الفصل السادس

علم الفلك

لماذا يتمدَّد الكون أسرع وأسرع؟

تلك هي رحلة الاستكشاف التي تنتظرك! والرحلة هذه المرة ليست لرسم خريطةٍ للنجوم ودراسة السُّدم، بل لسبر أغوار الوجود.

كيو إلى الكابتن بيكارد، مسلسل «ستار تريك»

يدرس علم الفلك، أو بشكلٍّ أدق، علم الكون، أصل الكون وتطوُّره وتركيبه وديناميكيته الهائلَين. وحتى وقتٍ قريب، كانت أكبر مشكلة مستعصية في علم الفلك أو علم الكون هي مشكلة ديناميكية وهي: هل سيستمر الكون في التمدُّد إلى الأبد أم أنه سينكمش في النهاية؟ ربما يكون قد ساعد اكتشاف المعدل المُتزايد لتمدُّد الكون — الذي يشير إلى أن الكون سيتمدَّد للأبد — في حل هذه المشكلة، ولكنه خلق مشكلةً أخرى. يبدو أن سبب هذا التمدُّد المتزايد الذي يعرف بالطاقة المُظلمة يتعارَض مع الفهم الحالي للقوى التي تُحدد ديناميكا الكون. وأصبحت أكبر مشكلة مُستعصية في علم الفلك هي إيجاد تفسير للطاقة المُظلمة.

محتويات الكون

«ماذا يوجَد هناك؟» هو سؤال تقليدي يسأله الناس حين ينظرون إلى السماء.

علم الفلك في محاولاته للإجابة على هذا السؤال أبهرنا بإجاباتٍ مُثيرة وأحبَطَنا بأسئلة مُحيرة.

fig53

المحتويات الكلية للكون يُمكن وصفها فيما يتعلق بالكتلة/الطاقة الخاصة به. (عُرف أن الكتلة والطاقة قابلتان للتحويل فيما بينهما من خلال معادلة ألبرت أينشتاين الشهيرة التي تَربط بينهما وهي: الطاقة = (الكتلة) × (مربع سرعة الضوءِ). يعرض الجدول التالي أحدث التقديرات لمحتويات الكون بأكمله ونسبة كلٍّ منها من كتلة/طاقة الكون، مع تعليقات موجزة حول ما نعرفه عنه.

المكون النسبة المئوية من كتلة/طاقة الكون تعليقات
الطاقة المُظلمة ٧٣ تتسبَّب في التمدُّد المُتسارع للكون. ومع أن الطاقة المُظلمة غير مرئية ومجهولة الطبيعة، فإنه قد لوحظت تأثيراتها القوية.
المادة المُظلمة ٢٣ بالرغم من عدم رصد المادة المُظلمة حتى الآن، فإنها السبب في الدوران السريع للمجرات ومجموعات المجرات.
المادة العادية ٤ هي النجوم اللامعة، والمجرات، ومجموعات المجرات المرصودة.
النيوترينوات أقل من ١ لقد تم التوصُّل إلى أعلى حدٍّ لكُتلتها الكلية، ولكن لم تُحَدَّد حتى الآن قيمتها الفعلية.

إن ما يتضمَّنه هذا الجدول مذهل: فمع أن الطاقة المظلمة والمادة المُظلمة غير مرئِيَّين تمامًا، فيُفترض أنهما تُشكلان ٩٦٪ من الكون وتتحكَّمان في حركته.

من المنطقي أن نتساءل كيف استطاع علم الفلك التوصُّل إلى هذا الفهم الحاليِّ. فكما في الروايات البوليسية الشيقة، إنَّ فَهْمنا للكون جرى التوصُّل إليه بعد جهدٍ جهيد، وقد استُخدم للتوصُّل إليه خطوات المنهج العلمي، خطوةً بعد خطوة. وفي الوقت الحاضر يعمل التسلسل هكذا: تُمكِّننا أداة مطورة أو جديدة من الأدوات التجريبية من ملاحظة شيءٍ جديد. ثم يُحاول المنظِّرون تفسير المعلومات الجديدة من خلال النظريات القائمة أو من خلال وضع فرضياتٍ بديلة. ومن ثم نتوصَّل إلى تنبؤات، ونُجري تجارب جديدة لرؤية ما إذا كانت الحقيقة تتطابق مع هذه التنبؤات. (تَصوَّرِ الراصدين وهم يعهدون في حماسٍ بمسائل مُثيرة للجدل للمُنظِّرين.)

سوف نتعرَّض في هذا الفصل للكيفية التي أدَّت إلى الفهم الحالي لعلم الفلك. وسوف نركز بوجهٍ خاص على تجمعات النجومِ التي يُطلق عليها المجرات والتقنيات المستخدمة لقياس المسافات بيننا وبين النجوم والمجرات بالإضافة إلى سرعاتها. وأخيرًا، سوف نستكشف الطريق نحو الحلولِ المُمكنة إلى المشكلات المتعلقة بالطاقة المُظلمة والمادة المُظلمة المُهيمنتَين على الكون.

قياس المسافات النجمية

يمتلئ الكون بمجموعةٍ هائلة على نحوٍ مذهل من الأجرام (إذ يرى الفلكي كارل ساجان أن هناك ملياراتٍ عديدة منها). دعنا نبدأ بسؤالٍ يبدو بسيطًا حول أحد هذه الأجرام، وهو النجم. فكم يبعد نجم مُعين عن الأرض؟ عندما ننظر إلى النجوم يخذلنا إحساسنا الطبيعي بمفهوم البُعد. ونظن أن جميع النجوم على المسافة نفسها. والواقع أن البعد السحيق للكواكب والنجوم يجعلها تبدو وكأنها واقعة على البُعد نفسه. ولهذا تبدو السماء مثل قبة فوق رءوسنا.

ولأن عينَينا تنظر إلى أي جرمٍ من مواضع مختلفة اختلافًا طفيفًا، تنظر كل عينٍ على امتداد خط رؤيتها. هذه الظاهرة تُسمى اختلاف المنظر، ويستخدمها المسَّاحون لتحديد المسافات بدقة. ونظرًا للمسافة الصغيرة بين العينين، فلا يمكن الاستعانة بهما للحُكم على المسافات الطويلة بدقة شديدة.

قد يندهش المرء عندما يعرف أن أبسط التقنيات الفلكية المُستخدمة لتحديد المسافات إلى الأجرام السماوية تعتمد على ظاهرة اختلاف المنظر. وهنا نوضح كيفية عملِها. إذا لوحظ النجم نفسه في بداية ونهاية فترة زمنية مقدارها ستة أشهر، فسيُشاهد النجم على طول خطَّيْ رؤية مُختلفَين (تمامًا مثلما ترى عينانا جرمًا بعيدًا من منظورَين مختلفَين). (انظر شكل ٦-١.) يُمكِّننا قياس الزاوية بين خطَّي الرؤية هذين (زاوية اختلاف المنظر) ومعرفة أن قاعدة ذلك المثلث هي قطر مدار الأرض حول الشمس من حساب المسافة إلى النجم باستخدام علم حساب المثلثات. أُنجز هذا العمل لأول مرة على يد الفلكي الألماني فريدريش بيسل عام ١٨٣٨، عندما قاس المسافة إلى النجم المُسمَّى ٦١ سيجني.
fig54
شكل ٦-١: قياسات المسافة بناءً على اختلاف المنظر.

تُشكل هذه التقنية لقياس المسافة الأساس لتعريف وحدة المسافة المُستعملة بكثرة في علم الفلك، وهي الفرسخ الفلكي. والفرسخ الفلكي يمكن تعريفه على أنه بُعد النجم الذي تكون زاوية اختلاف منظره ثانيةً قَوسِيَّة واحدة (٦٠ ثانية في الدقيقة الواحدة، و٦٠ دقيقة في الدرجة الواحدة، و٣٦٠ درجة في دائرة كاملة) عندما يُشاهَد في بداية ونهاية فترة زمنية مقدارها ستة أشهر. أقرب النجوم لنا وهو ألفا قنطورس (في الحقيقة هو نظام من ثلاثة نجوم) يقع على بُعدٍ أكثر قليلًا من فرسخ فلكي واحد. إذا سافرت إلى ألفا قنطورس بسرعةٍ أسرع من الصوت فقد تستغرق رحلتك أكثر من مليون سنة. وحتى الضوء، بسرعته المُذهلة، يتطلَّب أكثر من أربع سنوات للقيام بهذه الرحلة.

يوجَد أكثر من ثلاثمائة نجم على بُعد ١٠ فراسخ فلكية من الأرض، لذا يُمكننا الحصول على المسافات إلى هؤلاء الجيران الأقرب لنا من خلال اختلاف المنظر. ولأن النجوم الواقعة على بُعدٍ أكبر تملك زوايا اختلاف منظرٍ أصغر، فيتم الوصول إلى حدٍّ مُعين عند ١٠٠ فرسخ فلكي تقريبًا، وفيما بعد ذلك تكون الزاوية صغيرة جدًّا بحيث لا يمكن قياسها بدقَّة. وبالتالي، تكون النجوم والمجرات التي على بُعد آلاف الفراسخ الفلكية (التي تسمى كيلو فرسخ فلكي) أو ملايين الفراسخ الفلكية (التي تُسمَّى ميجا فرسخ فلكي) بعيدةً بعدًا شديدًا بحيث لا يمكن قياس المسافة إليها باستخدام اختلاف المنظر. وللتعامُل مع هذه المشكلة طُوِّرَت تقنيات أخرى سوف نتعرَّض لها فيما بعد.

المجرات — النظريات والملاحظات المبكرة

والآن، هيا بنا نتعقَّب تطوُّر فَهم علم الفلك للمجرات. إن المقابل الإنجليزي لكلمة مجرة  galaxy هي كلمة يونانية تعنى «درب التبانة». وقد وضع الفيلسوف السويدي إيمانويل سفيدنبوري نظريةً تقضي بأن كل النجوم شكَّلت مجموعة واحدة ضخمة والنظام الشمسي جزء واحد منها فقط. وفي كتابه الذي حمل عنوان «المبادئ» الذي صدر عام ١٧٣٤، رأى أن نظامنا الشمسي المُكوَّن من الشمس والكواكب قد تكوَّن من سديم سريع الدوران. لم يعتمد سفيدنبوري في معلوماته على ملاحظاتٍ علمية، مع أنه قد درس العلوم. لكنه حصل على معلوماته من جلسة لتحضير الأرواح زعم أنها شهدت حضور زوَّارٍ من السماء. وقد ساعدته هذه الرؤى على تقديم معلوماتٍ لاهوتية، وظهرت في النهاية حركة دينية جديدة («الكنيسة الجديدة») من خلال تعاليمه.

وتستمر قصة المجرَّات مع البريطاني توماس رايت من مقاطعة درم، الذي ابتكر بعض الآلات العلمية وصنع نماذج للأنظمة الشمسية والتي باعها للنبلاء. واقترح رايت في كتابه الصادر عام ١٧٥٠ بعنوان «نظرية أصلية للكون» أن النجوم في درب التبانة موزعة في شكل صدفة أو قُرص. وقد قال رايت ذات مرة: «لم أنظر إلى النجوم قطُّ دون أن أتساءل لماذا لا يُصبح العالم كله علماء فلك.» وبصفته صانع أدوات علمية، كان باستطاعته دون شكٍّ استخدام التلسكوبات. ومع ذلك فهو لم ينشر أي ملاحظاتٍ فلكية. وقد تناول كتاب رايت أيضًا أمورًا دينية مثل تحديد موقع عرش الرب.

عندما استعرضَتْ إحدى الصحف بهامبورج كتاب رايت على صفحاتها لفتَ ذلك انتباه الفيلسوف الكبير إيمانويل كانط. ومع أن كانط أساء فَهم كتاب رايت فإنه مضى للتوسُّع في فكرة الكتاب على نحوٍ بنَّاء. وفي عام ١٧٥٥ قال كانط إن درب التبانة قرص من النجوم على شكل عدسةٍ يدور حول مركزه. علاوة على ذلك، فقد قال إن رُقَع الضوء الضبابية التي تُدعى السُّدم كانت في الحقيقة أنظمةً لنجوم مُماثلة لدرب التبانة، ولكنها بعيدة جدًّا. وأطلق كانط عليها اسم «الأكوان الجزر». في ذلك الحين، لم يكن هناك أي طريقةٍ لتقدير المسافة إلى هذه السُّدم. وحتى تقنية اختلاف المنظر لبيسل، التي تطورت بعد مائة سنة تقريبًا، لم تستطع الوصول إلى هذا البعد.

وهكذا، فبدايات تحليل علم الفلك للمجرَّات جاءت على يد صانع آلات ذي توجُّهات لاهوتية وفيلسوف. وقد كان المساهم الكبير التالي في فهم المجرات هو راصد عِلمي. ومن المُدهش أن المجرات لم تكن شاغلَهُ الشاغل، بل كان يجمع قائمة بالأجرام التي عليه أن يتجنَّبها في بحثه عن المُذنبات. كان هذا الراصد هو شارل ميسيه (١٧٣٠–١٨١٧)، وكان صائدًا نهمًا للمُذنبات، لذلك أطلق عليه ملك فرنسا لويس الخامس عشر لقب «صائد المُذنبات». اكتشف ميسيه بنفسه على مدار حياته العملية، أو بالمشاركة مع باحثين آخرين ولكنَّ كلًّا يعمل على حدة، ٢٠ مُذنبًا ورصد ٢٤ أخرى. وفي عملياته البحثية كان غالبًا ما يجد أجرامًا لا تتحرك لذلك فهي لم تكن مُذنبات. وباستخدام تلسكوباته الصغيرة، التي كان قُطرها أقلَّ من ٣٫٥ بوصة، لم يستطع ميسيه أن يُقرر وجود نجومٍ فردية داخل السُّدم. فقد كانت «السُّدم» التي لاحظها تزيد قليلًا عن كونها بقعًا من الضوء مجهولة المصدر. وقد جمع قائمة بمواقع أكثر من ١٠٠ سديم وخصَّص رقمًا لكلٍّ منها. على سبيل المثال، إم٣١ معروف الآن بمجرة أندروميدا، وإم١٠٠، المُبيَّن بشكل ٦-٢، هو مجرة الدوَّامة.
fig55
شكل ٦-٢: المجرة إم١٠٠ حسبما رصدها تلسكوب هابل الفضائي (منظورين).

كتب ميسيه: «إن ما جعلني أحمل على عاتقي عمل هذه القائمة هو السديم الذي اكتشفتُه أعلى القرن الجنوبي لبرج الثور في ١٢ سبتمبر عام ١٧٥٨ أثناء ملاحظة مُذنبات تلك السنة. وكان هذا السديم يُشبه المُذنب في شكله وسطوعه مما جعلني أسعى لإيجاد سُدم أخرى، حتى لا يخلط الفلكيون بعد ذلك بين هذه السدم والمُذنبات.» أثار ميسيه حفيظة الكثير من الفلكيِّين الذين تلَوه لإهدائه المُذنب الذي اكتشفه عام ١٧٦٩ إلى الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت وتفسيره كإشارةٍ تنجيمية عن ولادته.

في بداية القرن العشرين وصلت الملاحظات الفلكية إلى أوجها. فقد لوحِظت مئات الآلاف من الأجرام السماوية. فبفضل سخاء الرعاة الأغنياء والجهود المُتواصلة لمجموعة من الفلكيات (انظر قسم «تلسكوبات أكبر، ومسافات نجمية أكبر»)، فقد فُهْرِسَتْ مواقع، ودرجات سطوع، وبعض الخصائص الطيفية للأجرام السماوية بشكلٍ ملائم. (انظر مجلد الأفكار ١٤، تجميع قوائم النجوم.) ولكن عُرفت المسافات التي تفصلنا عن بعض مئات النجوم القليلة القريبة فقط، أما الطبيعة المُفصلة للسُّدم والمسافات بيننا وبينها فكانت مجهولة. كان المُراقبون يسيرون قدمًا للأمام من جانب. وعلى الجانب الآخر كان المُنظِّرون على وشك تحقيق تقدُّم جوهري.

إسهام أينشتاين الكوني

أسهمت سويسرا إسهامًا كبيرًا في الفهم النظري لعِلم الفلك للمجرَّات. كان مارسيل جروسمان أحد أعضاء الدفعة التي تخرَّجت عام ١٩٠٠ في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ بسويسرا، وأُعد لتدريس الرياضيات والفيزياء.

كان أحد أصدقاء جروسمان مُستاءً من الدراسة وخصوصًا نظام التعليم الأكاديمي الصارم في ذلك الوقت، لكنه استطاع الصمود بفضل دعم جروسمان له قبل الامتحانات. عُيِّن جروسمان واثنان آخران في المجموعة مُساعِدين في المعهد، ولكن رفيقه الذي كان مُستاءً من الدراسة لم يستطع الحصول سوى على وظائف تدريس مؤقتة. وكتب هذا الرفيق إلى جروسمان عام ١٩٠١ يقول: «لقد تخليتُ عن طموح الالتحاق بالجامعة.» زكَّى والد جروسمان هذا الرفيق إلى مدير مكتب براءات الاختراع في بيرن، وفي عام ١٩٠٢ أصبح ذلك الرجل يشغل منصب خبير تِقني من الدرجة الثالثة في مكتب براءات الاختراع في بيرن. وخلال السنوات السبع التالية، وفي أثناء عمله كفاحصٍ لبراءات الاختراع، أصبح صديق جروسمان ذا إنتاجٍ غزير، ونشر عدة أبحاث علمية، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة زيورخ. وأهدى أطروحته التي حملت عنوان «تحديد جديد للأبعاد الجزيئية» إلى جروسمان. شكل ٦-٣ هو صورة، من اليسار إلى اليمين، لمارسيل جروسمان، وصديقه، وجوستاف جيسلر، وجيرالد، أحد إخوة مارسيل، والتي التُقطت حوالي عام ١٩٠٠.
fig56
شكل ٦-٣: مارسيل جروسمان وألبرت أينشتاين وجوستاف جيسلر وجيرالد جروسمان.

صديق مارسيل جروسمان وزميله في المعهد لم يكن سوى ألبرت أينشتاين. ومع أن جروسمان أصبح عالِم رياضيات مشهورًا، فإن شُهرته كانت أقلَّ كثيرًا من صديقه. ومع هذا، وقبل انقضاء وقتٍ كبير، فقد احتاج أينشتاين إلى مساعدة جروسمان مرة أخرى.

وجد أينشتاين أن العمل في مكتب براءات الاختراع شيِّق، ولكن امتدَّت طموحاته الشخصية إلى نطاقٍ أبعد من ذلك. شكَّل أينشتاين مع صديقَيه الفيلسوف موريس سولوفين وعالم الرياضيات كونراد هابشت مجموعة أطلقوا عليها اسم أكاديمية أولمبيا. كانت مناقشاتهم الواسعة النطاق ذات قيمة عظيمة لأينشتاين. مع ذلك جاء التأثير الأكبر على أينشتاين على يد ميكيلي أنجيلو بيسو. سهَّل أينشتاين حصول بيسو على وظيفةٍ في مكتب براءات الاختراع، وكانا يسيران معًا من وإلى العمل كل يوم لعدة سنوات. وقد أطلق أينشتاين على المناقشات التي كانت بينه وبين بيسو «أفضل مجلس في أوروبا» للأفكار العلمية، وهي الأفكار التي كان لأينشتاين الكثير منها.

أشار أحد المؤرخين إلى أن عام ١٩٠٥ كان عام المعجزات لأينشتاين. في ذلك العام نشرت له مجلة «أنالز أوف فيزيكس» المرموقة خمسة أبحاث، وقد تضمَّنت تلك الأبحاث موضوعات، مثل التأثير الكهروضوئي، وطريقة جديدة لتحديد حجم الجزيئات، والحركة البراونية، والنسبية الخاصة، وتكافؤ الكتلة والطاقة. (لمزيد من التفاصيل، انظر مجلد الأفكار ١٥، أعمال أينشتاين: النسبية وغيرها.) وفي بحث النسبية جمع أينشتاين بين ميكانيكا نيوتن وكهرباء ومغناطيسية جيمس كلارك ماكسويل، واستكشف نتائج استبدال مفهوم السرعة المُطلقة للضوء بمفهوم الزمان والمكان المُطلقَين.

بعد مُضي عامَين فكر أينشتاين في كيف أن جاذبية نيوتن يجب أن تُعدل لتلائم أفكاره النسبية. وفيما أطلق عليها «أسعد فكرة في حياته»، جاء أينشتاين بفكرة التكافؤ الكامل بين مجال الجاذبية والعجلة المُقابلة لإطار مرجعي. بعبارة أبسط، يقول هذا المبدأ إن من ينطلق في مركبة فضاء لا يستطيع أَن يُحدِّد الاختلاف بين عجلة المركبة وتأثيرات الجاذبية، استنادًا إلى أي قياساتٍ داخل المركبة. وكانت هذه الفكرة، التي سُميت بمبدأ التكافؤ، بداية نظرية النسبية العامة.

fig57

جلبت السنوات القليلة التالية عدَّة تغيرات في حياة أينشتاين. ففي عام ١٩١٢ عُيِّنَ بهيئة التدريس في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا. وعلى الجانب العلمي أدرك أينشتاين وجود مُشكلةٍ كبيرة تعترِض نظريته عن النسبية وهي مسألة أنه إذا كانت كل الأطر المرجعية المُعجلة متكافئة، إذن فلن تصلح الهندسة الإقليدية لجميعها. تذكَّر أينشتاين أنه درس الهندسة التفاضلية (العلاقات الهندسية بين الكميات المتناهية الصغر) في المدرسة، ولكنه نسي التفاصيل.

لحُسن الحظ، كان جروسمان زميلًا لأينشتاين في المعهد، وقد أصبح حينها أستاذًا محنكًا للرياضيات. ساعد جروسمان أينشتاين في تعلُّم الهندسة التفاضُلية وحساب الموترات، وهو مجال دراسة رياضية يتضمَّن مُتغيرات متعددة الأبعاد. وكتب أينشتاين: «لم أتعب في كل حياتي كما تعِبت الآن، وقد أصبحتُ أُولِي احترامًا كبيرًا للرياضيات التي كنتُ أعتبر أكثر أجزائها تعقيدًا — جهلًا مني — رفاهيةً محضة.» كتب أينشتاين وجروسمان معًا بحثًا عام ١٩١٣، وصفَ على نحوٍ شِبه كاملٍ النظرية النهائية للنسبية العامة. احتوى البحث، الذي جاء تحت عنوان «الخطوط العريضة لنظرية عامة للنسبية ولنظرية خاصة بالجاذبية» على مجموعة من معادلات المجال للجاذبية، على أن هذه المعادلات لم تكن قد وصلت بعد إلى صيغتها النهائية.

على مدار العامَين التالِيَين نشر أينشتاين أبحاثًا، وتشاور مع زملائه، وكتب أبحاثًا أخرى، وتشاور أكثر، ونشر أكثر، حتى نُشر بحثُه النهائي عن النسبية العامة في ٢٥ نوفمبر ١٩١٥. وفي ديسمبر ١٩١٥ قال أينشتاين عن نفسه: «ذلك الرفيق الذي يُدعى أينشتاين يعمل على هواه. كل سنة يتراجع عمَّا كتبه في السنة السابقة.» وعندما طبقت معادلات أينشتاين على مدار كوكب عطارد، توقَّعت هذه المعادلات تقدُّم النقطة الأقرب إلى الشمس (الحضيض) تقدمًا طفيفًا، وهذا لم يتضح من خلال نظرية الجاذبية لنيوتن. ولما سلك مدار عطارد على هذا النحو بالضبط توافقت نظرية أينشتاين بشكلٍ رائع مع الواقع، ونتيجة لذلك جذب أينشتاين اهتمامًا كبيرًا من زملائه العلماء.

عندما طُبِّقَت مبادئ النسبية العامة على الكون ككلٍّ أشار بعض زملاء أينشتاين (خاصة الفلكي الهولندي فيليم دي سيتر) إلى أن نظريته أشارت ضمنًا إلى أن الكون ككلٍّ لم يكن مُستقرًّا ساكنًا. ووفقًا للمعادلات فإن الكون يجب أن يكون إما في حالة تمدُّد أو انكماش. بمُعطيات حالة المعرفة الفلكية عام ١٩١٧ افترض أينشتاين أنه لم يكن هناك أماكن، أو اتجاهات، أَو حدود خاصة للكون، وأن الكون ككلٍّ في حالة سكون. ومما زاد من متاعب أينشتاين أنه وجد أنه يجب عليه، لكي يبقي الكون ثابتًا، إضافةُ حدٍّ إلى مُعادلاته لمواجهة تأثير الجاذبية. الحد الذي أضافه سُمِّيَ الثابت الكوني. ومع أن العديد من الفلكِيِّين حاولوا إقناعه بالعدول عن الأمر، فإنه ظلَّ متمسكًا بأن هناك حاجة إلى إضافة هذا الثابت.

تلسكوبات أكبر ومسافات نجمية أكبر

بحلول عام ١٩٢٠ كان علم الفلك على موعدٍ مع حل مشكلتَين هائلتَين وهما حجم مجرة درب التبانة وطبيعة السدم. ومن أهم المُساهمين في تلك الجهود جورج إليري هيل (انظر شكل ٦-٤)، وهنريتا سوان ليفيت (انظر شكل ٦-٥)، واللذَين قد وُلدا بفارق أسبوع واحد بينهما عام ١٨٦٨.
fig58
شكل ٦-٤: جورج إليري هيل.
fig59
شكل ٦-٥: هنريتا سوان ليفيت.

وُلد جورج إليري هيل لعائلةٍ عظيمة الثروة بشيكاغو. وفي شبابه بدأ هيل مسيرته في الرصد الفلكي مُستخدمًا تلسكوب انكساري ٤ بوصة مُستعمل. وأثناء دراسته الجامعية للفيزياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا اخترع آلة تُسمى مرسمة الطيف الشمسي لدراسة النتوءات الشمسية، وفي عام ١٨٩٠ قدَّم تصميمها كأطروحته الجامعية. وقد أدى تطبيق هيل للفيزياء في مجال عِلم الفلك إلى بزوغ مجال الفيزياء الفلكية.

مع ذلك، فقد كانت مساهمة هيل الرئيسية في مجال التلسكوبات، وخاصة التلسكوبات الكبيرة. ومع أنه قد يكون مُغريًا أن تعتقِد أن وظيفة التلسكوب الأساسية هي التكبير، فمجرد تكبير صورة خافتة أو ضبابية لا يحسُن منها. في الحقيقة إن الوظائف الرئيسية للتلسكوب هي أن يُجمِّع أكبر قدرٍ مُمكن من الضوء ثم يُوضح التفاصيل. وكلما زاد حجم التلسكوب جمع كميةٍ أكبر من الضوء، وعظمت قُدرته على التمييز بين مصدري ضوء مُتقارِبَي المسافة. سَخَّرَ هيل مهاراته العظيمة فيما يتعلق بالتنظيم وجمع المال للقيام بمهمة بناء أكبر تلسكوب في العالم. وقد نجح مُحققًا ثلاثة أمثالِ ما كان مُنتظرًا. فقد سجَّلت التلسكوبات التي صنعها هيل الرقم القياسي العالَمي للحجم ثلاث مرات على التوالي. سُمِّيَ ثاني تلسكوب بناه هيل «هوكر» تكريمًا لرجل الأعمال جون دي هوكر من لوس أنجلوس، الذي تبرَّع بالمال لشراء مرآة التلسكوب. وُضِع هذا التلسكوب الذي يبلغ قطره ١٠٠ بوصة (٢٫٥ متر) على جبل ماونت ويلسون، أعلى لوس أنجلوس، وبدأ في العمل عام ١٩١٨.

لم يقُم هيل بجمع المال والإشراف على بناء تلسكوب هوكر وحسب، بل زوَّد مرصد ماونت ويلسون بالمُحللين المُتحمسين أيضًا، ومن ضمنهم اثنان من الحاصلين الجدد على درجة الدكتوراه وهما هارلو شابلي (الذي تخرج في جامعة برينستون عام ١٩١٤) وإدوين هابل (جامعة شيكاغو، ١٩١٧)، اللذَين سنعرض للمزيد عنهما بعد قليل. وفي عام ١٩٢٨ تقاعد جورج هيل من مرصد ماونت ويلسون مُتعللًا بالإرهاق الشديد في العمل ورغبته في العودة إلى العمل البحثي. لكن كان ذلك التقاعُد قصير الأجل. فسرعان ما بدأ بتخطيط وتمويل تلسكوب آخر ضخم، يبلغ قطره ٢٠٠ بوصة (٥ أمتار)، ويقع على جبل ماونت بالومار في كاليفورنيا. وتُوفي هيل عام ١٩٣٨. اكتمل بناء التلسكوب بعد ١٠ سنوات وسُمي باسمه تخليدًا له. (ظل هذا التلسكوب لمدة ٤٠ عامًا تقريبًا هو أكبر تلسكوب في العالم.)

وُلدت هنريتا ليفيت كذلك في عام ١٨٦٨ وكانت مُهتمةً أيضًا بالعلم في شبابها، والتحقت أيضًا بالجامعة في ماساتشوستس. وتخرجت ليفيت عام ١٨٩٢ في كلية رادكليف، التي كانت تُسمى حينها جمعية التعليم الجامعي للنساء. وفي سنتِها الجامعية الأخيرة أصبحت ليفيت مُهتمة بعلم الفلك، والتحقت بدورة دراسية أخرى بعد التخرج. أصيبت بالصمم نتيجة مرَض شديد، ولكن استمر اهتمامُها بعلم الفلك. وفي عام ١٨٩٥، أصبحت واحدةً من «العقول الإلكترونية» لإدوارد تشارلز بيكرينج بمرصد جامعة هارفارد. قامت هذه المجموعة من النساء بالحسابات وحللت البيانات الفوتوغرافية في محاولةٍ «لتجميع الحقائق» على حسب تعبير بيكرينج. في بادئ الأمر عمِلت ليفيت متطوعة، لكن بعد تطوير مهاراتها في تحديد سطوع النجوم من الألواح الفوتوغرافية لمدة سبع سنوات، عُيِّنَت هناك بدوامٍ كامل (وكان راتِبُها ٣٠ سنتًا للساعة، وهذا يساوي ٦ دولارات في الساعة وفقًا لمعايير النقود عام ٢٠٠٣.)

«حريم بيكرينج»، كما كان يُطلق عليهن، لم يكنَّ باحثات مُستقلات. بل كنَّ يفعلنَ كما كان يُطلَب منهن. كانت مهمة ليفيت المُملَّة والمُهمة في الوقت نفسه هي عمل فهرسة للنجوم غير العادية الموجودة في سحابة ماجلان الصغرى، وهي رقعة غير واضحة من ضوء النجوم تُشبه قطعةً مكسورة من مجرة درب التبانة. كانت سحابتا ماجلان الصغرى والكبرى جليةً للمُراقبين في نصف الكرة الأرضية الجنوبي. ولقد سُمِّيَتْ باسم فيرديناند ماجلان الذي سجَّل رؤيته لهما في رحلته البحرية حول العالم عام ١٩١٥. وقد اكتشفت ليفيت داخل سحابتَي ماجلان ١٧٧٧ نجمًا، تفاوتت درجة سطوع، أو لمعان، كلٍّ منها، بطريقة منتظمة من اللامع إلى الخافت ثم العودة إلى اللامع مرة أخرى.

النجوم التي يتغير سطوعها بشكلٍ مُنتظم تُسمى مُتغيرات سيفيد، لأن أول نجمٍ وُجِدَ منها في كوكبة سيفيوس. وتكون دورات تغير حالة مُتغيرات سيفيد مُنتظمةً تمامًا وتتراوح من يومٍ إلى مائة يوم. وبناءً على المُقارنات الحثيثة بين الصور الفوتوغرافية التي أخذت في أوقاتٍ مختلفة وَجدت ليفيت العلاقة التالية: «النجوم الأكثر سطوعًا كانت لها دورات أطول». باستخدام هذه العلاقة، التي تُسمَّى علاقة الدورة-السطوع، يمكن استخدام درجة السطوع والدورة الخاصَّين بأحد مُتغيرات سيفيد لقياس بُعدِه عن الأرض. لكن لم تطبق ليفيت تقنية قياس قيمة المسافة القيِّمة هذه على المسائل الفلكية المُهمة. بدلًا من ذلك نشرت ليفيت، التي «كانت تملك أفضل عقليةٍ في المرصد» حسبما وصفها أحد زملائها، علاقة الدورة-السطوع عام ١٩١٢ وانتقلت إلى مُهمَّتها التالية. وواصلت العمل في مرصد جامعة هارفارد حتى ماتت عام ١٩٢١. واعتبر زملاؤها وفاتها حدثًا «أقرب إلى الكارثة».

أدرك الفلكي الدانماركي العظيم أينار هرتسبرونج قيمة علاقة الدورة-السطوع لليفيت، واستخدَمَها عام ١٩١٣ لتحديد المسافة إلى سحابة ماجلان الصغرى. كذلك استخدم هارلو شابلي تلك التقنية في مرصد ماونت ويلسون لإيجاد المسافات إلى مجموعةٍ أخرى من التجمُّعات النجمية التي تُسمى العناقيد الكروية. وعندما رسمت مواقع العناقيد الكروية بشكلٍ ثُلاثي الأبعاد ظهر أن مركز التوزيع كان يبعُد ١٥ ألف فرسخ فلكي عن نظامِنا الشمسي (عُدِّلَ هذا الرقم لاحقًا إلى ٩ آلاف فرسخ فلكي). استنتج شابلي أن مركز توزيع العناقيد الكروية كان أيضًا هو مركز مجرة درب التبانة. وقدَّر، بناء على ذلك، أن الحجم الكُلي لدرب التبانة هو ١٠٠ ألف فرسخ فلكي، وهذا أكبر بشكلٍ كبير من جميع التقديرات السابقة. إضافة إلى ذلك، دراسة شابلي لمُستعر (وهو نجم لوحظ حديثًا) في سُدم مجرة أندروميدا سمحت له بتقدير بُعدها ﺑ ١٠ آلاف فرسخ فلكي. وبالتالي فإن صورة شابلي للكون كانت تتمثَّل في أنه مجرة واحدة كبيرة، وهي مجرة درب التبانة، ويقع النظام الشمسي بعيدًا عن مركزها.

مجرة كبيرة واحدة في مُقابل مجرات كثيرة مُنفصلة

كانت المقارنة بين نموذج شابلي لمجرة درب التبانة والنموذج التقليدي أكبر مَحاور الاهتمام في اجتماع للأكاديمية الوطنية للعلوم عام ١٩٢٠ في واشنطن. فقد دُعي الشاب هارلو شابلي (انظر شكل ٦-٦) لإلقاء محاضرة وليام إليري هيل (والد جورج) ذلك العام. لكن بدلًا من أن تتَّخِذ شكل تقديم مباشر تحولت المحاضرة إلى مناظرة. انضم إلى شابلي هيبر دي كرتيس من مرصد ليك (انظر شكل ٦-٧)، الذي كان قد أكمل لتوِّه مسحًا للسُّدم الحلزونية.
fig60
شكل ٦-٦: هارلو شابلي.
fig61
شكل ٦-٧: هيبر كرتيس.

كان موضوع المناظرة هو «نطاق الكون». اختلف كرتيس مع وجهة النظر السائدة في ذلك الوقت، التي كانت تقول بأن قُطر مجرة درب التبانة حوالي ١٠ آلاف فرسخ فلكي فقط، وأن الأرض تقع بالقُرب من مركزها. وحاد كرتيس في ملاحظاته الختامية عن حدود الموضوع المُقرر وجازف بالقول بأن السُّدم الحلزونية (كما كانت تعرف في ذلك الوقت) بعيدة جدًّا وتُشكِّل مجراتٍ منفصلة. (نحن نعلم الآن أنها مجرَّات حلزونية.) ومع أن شابلي لم يكن مُستعدًّا لهذه المسألة فقد اعتقد بأن السُّدم الحلزونية هي سُحب غازية صغيرة ضمن مجرتنا، واستشهد بعمليات رصدٍ حديثة لزميلٍ وصديق شخصي له بمرصد ماونت ويلسون وهو أدريان فان مانين. رفض كرتيس عمل فان مانين لكونه لم يُدعَم بأدلة. وفي الحقيقة ظهر فيما بعد أن ملاحظات فان مانين كانت خاطئة.

في حين لم ينتصِر أحد بوضوح في هذه المناظرة، ولم تحظَ حتى بمتابعةٍ جيدة، فإن فكرة شابلي عن كبر حجم درب التبانة وبُعد الأرض عن مركزها يبدو أنها جذبت اهتمام الرأي العام. وبالعودة إلى مرصد ماونت ويلسون، لم يُخفِ زميل شابلي إدوين هابل تعاطُفه مع كرتيس. لم يكن هابل وشابلي قطُّ على وفاق، فقد عمل شابلي بمشروع أراده هابل، في حين ذهب هابل إلى فرنسا للاشتراك في الحرب العالمية الأولى. ومما أثار غضب شابلي تباهي هابل بمنحة رودس الدراسية التي حصل عليها في الخارج، إذ كان دائمًا يذكرها أمام شابلي. توقفت المنافسة بينهما عام ١٩٢١. فبعد موت إدوارد تشارلز بيكرينج، غادر هارلو شابلي مرصد ماونت ويلسون ليرأس مرصد جامعة هارفارد عام ١٩٢١. وحوَّل هابل انتباهه إلى مجرة إم٣١، التي اعتقد بأنه قد يكون قادرًا على أن يُحللها إلى نجوم فردية، وربما يستطيع تحديد بُعدها من الأرض. وهنا برز دور التلسكوب هوكر الذي يبلُغ قطره ١٠٠ بوصة.

كون من المجرات

بعد الكثير من الليالي الطويلة الباردة من العمل على التلسكوب، كوفئ هابل، الذي تظهر صورته أثناء العمل في شكل ٦-٨) ففي مساء ٥ أو ٦ أكتوبر عام ١٩٢٣، وجد أول نجم من نجوم سيفيد المُتغيرة في مجرة إم٣١. وباستخدام علاقة الدورة-السطوع لهنريتا ليفيت، والتلسكوب الذي بناه جورج هيل، حدد هابل المسافة إلى مجرة إم٣١ (المعروفة الآن بمجرة أندروميدا) ووجد أنها تبلُغ ٣٠٠ ألف فرسخ فلكي. ومجرة إم٣١ كانت بالتأكيد بعيدة جدًّا بحيث لا يُمكن أن تكون داخل مجرَّتنا حتى باستخدام القطر المبالَغ في حجمه لشابلي لمجرة درب التبانة.
fig62
شكل ٦-٨: إدوين هابل.

لقد دُعمت فكرة «الأكوان الجزر» الآن بالدليل. واتضح أنه كان هناك نوعان مُختلفان من مُتغيرات سيفيد، لذا فمسافات هابل كانت في الواقع صغيرة جدًّا. والتقدير الحديث للمسافة إلى مجرة إم٣١، أو مجرة أندروميدا، أبعد، وهو ٧٥٠ ألف فرسخ فلكي. وبفضل هابل، تغيَّرت نظرة علم الفلك للكونِ تغيرًا كبيرًا. وأصبحت مجرة درب التبانة واحدةً فقط من الكثير من المجرَّات المُبعثرة عبر امتداداتٍ واسعة في الفضاء.

بعد ذلك حوَّل هابل انتباهه وتلسكوب هوكر إلى مُهمة تحديد التركيب المُفصل للمجرات. فقد راقب هابل لسنواتٍ عديدة الرُّقَع الضبابية من الضوء التي كانت مصدرًا للإزعاج في بحث ميسيه عن المُذنبات. وقد وجد أن الكثير منها كان بالفعل مجرات نجوم. وبإيجاد المجرات الحلزونية والحلزونية القضيبية والإهليلجية وغير المُنتظمة، صنَّفها هابل وفقًا لأشكالها. ونشر هابل هذا المُخطط في شكلٍ أطلق عليه «مُخطط الشوكة الرنانة» بسبب شكله. وبحلول عام ١٩٢٩ ثبتت أهمية مساهمات هابل في علم الفلك بتقديمه الدليل على الموقع البعيد للمجرَّات وتصنيفها. مع ذلك، كان لا يزال لدى هابل عمل أعظم لتقديمه.

تحديد سرعات المجرَّات

يتطلَّب فهم أعظم إنجازات هابل إلقاء نظرةٍ على ظاهرة مألوفة في سياق مختلف عن سياقها. تخيَّل نفسك وأنت تقود على الطريق السريع غير مُبالٍ بأحد. وفجأة تسمع صوتًا خلفك فتنظُر في مرآة الرؤية الخلفية. وتتأكد أنها سيارة شرطة تُطلق سرينتها العالية.

ثم تلمح عداد سرعتك. وتجد أن سُرعتك داخل الحد القانوني الآن، ولكن ماذا عن سُرعتك قبل ذلك بميلٍ أو نحو ذلك عندما مررتَ بتلك السيارة؟ لكن ما يُثير ارتياحك الآن أن سيارة الشرطة تسرع بالقُرب منك وتبتعِد. لكنك تلاحظ شيئًا غريبًا. كان صوت السرينة أعلى عندما كانت سيارة الشرطة تقترب منك مقارنةً به عندما كانت تبتعِد عنك.

ليس هذا خيالًا، بل ظاهرة حقيقية تُسمى تأثير دوبلر. عندما تنبعث موجة صوتية من قِبل مصدر مُتحرك، فإن التردُّد المسموع من قِبل راصدٍ ثابت يختلف عن التردُّد الصادر: إذا اقترب المصدر من المُتلقِّي زادت درجة الصوت، وإذا ابتعد المصدر عن المُتلقي انخفضت درجة الصوت. إنك تسمع هذا النمط من الدرجة العالية والدرجة المُنخفضة نفسها عندما يمرُّ بك قطار أو سيارة سباق أو طائرة. كلما كانت حركة مصدر الصوت أسرع كانت إزاحة التردُّد ملحوظة أكثر.

تظهر ظاهرة تأثير دوبلر أيضًا مع الضوء. إذا اقترب مصدر للضوء من مُراقب ينتقل الضوء نحو طرفٍ أعلى تردُّدًا للطيف، وهو ما يعرف بالإزاحة الزرقاء؛ أما إذا كان ينحسِر المصدر فسينتقل الضوء إلى تردُّدٍ أقل، يُسمى بالإزاحة الحمراء. ونظرًا لأن خِبرتنا لا تتضمَّن سرعات فائقة فإن تأثير دوبلر الخاص بالضوء لا يكون ملحوظًا. لكن العلماء الذين يستعملون الأجهزة الطيفية لقياس كمية إزاحة التردُّد يُمكنهم حساب سرعة مصدر الضوء. على الأرض يستخدم المُتنبئون بالطقس رادار دوبلر للحصول على سرعة الأنظمة الجبهية؛ ويستخدِمه رجال الشرطة لمراقبة سرعة قيادتك. وبتطبيق تأثير دوبلر في علم الفلك يجري تحديد سرعة النجوم وربما مجرات كاملة.

كان فيستو إم سلايفر هو أول عالم فلك يستخدم إزاحة دوبلر، وقد عمل سلايفر بمرصد لويل طيلة حياته العملية في مدينة فلاجستاف بولاية أريزونا، منذ عام ١٩٠١ وحتى عام ١٩٥٢. وفي عام ١٩١٢، وإلى جانب البحث عن قنواتٍ على كوكب المريخ، والذي كان المشروع المُفضل لعالم الفلك الهاوي الغني برسيفل لوويل، بدأ سلايفر قياس إزاحة دوبلر للسُّدم الحلزونية، حتى قبل إدراك أن هذه السدم هي مجرات. وقد كان لأول سديم قاسَه، وهو إم٣١، سرعةٌ هائلة تُقدر ﺑ ٣٠٠ كيلومتر في الثانية (كم/ثانية) والتي تُعد أكبر سرعة قِيست على الإطلاق. كانت إزاحته من نوع الإزاحة الزرقاء، وهذا يعني أنه كان يتَّجه نحوَنا. وبحلول عام ١٩١٧ كان قد قاس سلايفر سرعة ١٥ سديمًا حلزونيًّا ووجد أن ١٣ منها كانت إزاحتها من نوع الإزاحة الحمراء، مما يدلُّ على أنها تتحرك بعيدًا عنا، وفي بعض الأحيان بسرعةٍ أكبر من سرعة سديم إم٣١ التي كانت تبلغ٣٠٠ كم/ثانية. إن مدلولات هذا الابتعاد الكبير عن النظام الشمسي لم تُقدَّر في ذلك الوقت، مع أنه لا بد أنه كانت هناك بعض التكهنات حول الأسباب المُحتملة وراء عدم الجاذبية الظاهرية تلك لنظامنا.

هنا حيث ظهر هابل مرة ثانية لتقديم إسهام مُهم. فلتقدير سرعة المجرات، اعتمدَ على إزاحات دوبلر التي اكتشفها سلايفر وميلتون هوماسون زميل هابل، الذي قاس سرعة الانحسار ﻟ ٨٠٠ مجرة. بدأ هوماسون في مرصد ماونت ويلسون بالعمل سائقًا، ثم ترقَّى إلى الحارس الليلي، ففلكي مساعد، وترقى في النهاية إلى مُراقب ومؤلِّف مشارك لهابل في أبحاثٍ مُهمة. وهذا ليس سيئًا لشخصٍ أتم تعليمه حتى الصف الرابع فقط.

بدأ هابل يحاول إيجاد المسافات إلى المجرات التي اكتشف سرعتها سلايفر وهوماسون. كان تحليل مُتغيرات السيفيد لهنرييتا ليفيت دقيقًا للمجرات القريبة، ولكن ليس للمجرات البعيدة. وكانت مُتغيرات السيفيد في المجرات البعيدة خافتة جدًّا. ابتكر هابل طريقة جديدة لقياس المسافات تعتمِد على ألمع النجوم في المجرة. وقد سمحت تقنية «ألمع النجوم» بتقدير المسافة إلى جميع المجرات في قائمة سلايفر فيما عدا بعض المجرات الأخيرة فيها. واستخدم هابل مع تلك المجرَّات الأخيرة كمية الضوء الكلية المُنبعثة من المجرة كأساسٍ لتقدير مسافتها.

ملاحظة التمدُّد الكوني

لتصور نوع العلاقة الموجودة بين المسافة والسرعة وضع هابل رسمًا بيانيًّا يُظهر السرعة كدالَّةٍ للمسافة (انظر شكل ٦-٩). وبالرغم من تشتت القياسات فقد كان من الواضح أن العلاقة هي علاقة خطية. هذا يعني أنه «كلما بعدت المجرة أسرعت حركتها». وانطبقت هذه العلاقة فقط على المجرات التي اختارها هابل. مع ذلك، عندما عُمِّمت هذه العلاقة أشارت ضمنًا إلى شيءٍ رائع وغير مُتوقَّع وهو أن «الكون ككل يتمدَّد».
fig63
شكل ٦-٩: المُخطط الأصلي لهابل الخاص بالسرعة كدالة للمسافة.

لرؤية كيفية حدوث ذلك دعنا نتأمَّل المثال البسيط التالي. افترض أن هناك سباقًا، وليكن بعنوان الماراثون الكوني. عندما يبدأ السباق يقطع بعض العدَّائين ٤ أميال في الساعة، والبعض الثاني ٣ أميال في الساعة، والبعض الثالث ميلَين في الساعة. وخلال ساعة واحدة من السباق فإن مجموعة اﻟ ٤ أميال في الساعة ستقطع ٤ أميال، ومجموعة اﻟ ٣ أميال في الساعة ستقطع ٣ أميال، ومجموعة المِيلَين ستقطع ميلَين في الساعة، وهذا يُنتِج رسمًا بيانيًّا مماثلًا تمامًا لمُخطط هابل. لاحظ أنه من منظور أي عدَّاء يبدو أن كل العدَّائين الآخَرين يبتعدون عنه.

تُسمى الآن العلاقة الخطِّية بين سرعة انحسار المجرة والمسافة إليها بقانون هابل تكريمًا له. ومع أن المسافات التي حددها قد صُحِّحَت من قِبَل القياسات الحديثة، فاستنتاجات هابل الأساسية تظل صحيحة. والكون يتكوَّن من مجرَّات من نجوم وهو ضخم ويتمدَّد. يُظهر شكل ٦-١٠ إدوين هابل، الثاني من اليسار، وألبرت أينشتاين، وهو الثالث من اليمين.
fig64
شكل ٦-١٠: مكتبة مرصد ماونت ويلسون عام ١٩٣١. من اليسار: ميلتون هوماسون، وإدوين هابل، وعالم الفلك تشارلز سانت جون، وألبرت مايكلسون، وألبرت أينشتاين، ورئيس جامعة كاليفورنيا ويليام كامبل، ثم والتر آدمز مدير مرصد ماونت ويلسون. وخلفهم تُوجَد صورة لمؤسس مرصد ماونت ويلسون جورج هيل.

عندما علم أينشتاين بعمل هابل تخلَّى عن الثابت الكوني الذي أضافه إلى معادلاته الخاصة بالنسبية العامة لإثبات ثبات الكون. وبعد تراجُعه عن هذا الحد، سمَّاه أينشتاين «الحماقة الكبرى في حياتي». وكما سنرى، قد يعود الثابت الكوني باعتباره حلًّا مُحتملًا لأكبر مشكلةٍ مُستعصية في علم الفلك.

اكتشاف المادة المُظلمة

لم يحتج المنظرون وقتًا طويلًا لإدراك أنه إذا كان التمدُّد الحالي للكون بمجراته يكشِف عما حدث في الماضي، فلا بد أن كل مادة الكون وطاقته كانت مُتقاربة جدًّا. وقد أطلق فريد هويل على النظرية التي نتجت من هذا اسم «الانفجار الكبير» وذلك على سبيل السخرية وذلك لأنه صاحِب نظرية مُخالفة تمامًا لتلك النظرية. مع ذلك، بقِيَت هذه النظرية وهذا الاسم نتيجة لدعم الدليل التجريبي. (انظر مجلد الأفكار ١٦، الانفجار الكبير.)

بشكلٍ مُدهش اكْتُشِفَ تفاوتٌ كبير يتعلق بكُتل المجرات، وذلك بعد وقتٍ قصير من تقديم قانون هابل وسحب الثابت الكوني من جانب أينشتاين، لكن ذلك التفاوت لم يلتفت إليه أحد لمدة تصل إلى ٤٠ سنة. والذي يدعو إلى الدهشة أكثر أن عالِم الفلك الذي لاحظ هذه المشكلة لأول مرة قد تخرَّج في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في سويسرا مثل أينشتاين وقضى مسيرته المهنية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ومرصد ماونت ويلسون ومرصد ماونت بالومار مثل هابل.

كان هذا العالم هو فريتس تسفيكي. ولد تسفيكي في بلغاريا عام ١٨٩٨، ثم ذهب إلى سويسرا للعَيش مع أجداده وهو في السادسة من عمره وظلَّ مواطنًا سويسريًّا طوال حياته. ونظرًا لصِغر سنِّه عند اندلاع الحرب العالمية الأولى لم يُطلَب للخدمة العسكرية، ودرس علم الفيزياء النظرية في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا، حيث طبَّق ميكانيكا الكم على البلورات وذلك من أجل رسالته للدكتوراه عام ١٩٢٢. وفي عام ١٩٢٥ انتقل تسفيكي إلى الولايات المتحدة للحصول على زمالة روكيفيلر، واختار الدراسة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا لأن موقعه في سفوح باسادينا كان يُشبه قليلًا جبال الألب التي كان يعشقها. وقد توقَّع المُشرف عليه، روبرت إيه ميليكان، أن يركز تسفيكي على ميكانيكا الكم، لكن تسفيكي وجه اهتمامه إلى علم الفلك. وبدأ التعاون مع عالم فلك ألماني وهو فالتر بادي. في بداية عمله، درس تسفيكي مجموعة المجرات التي تعرف باسم كوما بيرينيسيز، والتي أدرجها ميسيه بقائمته باسم إم١٠٠.

باستعمال تقنيات دوبلر التي ابتكرها فيستو سلايفر واستخدمها ميلتون هوماسون في مرصد ماونت ويلسون، وجد تسفيكي سرعات ثمانية من المجرات في مجموعة كوما، واستنتج الكتلة المَطلوبة لبقاء تلك المجرات متماسكة بفعل التجاذب مع المجموعة. بعد ذلك قارن تلك الكتلة بحساب كتلة المجموعة معتمدًا على الضوء المُنبعث منها. اتضح أنه كانت هناك حاجة لكتلةٍ أكثر للإبقاء على المجموعة دون أن تنفصل. أطلق تسفيكي على هذه الكتلة المفقودة اسم «المادة المُظلمة». أشارت حساباته ضمنًا إلى أنه لا بد أن المادة المُظلمة كانت أكثر بكثيرٍ من المادة العادية في مجموعة كوما. لكن الفيزيائيين الفلكيين أهملوا هذه النتيجة الخطيرة بشكل كبير لمدة ٤٠ عامًا تقريبًا، ربما لأنها قد نُشِرت بالألمانية تحت عنوان «الإزاحة الحمراء للسُّدم الواقعة خارج درب التبانة» في مجلة ألمانية غير معروفة تُسمى «هيلفتيكا فيزيكا أكتا».

fig65
شكل ٦-١١: فريتس تسفيكي.
وقد حمل تسفيكي على مدى حياته المِهنية الطويلة والمُثمرة مجموعةً كبيرة من الأفكار المُختلفة الجودة، والتي تابعها جميعًا على نحوٍ نابع من إيمان راسخ. ظن البعض أنه عبقري، واعتبره الآخرون عدوانيًّا. تقريبًا كل شخصٍ قابل فريتس تسفيكي، الذي يظهر في شكل ٦-١١، كان له رأي فيه. إن التحية التي اعتاد أن يُلقيها على زائريه في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وهي «من أنت بحقِّ الجحيم؟» يمكن أن توجَّه إلى المادة المُظلمة. مهما كان السبب، فالمادة المُظلمة لتسفيكي لم تُحدِث تأثيرًا كبيرًا في علم الفلك لفترة من الزمن.

جاءت المُساهمة الرئيسية التالية في عام ١٩٧٠ على يد فيرا روبن ودبليو كيه فورد، وهما أول من درسا دوران المجرة إم٣١ (مجرة أندروميدا)، ودرسا بعد ذلك أكثر من ٦٠ مجرة حلزونية أخرى. اتضح أن كل هذه المجرَّات كانت تدور بسرعةٍ أكبر من التي تدعمها كُتلها المرئية ودلَّ ذلك أيضًا على وجود كتلة غير مرئية. ومع تزايد الأدلة العلمية أصبحت المشكلة أكبر من أن يجري تجاهلها. ويبدو أن المادة المُظلمة موجودة بالفعل، وقدْر ما يوجد من مادة مظلمة يزيد حوالي عشر مرات عما يوجد من المادة اللامعة العادية (المرئية)، ما لم نُراجع أفكارنا حول الجاذبية (سنتعرض للمزيد فيما بعد).

غموض المادة المُظلمة

هناك ثلاث طرق مختلفة لتفسير طبيعة المادة المُظلمة والتي تخضع للدراسة وهي: المادة المُظلمة الباريونية، أو المادة المُظلمة غير الباريونية، أَو سوء الفهم المُحتمل للجاذبية.

المادة المظلمة الباريونية

مع أن البروتونات والنيوترونات هما اللتان تعدَّان فقط باريونات (انظر الفصل الثاني)، أدرج علماء الفلك الإلكترونات ضمن المادة المُظلمة الباريونية. الفكرة هي أن هذا النوع من المادة المُظلمة يتكوَّن من جسيمات معروفة ولكنه لا يبعث إشعاعًا كافيًا يمكن من خلاله اكتشافه.

من الأمثلة المُحتملة للمادة المظلمة الباريونية:

  • المادة العادية. تعتبر سحب الهيليوم والهيدروجين المبعثرة في كافة أنحاء الوسط بين المجرَّات مادة مُظلمة عادية. هذا النوع يُسمى أيضًا بالمادة المُعتمة.
  • أجرام الهالات الهائلة المُنضغطة. تتكوَّن هذه من الأجرام التي توجَد في الأطراف الخارجية للمجرات (الهالة) التي لها كتلة، ولكن نتيجة لصِغر حجمها أو ربما لقلَّة إشعاعها، يصعب الكشف عنها. ومن أمثلة هذه الأجرام:
    • الأقزام البُنِّيَّة، وهي أجرام تتوسط في الحجم بين المشتري وأصغر نجم، وكُتلتها تساوي تقريبًا ٨٠ مرة كتلة المشتري. ربما تكون قد تكونت هذه الأجرام في الوقت نفسه الذي تكونت فيه النجوم والكواكب، ولكن نظرًا لعدم كفاية كتلتها لبدء عملية الاندماج النووي فهي تبرد ببطءٍ عن طريق إصدار طاقة خافتة جدًّا لا يمكن لمجساتنا الْتقاطها.

    • الأقزام البيضاء، والنجوم النيوترونية، والثقوب السوداء، وهي بقايا لنجوم كانت تُوجَد سابقًا بكُتَل صغيرة، ومتوسطة، وكبيرة وتبعث إشعاعًا ضئيلًا جدًّا لا يمكن الْتقاطُه (أو لا تبعث شيئًا، كما هو الحال في الثقوب السوداء).

تتضمن الجهود الحالية للكشف عن أجرام الهالات الهائلة المُنضغطة عملية إحناء الضوء بفعل الجاذبية، التي ينثني فيها الضوء القادم من النجوم البعيدة بسبب وجود أحد هذه الأجرام مما يكشف عن وجوده بشكلٍ غير مباشر. تفترض نتائج التجارب على درب التبانة أن هناك القليل من هذه الأجرام في المناطق الخارجية لهالة المجرة، وهو ما لا يكفي لتفسير الكم الهائل من المادة المُظلمة الموجودة.

المادة المظلمة غير الباريونية

تتكون المادة المُظلمة غير الباريونية من جسيمات ليست من بين المجموعة المعروفة للجسيمات الأساسية التي لها كتلة. وقد تكون المادة المُظلمة غير الباريونية باردةً أو حارة.

  • المادة المُظلمة الباردة: تتكوَّن هذه المادة من جسيمات هائلة بطيئة الحركة. وقد أطلق على هذه الجسيمات اسم «الجسيمات الهائلة الضعيفة التفاعل». ولم يتم التوصل إلى دليل تجريبي على وجودها، لكن افتُرض وجود بعضها كجزءٍ من النظريات عن كيفية حصول الجسيمات الأساسية على كُتلتها (انظر الفصل الثاني). ربما تتكوَّن المادة المُظلمة الباردة من:
    • الفوتينوات، وهي تُعد نظائر فائقة للفوتونات، وكتلتها تساوي من ١٠ إلى ١٠٠ مرة كتلة البروتونات.

    • الأكسيونات، وهي جُسيمات افتراضية افترضت لتفسير نقصِ خاصية مُعينة في النيوترون وأيضًا لتفسير تناقُضات ملاحظة في الكون.

    • أجزاء الكواركات، وهي تركيبات غير عادية لم تُرصَد حتى الآن من الكواركات الستة (انظر الفصل الثاني).

  • المادة المُظلمة الحارة: تتكون هذه المادة من جسيمات قليلة الكتلة سريعة الحركة جدًّا. إن النيوترينو هو المرشح الأكثر احتمالًا لأن يُمثل المادة المظلمة الحارة. فقد كان من المُعتقد أن كتلة النيوتريونات هي صفر، ولكن تشير التجارب الأخيرة ضمنًا إلى أنها ربما تحتوي على كتلة صغيرة. ومع احتمال وجود نيوترينوات كثيرة في الكون فمن المُرجَّح أن كُتلتها الكلية صغيرة جدًّا لدرجة أنها لا تؤثر على مشكلة المادة المُظلمة بشكلٍ ملحوظ.

سوء فهم الجاذبية

لا تزال المجرات تُرى كما لو أنها مجموعة من الجسيمات التي تخضع لقوانين نيوتن. ومع أن نظرية الجاذبية صمدت أمام جميع الاختبارات التجريبية حتى الآن فالتجارب الجديدة قد تكشف ضرورة تعديل المسافات بين المجرات.

التنبؤ بمستقبل الكون

في حين يبدو بوضوح أن مشكلة المادة المُظلمة بالِغة ومُستعصية، فإنها ليست أكبر المشاكل التي تواجِه علم الفلك اليوم. فقد نشأت هذه المشكلة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي حينما كان علماء علم الكون يبحثون التطوُّر الشامل للكون من منظور نظري. وبالنظر إلى نمو الكون من حيث الشكل الملاحظ، نُلاحظ وجود احتمالات مختلفة عديدة لتطور الكون بأكمله من حيث المكان والزمان (انظر شكل ٦-١٢).
fig66
شكل ٦-١٢: المسافة بين المجرات في الكون كدالَّةٍ للزمن.

من الطرق البسيطة لمقارنة حركة الكون هي أن تقذف كرةً في الهواء هنا على الأرض. إذا قذفتها بسرعة جدًّا فإنها سترتفع عاليًا في الهواء، ثم تتوقَّف للحظة، ثم تعود إلى يدِك مرة أخرى. هذه الحالة ستحدُث إذا كان الكون مُغلقًا. والسبب في عودة الكرة هو أن قوة الجاذبية الناتجة عن كتلة الأرض تكفي لجذب الكرة مرةً أخرى. والآن اقذف الكرة نفسها بالطريقة نفسها وأنت واقف على كويكبٍ صغير. لو كان الكويكب صغيرًا بالدرجة الكافية، فإن الكرة يُمكن أن تُسرع وتفلت من مجال جاذبية الكويكب ولا تعود مُطلقًا. هذه الحالة ستحدُث إذا كان الكون مفتوحًا. إذا وقفَتْ على جُرمٍ ما له كتلة مناسبة فستصل الكرة لمسافة لانهائية بسرعةٍ صفرية، وهذا سيحدث في الكون الحرج.

وهكذا، على نحوٍ ما، يبدو أن التساؤل الذي يدور حول التطور الشامل للكون قد أوصلنا إلى هذا التساؤل: هل كتلة الكون كافية لإيقاف تمدُّد الكون أم لا؟ إن هذا التساؤل يُمكن أن يجعل المُحدِّد الرئيسي لتطوُّر الكون هو كثافته الكلية للكتلة والطاقة. لا بدَّ من وجود كلٍّ من الكتلة والطاقة لأنهما قابلتان للتحويل فيما بينهما وفقًا لمعادلة أينشتاين الشهيرة الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء). (انظر الفصل الثاني.)

يُعَبَّر عادة عن كثافة المادة/الطاقة كنسبةٍ لكثافة المادة/الطاقة القريبة من قيمة مُعينة (الكثافة الحرجة)، ويُطلَق على هذه النسبة اسم أوميجا. وعندما تكون أوميجا هي ١ بالضبط، تكون قيمة كثافة المادة/الطاقة هي بالضبط قيمة الكثافة الحرجة، وهذا يُشير إلى أنَّ تمدُّد الكون عند معدل انخفاض قليلًا، نحو مسافة لانهائية في زمنٍ لانهائي، وهذه هي النقطة التي لن يتمدَّد أو ينكمِش عندها الكون مرة أخرى. وهذه الحالة يُطلَق عليها «الكون ذو الكثافة الحرجة». إذا كان وجود الكتلة يُحدد هندسة الزمكان فإن الكثافة الحرجة تتطابق مع الكون المُسطح. وفي الكون المسطح تظلُّ الخطوط المُتوازية متوازيةً ويُمثل ذلك عائقًا أمام الهندسة الإقليدية.

عندما تكون أوميجا أكبر من واحد، فهذا يعني أن امتداد الكون تتباطأ وتيرتُه بشكلٍ أسرع، وأن حجم الكون سيقف عند حدٍّ مُعين، ثم يعكس اتجاهه وفي النهاية يتحطم، وهذا يؤدي إلى ما يُسمى بالانسحاق العظيم. وهذه الحالة تُسمَّى بالكون المُغلق. فالخطوط التي تبدأ متوازيةً يُمكن أن تتلاقى في هذه الحالة غير الإقليدية.

أما إذا كانت أوميجا أقلَّ من واحد فهذا يدل على أن الكون سيتمدَّد إلى الأبد، بمعدل تمدُّد يتناقص قليلًا مع الوقت. هذه الحالة هي الكون المفتوح. تتباعد الخطوط المتوازية في هذه الهندسة غير الإقليدية.

واستنادًا على علاقة المادة/الطاقة المرئية فإن أوميجا أقل من واحدٍ بكثيرٍ مما يدل على أن الكون مفتوح. والتقديرات الحالية لكمية المادة المُظلمة في الكون تُضيف كتلةً أكبر، ولكن المجموع ما زال لا يصل إلى الكثافة الحرجة. واستنادًا على المادة المرئية والمُظلمة فإن الكون يكون مفتوحًا، بصرف النظر عن التفاصيل التي قد تخرج بها المادة المُظلمة. ترى هل انتهت القضية عند هذا الحد؟ لا بالطبع.

ملاحظة ما لم يكن في الحسبان: زيادة سرعة تمدُّد الكون

في أوائل التسعينيات من القرن الماضي سعت مجموعتان مُنفصلتان من العلماء لملاحظة وقياس المُستعرات الفائقة (السوبرنوفا) البعيدة (انظر الفصل الثالث) مُتوقِّعين تحديد سرعة تباطؤ الكون عن طريق إيجاد معدل التمدُّد الكوني في وقت سابق ومقارنته بمعدل التمدُّد الحالي، الذي افترضوا أنه أبطأ من ذي قبل. لكن ما وجدوه لم يكن تباطؤًا على الإطلاق. فالنتائج أظهرت العكس تمامًا وهو زيادة سرعة تمدُّد الكون. كان العلماء مُندهِشين لدرجة أنهم حلَّلوا النتائج مراتٍ عديدة قبل إعلانها وهذا لكي يتأكدوا من عدم وجود أي أخطاء.

قبل أن نفحص هذه البيانات دعنا نتصوَّر المشهد الذي كانوا يُحاولون إنجازه. تذكر أن الصعوبة التي واجهت هابل في تحديد المسافات إلى المجرات البعيدة كانت مرتكزةً على حقيقة أن نجوم سيفيد المُتغيرة في المجرات البعيدة كانت خافتةً جدًّا. يبدو من المعقول أن الطريق الأمثل هو إيجاد أجرامٍ أكثر بريقًا ذات درجة سطوع معروفة ثم تحديد المسافات إليها طبقًا لسطوعها النسبي. ومع أن المُستعرات الفائقة شديدة البريق فإن سطوعها يعتمد على كُتلتها. مع ذلك يتضمَّن نوع مُعين من المُستعرات الفائقة نجمًا له كتلة ثابتة وبالتالي درجة سطوع معروفة. يظهر هذا النجم عندما يتلقى أحد الأقزام البيضاء كتلةً من نجم رفيق، وتتخطى هذه الكتلة حدَّ الكتلة المعروف للقزم الأبيض (١٫٤ مرة كتلة الشمس).

وهنا ينفجر القزم الأبيض تمامًا فيما يُسمَّى بالنوع وان إيه Ia من المُستعرات الفائقة. وبسبب سطوعه الشديد فإن هذا النوع تسهُل ملاحظته في المجرات البعيدة. ودائمًا ما ينفجر بنفس درجة السطوع المُطلقة، وبالتالي يمكن تحديد المسافة إليه عن طريق قياس سطوعه الواضح. فكلما كان المُستعر الفائق أكثر خفوتًا كان أبعد. ومن الصعوبات التي تواجِه هذه الطريقة أن هذا النوع من المُستعرات الفائقة يظلُّ قرب ذروة سطوعه لمدة أسابيع قليلة فقط.
fig67

في عام ١٩٩٨ حلَّل المشروع الكوني للمستعرات الفائقة — في معمل لورانس بيركلي الوطني بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وفريق المُستعرات الفائقة العالية الإزاحة (وهو تحالف دولي) — مُستعرات فائقة مُختلفة من النوع وان إيه قرب ذروة سطوعها، وحددوا المسافة إليها. وباستخدام تقنية إزاحة دوبلر التي ابتكرها فيستو سلايفر حددوا الإزاحات الحمراء للمجرات التي تُوجَد بها المُستعرات الفائقة وقارنوها بعلاقة هابل. أوضحت القياسات أن المُستعرات الفائقة البعيدة هذه كانت خافتةً أكثر بشكلٍ كبير مما توقَّعت علاقة هابل. وبما أن الضوء وصل إلينا من هذه الأحداث في مدة تتراوح من ٤ إلى ٨ مليارات سنة، فإن القياسات تدلُّ على أن الكون يتمدَّد بسرعة أكبر في الوقت الحالي عما كان في الماضي. بمعنًى آخر «يتزايد» معدل تمدُّد الكون.

في السنة التالية، اكْتُشِفَ مُستعر فائق أبعد. واتضح أنه أبعد مُستعر فائق لوحظ حتى الآن، وأن ضوءه بدأ منذ ١١ مليار سنة. كان أشدَّ سطوعًا مما نتوقَّع. ولهذا فمنذ ١١ مليار سنة، من المؤكد أن معدل تمدُّد الكون كان بطيئًا نتيجة للجاذبية. ولكن بعد ذلك منذ ٤ إلى ٨ مليارات سنة بدأ تمدُّد الكون في التسارع وبدأت المجرات في الانفصال بمعدل أسرع جدًّا من ذي قبل.

النتيجة المُهمة لهذا القياس هي أن السبب وراء سرعة تمدُّد الكون الآن كان أقل أهميةً أو حتى غير موجود في المراحل الأولى للكون. ولقد أصبح مهمًّا عند منتصف طريق تمدد الكون تقريبًا، ومنذ ذلك الحين باتَ مُهيمنًا. هذا الموقف يُشبه سائقًا يُقلل السرعة عندما يقترب من إشارة مرور حمراء، ثم يضغط على دوَّاسة الوقود عندما تتحوَّل الإشارة إلى الضوء الأخضر.

غموض الطاقة المظلمة

ما هو سبب هذه السرعة الكونية؟ نحن لا نعرف بالضبط، ولكننا مع ذلك أطلقنا عليه اسمًا بالفعل. نحن لم نرَ من قبل الكتلة/الطاقة المفقودة، ولذا فهي مُظلمة. وبما أنها تعمل عكس الجاذبية فلا يمكن أن تكون لها كتلة بالمفهوم العادي. ولذا أطلق عليها عالم الفيزياء الفلكية والأستاذ بجامعة شيكاغو مايكل تيرنر اسم «الطاقة المُظلمة» عام ١٩٩٩.

بفضل مجموعة من التجارب أُجريت من منظورٍ مختلف تمامًا، فقد حصلنا على تقديرٍ عن كمية هذه الطاقة المظلمة المجهولة، مع أننا لا نعرف «ماهيتها» بالضبط. أُجريت الكثير من التجارب المختلفة للوقوف على الخصائص الهندسية العامة للفضاء لتحديد ما إذا كان الكون مفتوحًا أم مسطحًا أم مغلقًا. إن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي الذي يملأ الكون بأكمله هو ما تبقَّى من الانفجار الكبير الأصلي. فخلال اﻟ ٤٠٠ ألف سنة الأولى بعد الانفجار الكبير كان الكون المُبكر لا يزال ساخنًا جدًّا لدرجة أنه كان مانعًا للإشعاع الكهرومغناطيسي. ثم بَرُدَ بما فيه الكفاية، وبدأ الإشعاع في الانبعاث. خلال تلك السنوات الأربعمائة ألف، كان يمكن للإشعاع أن يقطع مسافةً محدودة فقط، ولذلك فإن أي تغيراتٍ فيه كانت محدودة الحجم. مع ذلك فإن تغيُّرات الإشعاع أثناء انبعاثه منذ ذلك الحين يمكن أن تتشوَّه بسبب الانحناء العام للفضاء. وقياس حجم تغيرات درجة الحرارة الطفيفة في خلال هذا الإشعاع يمكِّننا من تحديد الانحناء العام للفضاء. لقد استخدمت مناطيد عالية الارتفاع ومجسٌّ موضوعٌ في أعلى محطة الأرصاد الجوية في القطب الجنوبي لقياس تلك التغيرات. وقد حللت المشروعات بوميرانج BOOMERANG وMAXIMA وDASI تلك التغيرات وقررت أن الهندسة العامة للكون مسطحة؛ أي أن أوميجا تساوي ١ بهامش خطأ ±٤٪ (انظر شكل ٦-١٣).
fig68
شكل ٦-١٣: تغيرات إشعاع الخلفية الكونية الميكروي تُحدد الانحناء العام للفضاء. يعرض الشكل بالأعلى البيانات التجريبية، وتعرض الأشكال بالأسفل تنبؤات الاحتمالات الثلاثة باستخدام منظورٍ ثنائي الأبعاد لانحناء الزمكان. وهي من اليسار لليمين على النحو التالي: مغلق – مسطح – مفتوح. وقد أوضحت البيانات أن تنبؤ الكون المسطح هو أكثر هذه التنبؤات دقة.

إن أوميجا الكون المُسطح تساوي ١، ولهذا فإن كثافة الكتلة/الطاقة لا بد أن تساوي القيمة الحرجة بالضبط. وبما أن المادة العادية والمادة المُظلمة تُشكِّلان معًا حوالي ٢٧٪ من الكثافة الحرجة للكتلة/الطاقة، ومن أجل أن تكون الهندسة العامة للكون مسطحة فإن نسبة اﻟ ٧٣٪ المُتبقِّية لا بد أن تكون طاقة مُظلمة. تتركنا هذه النظرية في موقفٍ غريب نكون من خلاله قادرين على تقدير كمية الطاقة المظلمة، ولكننا في الوقت نفسه غير قادرين إطلاقًا على معرفة طبيعتها.

وإليكم الصورة التي تُقدمها هذه البيانات: بعد التضخم الأوَّلي للكون نقص معدل تمدد الكون بسبب وجود المادة (العادية والمظلمة). لم تكن الطاقة المظلمة مُهمة في المراحل الأولى، ولا بد أنها كانت موزعة بسلاسةٍ لدرجة أنها لم تتدخل في تكوين المجرات ومجموعات المجرات. ثم بعد ملياراتٍ من السنين بدأت الطاقة المظلمة في السيطرة، وإنتاج ضغطٍ سلبي، مضاد للجاذبية ومُتسبب في زيادة سرعة تمدد الكون. في الوقت الحاضر تُعد الطاقة المظلمة أقوى بقليلٍ من الجاذبية. ولكن في الوقت الذي يتمدد فيه الكون بشكلٍ أسرع فإن المسافات المتزايدة ستُضعف من تأثير الجاذبية أكثر. وستُصبح الطاقة المظلمة أكثر هيمنةً بكثير على المدى البعيد، مما يؤدي إلى زيادة سرعة تمدُّد الكون.

حل اللغز: أين ومتى وكيف ومَن؟

من وجهة نظر نظرية هناك طرق عديدة يمكن من خلالها تفسير الطاقة المظلمة:

  • إعادة تقديم الثابت الكوني لأينشتاين. سيكون أمرًا يدعو إلى السخرية أن يتضح بعد كل ذلك أن ما دعاه أينشتاين «حماقة حياته الكبرى» هو في الحقيقة أمر ضروري ومُهم. غير أن ثابتًا كونيًّا ذا حجمٍ صحيح يمكنه أن يوفر الضغط السلبي الذي يمكن أن يسمح بزيادة سرعة تمدُّد الكون، بالتوافق مع النتائج التجريبية. لكن إذا كان الثابت الكوني يمثل طاقة نقطة الصفر الكامنة في الفراغ (وهي فكرة نظرية من ميكانيكا الكم مُتعلقة بمبدأ عدم اليقين لهايزنبرج) فحجمُه حينئذٍ سيكون أكبر بمقدار ١٢٠ مرة مما هو عليه ومن ثم يجب بطريقةٍ ما أن يُعدل إلى أقل من ذلك.
  • إضافة حدٍّ زمني مُتغير إلى معادلات المجال لأينشتاين. إذا تغيرت كميةٌ ما في معادلات أينشتاين مع الوقت فربما يفسر ذلك عدم أهمية الطاقة المظلمة النسبية في المراحل الأولى لتكوين الكون ثم هيمنتها بعد ذلك. ومع أن المنظرين يفضلون في الأساس المعادلات البسيطة التي تتمتع بأقل عددٍ ممكن من المعاملات القابلة للتغيير، فإن هذه الإمكانية الأقل وجاهةً يجب أن تؤخَذ في الاعتبار.
  • افتراض وجود تغير زمني في الكميات الأساسية التي كان يفترض سابقًا أنها ثابتة. ربما تكون قد تغيرت قيمة سرعة الضوء أو ثابت الجاذبية مع مرور الوقت. هناك أبحاث تدور حول هذه الاحتمالات، ولكن النتائج بطيئة جدًّا، كما أنها مثيرة للجدل.
  • إضافة تفاعل خامس لم يُكتشَف بَعد. هذا التفاعل يُسمَّى الجوهر quintessence، ويُعَبَّر عنه بمجال من الطاقة السالبة غير المرصود بعد، يتخلل الفضاء كله. هناك فكرة ذات صلة وهي المجال الدوَّار، ويشار إليها بالاسم spintessence.
  • افتراض وجود جُسيمات افتراضية تُسمى أكسيونات. إذا كانت الأكسيونات موجودة، فربما تتحول الفوتونات إلى أكسيونات ثم تعود إلى فوتونات مرةً أخرى مُسبِّبة تبايُنات في السطوع النجمي. هناك إمكانية أخرى وهي أن الأكسيونات قد تربط المادة المُظلمة بالطاقة المُظلمة بطريقةٍ ما. والأكسيونات هي جسيمات غريبة ربما تكون مرتبطةً بمشكلة كيفية حصول الجسيمات في الكون على كتلتها (انظر الفصل الثاني).
  • تدبر احتمال وجود أكوان متعددة. ربما سمحت الرغوة الكمية بنشأة الكثير من الأكوان، ونحن نوجَد في أحد هذه الأكوان العديدة. ربما تحتوي الأكوان الأخرى على قوى طاقة مختلفة أو ثوابت مختلفة، أو قوانين فيزيائية مختلفة تمامًا. يمتلك كوننا الحياة، وهذا هو سِر قدرتنا على تأمُّل طبيعة الكون.
  • التكهُّن بوجود تصادمات بين الغشاء الذي يحوي كوننا والأغشية التي تحوي الأكوان الأخرى. إذا اتضحت صحة إحدى النظريات التي تدور حول مصدر كُتل الجسيمات (انظر الفصل الثاني) والتي تتطلَّب أبعادًا متعددة غير محسوسة، فربما أن الغشاء الذي يُوجَد فيه كوننا يتفاعل مع الأغشية الأخرى من خلال الجاذبية. ومن ثم فقد تتصادم الأغشية مما سيجعلنا نُراجِع جميع النظريات السابقة التي تدور حول تطوُّر الكون.

أين ومتى وكيف؟

إضافة إلى الجهود النظرية فقد صُمِّمَت تجارب مُتعددة لتوضيح طبيعة ومدى الطاقة المُظلمة والمادة المظلمة.

  • تلسكوب جيمس ويب الفضائي. من المُقرر أن يُستبدل بحلول عام ٢٠١٠ بتلسكوب هابل الفضائي تلسكوب آخر في الفضاء مُعزز بقدرات كبيرة. بالأخذ في الاعتبار نجاح تلسكوب هابل الفضائي، فإن استبداله يجب أن يُنتج كمية هائلة من البيانات.
  • قمر بلانك الصناعي. تُخطط وكالة الفضاء الأوروبية لإطلاق قمر صناعي للقيام بقياسات أكثر دقة للتقلُّبات في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي من القياسات الموجودة حاليًّا. ومن أن يُطلَق هذا القمر في بداية عام ٢٠٠٧.
  • مسح سلون الرقمي للسماء. هذا المشروع الطموح قائم بالفعل، ويستخدم تلسكوبًا مُخصصًا يبلغ قطره ٢٫٥ متر لتخطيط موقع المجرات في أحد أرباع السماء بأكملها. تتضمَّن هذه الخطة أكثر من ١٠٠ مليون مجرة.
  • مشروع مسبار المُستعرات الفائقة/التسارع. يُخطط هذا المشروع لإطلاق تلسكوبٍ في الفضاء قادر على قياس ألفي مُستعر فائق من النوع وان إيه في السنة وذلك لمدة ثلاث سنوات. وعلى الرغم من أنه لا يزال في مراحله الأولى، فإنه قد يبدأ في بداية عام ٢٠٠٦.
  • مسح الإزاحة الحمراء المجرِّية بمجال ذي درجتَين. هذا هو أحد مشروعات التلسكوب الأنجلو-أسترالي في مرصد سايدنج سبرنج في ولاية نيو ساوث ويلز بأستراليا. ستُمْسَح الإزاحات الحمراء والأطياف لأكثر من ٢٥٠ ألف مجرة باستخدام تلسكوب قطره ٣٫٩ متر. يجري هذا المسح حاليًّا، ويجري إصدار تحديثات دورية عنه على شبكة الويب على الموقع التالي: www.aao.gov.au/2df/.

مَن؟

في مارس عام ٢٠٠٠ شكلت الأكاديمية الوطنية للعلوم لجنة فيزياء الكون. كُلِّفت هذه اللجنة بمهمة تقييم المجال العلمي المشترك بين الفيزياء وعلم الفلك وإمدادنا برؤية واسعة تتخطى التصنيفات التقليدية، واستكشفت فرصًا علمية جديدة مُرتبطة بكلا المجالَين. أكد تقريرها على «الارتباطات القوية … بين الكواركات والكون» وأوصت بوجود «مبادرة بين الوكالات حول فيزياء الكون بمشاركة وزارة الطاقة الأمريكية، ووكالة ناسا، والمؤسسة الوطنية للعلوم».

إن أعضاء اللجنة الخاصة بفيزياء الكون والأشخاص الآخرين الذين يُمكنهم المساعدة في إحراز تقدُّم نحو الحل هم:
  • مايكل تيرنر، جامعة شيكاغو (رئيسًا).

  • روجر دي بلاندفورد، معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.

  • ساندرا إم فابر، جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز.

  • توماس كيه جيسور، جامعة ديلاوير.

  • فيونا هاريسون، معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.

  • جون بي هاكرا، جامعة هارفارد.

  • هيلين آر كوين، مركز مسرع ستانفورد الخطِّي.

  • آر جي هاميش روبرتسون، جامعة واشنطن.

  • برنار سادوليه، جامعة كاليفورنيا، بيركلي.

  • فرانك جيه سكولي، جامعة كولومبيا.

  • ديفيد إن سبيرجل، جامعة برينستون.

  • جيه أنتوني تايسون، شركة لوسنت تكنولوجيز.

  • فرانك إيه ويلتشيك، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

  • كليفورد ويل، جامعة واشنطن.

  • بروس دي وينشتين، جامعة شيكاغو.

  • بي جيه إي بيبلز.

  • جون باكول.

  • جيرمي أوستريكر.

  • إي دبليو «روكي» كولب.

إن الكون يُشبه هدية جلبها أحد الأشخاص إلى حفلة. والهدية غامضة إلى حدٍّ ما وملفوفة في ورق داكن، ولكنها مُزينة بأشرطة لامعة تتمتع بألوانٍ ورسومات وأشكال مبهجة.

لقد كنا مُنساقين بشدة وراء الأشرطة المُبهرة للمادة المرئية للكون لدرجة أننا لا نزال نجهل الكثير عن المادة المظلمة والطاقة المظلمة.

لقد بدأنا لتوِّنا في هزِّ هذا الصندوق.

كيف سيكون الصوت الناتج؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥