواقع التي يتوافقان فيها فقط. ولا يتأثر هذا التوافق بشكل جزيء البوليميريز فحسب، ولكن أيضًا بمدى توفر موقع الارتباط للدي إن إيه، الذي يعتمد بالتالي على انحناءات وانثناءات الدي إن إيه.

تحتاج الخطوة الأخيرة إلى بروتين آخر يعمل كمُثبط. وفي هذه الحالة بوجهٍ خاصٍّ يُطلق عليه اسم مثبط لاك. يتلاءم هذا الجزيء عادة مع أخدود الدي إن إيه عند النقطة التي يتداخل فيها مع إنزيم بوليميريز الآر إن إيه الذي ينسخ معلومات الدي إن إيه إلى البروتينات التي تهضم اللاكتوز. وعلاوة على ذلك فإن مُثبط لاك أيضًا له موقع ارتباط لللاكتوز.
إذا لم يرتبط اللاكتوز مع مُثبط لاك يتوافق المُثبط مع أخدود الدي إن إيه بشكلٍ مُحكم عند النقطة الصحيحة بالضبط لمنع إنزيم بوليميريز الآر إن إيه من القيام بعملية النسخ. لكن إذا ارتبط اللاكتوز بمُثبط لاك إذن يتغير توافُق مثبط لاك إلى درجة أنه لا يُصبح متلائمًا مع الدي إن إيه للإيشريكيا كولاي، وبالتالي لا يُمنع إنزيم بوليميريز الآر إن إيه من القيام بعملية النسخ. سوف نرى كيف تعمل هذه الجزيئات معًا لإنتاج السلوك المرصود للإيشريكيا كولاي.

وفي البيئة التي يُوجد بها خليط من الجلوكوز واللاكتوز أدى وجود الجلوكوز إلى منع تكون مركب أحادي فوسفات الأدينوسين الحلقي والبروتين المفعل للناتج الأيضي، ولذا لم ينثنِ الدي إن إيه ولم يقُم إنزيم بوليميريز الآر إن إيه بالنسخ. ومع أن وجود اللاكتوز قد أزاح المثبط عن أخدود الدي إن إيه، فإن إنزيم بوليميريز الآر إن إيه لم يستطع الارتباط جيدًا. وأدى ذلك إلى ترك الدي إن إيه بدون أي ارتباطاتٍ في منطقة مشغل لاك الحيوي.
للتوضيح، يُشبه هذا الموقف بابًا مزودًا بمقبضٍ ولسان قفل. فيعمل المقبض كمنشط ويعمل لسان القفل كمثبط. يقارن الجدول التالي بين نظام الباب المزود بمقبض/لسان قفل وآلية المنشط/المثبط.
حالة المقبض (المنشط) | وضع لسان القفل (المثبط) | هل سيفتح الباب؟ (هل ستتكوَّن بروتينات هضم اللاكتوز؟) |
---|---|---|
مغلق (جلوكوز عالٍ) | مقفل (لاكتوز منخفض) | لا |
مغلق (جلوكوز عالٍ) | غير مقفل (لاكتوز عالٍ) | لا |
مفتوح (جلوكوز منخفض) | مقفل (لاكتوز منخفض) | لا |
مفتوح (جلوكوز منخفض) | غير مقفل (لاكتوز عالٍ) | نعم |

تُبْنى الإنزيمات البروتينية عمليًّا بمجرد نسخ الآر إن إيه الخاص بها، ويكون الآر إن إيه مرتبطًا بالدي إن إيه الطويل الدائري الأحادي الجزيء. ونظرًا لأن الإيشريكيا كولاي من بدائيات النواة، فلا تُوجَد نواة أو غشاء نووي للتقليل من سرعة العمليات، لذا يبدأ هضم اللاكتوز بسرعة كبيرة. ومن ثم تنمو الإيشريكيا كولاي بنجاح على اللاكتوز والجلوكوز.
الإيشريكيا كولاي مقارنة بالكائنات الحية الأخرى
تُعد الإيشريكيا كولاي أحد أكثر الكائنات الحية التي خضعت للبحث، واستطاع العلماء تحديد هوية نحو ثلثي وظائف جيناتها. وتُشكل آلية عمل مشغل لاك الحيوي مجرد جزءٍ صغير من الآلية الجزيئية للإيشريكيا كولاي. وربما تتساءل لماذا نعلَم الكثير جدًّا عن هذه البكتيريا الصغيرة جدًّا التي لا يتعدَّى حجم خمسين منها قُطر شعرة الرأس؟ والإجابة هي أنه من الأسهل كثيرًا القيام ببحثٍ بيولوجي باستخدام كائناتٍ غير بشرية، فهذا يُقلل من الاعتراضات الأخلاقية التي تُثار في هذا الشأن. كما أن الكائنات الحية البسيطة أسهل وأسرع من البشر من حيث التكاثر والتغذية والقابلية لإجراء التجارب عليها. وتُعد الإيشريكيا كولاي مُحكمة بما ينبغي ومؤهلة لتكون مادةً جيدة للبحث، كما أن معدل تكاثرها جيد؛ فهي تنقسِم مرة كل عشرين دقيقة. فإذا مُنحت واحدة من بكتيريا الإيشريكيا كولاي القدْر الكافي من الجلوكوز (أو اللاكتوز) والماء والمساحة، فستُصبح أكثر من مليار خلية في غضون عشر ساعات فقط. ومع أن استخدام سلالات أخرى من هذا النوع من البكتيريا يعد مخاطرة كبيرة للصحة، فإن سلالة كيه-١٢ منها ليست كذلك، فهي آمنة ولا تتطلَّب اتخاذ احتياطات كبيرة. ولأكثر من سبعين عامًا كانت الإيشريكيا كولاي بمنزلة فأر التجارب المُفضل للكيمياء الحيوية وعلم الوراثة وعلم الأحياء التطوري. كما قاد التشابُه بين عملياتها الجزيئية والعمليات الجزيئية للكائنات الحية الأخرى إلى استخدامها كمصنع لتصنيع الأنسولين من أجل مرضى السكر. قال جاك مونو، العالم الفرنسي البارز الحاصل على جائزة نوبل عام ١٩٦٥ ذات مرة: «إن ما ينطبق على الإيشريكيا كولاي ينطبق على الفيل.»
ولقد دُرِسَت كائنات أخرى بدائية النواة، مثل الميكوبلازما جينيتليوم وهو أصغر كائن مُستقل، ويحتوي على ٥٨٠ من أزواج القواعد و٥١٧ جينًا في الدي إن إيه الخاص به، والهيموفيلس إنفلونزي الذي يحتوي على ١٨٣٠١٣٧ من أزواج القواعد و١٧٤٣ جينًا. على أن البساطة النسبية للدي إن إيه لبدائيات النواة — من حيث الحجم والشكل الدائري — تحدُّ من قابلية تطبيق نتائج الدراسات التي تخضع لها على كائنات أعقد.
من بدائيات النواة إلى حقيقيات النواة
تعيش بدائيات النواة على الحافة. ويجب أن تستجيب هذه الكائنات الصغيرة الحساسة بسرعة. وعندما يتوفر الغذاء يجب أن تُخضعه لعملية الأيض، وتنمو قبل نفاد الطعام. ونظام تحكُّم كمشغل لاك الحيوي مناسب تمامًا لهذه الاستجابة السريعة التي تصعد وتهبط فيها مستويات الإنزيمات استجابةً للتغيرات السريعة التي تطرأ على الظروف البيئية.

لكن الأمر مع حقيقيات النواة يختلف اختلافًا شديدًا. فلقد تطوَّرت معظم الكائنات المُتعددة الخلايا بحيث إن خلاياها الداخلية قد عُزلت عن التغيرات المؤقتة في البيئة المُحيطة. والبيئة الداخلية الثابتة، وهو ما يُسمى الاستقرار الداخلي، مطلوب لكي تستقر وظائف تلك الكائنات. ونتيجة لذلك تميل آليات التحكم الجيني في حقيقيات النواة للتركيز أكثر على تنظيم واستقرار الكائن ككل. على سبيل المثال، تنشط بعض الجينات مرة واحدة فقط، وتنتج آثارًا لا يمكن الرجوع فيها، على عكس الآلية المرنة لمُشغل لاك الحيوي التي يمكن عكسها بسهولة. وفي الكثير من الحيوانات تنمو خلايا غير مُتخصِّصة تُسمى الخلايا الجذعية بشكلٍ مُبكر للغاية في الوضع الجنيني. ثم تتحول هذه الخلايا إلى خلايا متخصصة، كخلايا المخ أو أظافر الأصابع، من خلال اتباع نمط جيني ثابت، قد يقود حتى إلى الموت النهائي للخلايا. ويُترجَم هذا التخصص إلى جزيئات أكثر من الدي إن إيه والآر إن إيه، وإنزيمات بروتينية أكثر حتى تتمكَّن حقيقيات النواة من إدارة التفاعُلات المُعقدة بين هذه الجزيئات أثناء عملية الأيض.
الكائنات النموذجية Model Organisms
- (١)
يتطوَّران بسرعة، ولكن دورة حياتهما قصيرة.
- (٢)
صغيرا الحجم عند البلوغ.
- (٣)
موجودان بكثرة.
- (٤)
يسهل التحكم فيهما.
- (٥)
يقومان بوظائف بيولوجية بطريقةٍ تُشبه كائنات أكثر تعقيدًا، مثل البشر.

ومن بين الكائنات النموذجية الأخرى ذبابة الفاكهة المعروفة باسم دروسوفيلا ميلانوجاستر، وهي مألوفة لدى الكثير من الناس. ويرجع تاريخ التعرف على هذه الذبابة إلى نحو عام ١٩٠٠، حيث كان لدى أستاذ علم الأجنة في جامعة هارفارد ويليام كاسل طالب دراسات عُليا في حاجة إلى مشروع. فنصحه كاسل بأن يترك بعض العنب القديم لفترةٍ ثم يقوم بدراسة وبحث ما قد يظهر. فظهرت ذبابة الفاكهة وهي كائن يخضع للبحث الآن داخل المعامل في جميع أنحاء العالم. ونظرًا لتمتُّع هذه الذبابة بجميع خصائص الكائنات النموذجية، فإنها تُستخدَم بشكلٍ موسَّع في دراسات علم الوراثة ومشروعات علم الأحياء التطوري.

كما أن هناك كائنًا آخر يحتوي أيضًا على جميع خصائص الكائن النموذجي، هذا الكائن هو الفأر المنزلي، والذي كان ولا يزال الكائن المُفضل للباحثين في مجال الطب الذين يدرسون الأمراض والأدوية. بالإضافة إلى ذلك، جينوم هذا الفأر يُشبه، على نحوٍ ملحوظٍ، الجينوم البشري. وقد أظهرت دراسات المقارنة الجينية بالفعل الكثير عن بِنية الجسم البشري والعمليات التي تتمُّ به. وسوف تمدُّنا الدراسات المُستقبلية بمعلوماتٍ جديدة.
ولقد قُدمت كائنات أخرى مثل السمك المُخطط وسمك البفر ونبات الخردل (رشاد أذن الفأر) وأحد فيروسات الإنفلونزا (الهيموفيلس إنفلونزي) ككائناتٍ نموذجية ودُرِسَت بدرجاتٍ متنوعة. والكائنات النموذجية والآلية الضرورية لإجراء دراساتٍ عليها يتطلَّبان توافر الرؤى الخاصة بعلم الأحياء الوصفي التقليدي، ووجود عددٍ كبير من الباحِثين الذين يعكفون في معاملهم مع مجاهرهم أو يذهبون في رحلاتٍ ميدانية إلى أماكن غريبة لكي يُراقبوا بعدساتهم المكبرة هذه الكائنات داخل بيئاتها الطبيعية (تذكر تشارلز داروين في جزر جالاباجوس).

في حين أن الكائنات النموذجية مُهمَّة لعلماء الأحياء، فإن تركيز علم الأحياء الحديث قد توسَّع كثيرًا، ويرجع ذلك بشكلٍ أساسي إلى التأثيرات الجديدة والمُتنوعة من جانب المجالات الأخرى. وهذه التأثيرات أدَّت فعليًّا إلى حدوث ثورة في دراسة علم الأحياء.
ولكي نرى كيف حدثت هذه الثورة، يجب علينا توضيح وتوسيع العقيدة المركزية لعِلم الأحياء الجزيئي. فقد ركَّز علم الأحياء الوصفي على الخصائص القابلة للرصد ولكنه لم يُخبرنا بالكثير حول الآلية الجزيئية المُصاحبة لهذه الخصائص. ثم جاءت الكيمياء وركزت على التفاعُلات الكيميائية في الكائنات الحية التي بدأت بدورها في توضيح طبيعة العمليات البيولوجية. ولكن مع ذلك بقيت المعضلة الكبرى وهي حقيقة أن الجزيئات التي تحرك الأنظمة الحية كانت صغيرة جدًّا بحيث لا يمكن دراستها باستخدام المجاهر.
ثم بعد ذلك جاء علماء الفيزياء الذين استخدموا تقنيات التصوير البلوري بالأشعة السينية لتحديد مخطط الشكل الحلزوني المزدوج للدي إن إيه. (تذكَّر عالم الأحياء جيمس واطسون وعالم الفيزياء فرانسيس كريك وهما يستخدِمان بيانات اختصاصية التصوير البلوري بالأشعة السينية روزاليند فرانكلين.) وكانت الأخبار الجيدة والسيئة في الوقت نفسه هي التعرُّف على التركيب الكامل للدي إن إيه، ولكن كانت تفاصيل هذا التركيب صغيرة جدًّا ولا يمكن رؤيتها. إذ يحتوي الدي إن إيه على عددٍ كبير جدًّا من أزواج قواعد النيوكليوتيدات التي يُعد التعرُّف عليها وتحديد هويتها مشكلة صعبة.

حدث التحوُّل من دراسة ما هو كبير إلى دراسة ما هو صغير ولكن بشكلٍ بطيء. فلقد توصَّلت دراسة الجزيئات من وجهة النظر الكيميائية إلى بعض المعلومات ولكن كان التقدُّم يسير بوتيرة بطيئة تُشبه وتيرة سير الحلزون، الذي ليس، بلا شكٍّ، من الكائنات النموذجية.
وفي منتصف الثمانينيات واتت فكرة جديدة العديد من علماء الأحياء. لماذا لا تُحَلَّل المجموعة الكاملة للدي إن إيه للكائنات الحية، التي يُشار إليها بالجينوم؟ بدءًا بجينوم الكائنات النموذجية ووصولًا إلى الجينوم البشري. وقد فتحت هذه الفكرة الجريئة الباب لأصحاب المجالات الأخرى ليُسهموا بدورهم في تنمية علم الأحياء: مُصممي الآلات المساعدة، وعلماء الكمبيوتر، والرأسماليين، وعالم نافد الصبر اسمه جيه كريج فينتر.
تخطيط الجينوم البشري: المشكلات الكبيرة تتطلَّب أدواتٍ كبيرة
قبل أن نناقش جميع المساعي والجهود التي تُوجت بتخطيط جينومات الكائنات النموذجية والجينوم البشري، هيا بنا نستكشف تفاصيل كيفية التحقُّق من تسلسُل قواعد جُزيء الدي إن إيه المضغوط بإحكام. يتكون الجينوم البشري من ثلاثة مليارات زوج قواعد من النيوكليوتيدات. بمعنى أنك إذا بدأت في عدِّ هذه الأزواج بمُعدل زوج لكل ثانية، فسوف يتطلب الأمر ما يقرب من ١٠٠ عام للقيام بذلك. من الواضح أنه كانت هناك حاجة إلى طريقةٍ أسرع. ولكي يتحقَّق ذلك كان يجب أولًا تنقيح عدة تقنيات.
الترحيل الكهربي

تضمَّن إجراء تسيليوس تقنيةً لجعل النمط الناتج مرئيًّا وذلك عن طريق استخدام صبغات لتمييز الجسيمات عن الوسط الهلامي. وكان تسيليوس قد استخدم العملية نفسها لفصل البروتينات في محلول، وقد نال جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٤٨ عن هذا العمل. ومنذ ذلك الحين امتدَّت طريقته إلى مجموعةٍ متنوعة من الجُسيمات التي تتحرك في أوساطٍ مختلفة كثيرة. بالإضافة إلى ذلك، يُستخدَم الآن الكثير من الأنظمة التصويرية المختلفة.
الإنزيمات القاطعة
لقد اكتُشفت الإنزيمات القاطعة لأول مرة على نحوٍ غير متوقَّع أثناء القيام بأبحاثٍ على العاثيات. والعاثيات هي فيروسات تُهاجم الخلايا البكتيرية من خلال إدخال الدي إن إيه الخاص بها في البكتيريا المُضيفة التي تنتج بدورها العاثية. وقد اكتشفت العاثيات لأول مرة على يدِ عالِمَي البكتيريا البريطاني فريدريك توارت عام ١٩١٥ والفرنسي فيليكس دي هيرل عام ١٩١٧، اللذَين كانا يعملان كلٌّ على حدة. وتقدمت الأبحاث التي أجريت على العاثيات بشكل سريع نظرًا لقدرتها على قتل البكتيريا التي تُصيب البشر. ولكن انحسرت تلك الأبحاث بعد اكتشاف البنسيلين والمضادات الحيوية الكيميائية الأخرى.

في أواخر الستينيات من القرن العشرين درس عالم البكتيريا بجامعة جونز هوبكنز هاملتون أوه سميث سلالة آر دي من بكتيريا هيموفيلس إنفلونزي والعاثية بي٢٢. وبالصدفة كانت البكتيريا والعاثية في وسطٍ واحد. ولاحظ سميث أن نشاط الدي إن إيه للعاثية قد انخفض بمرور الوقت، ويدل ذلك على أن الدي إن إيه للعاثية كان يُقطَّع بواسطة شيءٍ ما في البكتيريا. فعزل سميث وزملاؤه الإنزيم المسئول عن ذلك ونقُّوه، وحَدَّدوا الطريقة التي يعمل بها، حيث يقطع أحد الإنزيمات البروتينية الموجودة في البكتيريا الدي إن إيه للعاثية عن طريق تحديد سلسلةٍ مُعينة تتكوَّن من ستة أزواج قواعد ثم قطع الدي إن إيه، وذلك بالطريقة نفسها وفي الموقع نفسه دائمًا. وقد أطلق على هذا الإنزيم اسم «الإنزيم القاطع». بالإضافة إلى هذا الإنزيم امتلكت تلك البكتيريا إنزيمًا آخر، وهو إنزيم الميثيليز، والذي قد حمى الدي إن إيه للبكتيريا من أن يقطَّع بالطريقة نفسها. لقد قام إنزيم الميثيليز بإلحاق مجموعة ميثيل بقواعد نيوكليوتيدات السيتوزين أو الأدينين في الدي إن إيه للبكتيريا. وتؤدي هذه العملية إلى تعديل جزيء الدي إن إيه بشكلٍ كافٍ لإبعاد الإنزيم القاطع عن تحديد موقع الارتباط الخاص به، ولكنها لا تتدخل في عملية الأيض أو التكاثر الطبيعية للبكتيريا.
ومنذ ذلك الحين اكتشفت آلاف الإنزيمات التي تعمل على قطع الدي إن إيه عند نقاط مُعينة. واكتشفت إنزيمات أخرى تُلصِق أجزاء الدي إن إيه بعضها مع بعض. وكانت نتيجة جميع هذه الاكتشافات أن أصبح بحوزة علماء علم الأحياء الجزيئي مجموعة من الإنزيمات البروتينية تُمكِّنهم من قصِّ الدي إن إيه أو لصقه عند أزواج قواعد نيوكليوتيدات مُعينة.
طريقة سانجر لإنهاء السلسلة باستخدام النيوكليوتيدات المنقوصة الأكسجين الثنائية والمُستخدمة في تحديد تتابُع الدي إن إيه
في عام ١٩٧٧ طوَّر عالم الكيمياء الحيوية البريطاني فريد سانجر طريقةً لقطع الدي إن إيه إلى أجزاء مطابقة لكلِّ طولٍ ممكن للدي إن إيه الأصلي. واستخدمت هذه الطريقة جزيئًا بديلًا للنيوكليوتيد العادي. ولكن هذا البديل لم يكوِّن رابطة مع النيوكليوتيد التالي في التسلسُل الضروري لتكوين الدي إن إيه الكامل، ولذا انتهت السلسلة عند هذه النقطة.

تبدأ طريقة سانجر عندما يستخدم العلماء الإنزيمات القاطعة لقطع الدي إن إيه المراد تحديد تتابُعه (القالب) إلى أجزاءٍ أقصر وأكثر مرونة، ثم يُسخنون الدي إن إيه حتى ينفصل الشريطان. ويُضيفون بعد ذلك النيوكليوتيدات الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين الثنائية إلى هذه الأجزاء من الدي إن إيه أحادي الشريط. بعد ذلك يدخلون الإنزيم البروتيني بوليميريز الدي إن إيه، الذي يبدأ في تكوين نُسَخ من الدي إن إيه القالب. ونتيجة لوجود قواعد منقوصة الأكسجين ثنائية، لا تُعَد الجزيئات المُكوَّنة نسخًا من الدي إن إيه الأصلي ولكن تكون مزيجًا من كل طول سلسلة للدي إن إيه. لقد ميَّز العلماء من قبل النيوكليوتيدات الثلاثية الفوسفات المنقوصة الأكسجين الثنائية إما بواسطة نظير فوسفوري مُشع أو عامل صبغي حسَّاس للأشعة فوق البنفسجية، بحيث تُصبح نهاية كل سلسلةٍ منتهية مرئية.
ثم يضعون هذا الخليط من سلاسل الدي إن إيه في تجاويف في هلام ترحيل كهربي ويُشغِّلون المجال الكهربي. تواجِه أجزاء الدي إن إيه الأقصر مقاومةً أقلَّ من الوسط (الذي يكون في الغالب هلام أجاروز، وهي مادة تُشبه الجيلي، تكوِّن شبكةً قوية من الجزيئات المُتشابكة) ولذلك فهي تنتقل بشكلٍ أسرع. يضع الباحثون غالبًا سلاسل ذات أطوالٍ معلومة في أحد التجاويف كمرجع. وعندما تصِل أقصر السلاسل إلى نهاية الوسط، يجري إيقاف تشغيل المجال. ومن خلال فحص الواسمات المُشعَّة أو الفلورية الفوق البنفسجية يمكن للعلماء تحديد قاعدة النيوكليوتيدات في نهاية كل سلسلةٍ جزيئية. ونظرًا لفرز الترحيل الكهربي للجزيئات وفقًا لطول السلسلة، فإن مجرد فحص نتائج الترحيل الكهربي سوف يوضح لنا ترتيب أزواج قواعد النيوكليوتيدات في الدي إن إيه القالب.
كانت تستخدم هذه الطريقة على نطاقٍ واسع حتى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، وبُنيت الكثير من الأبحاث ورسائل الدكتوراه على مشروع يتضمن تحديد تتابُع جزء من الدي إن إيه لأحد الكائنات النموذجية. لذا كان لا بد من أخذ عينات من هذا الكائن، وتنقيتها، والسماح لها بالتفاعل مع مواد كيميائية متنوعة، وحفظها في بيئةٍ محكمة، ووضعها في الوسط الهلامي، وتطبيق تقنية الترحيل الكهربي عليها، ومن ثَم كان لا بد من تسجيل البيانات وتفسيرها. كانت هذه العملية شاقَّة وبطيئة. وقد كان ينتج أي بحث قياسي منها تتابُع جزء من الدي إن إيه يبلغ طوله ٤٠ ألف زوج من القواعد.
تحديد تتابع الجينوم البشري
في العدد الصادر بتاريخ ٧ مارس ١٩٨٦ من مجلة «ساينس»، دعا ريناتو دولبيكو، رئيس معهد سولك — معبرًا عن آراء العديد من علماء الأحياء المؤثرين — إلى وجود برنامج ضخم لتحديد تتابُع الجينوم البشري كله. وقد أكَّد على الأهمية القصوى لهذا الأمر لفهم الدور الجيني في مرض السرطان. وقد وافق بعض علماء الأحياء على ذلك، مثل والتر جيلبرت (صاحب نظرية عالم الآر إن إيه). وقال: «سيكون تحديد تتابع الجينوم البشري بالكامل بمنزلة الكأس المقدسة في علوم الوراثة البشرية.» (سنرجع لهذا التشبيه المُبالغ فيه لاحقًا في هذا الفصل.)

ولكن ساور البعض الآخر القلق من أن هذا المشروع العملاق سيُدمِّر علم الأحياء تمامًا. فإن تحديد تتابع ٣ مليارات زوج قواعد باستخدام الطرق المتاحة حينها كان سيتطلب ١٠ آلاف خريج يعملون بلا انقطاعٍ لمدة ١٥ عامًا، بتكلفةٍ تصل إلى ٣ مليارات من الدولارات. فبهذا المستوى من المُتطلبات البشرية والمالية، ما كان سيبقى أي تمويلٍ لأي مشاريع بيولوجية أخرى لمدة ١٥ عامًا.
كان هناك بريق أمل تمثَّل في إمكانية استخدام آلات تحديد تتابع مؤتمتة. وقد بدأ مركز أبحاث الجينوم البشري، وهو إحدى وحدات معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، رسميًّا في العمل بهذا المشروع في أكتوبر عام ١٩٩٠، تحت إدارة جيمس واطسون. وقد أُعد هذا المشروع ليكون على مستوى العالم، على أن يتولَّى معظم العمل الهيئات والجامعات الحكومية المختلفة في الولايات المتحدة ويتولَّى نحو ثلثه نظائرها في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان.
وقد تركزت الجهود المُبكرة على تطوير آلات تحديد تتابُع مؤتمة، وهذا فتح الباب أمام مجالٍ آخر ليُساهم بدوره في تنمية علم الأحياء وهو التصميم الهندسي الذي سيصنع الأدوات البيولوجية اللازمة. وفي أواخر عام ١٩٨٦ أنشأ عالم الكيمياء الحيوية والطبيب ليروي هود وعالم الكيمياء الحيوية والاختصاصي التكنولوجي مايكل هانكابيلر شركة أبلايد بيوسيستيمز المحدودة، وطوَّرا آلةً بإمكانها تحديد تتابع ١٢ ألف زوج قواعد من النيوكليوتيدات في اليوم. وبحلول بداية عام ١٩٨٧ اختبر معمل خاص بعلم الأحياء الجزيئي تابع لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية برئاسة عالم الفسيولوجيا جيه كريج فينتر آلة تحديد التتابع ٣٧٣ إيه الخاصة بشركة أبلايد بيوسيستيمز، بالإضافة إلى محطة عمل المُحفز ٨٠٠ التابعة لنفس الشركة لإعداد العينات. واستطاع معمل فينتر تحديد تتابع منطقتَين كان يعتقد أنهما تحتويان على جينات مسئولة عن حدوث مشكلات واضطرابات وراثية مُهمة للغاية. ومع أن الآلتَين عمِلتا بشكلٍ جيد للغاية، فلم تُكْتَشف الجينات المُحددة التي كان فينتر يسعى إليها. بالإضافة إلى ذلك فقد أظهر البرنامج الكثير من النتائج الإيجابية الخاطئة التي تطلَّبت الكثير من التحقق اليدوي.
كان فينتر قليل الصبر ولم يخُض في تتابُعات الأبجدية الجينية الطويلة ليجد الجينات أو مناطق الجينوم التي تشفر البروتينات التي تُثير اهتمامه. ثم خطرت بباله فكرة تتعلق بكيفية تركيز البحث. فلكي يصل إلى الجينات النشطة في نوعٍ مُعين من الخلايا، استخرج أولًا الآر إن إيه من الخلية. وبما أن الآر إن إيه يتكوَّن من دي إن إيه في الأساس، إذن فهو يحتوي على تسلسل أزواج قواعد من النيوكليوتيدات من الأجزاء (الجينات) النشطة للدي إن إيه الأصلي. ثم حوَّل العلماء الآر إن إيه إلى دي إن إيه أكثر استقرارًا (وهذا يُسمى الدي إن إيه المُكمل) ثم ألحقوه بكروموسوم بكتيري من أجل التخزين، باستخدام طرق القص واللصق المُتاحة من خلال الإنزيمات القاطعة. ويُعد الدي إن إيه المكمل مصدرًا قياسيًّا في معامل علم الأحياء الجزيئي في كافة أنحاء العالم، لذا فتوافره مضمون. الخطوة التالية هي تحديد تتابُع الدي إن إيه المكمل ومقارنته بالجينات الأخرى المُحدَّد تتابعها. وهذه الفكرة، التي يُطلق عليها اسم «التتابُعات الواسمة المعبر عنها»، لم تكن جديدة على فينتر. فقد نشرها لأول مرة عالم علم الأحياء الكيميائي بول شميل عام ١٩٨٣، واستخدمها عالم الوراثة الشهير سيدني برينر مع آخرين على نطاق واسع في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين. ولكن بفضل آلة تحديد التتابُع السالفة الذكر ومحطات العمل الحاسوبية، كان لدى معمل فينتر قدرة ليس لها مثيل على تحديد التتابُع.
وفي يونيو من عام ١٩٩١، أعلن فينتر في مجلة «ساينس» أنه استطاع اكتشاف حوالي ٣٣٠ جينًا نشطًا في المخ البشري، وذلك باستخدام التتابُعات الواسِمة المُعبر عنها. فبضربةٍ واحدة استطاع فينتر اكتشاف وتحديد تتابُع أكثر من ١٠٪ من إجمالي الجينات البشرية المعروفة، كل ذلك في غضون أشهر. وبأسلوبه المباشر أوضح فينتر أن «التطوُّرات التي طرأت على تقنيات تحديد تتابُع الدي إن إيه جعلت من المُمكن الآن عمل رصدٍ كامل للجينات المُعبر عنها بشكلٍ نشط لأي كائن حي.»
كان بحث فينتر التالي — الذي نُشر في مجلة «نيتشر» — أكثر إثارةً لحفيظة بعض علماء الأحياء. ففي هذا البحث أعلن فينتر عن اكتشاف ٢٣٧٥ جينًا آخر من الجينات البشرية الأخرى المُعبَّر عنها في المخ، وهذا يُمثل ضعف عدد الجينات التي حدد باقي العلماء تتابُعها في هذا الوقت. وقد خشي باحثون آخرون أن تُمَوَّل جزيئات الدي إن إيه المُكملة المُحدَّد تتابُعها بواسطة إجراء التتابُعات الواسمة المعبر عنها لفينتر كبديلٍ رخيص عن تحديد تتابع الجينوم البشري بالكامل. ستتجاهل هذه الطريقة التفاصيل الدقيقة للتعبير عن الجينات مثل مُشغل لاك الحيوي، لأنه لن يُحدِّد تتابُع مواقع الربط الخاصة بالمنشطات والمثبطات.
مساوئ براءات الاختراع
ازدادت المشكلات بسبب تسجيل براءة اختراع إجراء التتابُعات الواسمة المُعبَّر عنها. فقد سجل مكتب نقل التكنولوجيا التابع لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية طلب براءة اختراع للجينات اﻟ ٣٣٠ الأولى قبل أن ينشرها فينتر في مجلة «ساينس»، وأضاف المكتب ٢٤٢١ جينًا للطلب قبل أن ينشر مقاله الآخر في مجلة «نيتشر». فثار الغضب بسرعة ولم يخمد أبدًا. وقال وزير البحث الفرنسي هوبير كيريان تعليقًا على ذلك إنه «لا يجب منح براءة اختراع على شيءٍ يُمثل جزءًا من تراثنا العالَمي.» وقال جيمس واطسون، مدير مشروع الجينوم البشري، إن برنامج التتابُعات الواسمة المُعبَّر عنها «يمكن للقردة إدارته.»
ولكن مديرة معاهد الصحة الوطنية برنادين هيلي كانت ترى أن طلب براءة الاختراع كان ملائمًا ورفضت اعتراضات العلماء واعتبرتها «زوبعة في فنجان». كما أنها أمرت واطسون ألا ينتقد فينتر علانية وطلبت من فينتر أن يتشاور معها حول أبحاث الجينوم البشري. استقال واطسون في أبريل عام ١٩٩٢، معتبرًا أن منصبه أصبح واهيًا. وفي غضون ذلك طلب فينتر ١٠ ملايين من الدولارات لتوسيع مشروع تحديد التتابُع الخاص به، ولكن رُفِض طلبُه بشدة. ونتيجة لذلك استقال فينتر من منصبه في معاهد الصحة الوطنية في يوليو عام ١٩٩٢ وأسس معهد أبحاث الجينوم. ثم شرع فينتر في زيادة إنتاج عملية تحديد التتابُع باستخدام إجراء التتابُعات الواسمة المعبر عنها وتحديد تتابع جينات الكائنات النموذجية أيضًا، بادئًا ﺑ ٣٠ آلة تحديد تتابع ٣٧٣ إيه خاصة بشركة أبلايد بيوسيستيمز، و١٧ محطة عمل مُحفز من إنتاج الشركة نفسها، وكمبيوتر سباركسنتر ٢٠٠٠ خاص بشركة صن مزوَّد ببرنامج قواعد بيانات ارتباطية. وكانت هناك حاجة لممولين كبار لتمويل هذه المخاطرة، حيث كانت تصِل تكلفة كل آلة إلى ١٠٠ ألف دولار.
واكتمل التمويل بفضل اللاعبين الجُدد الذين دخلوا مجال علم الأحياء وساهموا في تنميته وهم الرأسماليون المُخاطرون. فقد قدَّم والاس ستينبرج، رئيس شركة هيلث كير إنفستمنت كوربوريشن ومبتكر فُرَش أسنان ريتش، ٧٠ مليون دولار لتمويل المشروع. وأطلق فينتر العنان لنفسه لتنفيذ أفكاره. وأُسِّسَت شركة هيومن جينوم ساينسز كشركةٍ شقيقة من أجل بحث الجوانب التجارية لأبحاث الجينوم. وابتهج فينتر بذلك وصرَّح بأن حُلم كلِّ عالِمٍ أن يحصل على مُمول يستثمر في أفكاره وأحلامه وقدراته. وتمثلت العقبة الوحيدة في أن الأمر كان سيستغرق من تلك الشركة من ٦ إلى ١٢ شهرًا لمراجعة بيانات فينتر قبل نشرها. ولكن كان زملاؤه من العلماء بالتأكيد أقل حماسًا. حتى إن البعض أطلق عليه اسم دارث فينتر (إشارة إلى دارث فيدر، الشخصية الشريرة في سلسلة أفلام «حرب النجوم» (ستار وورز)).
وفي تلك الأثناء عُيِّنَ مدير جديد للمركز الوطني لأبحاث الجينوم البشري التابع لمعاهد الصحة الوطنية. وبهذا أصبح فرانسيس كولينز، عالم الوراثة الطبية المرموق بجامعة ميشيجان، المدير الثاني للمركز. ومع استمرار العمل أعلن هذا الائتلاف المؤسَّسي المموَّل حكوميًّا عن بعض النتائج المبهرة. ففي عام ١٩٩٦ جرى الانتهاء من جينوم خميرة الجعة على يد علماء يعملون في أكثر من ١٠٠ معمل في أوروبا والولايات المتحدة وكندا واليابان. وهذا الكائن من حقيقيات النواة وحيد الخلية يحتوي على ٦ آلاف جين من ١٢ مليون زوج قواعد من النيوكليوتيدات في الدي إن إيه. ومع ذلك، وعند الاقتراب من منتصف مشروع الجينوم البشري، كان قد حُدِّد تتابع ٣٪ فقط من الجينوم، إلى جانب أن الجهة الممولة قد أنفقت أكثر مما هو مُقرَّر في الميزانية. ولذلك، فقد دعا كولينز إلى مزيدٍ من السرعة وابتكار أفكار جديدة، ومع ذلك فقد سار التقدم ببطء.
تحديد التتابُع بالتشظية
لقد أفلح أسلوب تحديد التتابُع بالتشظية مع البكتيريا، ولكنه لم يكن سريعًا بما يكفي لإنهاء مشروع الجينوم البشري في المواعيد المُحدَّدة له. ولكن سرعان ما تغيَّرت الأمور. ففي أواخر عام ١٩٩٧ تدهورت العلاقة بين المعهد وشركته الشقيقة هيومن جينوم ساينسز بشكلٍ كبير. ومع أن تلك الشركة كانت لا تزال مدينة للمعهد بمبلغ ٣٨ مليون دولار، فإن فينتر تغاضى عن الدين وخلَّص الشركة من هذا الالتزام. وبهذا، حصل فينتر على الحرية اللازمة لنشر معلومات عمليات تحديد التتابُع بشكلٍ أسرع دون الحاجة للرجوع إلى الشركة.
كان لدى فينتر خُطط أكبر، وكانت هذه الخطط لها علاقة بمايك هانكابيلر. فمنذ أن طور هانكابيلر آلة تحديد التتابُع الأصلية، ٣٧٣ إيه الخاصة بشركة أبلايد بيوسيستيمز، مع ليروي هود في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، لم يقُم بتعديلات وتحسينات عليها وحسب، بل أدخل عمليةً مُغايرة تمامًا. فبدلًا من فصل أجزاء الدي إن إيه بوضعها في وسطٍ هلامي من أجل الترحيل الكهربي، طوَّر هانكابيلر طريقة وضع فيها الدي إن إيه في أنابيب شعرية رفيعة مُمتلئة بالسائل. وبوضع الكثير من الأنابيب في دورة تشغيل واحدة، وبإضافة بعض التحسينات الأخرى التي عزَّزت من السرعة، كانت الآلة الجديدة، المُسمَّاة بريزم ٣٧٠٠ الخاصة بشركة أبلايد بيوسيستيمز، أسرع من الآلات الموجودة بحوالي ٨ مرات. وعندما عرض هانكابيلر النموذج الأوَّلي للجهاز الجديد على فينتر، سأله إن كان يريد أن يشترك معه لتحديد تتابُع الجينوم البشري بالكامل. وبعد بعض التفكير وافق فينتر على ذلك. وكان الأمر يتطلَّب بعض الجهد، لأن الأساليب التي أفلحت مع البكتيريا لا يمكن تطبيقها بشكلٍ مباشر على الجينوم البشري الأكبر المُكوَّن من آلاف الطيَّات.
استمتع فينتر بهذا التحدي. وبعد أن قام باستشارة مبدئية مع مدير مشروع الجينوم البشري كولينز، والتي كانت أشبه بتحذير، أعلن فينتر تأسيس شركة جديدة كان هدفها الأساسي هو تحديد تتابُع الجينوم البشري بالكامل في غضون ثلاث سنوات فقط، أي قبل التاريخ المُقرر لمشروع الجينوم البشري. وقد أطلق على شركته الجديدة اسم سيليرا وهذا الاسم مأخوذ من كلمة لاتينية تعني «سريع». وكان شعار الشركة هو «السرعة مُهمة. فالإنجاز لا ينتظر».
لقد فعلها فينتر مرةً أخرى. فقد جعل المجتمع العلمي يدور حول نفسه من الدهشة، ولكن هذه المرة أعطى سِجِلُّ إنجازات فينتر النقادَ بعض الحذر. فكانوا يعتقدون أنه قد يفعلها. ومن جانب فينتر، كان الأمر بمنزلة مُخاطرة. فقد كان كل ما لدَيه نموذج أوَّلي لآلة تحديد تتابُع لم يُختبَر بشكلٍ كامل ولم يكن لدَيه أي برمجيات لأن الطرق القديمة التي استُخدمت مع البكتيريا لا يصلح تطبيقها على الجينوم البشري. ولكي ينتقل إلى الخطوة التالية، ما كان أمام فينتر إلا أن يفتح الباب أمام روَّاد مجال آخر، وهم مبرمجو الكمبيوتر، الذين كان يُطلِق عليهم فينتر اسم علماء الخوارزميات. فقد كان ربط التتابُعات المتداخِلة لأزواج قواعد النيوكليوتيدات معًا لبناء جينوم كامل مسألة حاسوبية دقيقة وصعبة، ولكن يبدو أن استثمار فينتر الهائل في التجهيزات والخبرات الحاسوبية المُتقدمة قد آتى ثمارَه. فبحلول عام ١٩٩٨ استطاع فريقه برمجة برنامج جيد.
وكاختبار، حدَّد فينتر تتابع جينوم الكائن النموذجي المُفضل لعِلم الأحياء وهو ذبابة الفاكهة. وقد لاحظ أن كلًّا من الآلات والخوارزميات عَمِلا بشكلٍ جيد. فحُدِّد تتابع الدي إن إيه المُكوَّن من ١٦٥ مليون زوج قواعد نيوكليوتيدات و١٣٦٠٠ جين في أقل من أربعة أشهر، ونُسِخَ على أقراص مضغوطة ووزِّعت على كافة المقاعد في اجتماعٍ علمي قبل نشر ورقة الجينوم البحثية في مجلة «ساينس» بيوم.
لم يقف مشروع الجينوم البشري مكتوف الأيدي أمام كل مناورات فينتر هذه. فبازدياد التمويل من مصادر عديدة، خاصة مؤسسة ويلكم تراست في المملكة المتحدة، اشترى الائتلاف المؤسَّسي آلات تحديد تتابع جديدة (بعضها من شركة أبلايد بيوسيستيمز وبعضها من منافسي مايكل هانكابيلر) وضاعف من جهوده، وراجع جداوله الزمنية وفقًا لذلك. وبدأ السباق.

استراتيجية المرحلة التالية
بالرغم من الضجة الإعلامية فقد كان السباق لتحديد تتابُع الجينوم البشري في الحقيقة سباقًا نحو خط بداية جديد. ولصياغة الأمر بطريقة أخرى: يحتوي الدي إن إيه على مُخطط الوظائف الكاملة لأي كائن حي. ولكن قبل أن يستطيع الكائن القيام بهذه الوظائف، يجب أن يُنسَخ المُخطط إلى الآر إن إيه، الذي يُترجم بدوره إلى بروتينات، تقوم بعد ذلك ببناء بنيةِ كلِّ خلية، وتنفِّذ وظائفها.
البروتينات هي الجزيئات التي تقوم في واقع الأمر بمُهمة الإبقاء على الحياة. يُعطي الجينوم تعليمات للأر إن إيه بالبروتينات التي يجِب تكوينها، ولكن تظهر اختلافات (فالبروتينات تنطوي وتتفاعل ويُلحَق بها ذرات سكر أو ميثيل وهكذا) قبل أن تقوم بمهامِّها المُتعددة، وإنتاج صفاتٍ مميزة في النهاية. والآن، قد يتَّضح لك أن تشبيه معرفة تتابع الجينوم البشري بالكأس المقدسة قد يكون تبسيطًا شديدًا للأمور. فمعرفة تتابُع الجينوم لا تعني حلَّ كل شيء. فمعرفة المُخطط غير كافية.
تخيل، في المُستقبل البعيد، أن يكتشف عالم آثار أسطولًا من الطائرات الأسرع من الصوت في مغارة عملاقة، وتكون هذه الطائرات كلها مزوَّدة بالوقود ومُستعدة للانطلاق. يقوم طيارو الاختبار بقيادة الطائرات، ويكتشفون أنها تعمل بشكلٍ جيد. مع ذلك، لا توجد إرشادات أو تعليمات عن استخدامها، أو تركيبها، أو تاريخها. تُفكِّك فرق من المهندسين هذه الطائرات ثم يحاولون إعادة تركيبها من جديد. ويُحرزون بعض التقدم، ولكن الطائرات معقدة للغاية ولا يتمكن المهندسون من فهم الكثير من وظائفها.
بعد فترةٍ طويلة، يجد عالم آثار آخر في موقعٍ مجاور مجموعة كبيرة من الوثائق المكتوبة بلغةٍ قديمة جدًّا. يحدث ابتهاج كبير لأن أسرار جميع هذه الطائرات سوف تُكشَف أخيرًا. لكن عندما يجري فك شفرة اللغة، يُكتشف أن الوثائق لا تدور حول خُطط بناء وصنع الطائرات الأسرع من الصوت، بل هي قائمة بالأجزاء الضرورية لبناء الأدوات المُستخدَمة في صنع الطائرات. تكون هذه بداية جيدة، ولكن يتطلَّب الأمر جهدًا وعملًا أكثر قبل تحليل تصميم جميع وظائف تلك الطائرات القديمة بشكلٍ كامل.
في هذا الشأن، يقول جيه كريج فينتر: «إن تحديد تتابُع الجينوم ما هو إلا البداية فقط.» وخلال حديثه عن سنواته العشر التي قضاها في العمل مع معاهد الصحة الوطنية والتي قام خلالها بأبحاثٍ عديدة عن البروتين على سطح خلايا القلب التي تستشعر الأدرينالين وتقوم باستجابة المواجهة أو الهروب، يُضيف فينتر: «إن ما استغرق مني عشر سنوات يُمكنني الآن القيام به ببحث على الكمبيوتر يستغرق ١٥ ثانية فقط.»
علم البروتيوم: استكشاف التحدِّي الجديد
لكي نستطيع حلَّ مشكلة الأساس الجزيئي للحياة، أولًا، يجب أن يكون هناك أشخاص يعلمون ما الذي يبحثون عنه بالضبط، وثانيًا، يجب أن يكون هؤلاء الناس في موقعٍ يُتيح لهم القيام بالبحث. فيما يلي جوهر المشكلة المُستعصية التي تواجِه الأشخاص الذين قد يُحاولون حلها: التتابع المفصل لقواعد النيوكليوتيدات في الجينوم البشري يُحدد الترتيب الذي يجب أن ينظم به الآر إن إيه الأحماض الأمينية لإكمال جزيء بروتين مُعين. (كان هناك مبدأ في السابق يقضي بوجود علاقةٍ بسيطة بين الجينات وجزيئات البروتينات: كل جين ينتج بروتينًا واحدًا. ولكن اتضح أن الأمر أعقد من ذلك. فهناك اختلافات تظهر بين تحديد الدي إن إيه وجزيئات البروتينات التي تقوم بوظائف الخلية. فالجين الواحد يُمكنه إنتاج الكثير من البروتينات المختلفة.) يحتوي الجينوم البشري على حوالي ٣٠ ألف جين وهذا يُمثل ٢٪ فقط من إجمالي أزواج قواعد النيوكليوتيدات. وغالبًا يُشار إلى نسبة اﻟ ٩٨٪ المُتبقية من الجينوم على نحوٍ خاطئ بأنها «عديمة الفائدة» لأننا لا نعرف بالضبط ما وظيفتها. ويزيد عدد البروتيومات، وهي المجموعة الكاملة للبروتينات التي يشفرها الجينوم، عن ١٠٠ ألف، وربما يصل إلى مليون. وتُعد البروتينات هي المفتاح إلى تركيب أية خلية ووظيفتها. فهي تُحدد الصفات البيولوجية الكلاسيكية.
- (١)
تحديد هوية مجموعة البروتينات الخاصة بخلية أو نسيج أو كائن مُعين.
- (٢)
تحديد كيفية تفاعل هذه البروتينات مع البروتينات الأخرى، مكوِّنةً شبكات.
- (٣)
اكتشاف البنية الثلاثية الأبعاد الدقيقة لكل بروتين الذي يجعل من المُمكن للعلماء البحث عن مواقع الارتباط (على سبيل المثال، مواقع الارتباط التي تكون فيها البروتينات أكثر تأثرًا بالأدوية).
على المستوى التجريبي، قامت آلات كبيرة بأتمتة عملية الترحيل الكهربي للأنابيب الشعرية، مما أدى إلى تحديدٍ أسرع لتتابُع الدي إن إيه. وتُستخدَم أساليب مختلفة عديدة حاليًّا لتخطيط البروتيوم، ولكن لم يصل أيٌّ منها إلى القبول العام الذي حقَّقته آلات تحديد تتابُع الدي إن إيه في مجالها. وعلى المستوى الرياضي يجب أيضًا حدوث تقدُّم في تطوير البرامج الحاسوبية. وقد لُخِّصت الصعوبات بشكلٍ جيد في مؤتمرٍ عُقد عام ٢٠٠١ عن علم البروتيوم تحت عنوان «مشروع البروتيوم البشري: الجينات كانت سهلة».
لقد بدأ النصف الثاني من السباق بالفعل. ففي يناير عام ٢٠٠٢ أعلنت مجموعتان مُخطط تفاعل البروتينات لفطر خميرة الجعة. بالإضافة إلى ذلك، أُعْلِن عن المسودة الأولية لجينوم الأرز في ٥ أبريل عام ٢٠٠٢، بواسطة مجموعتَين وهما معهد بكين لعلم الجينوم (النوع الفرعي إنديكا) والشركة الزراعية العالمية سينجنتا (النوع الفرعي جابونيكا). يوجد في جينات محاصيل الحبوب تشابُهات جوهرية. وقد اختارت مجموعات عديدة، شكَّلت جزءًا من تحالُف دولي — المشروع الدولي لتحديد تتابع جينوم الأرز — الأرز لدراسته. حيث يحتوي الأرز على ٤٣٠ مليون زوج قواعد من النيوكليوتيدات، مقارنةً بالذرة التي تحتوي على ٣ مليارات منها، والقمح الذي يحتوي على ١٦ مليارًا منها. إن جميعها يحتوي على جينات أكثر من البشر. إن إدراك إلى أي مدى تؤدي الاختلافات في الجينوم إلى تنوع صفات الكائنات هو ما سيجعل النصف الثاني من اللعبة شيقًا.
وللتعبير عن الموقف الحالي بطريقة أخرى، فإن الكوب الذي نأمل في ملئه بفهم واستيعاب كامل لكيفية عمل جزيئات الدي إن إيه والآر إن إيه والبروتينات بعضها مع بعض هو كوب نصفه مُمتلئ ونصفه فارغ، وفقًا لمنظورك الخاص.
تبِعات وتعقيدات
على عكس المشكلات المُستعصية الأخرى، إن دراسة البروتيوم ذات أهميةٍ شخصية أكبر. فما الذي تعنيه لنا؟ يساعدنا الجينوم البشري في القيام بوظائفنا، وهناك أشياء ربما نريد التعرُّف على هويتها ونحاول تعديلها. يتخطى إقرار تطبيق المعرفة اعتبارات العلوم البحتة، التي يدفعها الفضول إلى المعرفة. ومع ذلك فمِن الإنسانية أن نُركز على الاعتبارات العملية أكثر. فالمجالات الأخرى التي أحدثت ثورةً في علم الأحياء لم تقُم بذلك بسبب الفضول فحسب. وهؤلاء الذين ساندوا المعامل الخاصة لتحديد تتابُع الجينوم كان في ذهنهم خير البشرية إلى جانب الاعتبارات الاقتصادية. فبمجرد أن يكون من المُمكن تغيير الأحوال البشرية، تدخل مجموعة كاملة أخرى من الاعتبارات في الصورة، وهي الاعتبارات الأخلاقية.
إن تطبيق المعرفة عن الجينوم البشري من المُمكن أن يُسفر عن مزايا كبيرة ومخاطر هائلة كذلك. متأملًا تجربة الفيزياء مع مشروع مانهاتن، كرس جيمس واطسون — المدير الأول للمركز الوطني لأبحاث الجينوم البشري — ٥٪ من ميزانية المركز لدراسة التبِعات الأخلاقية والقانونية والاجتماعية للمشروع. فقد كتب يقول: «لا نحتاج لأن نُذكِّر بأن وقوع العلم في الأيدي الخاطئة قد يؤدي إلى حدوث أضرارٍ لا تُحْمَد عقباها.»
وفي حين أن مناقشة تطبيقات المعرفة الجينية تتخطَّى حدود هذا الكتاب، فهيا بنا نناقش بشكلٍ مُختصر بعضًا من هذه التطبيقات على أمل توضيح الجوانب العملية ذات الصِّلة حتى تكون قراراتنا الأخلاقية النهائية عن تنفيذها نابعة من فهمٍ جيد.
- الشريحة الحيوية: باستخدام تقنيات الحفر الضوئي المُماثلة لتلك المُستخدمة في عمل شرائح الكمبيوتر، توضع مئات الآلاف من الجزيئات النشطة بيولوجيًّا، كالدي إن إيه والآر إن إيه والبروتينات، في صفوف وأعمدة مُنتظمة على شريحةٍ من الزجاج أو السيليكون. ثم تُستخدَم صبغة فلورية لمعالجة الجزيئات البيولوجية التي تخضع للاختبار، والتي توضع بعد ذلك على الشريحة. ووفقًا لكلام العالِم المُخترع ستيفن فودور، يمكن لجزيئات الدي إن إيه أو البروتينات المُلتصقة بالشريحة أن تعمل «كخيوط رفيعة من الفيلكرو الجزيئي». تكون جزيئات الاختبار مُكملةً للجزيئات الموجودة على الشريحة لذا تتلاصق ثم تظهر كبُقَع فلورية عندما تُمسح بأشعة الليزر. بعد ذلك تُعرض مُخرجات المسح وتُحلل بواسطة جهاز كمبيوتر، وتُستخدَم لاكتشاف الطفرات وإيجاد معلومات عن الأمراض أو طرق العلاج، ومعرفة الجينات التي يتفاعل بعضها مع بعضٍ أثناء تطور الخلية ونموِّها، ودراسة الكثير من الجوانب الأخرى للمعلومات الجينية.
- التطبيقات الزراعية: باستخدام الإنزيمات القاطعة، من المُمكن تعديل الدي إن إيه للنباتات لإنتاج صفات مرغوبة أكثر، كزيادة الإنتاجية، وتوفير أطعمة مُغذية أكثر للبشر والحيوانات، وزيادة محتوى الفيتامينات والمعادن، وزيادة مقاومة الأمراض، وزيادة مكافحة الأعشاب الضارة، وزيادة مقاومة الحشرات، وزيادة القدرة على تثبيت النيتروجين حتى تقلَّ حاجة النباتات لمُغذيات التربة، وزيادة إنتاجية اللبن في مزارع الألبان.
- التحكُّم في الجينات البشرية: نظرًا لارتباط الصفات البشرية بشكلٍ كامل بالجينات، ربما يُمكننا التحكُّم في صفات السلالات البشرية والتنبُّؤ باحتمال حدوث اضطراباتٍ جينية في البشر. ولكن ستكون العواقب الأخلاقية لهذه الإمكانية مهمَّةً وواسعة النطاق.
- أبحاث الخلايا الجذعية: بمجرد تلقيح خلية البويضة بواسطة الحيوان المنوي في البشر، يحتوي الجنين الذي في طريقه للنمو على جميع المعلومات الجينية اللازمة لتكوين كائنٍ بشري كامل. ويُطلَق على الخلايا التي لديها القدرة على أن تنمو وتتطوَّر داخل أية خلية في الكائن اسم الخلايا الجذعية الجنينية. ومع نمو الكائن، تتخصَّص الخلايا وتفقد مرونة الخلايا الجذعية. ويمكن فصل الخلايا الجذعية ذات القدرة الكاملة واستخدامها في أغراضٍ حيوية مُهمة كإصلاح تلفٍ ما في القلب أو في نسيج العمود الفقري. ومع ذلك فإن طرُق فصل هذه الخلايا لها تبِعات أخلاقية لم يجرِ التعامل معها بالكامل بعد. والبديل هو الانتظار حتى مرحلة لاحقة في عملية التطور وفصل خلايا الأنسجة البالِغة، الأمر الذي قد يكون له الفائدة نفسها.
-
الاستنساخ: في البداية، تضمَّن الاستنساخ تبديل نواةِ خليةِ بويضةٍ
ما بنواةٍ من خلية بويضة أخرى، ثم زرع خلية البويضة الجديدة
داخل أمٍّ بديلة، والتي ستضع بدورها مولودًا يحمل خصائصَ
جينية مُطابقة للخصائص الجينية للنواة المزروعة. وعندما
أصبحت التقنيات المُتضمَّنة في ذلك مفهومةً بشكلٍ كبير
أُجريت تجارب استنساخ ناجحة على الفئران والخنازير والماشية
والنعجة دوللي الشهيرة التي ماتت الآن.
لذا، هل يمكن استنساخ البشر؟ بناءً على المُمارسة البيولوجية الحالية، فهذا الاحتمال قائم بالتأكيد، وهناك بالفعل بعض الادِّعاءات غير المؤكدة بحدوث ذلك من جانب جماعة تدعى الرائيليين. لكن السؤال الذي يُثير قلاقل أخلاقية وقانونية هو: هل يجب علينا حقًّا أن نفعل ذلك؟ من بين الأمور الأخف وطأةً من الناحية الأخلاقية والقانونية إمكانية استخدام الإنزيمات القاطعة لقصِّ الدي إن إيه البشري ولصقه في الحيوانات، ثم استنساخ هذه الحيوانات، وتحويلها إلى مصانع لإنتاج البروتينات الدوائية، أو الهرمونات النادرة، أو حتى أعضاء كاملة يُمكن استخدامها كأعضاءٍ بديلة للبشر المُصابين بإصاباتٍ أو أمراض.
ربما تُعطيك هذه العينة الصغيرة من تطبيقات علم الجينوم (وبالتالي علم البروتيوم) إشارة عن نطاق الجوانب الأخلاقية الذي يُحيط بعلمَي الجينوم والبروتيوم. (للمزيد من التفاصيل، انظر مجلد الأفكار ٩، التقنيات الجينية.)
حل اللغز: لماذا وكيف ومن وأين ومتى؟
- لماذا؟: يتحدَّث علم البروتيوم عن إمكانية تطوير أدوية واختبارات تشخيصية أحدث وأكثر فعالية. ومع ذلك، يفرِضُ العددُ الكبير لأزواج القواعد والجينات والبروتينات المُتضمَّنة في الأمر تحدِّيًا كبيرًا أمام هؤلاء الذين سيقومون بتحليل وتصميم واختبار هذه التطبيقات.
-
كيف؟: انظر للأعداد التالية: ٣ ملايين زوج قاعدة
نيوكليوتيدات، و٣٠ ألف جين، ومئات الآلاف من البروتينات في
الكائن البشري. إن تلك الأعداد الضخمة تُمثل مشكلة كبيرة إذ
تحتاج إلى تقنيات يُمكنها التعامل مع كميات هائلة من
البيانات. يفتح العلم الفرعي الجديد، المُسمَّى بعلم
المعلومات الحيوية، البابَ أمام مُساهمين آخَرين في علم
الأحياء وهم علماء الخوارزميات ويوفر الأدوات الحاسوبية
اللازمة لجمع البيانات ذات الأهمية البيولوجية وتنظيمها
وتفسيرها. ومع أن علم المعلومات الحيوية ربما يكون المفتاح
لحل المشكلة بأكملها، فربما يكون الحجم الكبير للمشكلة
مؤشرًا لدرجة صعوبتها. على الأقل، ربما يجعل تعقيد تفاعُلات
البروتينات النظام البيولوجي ككلٍّ نظامًا تؤدي فيه
الاختلافات الصغيرة للغاية في المدخلات، التي تحدث بسهولة
بسبب التنوُّع الشديد للاضطرابات التي تقع بشكلٍ طبيعي، إلى
اختلافاتٍ جذرية في المُخرجات. (يعرض الفصل الخامس الذي
يتناول الطقس مشكلةً مُماثلة.)
تُذكِّرنا هذه المشكلة إلى حدٍّ ما بمشكلةٍ في الفيزياء يحدُث فيها تجمُّع لجسيمات فردية في مجموعات يتم التنبؤ بسلوكها على أساس طرق إحصائية. وهذا النهج، الذي يُسمى الميكانيكا الإحصائية، يعمل بشكلٍ جيد للغاية. ففي الفيزياء، تكون الجسيمات مُتطابقة وتكون أكثر بكثيرٍ من الجزيئات البيولوجية، لذا تقود إحصاءات الأعداد الكبيرة إلى التنبُّؤ بالسلوك الجماعي بدقةٍ كبيرة. أما الأنظمة البيولوجية فتتعامَل مع وحداتٍ غير مُتطابقة، عددُها أقل بكثيرٍ من، مثلًا، عدد الذرات الموجودة في غرفة مليئة بالهواء. لذا فربما لا تستفيد هذه المشكلة بشكلٍ مُماثل من مزايا الإحصاء. لذا، ربما تكون هناك حاجة لتطوير أنواعٍ جديدة من الرياضيات الإحصائية. وسيكون علم المعلومات الحيوية مجالًا مُحتملًا يمكن أن يحدُث فيه هذا.
- من وأين؟: وهناك احتمال آخر وهو فتح الباب أمام مجالات أخرى سواء رئيسية أو فرعية لتضيف إلى علم الأحياء، أو ربما مزيد من مديري مشاريع الكبار مثل فرانسيس كولينز أو الأفراد قليلي الصبر مثل جيه كريج فينتر. وإلى جانب شركة سيليرا، تتضمَّن قائمة الشركات التي تعمل بأبحاث علم البروتيوم شركة سيلزوم في ألمانيا، وهايبريجينكس في فرنسا، وإم دي إس بروتيوميكس في كندا.
-
متى؟: يقول ألما إل برلينجيم أستاذ الكيمياء الصيدلية بجامعة
كاليفورنيا في سان فرانسيسكو: «لدينا الآن القدرة على تحديد
مكونات البروتينات للبشر بشكلٍ سريع. حيث يمكن اقتفاء أثرها
وسوف تظهر عبر السنوات القليلة القادمة.»
يستخدم عادة العلماء أسلوبَين أساسِيَّين لاكتشاف أي البروتينات موجودة في الخلايا أو الأنسجة المُختارة، وهما الترحيل الكهربي الهلامي ثنائي الأبعاد وقياس طيف الكتلة. وتُطوِّر وتُؤتمِت شركات عديدة هاتَين التقنيتَين وغيرهما بأسرع ما يمكن.
ومع الوصول إلى تركيب الجينوم البشري ودراسة الصفات بشكلٍ جيد، ربما تبدو المشكلة مُحددة بوضوح، والأمر يتوقَّف على مجرد تطبيق المبادئ المعروفة للوصول إلى التفاصيل. لكن هذا خطأ. فالمعلومات التي توصَّلنا إليها حديثًا بشأن الجينوم جلبت بالفعل مفاجآتٍ عديدة. ولا تندهش إذا حدثت مفاجآت أكثر.