المشهد الأول
(روما – أمام الكابيتول.)
(أصوات نفير – يدخل قيصر وبروتس وكاشياس وكاسكا وديشيوس
وميتيلوس وتريبونيوس وسِنَّا وأنطونيو ولبيدوس وأرتميدوروس وبوبيليوس
والعرَّاف.)
قيصر
:
ها قد حلَّ منتصفُ مارس.
العرَّاف
:
ولكنه لم يرحل بعدُ يا قيصر!
أرتميدوروس
:
السلامُ على قيصر! هل يسمح بقراءةِ هذه الورقة.
ديشيوس
(متدخلًا لصرفِ نظرِ قيصر)
:
يرجو تريبونيوس منك
أن تقرأ في وقتِ فراغك هذا الالتماسَ المتواضع. (٥)
أرتميدوروس
:
أرجوك يا قيصرُ أن تقرأ ورقتي أوَّلًا،
فإن التماسي يمَسُّ قيصر مباشرةً .. اقرأها يا قيصر
العظيم!
قيصر
:
ما يمَسُّ شخصنا يأتي آخرًا.
أرتميدوروس
:
لا تؤجِّلها يا قيصرُ، بل اقرأها فورًا.
قيصر
:
عجبًا! هل الرجلُ مجنون؟
بوبليوس
:
أيها الرجل .. أفسحِ الطريق. (١٠)
كاسكا
:
هل تتقدَّمون بطلباتكم في الشارع؟
قدِّموها في الكابيتول!
(يدخل قيصر مجلس الشيوخ ويتبعه الجميع.)
بوبيليوس
:
أرجو لكم التوفيقَ في مسعاكم اليوم.
كاشياس
:
أيُّ مسعًى يا بوبيليوس؟
بوبيليوس
:
وداعًا.
(يتركه ويلتحق بحاشية قيصر.)
بروتس
:
ماذا قال «بوبيليوس لينا»؟ (١٥)
كاشياس
:
إنه يرجو لنا التوفيقَ اليوم في مسعانا،
أخشى أن يكون هدفنا قد انكشف.
بروتس
:
انظر إنه يقترب من قيصر .. راقبْه جَيِّدًا.
كاشياس
:
كاسكا .. فلنفاجئه .. إذ أخشى وقوعَ ما يمنعنا ..
بروتس .. ماذا سنفعل؟ إذا انكشف أمرُنا (٢٠)
فإمَّا أن يموت قيصرُ أو أموت أنا ..
سوف أنتحر هنا.
بروتس
:
تماسكْ يا كاشياس!
إن «بوبيليوس لينا» لا يتحدث عن أهدافنا؛
فهو كما ترى يبتسم، ولا يبدو أن قيصر قد تأثَّر
بكلامه.
كاشياس
:
إن تريبونيوس سينفِّذ مهمَّته في الوقت المحدَّد .. (٢٥)
انظر يا بروتس .. لقد اصطحب مارك أنطونيو وخرج
معه
حتى يُخليَ لنا السبيل.
(يخرج تريبونيوس وأنطونيو.)
ديشيوس
:
أين ميتيلوس سمبر؟ فليتقدمْ بالتماسِه فورًا إلى قيصر.
بروتس
:
إنه متأهبٌ لذلك، فاذهبوا إليه وسانِدوه.
سِنَّا
:
كاسكا .. تذكَّر أنك ستكون أولَ مَن يرفع يده. (٣٠)
قيصر
:
أنحن جميعًا على استعداد؟ ما هي المظالمُ التي سيعمل
قيصرُ
ومجلسُ شيوخه على رفعها؟
ميتيلوس
:
قيصر العظيم، يا ربَّ القوة والبطش والجبروت!
إن ميتيلوس سمبر يُلقي أمامَ عرشك قلبًا خاشعًا!
(يركع.)
قيصر
:
إني أمنعك يا سمبر .. (٣٥)
إن هذا الخنوع وذاك الخضوع الوضيع
قد يُلهب دمَ الرجال العاديين
ويحوِّل القوانين الساريةَ والأحكام الماضية
إلى لهو أطفال. لا تكُن أبلهَ فتتصور أن قيصر
ذو طبع هوائي متقلب، يذيبه ما يذيب قلوبَ الحمقى (٤٠)
فيبتعد به عن طبيعته .. وأعني بذلك الكلمات المعسولةَ
والانحناءات الذليلة، وبصبصةَ الكلاب الحقيرة!
لقد صدر المرسومُ بنفي أخيك ونفَذ ..
فإذا انحنيتَ وابتهلتَ وداهنتَ حتى تغيِّره (٤٥)
فسوف أركلُك كالكلب من طريقي.
واعلمْ أن قيصر ليس بظالم
ولا يرضى بحُكمٍ يفتقر إلى الدليل الساطع.
ميتيلوس
:
أمَّا من صوتٍ أكرمَ من صوتي
وأحلى وقعًا في أذنِ قيصر العظيم (٥٠)
يستطيع إعادةَ أخي من منفاه؟
بروتس
:
ها أنا ذا أقبِّل يدَك .. لا تملقًا لك يا قيصر ..
ولكنْ كي تسمح لبوبليوس سمبر بالعودة من منفاه
فورًا.
قيصر
:
ماذا تقول يا بروتس؟
كاشياس
:
غفرانَك قيصرُ! يا قيصرُ غفرانك! (٥٥)
إنَّ كاشياس يخِرُّ على قدميه ساجدًا
يلتمس العفوَ لبوبليوس سمبر!
قيصر
:
لو أني مثلُكم لتأثرتُ بكلامكم ..
لو كنتُ أتوسَّل إلى الناسِ أن يغيِّروا آراءهم
لنجحَ توسُّلكم في تغيير رأيي ..
ولكني ثابتٌ كالنجم القطبي (٦٠)
لا يُضارعه نجمٌ في السماء
في رسوخه وثبات موقعه.
إن السموات مرصعةٌ بما لا يُحصَى من النجوم
المتلألئة،
كلها من النار، وكلها يسطع
ولكنَّ نجمًا واحدًا بينها لا يغيِّر مكانه .. (٦٥)
وهكذا شأنُ الأرض .. إنها حافلةٌ بالرجال،
والرجالُ من لحمٍ ودم، ولهم عقول!
لكنني لا أعرف منهم إلا واحدًا
لا يتزحزح عن موقعه ولا تنفُذ إليه السهام
ولا يهُزُّه ما يهزُّ الناس، وهو أنا. (٧٠)
فلأثْبِت لكم ذلك، ولو في هذا الحادثِ الصغير،
فلقد قرَّ رأيي على نفي سمبر،
وما زال رأيي أن يظلَّ في منفاه.
سِنَّا
:
رُحماك قيصر!
قيصر
:
ابتعدْ عني! هل تستطيع أن ترفعَ جبل الأوليمب؟
ديشيوس
:
رحماك قيصر المعظَّم!
قيصر
:
أوَلَمْ يركع بروتس عبثًا؟ (٧٥)
كاسكا
:
فلتخاطِبْكَ يداي إذن!
(يطعنون قيصر، فيسقط ويسلم الروح.)
قيصر
:
حتى أنت يا بروتس؟ اسقُط إذن يا قيصر!
سِنَّا
:
الخلاص! الحرية! مات الطغيان!
انطلِقوا من هنا فأعلِنوا ذلك بأعلى أصواتِكم في
الشوارع!
كاشياس
:
فليذهبِ البعض إلى المنابر العامة وليهتف: (٨٠)
الخلاص! الحرية! الانطلاق!
بروتس
:
أيها الناس! يا أعضاءَ مجلس الشيوخ! لا تخافوا!
لا تفِرُّوا! اصبروا قليلًا واسمعوني:
لقد دفع الرجلُ ثَمن طموحه!
كاسكا
:
اذهبْ إلى المِنبرِ يا بروتس.
ديشيوس
:
وليذهبْ كاشياس أيضًا.
بروتس
:
أين بوبيليوس؟ (٨٥)
سِنَّا
:
هذا هو .. ولكنه مذهول لهولِ ما حدث!
ميتيلوس
:
قِفوا صفًّا واحدًا .. كي لا يأتي بعضُ أصدقاء قيصر ..
وربما نالوا منكم.
بروتس
:
لا تذكرِ الوقوفَ الآن. لا تبتئِس ولا تخفْ
يا بوبيليوس ..
لا يبغي أحدٌ إيذاءك أو إيذاءَ أيِّ روماني آخر .. (٩٠)
قُل لهم ذلك يا بوبيليوس.
كاشياس
:
انصرفِ الآن يا بوبيليوس؛ إذ ربما اندفع الناسُ نحونا،
وربما أصابوك بسوء وأنت شيخ هرِم.
بروتس
:
انصرفْ يا بوبيليوس، حتى لا يتحمل مسئوليةَ عملِنا
أحدٌ غيرنا. (٩٥)
(يدخل تريبونيوس.)
كاشياس
:
أين أنطونيو؟
تريبونيوس
:
عاد إلى منزله في ذهول.
بل إنَّ الرجالَ والنساء والأطفال في هلع ..
إنهم يحملِقون ويصيحون ويجْرُون
كأنَّ القيامة قامت!
بروتس
:
أيتها الأقدار .. إننا لا نعرف بعدُ ما رسَمْتِ لنا!
فأمَّا أننا سنموت فأمرٌ نعرفه ..
وأمَّا انتظارُ الأجل على امتدادِ العمر .. فهو الذي يقلِق
(١٠٠)
الإنسان!
كاسكا
:
إذن فمَن يختزل من عمرِه عشرين عامًا
يكون قد تحرَّر من خشيةِ الموت عشرين عامًا كاملة!
بروتس
:
إذا سلَّمنا بهذا كان الموتُ نعمة!
وعلى ذلك نكونُ قد أسديْنا خدمةً لقيصر
إذ اختزلنا الزمنَ الذي يقضيه في خشيةِ الموت! (١٠٥)
انحَنُوا أيها الرومان! انحَنُوا ولنغسلْ أيدينا في دم قيصر
حتى المرافق. ولنخضِّب سيوفَنا بالدم ثم نخرج إلى
السوق.
فنلوِّح بأسلحتنا الحمراء فوق رءوسِنا جميعًا ولنَصِح:
«السلام والحرية والخلاص!» (١١٠)
كاشياس
:
انحَنُوا إذنْ واغتسلوا! تُرى كم من الزمنِ سيمضي
قبل أن يُعادَ تمثيلُ هذا المشهد الجليل
في دولٍ لم تُولد بعد، وبلغاتٍ لا نعرفُها؟!
بروتس
:
بل كم مرة سيُقدَّم فيها قيصرُ على المسرح
وهو ينزف دمَه .. تمثيلًا لا واقعًا ..
بينما يتمدَّد الآن هنا على قاعدة تمثال بومبي (١١٥)
جثةً لا تزيد عن التراب؟!
كاشياس
:
وكل مرة يُمثَّل فيها هذا المشهدُ
سيُقال إن عصبتَنا هي التي حرَّرت بلادها.
ديشيوس
:
هل نخرُج الآن؟
كاشياس
:
نعم، فليخرجِ الجميع .. وفي مقدِّمتنا بروتس،
وسوف نَتْبعه ونَزين موكِبَه (١٢٠)
بأشجع وأكرم قلوب عرفَتْها روما.
(يدخل خادم.)
بروتس
:
مهْلًا. مَن القادم؟ إنه خادم أنطونيو.
الخادم
:
أمرني سيِّدي يا بروتس أن أركعَ أمامك هكذا.
(يركع.)
هكذا أمرني مارك أنطونيو أن أجثوَ أمامك،
وأن أقولَ راكعًا: إن بروتس نبيل وحكيم وشجاع
وشريف (١٢٥)
وإنَّ قيصرَ كان قويًّا وجسورًا ومُهابًا وودودًا،
قُل إنني أحبُّ بروتس وإنني أُجلُّه،
وقُل إنني كنتُ أخشى قيصرَ وكنتُ أُجلُّه وكنت أحبُّه،
وإذا سمح بروتس لأنطونيو أن يأتيَه آمنًا على نفسه (١٣٠)
حتى يستمعَ منه إلى أسباب قتلِ قيصر ويقتنع بها
فسوف يرى بروتس أنَّ حبَّ أنطونيو له في حياته
يفوق حبَّه لقيصر بعد مماته.
بل إنه سيسير في رَكْب بروتس النبيل
فيشاركه ما تأتي به المقادير (١٣٥)
ومخاطر الطريق الذي لم تطَأه قدمٌ بعدُ
بكل إخلاص ووفاء.
هذا ما يقوله مولاي أنطونيو!
بروتس
:
مولاك رومانيٌّ حكيم وشجاع.
لم يتغيَّر رأيي فيه يومًا ما ..
قُل له أن يتفضَّل بالحضور إلى هذا المكان (١٤٠)
حتى أقدِّم له من الأسباب ما يقنعه ويُرضيه،
وقسمًا بشرفي لينصرفنَّ سالمًا آمنًا.
الخادم
:
سأُحضِره على الفور.
(يخرج الخادم.)
بروتس
:
أنا واثقٌ أنه سيكون لنا نعمَ الصديق.
كاشياس
:
أرجو ذلك، ولكنَّ عقلي يخشاه كلَّ الخشية ..
ومخاوفي دائمًا ما تَصدُق — بكل أسف! (١٤٥)
(يدخل أنطونيو.)
بروتس
:
ها قد أتى أنطونيو .. مرحبًا يا مارك أنطونيو.
أنطونيو
:
أواهُ يا قيصرُ العظيم! هل ترقُد هذه الرِّقدةَ الوضيعة؟
هل انكمشتْ كلُّ الفتوحات والأمجاد والانتصارات
والمغانم،
وتضاءلتْ في هذه الرُّقعة من الأرض؟ وداعًا لك
يا قيصر! (١٥٠)
لا علم لي أيها السادة بنواياكم.
مَن تعتزمون أن تسفِكوا دمَه بعد ذلك،
أو مَن ترونه مريضًا يحتاج إلى فصدِ الدم!
أمَّا إنْ كنتُ أنا المقصود فلا أنسبَ لقتلي
من ساعة قتلِ قيصر! ولا سلاحَ قتلٍ كسيوفكم (١٥٥)
تلكَ التي كساها الشرفُ حين اكتستْ بأشرفِ دمٍ في
الوجود ..
إني أناشدكم إن كنتم تحمِلون لي ضغينةً
فاقضوا مأربَكم الآن .. وأيديكم الملطَّخة
ما زالت تفوح برائحة الدم ويتصاعد منها الدخان!
ولو عشتُ ألفَ سنة فلن أجدَ لحظةً أتمنى فيها الموت (١٦٠)
خيرًا من هذه اللحظة، ولا مكانًا يُرضيني
خيرًا من جيرةِ قيصر، ولا وسيلةَ قتلٍ خيرًا من
أيديكم —
يا صفوةَ هذا العصر وسادتَه الأخيار.
بروتس
:
لا يا أنطونيو! لا تطلُب الموت على أيدينا ..
إننا نبدو الآن ولا شك قساةً سفَّاكين للدماء (١٦٥)
فأيدينا تدُلُّك على ذلك .. وما فعلناه يقول لك
ذلك ..
ولكنك إن وقفتَ عند المظهرِ لم ترَ إلا أيديَنا والدمَ
المسفوك ..
أمَّا إذا اطَّلعْتَ على قلوبنا فسترى أنها عامرةٌ بالإشفاق —
فالإشفاق على روما من الظلم الذي وقع بها هو الذي (١٧٠)
فعل بقيصر ما فعل،
فإشفاقُنا على روما غلب إشفاقَنا على قيصر .. مثلما
تغلِب النارُ النارَ ..
أمَّا أنت يا أنطونيو فسيوفُنا إزاءك باردةٌ كالرصاص:
فأيدينا القادرةُ على البطش (١٧٥)
وقلوبُنا العامرة بالحب الأخوي تتلقاك بصفو المحبة
وحسنِ الظن والإجلال.
كاشياس
:
سيكون صوتُك مساويًا لأصواتنا
عند توزيعِ المناصبِ العليا الجديدة!
بروتس
:
اصبرْ وحسبْ حتى نُهَدِّئ من ثائرةِ الجمهور
الذي طاش صوابُه من الخوف (١٨٠)
وسوف نقدِّم لك الأسبابَ التي جعلتنا نسلُك هذا
المسلك
وجعلتني أوجِّه طعنتي إلى قيصر رغم حبي له!
أنطونيو
:
لا شكَّ عندي في حكمتكم ..
قدِّموا إليَّ أياديكم المخضَّبة بالدم ..
حتى أصافحَكم! (١٨٥)
فلأصافِحْك أوَّلًا يا ماركوس بروتس،
ثم أنت يا كاياس كاشياس،
ثم أنت يا ديشيوس بروتس، ثم أنت يا ميتيلوس،
وأنت يا سِنَّا، وأنت أيها المغوارُ كاسكا،
وأخيرًا وليس آخرًا في محبَّتي
أنت يا تريبونيوس الشريف!
أيها السادةُ جميعًا .. وا أسفاه .. ماذا عساي أقول؟ (١٩٠)
إنَّ سُمعتي الآن تتأرجح في الميزان،
فلا بد أن تتَّهموني تهمةً من تهمتين:
إمَّا بأنني جبانٌ أو بأنني منافق.
أمَّا أنني أحببتُك يا قيصر فلا شك في ذلك!
تُرى لو أطلَّتْ علينا روحُك الآن (١٩٥)
أفلن يُحزِنها أكثرَ من حزنها على الموت
أن تشاهد أنطونيو الذي أحببتَه يا أنبلَ إنسان
وهو يعقِد الصلحَ مع أعدائك
ويصافح أصابعَهم الدامية
على مشهدٍ من جثتك؟
ليتَ لي من العيون ما لديك من جِراح، (٢٠٠)
وليت الدمعَ يتدفَّق منها غزيرًا فياضًا مثل دمك،
فهذا أجدرُ بي من عقْدِ أواصر الصداقة مع أعدائك!
غُفرانك يوليوس! لقد استدرجَك الصيادون
إلى هذا الركنِ أيها
الوعلُ الشجاعُ فقتلوك!
فهنا سقطْتَ وهنا يقف صائدوك! (٢٠٥)
عليهم أماراتُ الفوزِ بالغنيمة،
وأيديهم مخضَّبة من نهر دماك!
أيتها الدنيا!
لقد كنتِ الغابةَ التي يمرح فيها ذلك الوعلُ
وكنتِ منه أيتها الدنيا مكانَ القلب!
ما أشبهَك يا قيصرُ بالغزالِ الذي تكاثرَ عليه الأمراءُ
فرشقوه بالسهام فارتمى مُضرَّجًا بدمه! (٢١٠)
كاشياس
:
مارك أنطونيو!
أنطونيو
:
عفوًا يا كاياس كاشياس!
إذا كان أعداءُ قيصرَ سيقولون هذا عنه
فما بالُك بحبيبِه؟
ألا يُعتبَر اعتدالًا مني واقتصادًا في القول؟
كاشياس
:
أنا لا ألومُك على إسرافِك في امتداح قيصر (٢١٥)
ولكني أسأل وحسب: ماذا ستكون علاقتُك بنا؟
هل تريد أن تكون صديقًا من أصدقائنا
أم تريدنا أن نمضيَ في عملنا ولا نعتمدُ عليك؟
أنطونيو
:
ولماذا إذن صافحتُكم؟
والحقُّ أنني ما ابتعدتُ عن مَرامي
إلا عندما شاهدتُ جثة قيصر.
إنني صديقٌ لكم جميعًا .. وأحبكم جميعًا .. (٢٢٠)
على أملٍ واحد،
وهو أن تقدِّموا لي الأدلةَ التي تُثبِت أن قيصر
كان خطَرًا.
وأن تشرحوا لي مَكْمن هذا الخطَر!
بروتس
:
لا بد من ذلك، وإلا كان هذا المشهدُ وحشيًّا بشعًا ..
إن أسبابَنا وجيهةٌ ومُقنِعة كلَّ الإقناع ..
ولو كنتَ ابن قيصر نفسه لاقتنعتَ بها. (٢٢٥)
أنطونيو
:
هذا هو كلُّ ما أرجوه ..
لكني ألتمسُ أيضًا أن تسمحوا لي
أن أنقلَ جثمانَه إلى ساحةِ السوق
وأَرْثيَه من منبر التأبينِ في جنازته (٢٣٠)
— كما ينبغي — باسم صداقته.
بروتس
:
لك ذلك يا مارك أنطونيو!
كاشياس
:
هل تسمحُ بكلمةٍ على انفرادٍ يا بروتس؟
(يتهامسان على انفراد.)
إنك لا تَدري مغبةَ ما تفعل!
لا تقبَل أن يرثيَه أنطونيو في الجنازة!
هل تعرف مدى تأثير كلام أنطونيو في نفوس الناس؟ (٢٣٥)
بروتس
:
اسمحْ لي أن أشرحَ لك:
سوف أصعد المنبرَ أوَّلًا
فأشرح الدافعَ على قتلِ صديقِنا قيصر،
أمَّا رثاءُ أنطونيو فسوف أُعلِن
أنه يقوله بإذننا ورضانا،
وأننا وافقنا على إجراء شتَّى طقوسِ التأبين (٢٤٠)
والرثاءِ المشروعةِ لقيصر ..
وسوف يكون ذلك في صالحنا ولن يسيءَ إلينا.
كاشياس
:
لست أدري ما قد يقعُ ولكنني غيرُ مرتاح لهذا.
بروتس
:
تفضَّل يا مارك أنطونيو .. خُذ جثةَ صديقك قيصر .. (٢٤٥)
وحذارِ أن تُنحِيَ علينا باللائمة في خطاب التأبين،
بل اذكرْ محاسنَ قيصر فحسبْ واعرِضْ ما شئت
لمناقِبه، وقُل إننا سمحنا لك بذلك.
هذا وإلا منعناك من الاشتراكِ في هذه الجنازة.
ولسوف أدعُك تتحدَّث من نفس المنبرِ الذي سأقف عليه (٢٥٠)
بعد انتهاء خُطبتي.
أنطونيو
:
فليكن. لا أطلب أكثرَ من هذا.
بروتس
:
هيِّئ الجثةَ إذن واتْبعْنا.
(يخرج الجميع فيما عدا أنطونيو.)
أنطونيو
:
أواه يا بضعةَ الثَّرى الدامية!
اغفري لي لِيني ورقَّتي مع هؤلاء الجزَّارين. (٢٥٥)
يا أطلالَ أنبلِ إنسانٍ عاش على مرِّ الزمن ..
الويلُ لليدِ التي سَفَكت هذا الدمَ الغالي!
ها هي جروحُك كأنَّها أفواهٌ خرساءُ تفتح شِفاهها (٢٦٠)
الوردية، سائلة لساني أن ينطِقَ باسمها، ومُطالبة
صوتي أن يعلوَ بحقِّها!
وها أنا ذا أتنبأ باللعنة التي ستحُل بأجسادِ البشر
حين تضطرمُ نيرانُ الغضبِ فيتقاتل الناسُ في بلادنا،
وتنشَب حربٌ أهلية ضروس في شتَّى أرجاء إيطاليا ..
تُثقِل كاهلَها، وتسفك الدمَ، وتشيعُ الخراب، (٢٦٥)
وتنشر الأهوالَ والفظائع .. حتى لا تملك الأمهاتُ
إلا الابتسامَ حين يريْنَ أبناءهنَّ وأيدي الحربِ تُمزِّق
أوصالهم.
فمَن يألفُ القسوةَ تختنِق الرحمةُ في صدْره!
أمَّا روحُ قيصر فسوف ترفرف تطلب الثأر (٢٧٠)
وشيطانُ الخرابِ بجانبها قادمًا لتوِّه من الجحيم!
وسوف تصيحُ في هذه الرُّبوع بصوتِ السلطان:
«الدمارَ الدمارَ!» ثم تُطلِق كلابَ الحرب،
حتى تفوحَ رائحةُ هذه الفَعْلة الشنعاء
في أجوازِ الفضاء، مع رائحةِ الجُثث التي تئنُّ طلبًا (٢٧٥)
للدَّفن!
(يدخل خادم أوكتافيوس.)
هل أنت مِن خَدمِ أوكتافيوس قيصر؟
الخادم
:
أجل يا مارك أنطونيو!
أنطونيو
:
كان قيصرُ قد كتب إليه يطلب منه الحضورَ إلى روما.
الخادم
:
لقد تلقَّى رسائله وهو الآن في الطريق ..
وقد طلب مني أن أبلغكَ شفاهةً أن .. «يرى جثة
قيصر». (٢٨٠)
أواه يا قيصر!
أنطونيو
:
لقد فاض قلبُك أسًى فتفضَّل وابكِ بعيدًا عني ..
يبدو أن الحزنَ يُعدِي .. فحينما رأتْ عيناي قطراتِ
الأسى في عينيك طفِقَت تدمَع .. هل قلتَ إن مولاك (٢٨٥)
قادم؟
الخادم
:
سيقضي الليلةَ في مكانٍ لا يبعُد عن روما إلا سبعةَ
فراسخ ..
أنطونيو
:
عُد إليه مُسرعًا وأخبِره بما حدث.
فروما اليوم في حِداد، وروما اليوم مكانُ أخطارٍ
لا مكانُ أمانٍ لأوكتافيوس. عُد مسرعًا وقُل له ذلك.
لا .. بل انتظرْ قليلًا .. (٢٩٠)
لا تَعُد حتى أحمِلَ هذه الجثةَ إلى ساحة السوق
وأعرف من خُطبتي كيف يتلقَّى الشعب خبرَ
جناية أولئك السفاحين وغِلظتهم ..
وعندها تحمِل إلى أوكتافيوس الشابِ (٢٩٥)
أنباءَ الأحوال هنا. هيا بنا ..
ساعِدني في حملِ الجثة.
(يخرجان حاملين جثةَ قيصر.)
المشهد الثاني
ساحة الخطابة
(يدخل بروتس ويصعد المنبرَ ومعه كاشياس وحشدٌ من
الأهالي.)
الأهالي
:
نريد أن نقتنِع .. أقنِعُونا بالدليل .. أقنِعُونا.
بروتس
:
تعالوا معي إذنْ واستمِعوا إليَّ. وأنت يا كاشياس ..
اذهبْ إلى الشارعِ الآخر
وخُذ معك نصفَ الحاضرين.
فليبقَ هنا مَن يريد أن يسمعني (٥)
وليذهبْ مع كاشياس مَن يريد أن يسمعَه ..
وسوف نكشف للجميع أسبابَ موتِ قيصر.
رجل ١
:
أريد أن أسمع بروتس.
رجل ٢
:
وأنا سأسمع كاشياس! ثم نقارن ما يقوله
بما قاله بروتس بعد أن نسمعَ كُلًّا منهما على حدة (١٠)
(يخرج كاشياس ومعه جانب من الأهالي.)
رجل ٣
:
لقد صعد بروتس النبيل إلى المنبر .. الصمت أيُّها
الناس .. الصمت.
بروتس
:
أرجوكم أن تستمعوا إليَّ حتى أنتهي ..
أيها الرومانيون! يا أبناءَ وطني وأحبائي! أصغوا إليَّ
حتى أعرضَ قضيَّتي، وأرجو الصمتَ حتى تسمعوا
ما أقول! كلماتي الصادقةُ يحدوها شرفي، فاذكروا شرفي (١٥)
تُصدِّقوني! واحكموا عليَّ بحكمتكم، ولتتفتح أذهانكم
وعقولكم حتى تُصدِر الحكم الصائب. إن كان في هذا
الحشدِ مَن أحب قيصر حُبًّا جمًّا فلأقُلْ له إنني لم أكن
أقِلُّ عنه حبًّا لقيصر .. فإن سألني ذلك الرجلُ لماذا ثار
بروتس على قيصر، كانت إجابتي هي: إنني قتلتُه لا (٢٠)
لأن حبي لقيصر
يقلُّ عن حبه، بل لأن حبي لروما يفوق حبَّه!
أتفضِّلون أن يحيا قيصر فتموتون عبيدًا،
أم أنْ يموتَ قيصر فتعيشوا أحرارًا؟ لقد أحبَّني قيصر،
وها أنا ذا أبكيه، وأقبلَتِ الدنيا عليه، فها أنا ذا أغتبِط
(٢٥)
له، وكان شجاعًا فها أنا ذا أُكرِمه! ولكنَّ الطمع
استولى عليه فقتلتُه، ها هي دموعي لقاءَ حبِّه لي، وها
هو فرحي بإقبال الدنيا عليه، وها هو تكريمي
لشجاعته، وها هو الموت عِقابًا على طمعِه. هل بيننا
وضيعٌ يقبل أن يعيشَ في نِير الاستعباد؟ إن كان بينكم (٣٠)
مثلُ هذا الرجلِ فليتكلمْ .. إذ إنني أسأتُ إليه بقتلِ
قيصر .. هل بينكم همجيٌّ ينكِر انتماءه إلى الرومان؟
إن كان بينكم مثلُ هذا الرجل فليتكلم .. فلقد أسأتُ
إليه بقتل قيصر .. هل بينكم وضيعٌ ينكِر حبَّه لوطنه؟
إن كان بينكم مثلُ هذا الرجل فليتكلم .. فلقد أسأتُ
إليه بقتلِ قيصر .. أنا في انتظار الرد. (٣٥)
الجميع
:
لا أحدَ يا بروتس .. لا أحد.
بروتس
:
لم أُسئْ إلى أحدٍ إذن! إنني لم أفعل بقيصر إلا ما أتوقَّع
منكم أن تفعلوه ببروتس نفسه لو انحرف. أمَّا الدوافعُ
على قتله فهي مسجَّلة في وثائق الكابيتول، وهي (٤٠)
لا تنتقِص من أمجاده التي كان بها حريًّا، ولا تُغالي في
أخطائه التي استحقَّ الموتَ من أجلها.
(يدخل أنطونيو حاملًا جثة قيصر مع الآخرين.)
ها هي جثَّته يحمِلها مارك أنطونيو حتى يرثيَه ويؤبِّنه ..
ومع أنه لم يشترِك في قتلِه فسوف ينتفع بموتِه؛ إذ سيحتل
مكانَه اللائقَ في حكومة الجمهورية الحرة مثل أيِّ فرد
فيكم .. والآن أترككم .. لقد قتلتُ أعظمَ أحبائي في (٤٥)
سبيل مصلحة روما، وسوف يظل خنجري مُشرَعًا
حتى تُغمدوه فيَّ .. إذا ما اقتضت مصلحةُ وطني أن
أموت!
الجميع
:
عاش بروتس! .. عاش! عاش!
رجل ١
:
فلنحمِله في موكب النصر حتى منزله! (٥٠)
رجل ٢
:
فلنصنعْ له تمثالًا كأسلافه!
رجل ٣
:
فلنعيِّنه قيصرًا علينا.
رجل ٤
:
إنه يتميز بأفضلِ صفات قيصر ..
فلنتوِّج بروتس بدلًا من قيصر.
رجل ١
:
هيا نحمِله إلى منزله بين الهُتاف والتصفيق.
بروتس
:
أبناءَ وطني.
رجل ٢
:
الصمت .. الهدوء .. بروتس يتكلم. (٥٥)
رجل ١
:
أرجوكم الهدوء.
بروتس
:
أبناءَ وطني الأفاضل! دعوني أرحلُ وحدي،
وإكرامًا لخاطري امكُثوا هنا مع أنطونيو!
أرجوكم تكريمَ جثمان قيصر، والاستماعَ إلى خُطبة
التأبين التي سيُلقيها أنطونيو عن مناقبِ قيصر، والتي (٦٠)
سمحْنا له بإلقائها.
أتوسَّل إليكم ألا يرحلَ أحدٌ من هنا — فيما عداي —
حتى ينتهيَ أنطونيو من خُطبته.
(يخرج بروتس.)
رجل ١
:
انتظروا إذن ولنستَمِع إلى أنطونيو!
رجل ٣
:
فليصعدْ إلى كرسي المنبر (٦٥)
نريد أن نسمعَه. اصعدْ يا أنطونيو النبيل.
أنطونيو
:
أشكركم على هذا .. والفضلُ لبروتس.
رجل ٤
:
ماذا يقول عن بروتس؟
رجل ٣
:
يقول إنه بفضل بروتس يشكرنا على وقوفنا هنا.
رجل ٤
:
أرجو ألا يُسيءَ إلى بروتس الآن! (٧٠)
رجل ١
:
كان قيصر طاغية!
رجل ٣
:
لا شكَّ في هذا .. والحمد لله على أن روما تخلَّصتْ
منه.
رجل ٢
:
أرجوكم الهدوء .. فلنسمعْ ما سيقوله أنطونيو.
أنطونيو
:
أيها الرومانُ الكرام.
الجميع
:
الهدوء .. نريد أن نسمعَه!
أنطونيو
:
أيها الأصدقاء! أيها الرومانُ يا أبناءَ وطني ..
أعيروني أسماعكم! (٧٥)
لقد جئتُ لدفنِ قيصر لا للثناء عليه،
إن آثامَ الناس لا تموتُ بموتهم ..
أمَّا العملُ الصالح فغالبًا ما يُدفن مع عظامهم.
فليكنْ هذا موقفَنا من قيصر!
قال لكم بروتس النبيلُ إن قيصرَ كان طمَّاعًا، (٨٠)
لو كان ذلك صحيحًا لكان ذنبًا عظيمًا،
ولقد كفَّر عنه بموته تكفيرًا عظيمًا،
ولقد أتيتُ هنا بإذنٍ من بروتس وعُصبتِه،
إذ إن بروتس رجل شريف، (٨٥)
وكذلك هم جميعًا، كلهم شرفاء!
لقد أتيتُ لتأبين قيصر في جنازته؛
إذ كان لي صديقًا مخلصًا منصفًا ..
لكنَّ بروتس يقول إنه كان طمَّاعًا،
وبروتس رجل شريف.
حين عاد قيصر إلى روما بالعديد من الأسرى (٩٠)
وافتداهم أهلُهم بأموال طائلة أودعها قيصرُ الخزانةَ
العامة فملأتها!
فهل يدُل هذا على طمعٍ في نفسه؟
عندما بكى الفقراءُ إبَّان المجاعة
بكى قيصر إشفاقًا وألمًا ..
أفلا يكون الطمَّاع أقسى قلبًا وأغلظ نفْسًا؟
ولكن بروتس يقول إنه كان طمَّاعًا، (٩٥)
وبروتس رجل شريف،
لقد شاهدتموني جميعًا يومَ عيد اللوبريكال
وأنا أعرضُ عليه التاجَ الملكي!
لقد عرضتُه عليه ثلاثَ مرات
ورفضه ثلاثَ مرات. هل كان هذا طمَعًا؟
ولكنَّ بروتس يقول إنه كان طمَّاعًا .. (١٠٠)
وهو بالتأكيد رجلٌ شريف.
إنني لا أحاول إثباتَ خطأِ ما قاله بروتس،
ولكنني أقول لكم ما أعلمُه علمَ اليقين.
لقد كنتم تُحبُّونه يومًا ما، وكنتم محقِّين في حبكم،
فماذا يمنعكم الآن من تأبينه ورثائه؟ (١٠٥)
أين الرأي السديد إذن؟ هل فرَّ إلى الوحوش الكاسرة
فعَدِمَ البشَرُ سدادَ الرأي؟
أرجو بعضَ الصبر .. إذ إن قلبي في النعشِ مع
قيصر ولا بد أن أصبرَ حتى يعودَ إليَّ.
رجل ١
:
يبدو أنه على حقٍّ فيما يقول. (١١٠)
رجل ٢
:
إذا بحثتَ الأمرَ بعينِ العدل
لرأيت الظلمَ الشديد الذي أصاب قيصر.
رجل ٣
:
لا شكَّ في ذلك يا رجال ..
وأخشى أن يخلِفَه مَن هو شرٌّ منه.
رجل ٤
:
أسمعتم ما قال؟ إنه لم يقبَل التاج،
وإذن فمن المؤكَّد أنه لم يكن طمَّاعًا. (١١٥)
رجل ١
:
إذا ثبَت ذلك فلا بد من الانتقام له.
رجل ٢
:
مسكين أنطونيو! عيناه في لونِ النار من شدة البكاء!
رجل ٣
:
لا يوجد في روما مَن هو أنبلُ من أنطونيو!
رجل ٤
:
التفتوا إليه الآن فقد عاد للكلام!
أنطونيو
:
بالأمس فقط كانت كلمةٌ واحدة من فم قيصر (١٢٠)
تتحدَّى العالَم كله!
أمَّا الآن فها هو طريحُ الثَّرى ..
وأحقرُ الحقراء أرفعُ من أن ينحنيَ احترامًا له!
أيها السادة! لو أني جئتُ لأشحذَ عقولَكم
وأستثيرَ قلوبَكم حتى تثوروا وتغضبوا!
لأسأتُ إلى بروتس، وأسأتُ إلى كاشياس، (١٢٥)
وهما — كما تعرفون جميعًا — رجلان شريفان!
وإذن لن أسيءَ إلى أيٍّ منهما، بل إني أوثر
أن أسيءَ إلى الموتى، وأسيءَ إلى نفسي، وبل وأسيء
إليكم أنتم،
على أن أسيءَ إلى مثل هؤلاء الشرفاء!
ولكنَّ في يدي ورقةً مختومةً بخاتم قيصر (١٣٠)
وجدتُها في غرفةِ مكتبه. إنها وصيَّته!
أرجو المعذرةَ فلن أقرأها أمامكم؛
إذ لو عرف الأهالي ما في هذه الوصية
لارتمَوا على قيصر، يُقبِّلون جِراحه بعد موته،
ويغمسون مناديلهم في دمه المقدَّس، (١٣٥)
بل لأخذَ كل واحدٍ شعرةً يذْكُره بها،
ويُثْبِتها في وصيَّته عند مماته،
ويحدِّد مَن سيرث هذا التراثَ القيِّم من أبنائه!
رجل ٤
:
نريد أن نسمعَ الوصية. اقرأها يا مارك أنطونيو. (١٤٠)
الجميع
:
الوصية! الوصية! نريد أن نسمعَ وصيةَ قيصر!
أنطونيو
:
صبرًا أصدقائي الشرفاء! ما ينبغي أن أقرأ الوصية!
إذ ما ينبغي أن تعرفوا مدى حبِّ قيصر لكم ..
فلستم من الخشب، ولستم من الحجارة، بل أنتم
بشَرٌ!
وما دمتم من البشر فإن الاستماع إلى وصية قيصر (١٤٥)
سوف يلهب مشاعرَكم، ويُطِير صوابَكم!
الأفضل ألا تَعلموا أنكم ورَثَتُه!
فلو علِمْتم ذلك ما ستكون العاقبة؟
رجل ٤
:
اقرأ الوصية! نريد أن نسمعَ الوصية! أنطونيو!
لا بد أن تقرأ لنا الوصية – وصيةَ قيصر! (١٥٠)
أنطونيو
:
هل تستطيعون الصبر؟ هل تنتظرون قليلًا؟
لقد تجاوزتُ حدودي حين ذكرتُ الوصية.
وأخشى أن أسيءَ إلى الشرفاء الذين غرسوا خناجرهم
في صدرِ قيصر. أخشى ذلك حقًّا ..
رجل ٤
:
لقد كانوا خونة — أولئك الشرفاء! (١٥٥)
الجميع
:
الوصية .. الوصية!
رجل ٢
:
لقد كانوا أوغادًا قتَلَة! الوصية! اقرأ الوصية!
أنطونيو
:
هل تجبرونني على قراءة الوصية؟
تَحلَّقوا إذن حول جثمان قيصر .. (١٦٠)
حتى أريَكم الرجلَ الذي كتب الوصية.
هل أَنزِل إليكم من المنبر؟ أتسمحون لي بذلك؟
الجميع
:
انزل إلينا إذن.
(يهبِط أنطونيو من المنبر.)
رجل ٤
:
انزل.
رجل ٣
:
نسمح لك بالنزول. (١٦٥)
رجل ٤
:
حلَقَة! قِفوا حول الجثة!
رجل ١
:
بل ابتعِدوا عن النعش. ابتعِدوا عن الجثة!
رجل ٢
:
أفسِحوا مكانًا لأنطونيو! أشرفُ الشرفاءِ أنطونيو!
أنطونيو
:
لا لا .. لا تزدحِموا هكذا حولي .. ابتعِدوا قليلًا.
الجميع
:
ابتعِدوا! أفسِحوا مكانًا هنا! ابتعِدوا للخلْف! (١٧٠)
أنطونيو
:
إنْ كان لديكم دموعٌ فاستعِدوا للبكاء!
تعرفون جميعًا هذا الوشاح.
واذكر أولَ مرة ارتداه قيصر!
كان ذلك مساءَ يومٍ من أيام الصيف في خيمته!
في اليوم الذي قهر فيه جيشُ الترقيين الأشرس! (١٧٥)
انظروا! .. مِن هذا الشَّق .. اخترقَ الوشاحَ خنجرُ
كاشياس.
وانظروا الشَّق الذي شقَّه كاسكا الحقود!
وهنا طعنَه بروتس .. الذي أحبَّه قيصر كلَّ الحب!
وعندما انتزع خنجرَه اللعين
تدفَّق الدمُ في أثرِه هنا .. انظروا .. (١٨٠)
لكأنَّما خرجَ من البابِ مسرعًا ليتأكَّد
إن كان بروتس حقًّا هو الذي طرقَ هذه الطَّرْقةَ
النكراء!
إذ إن بروتس — كما تعلمون — كان كالمَلاكِ في عين
قيصر!
واشهدي أيَّتها الآلهة
كم كان قيصر يحبُّه ويُعِزُّه!
كانت تلك أقسى الطعناتِ جميعًا! (١٨٥)
إذ عندما شاهده قيصرُ النبيل وهو يَطْعَنه
أحسَّ بالجحود يَقهَره ..
فالجحودُ أقوى من أسلحة الخونة ..
وعندما انصدع قلبُه الجبار
وسقط قيصر العظيم، وعلى وجهه هذا الوشاح،
على قاعدة تمثال بومبي (١٩٠)
الذي أخذ ينزِف الدمَ بلا توقُّف.
ما أبشعَ تلك السقطةَ يا أبناءَ وطني ..
لقد سقطتُ عندها وأنتم! سقطْنا جميعًا عندها!
بينما تباهتِ الخيانةُ الدامية فوق رءوسِنا!
آه! إنكم تبكون الآن وتشعرون كما أرى (١٩٥)
بلذعةِ الأسى! ما أكرمَ عَبَراتِكم!
أيها الرحماءُ الأبرار! أتبكون لرؤيةِ الجروح
التي مزَّقتْ رداءَ قيصر؟ انظروا إذن!
(يكشف جسدَ قيصر.)
ها هو ذا قيصر نفسه وقد مزَّقه الخونة! (٢٠٠)
رجل ١
:
يا لَلْمشهد الأليم!
رجل ٢
:
يا لَلْيوم المشئوم!
رجل ٤
:
يا لَلْخونة! يا للأوغاد!
رجل ١
:
يا لَمشهد الجريمة البشعة!
رجل ٢
:
سوف ننتقم له! (٢٠٥)
الجميع
:
الانتقامَ الانتقامَ! انطلقوا! ابحثوا عنهم! أحرِقوهم!
أشعِلوا النار! اقتُلوا! اذبحوا! لن يعيشَ خائنٌ بعدَ
اليوم!
أنطونيو
:
بل انتظروا يا أبناءَ وطني!
رجل ١
:
اسمعوا أنطونيو النبيل!
رجل ٢
:
سنسمعه! سنتَّبعه! سنموت معه! (٢١٠)
أنطونيو
:
أيها الأصدقاءُ المخلصون المهذَّبون!
كيف أدفعكم إلى هذه الثورة العارمة المُباغتة؟
إنَّ مَن ارتكبوا هذه الفَعْلة شرفاء!
وا أسفاه! لا علمَ لي بالأحقاد الشخصية (٢١٥)
التي دفعتْهم إلى ارتكابها! إنهم حكماء وشرفاء
وسوف يَعرضون عليكم — لا شك — دوافعَهم المُقنِعة!
أنا لم آتِ إليكم كي أستولي على مشاعركم،
فلستُ خطيبًا مُفوَّهًا مثل بروتس
ولكنني — كما تعرفون جميعًا — رجل بسيط ساذَج (٢٢٠)
يُخلِص الحبَّ لصديقه، وهم يعرفون ذلك خيرَ
المعرفة ..
مَن سمحوا لي أن أتحدَّث عنه أمامكم!
إنني أفتقر إلى البديهة الحاضرة، والألفاظ المنتقاة
والمكانة المرموقة، وبراعة الأداء،
وحُسن الإلقاء، وذلاقة اللسان
التي تثير مشاعرَ الناس! ولكنني أتحدَّث عفوَ الخاطر (٢٢٥)
وحسب، وأحدِّثكم عما تعرفونه، وأريكم جِراح قيصر
الحنون، تلك الأفواه الخرساء البائسة المسكينة،
وأسألها أن تتحدَّث نيابةً عني!
أمَّا لو كنتُ أنا بروتس، وكان بروتس هو أنطونيو
لاستطاع أنطونيو أن يُلهِب نفوسَكم غضَبًا (٢٣٠)
ويجعل لكلِّ جُرح في جثةِ قيصر لسانًا يثير أحجارَ روما
ويدفعها إلى الغضب والثورة!
الجميع
:
الثورةَ! الثورة!
رجل ١
:
فلنُحرِق منزلَ بروتس.
رجل ٣
:
هيا بنا إذن! هيا نقبِض على المتآمرين!
أنطونيو
:
انتظروا يا أبناءَ وطني! اسمعوني للنهاية! (٢٣٥)
الجميع
:
الصمتَ والهدوء! اسمعوا أنطونيو .. أشرفُ الشرفاء
أنطونيو!
أنطونيو
:
ما هذا أيها الأصدقاء؟
إنكم لا تعرفون ما تفعلون!
لماذا استحق قيصر منكم كلَّ هذا الحب؟
وا أسفاه! إنكم لا تعرفون!
وإذن فلا بد لي أن أخبرَكم!
لقد نسيتم الوصيةَ التي أخبرتكم بها. (٢٤٠)
الجميع
:
أجل .. أجل .. نسينا الوصية .. انتظروا حتى نسمعَ
الوصية!
أنطونيو
:
هذه هي الوصية، وهي مختومةٌ بخاتَم قيصر!
إنه يوصي لكل مواطن روماني — لكل فرد على حدة —
بخمسة وسبعين درهمًا!
رجل ٢
:
أشرفُ الشرفاء قيصر! سوف نثأر لموته! (٢٤٥)
رجل ٣
:
حاكِمُنا المهابُ قيصر!
أنطونيو
:
صبرًا يا إخواني حتى أنتهي.
الجميع
:
الصمت والهدوء.
أنطونيو
:
كما أوصى لكم بجميع بساتينه ومنتزهاتِه الخاصة
وحدائقه الحديثة على هذا الجانب من نهر التَّيبر! (٢٥٠)
لقد تنازل عنها لكم ولأبنائكم من بعدِكم إلى الأبد،
كي تصبحَ أماكنَ لهو وسرور،
تُروِّحون فيها عن أنفسكم وتمرَحون.
كان هذا هو قيصر! فمتى يجود الزمان بمِثلِه؟
رجل ١
:
محال محال! هيا بنا .. هيا بنا .. (٢٥٥)
فلنُحرِق الجثة أوَّلًا في المعبد،
وبجذوة من تلك النار
نحرق بيوتَ الخونة!
هيا ارفعوا الجثة!
رجل ٢
:
هاتِ شعلةً موقدة!
رجل ٣
:
اخلعوا المقاعد الخشبية! (٢٦٠)
رجل ٤
:
اخلعوا الكراسي والشبابيك وكلَّ شيء.
(يخرج الأهالي حاملين الجثة.)
أنطونيو
:
أرجو أن تفعل كلماتي فِعْلها في نفوسهم ..
يا ربَّ الخراب لقد صحوتَ فانطلقت ..
ولا أبالي أيَّ طريق تسلُك!
(يدخل خادم.)
ماذا وراءك يا غلام؟
الخادم
:
سيدي .. لقد وصل أوكتافيوس إلى روما.
أنطونيو
:
وأين هو الآن؟ (٢٦٥)
الخادم
:
مع لبيدوس في منزل قيصر.
أنطونيو
:
سأتَّجه لزيارته هناك على الفور،
فلكم تمنيتُ أن يأتيَ الآن!
إن ربَّةَ الحظِّ تبتسم لنا .. وطالما ابتسمَتْ
فلن تبخلَ علينا بشيء!
الخادم
:
سمِعتُه يقول إن بروتس وكاشياس (٢٧٠)
قد انطلقا على متنِ جواديهما كأنما أصابتهما لوثةٌ
وخرجا من أبواب روما.
أنطونيو
:
يبدو أنهما قد سمِعا عن ثورةِ الشعب
وكلماتي التي دفعَتهم إلى الثورة!
هيا .. اصحبْني إلى أوكتافيوس.
(يخرجان.)
المشهد الثالث
شارع في روما
(يدخل سِنَّا الشاعر وخلفه بعض الأهالي.)
سِنَّا
:
حلَمْتُ البارحةَ أنني في وليمة مع قيصر!
وأشعُر بنُذُرِ السوء تغشى خيالي!
لم أكن أريد الخروجَ من المنزل،
ولكنَّ شيئًا ما يدفعُني على السير في الطرقات!
رجل ١
:
ما اسمك؟ (٥)
رجل ٢
:
إلى أين تذهب؟
رجل ٣
:
أين تسكن؟
رجل ٤
:
هل أنت متزوج أم أعزب؟
رجل ٢
:
أجِب كُلًّا مِنَّا إجابةً مباشِرة.
رجل ١
:
إجابةً موجزة. (١٠)
رجل ٤
:
إجابةً حكيمة.
رجل ٣
:
وإجابةً صادقة — لمصلحتك أنت!
سِنَّا
:
ما هو اسمي؟ وإلى أين أذهب؟ وأين أقيم؟ هل أنا
متزوج أم أعزب؟ إذا أجبت كلًّا منكم إجابةً مباشِرة،
وموجزة وحكيمة وصادقة، فإنني أقول بحكمة إنني
أعزب! (١٥)
رجل ٢
:
أيْ أنك تتَّهم مَن يتزوج بالحُمْق، وسوف أضربك
عقابًا على هذا. هيا إذن .. وأجِب إجابة مباشِرة.
سِنَّا
:
أنا ذاهب مباشرةً إلى جنازة قيصر. (٢٠)
رجل ١
:
كصديقٍ أم كعدوٍّ؟
سِنَّا
:
بل كصديق!
رجل ٢
:
لقد أجاب إجابةً مباشِرة!
رجل ٤
:
ومسكنك؟ بإيجاز.
سِنَّا
:
بإيجاز .. مسكني بجوار الكابيتول. (٢٥)
رجل ٣
:
واسمك يا سيد .. بصدق.
سِنَّا
:
بصدق .. اسمي سِنَّا.
رجل ١
:
قطِّعوه إرْبًا إرْبًا .. إنه من المتآمرين.
سِنَّا
:
مزِّقوه لشِعْره السخيف .. مزِّقوه لشِعْره السخيف! (٣٠)
سِنَّا
:
لست سِنَّا المتآمر.
رجل ١
:
لا يُهم .. فاسمه سِنَّا .. انزَعوا اسمَه من قلبه ..
ودَعُوه يمضي.
رجل ٣
:
مزِّقوا أوصاله .. قطِّعوه إرْبًا إرْبًا! هاتوا المشاعل .. (٣٥)
أين المشاعلُ الموقدة؟ هيَّا إلى منزل بروتس .. هيا إلى
منزل كاشياس! أحرِقوا كلَّ شيء! فليذهب البعض
إلى منزل ديشيوس .. وليذهبِ البعض إلى منزل
كاسكا .. ومنزل ليجاريوس .. هيا .. انطلقوا.
(يخرج جميع الأهالي وهم يجرُّون سِنَّا.)