رسالة القباني المسرحية بين النظرية والتطبيق
مدخل
بعيدًا عن مظاهر التمثيل — في مصر — من: خيال الظل، والقراقوز، وصندوق الدنيا …
إلخ هذه الفنون الشعبية التي عملت على تسلية الجمهور وإسعاده؛ بعيدًا عن كل
هذا نستطيع القول — كما هو معروف — إن مصر عرفت العروض المسرحية في شكلها الغربي
الحديث عن طريق الحملة الفرنسية — عام ١٧٩٩م بقيادة نابليون بونابرت — التي شيَّدت
— في منطقة الأزبكية — أول مسرح عُرِف في تلك المُدة، وهو مسرح الجمهورية والفنون،
١ الذي أشار إلى نشاطه الفني المؤرِّخ عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه الشهير.
٢ وهذا المسرح كانت رسالته الفنية قصيرة الفترة، وقاصرة على تسلية جنود
الحملة من خلال عروض مسرحيات فرنسية.
مسرح الحملة هذا دفع الجاليات الأجنبية — فيما بعدُ — إلى تقليد نشاطه ورسالته،
باستقدام بعض الفرق المسرحية الأجنبية — بصورة غير منتظمة — لتسلية المقيمين
الأجانب في احتفالاتهم المتنوعة، بعروض مسرحية أجنبية، وهذا الأمر أصبح منتظمًا —
بعض الشيء — منذ عام ١٨٦٨م، عندما شيَّد الخديوي إسماعيل المسرح الكوميدي الفرنسي بالأزبكية،
٣ وتمثَّلت رسالته الفنية في إقامة العروض المسرحية الفرنسية من
قِبل الفِرَق الأجنبية، وبعد أقل من عامٍ واحدٍ أصبح النشاط المسرحي منتظمًا
بصورة رسمية بعد بناء دار الأوبرا الخديوية وافتتاحها عام ١٨٦٩م،
٤ ورسالة هذه الدار الفنية تحدَّدت بإقامة العروض الإيطالية من قِبل
الفِرَق الأجنبية أيضًا.
واللافت للنظر أن اهتمام الخديوي إسماعيل — بوصفه حاكم البلاد — بالفن المسرحي
شجَّع معاونيه والمقرَّبين منه على إضفاء رؤية أدبية لهذا الفن الجديد الوافد
على البيئة المصرية، فبرز من بنيهم رجل التعليم والترجمة في مصر، الشيخ رفاعة رافع
الطهطاوي، ليقدِّم تجربة فنية فريدة — كانت الأولى من نوعها — عندما عرَّب مسرحية
«هيلانة الجميلة» عن أوبريت أوفنباخ عام ١٨٦٨م،
٥ وهي مسرحية افتتاح مسرح الدولة الرسمي الأول — الكوميدي الفرنسي،
وبذلك عرفت مصر رسميًّا المسرح العربي نصًّا مُعرَّبًا قبل أن تعرفه عرضًا
مُمثَّلًا.
إشكالية الريادة
وإذا أردنا الولوج إلى العروض المسرحية العربية التي عرفتها مصر لنوثِّق الريادة
المسرحية العربية ونؤرِّخها في هذا القطر العربي المهم؛ سنقع في إشكالية كبيرة؛ لعدم
وجود الدليل القاطع المانع عليها؛ فإشكالية هذه الريادة — رغم ما كُتِب عنها — لم
تُحسَم حتى الآن؛ لأنها تتمثل في ريادة يعقوب صنُّوع للمسرح العربي في مصر، تلك
الريادة التي لا يخلو من ذكرها — وإلصاقها بصنُّوع — أيُّ كتاب مسرحي يتحدث عن تاريخ
المسرح المصري أو العربي، ناهيك عن الرسائل العلمية والدراسات والأبحاث … إلخ أكوام
الأوراق التي دُبجت حول هذه الريادة.
ورغم هذا الكم الهائل من الكتابات حول صنُّوع وريادته للمسرح العربي في مصر، لم يظفر
باحث واحد — حتى الآن — بدليل يؤكِّد هذه الريادة؛ لأنها ريادة صِيغت بيد صاحبها
يعقوب صنُّوع، ولم يقرَّه فيها أي كاتب أو مُشاهد أو معاصر له طوال فترة نشاطه المسرحي
في مصر — كما زعم في كتاباته — من عام ١٨٧٠ إلى ١٨٧٢م.
٦
وإذا سلَّمنا جدلًا بأن صنُّوعًا لم يكن رائدًا للمسرح العربي في مصر — دافعين
الباحثين لشحذ الهمم في الحصول على دليل هذه الريادة — سيُطاردنا سؤال يقول: إذن،
من هو رائد المسرح العربي في مصر، الذي أقام عروضًا مسرحية عربية بصورة منتظمة، لنرفع
فوق رأسه تاج الريادة المنزوع مؤقتًا من صنُّوع؟! هذا الرائد من اليسير إيجاده
والإشارة إليه وإلى ريادته لو قرأنا كتابات المعاصرين له ممن شاهدوه وعايشوه ورأوا
عروضه، أو ممن سمعوا عنه من الثقات، أو من المتخصصين في المسرح وتاريخه، ناهيك عن
الاستئناس بكتاباته المنشورة عن هذه الريادة، وهي كتابات لم يردَّها عليه أي باحث
حتى الآن. هذا الرائد هو سليم خليل النقَّاش اللبناني؛ وإليك الأدلة المنشورة على
ريادته:
عندما عزم سليم خليل النقَّاش الحضور إلى مصر ترجم مسرحية «مي» ونشرها في بيروت عام
١٨٧٥م، قائلًا في مقدمتها: أنه سيخدم الخديوي إسماعيل «بإدخال فن الروايات في اللغة
العربية إلى الأقطار المصرية.»
٧ ويجب التدقيق هنا في كلمة «إدخال» التي تدل على عدم وجود الشيء من
قبلُ، رغم وجود صنُّوع في مصر في هذه الفترة. كما أكَّد سليم النقَّاش — مرة أخرى —
على عمله الريادي هذا ومهمته الفنية الفريدة عندما تحدث عن الخديوي إسماعيل في
مقالته بمجلة «الجنان» — أغسطس ١٨٧٥م — قائلًا: «… بلغتُ فوق ما تمنَّيتُ من أفضال
جنابه العالي، وأحسن إليَّ بقبول طلبي، وذلك بأن أدخل فن الروايات باللغة العربية
إلى الأقطار المصرية.»
٨
وحتى لا نُكيل بمكيالين، ونتخذ أقوال سليم النقَّاش حُجة على ريادته، حارمين
صنُّوعًا من هذا الحق، سنترك هذه الأقوال — المُستأنس بها — ونقرأ ما كتبه أحد
المعاصرين من كتَّاب المسرح المصري، وهو محمود واصف
٩ الذي قال عام ١٨٩٥م: «إن فن التشخيص بلغتنا العربية لم يدخل إلى بلادنا
المصرية إلا منذ عهد قريب على يد طيب الذكر سليم أفندي النقاش»،
١٠ وكذلك قول أحد المسرحيين المؤرخين للمسرح وأعلامه، وهو جورج طنوس،
١١ القائل عام ١٩١٧م: «ظهر التمثيل العربي في هذه الديار. وكانت نشأته
الأولى في الإسكندرية على أيدي الأديبين الشهيرين إسحاق والنقَّاش.»
١٢
وربما كان محمد تيمور
١٣ الكاتب المسرحي الفذ لا يحتاج منَّا تأكيدًا على قيمته المسرحية
والأدبية — باعتباره من أوائل الكُتَّاب المسرحيين، وأحد أعلام الأسرة التيمورية
المرموقة في مجال الأدب وتاريخه — فهو القائل عام ١٩١٩م: «أتانا التمثيل … وأول من
جاءنا به قومٌ من فُضلاء السوريين أمثال النقَّاش وأديب إسحاق والخياط … ولقد نجحوا
في بناء أساس ذلك الفن نجاحًا كبيرًا … وأنشئوا بأيديهم فن التمثيل في مصر.»
١٤ ولا نستطيع — في هذا المقام — أن نغفل قول خليل مطران عام ١٩٢١م: إن
«المرحوم سليم النقَّاش أول من أنشأ فرقة للتمثيل بمصر باتفاق بينه وبين الحكومة»،
١٥ أو ننحِّي جانبًا شهادة أحمد شفيق باشا عام ١٩٣٤م عندما قال: «بدأت تفِد
على مصر بعض الفِرَق السورية، فكان ذلك منشأ المسرح العربي الأهلي، وأُولى هذه
الفرق هي فرقة سليم النقَّاش.»
١٦
بواكير المسرح الغنائي
ومما سبق يتضح لنا أن فرقة سليم النقَّاش هي أول فرقة مسرحية عربية تُقدِّم عروضًا
مسرحية منتظمة باللغة العربية في مصر، منذ قدومها من لبنان إلى الإسكندرية عام
١٨٧٦م، ومن هذه العروض: أبو الحسن المغفل، والسليط الحسود، وميُّ وهوراس، وهارون
الرشيد، والكذوب، وعائدة. فمن خلال ذلك نستطيع تحديد رسالة سليم النقَّاش الفنية في
مصر بأنها اقتصرت على إدخال المسرح باللغة العربية إلى مصر، من خلال مسرحيات —
مُعظمها مُترجم أو مُعرَّب — متنوعة الموضوعات.
والملاحظ أن هذه المسرحيات كانت تشتمل قطعًا غنائية شاء القدر ألا تُمثِّل مسرحًا
غنائيًّا رائدًا في مصر؛ لأن سليم النقَّاش — بواسطة بطرس شلفون — درَّب ممثليه على
تلحين هذه القطع من خلال الأنغام المصرية.
١٧ ومن المحتمل أن فترة التدريب — ثلاثة أشهر — لم تكن كافية كي يتمكَّن
الممثَّلون من حفظها بالصورة المصرية، فأسهَم هذا التحول الفني المفاجئ في عدم نجاح
هذه العروض، وربما لو حافظ سليم على ألحان هذه القطع بالأنغام الشامية — المتمكن
منها أعضاء فرقته — لنجحت وأصبحت عروضًا مسرحية غنائية رائدة. ونتيجة هذا الإخفاق
هجر سليم الفرقة واتجه إلى الصحافة، فتقلَّد زمام أمورها يوسف الخياط عام ١٨٧٧م
الذي تعثَّرت عروضه المسرحية — المترجمة أو المعرَّبة — كثيرًا بين استمرار وتوقف.
١٨
وفي الإسكندرية ظهرت فرقة سليمان الحدَّاد
١٩ لأول مرة عام ١٨٨١م، وعرضت عدة مسرحيات على مسرح زيزينيا،
٢٠ منها مسرحية «الغيور».
٢١ وفي هذه الفترة لاحظ سليمان الحدَّاد شغف أهالي الإسكندرية بغناء ابن
مدينتهم الشيخ سلامة حجازي، فلم يقع في خطأ سليم النقَّاش، ولم يغامر بتدريب ممثِّليه
على الأنغام المصرية، بل فكَّر في ضمِّ الأنغام المصرية إلى فرقته في صورة الشيخ
سلامة حجازي، لا سيَّما أن الشيخ بدأ يميل نحو التمثيل بسبب مشاهدته لعروض الجاليات
الأجنبية في الإسكندرية، فبدأ الحدَّاد يُزيِّن التمثيل المسرحي أمام الشيخ سلامة،
ويُلِحُّ عليه إلحاحًا شديدًا أملًا في ضمِّه إلى فرقته بوصفه مُطربًا ومُمثِّلًا،
فكان له ما أراد. ووقف الشيخ سلامة مُمثِّلًا لأول مرة في مسرحية «مي» التي جسَّد
فيها شخصيتَي كورياس والملك، وقد نجح هذا العرض نجاحًا كبيرًا.
٢٢
ونجاح هذا العرض المسرحي — من وجهة نظري — يُعدُّ نجاحًا منقوصًا؛ لأن العرض نجح
لا بوصفه عرضًا مسرحيًّا غنائيًّا، بل نجح بوصفه غناءً ذا خلفية تمثيلية، فالمنطق
يقول: إن الجمهور لم يتوافد على العروض لرؤية تمثيل الشيخ سلامة بقدر ما هرول
لسماع صوته،
٢٣ والدليل على ذلك أن الشيخ لم يستمر — بعد ذلك — ممثِّلًا في فرقة
الحدَّاد، بل استمر مطربًا ترتشف من طربه الجماهير، دليلًا على عدم نجاح التجربة في
ظهور ما يُسمى بالمسرح الغنائي واستمراره، وهذا يعني أن ارتباط الشيخ سلامة بمسرح
الحدَّاد لم ينتج عنه الفن المسرحي الغنائي المنتظر، ولكنه يُعتبر بداية مقبولة
لامتزاج هواية التمثيل بالغناء المحترف عند الشيخ سلامة حجازي.
وبعد هذه التجربة بشهور أراد سليمان القرداحي تكرارها عندما كوَّن فرقة مسرحية،
نجح في ضمِّ الشيخ سلامة إليها، طمعًا في توافد سامعيه من الجمهور المصري، ومثَّلت
الفرقة في القاهرة والإسكندرية، وكان عرضها الأخير — على مسرح زيزينيا — «فرسان
العرب» في مايو ١٨٨٢.
٢٤ ولم نقرأ في الصحف المديح المنتظر عن تجربة القرداحي مع الشيخ سلامة
حجازي، مما يوحي بأن هذه التجربة لم تخطُ الخطوة المرجوة في ظهور المسرح الغنائي
واستمراره أيضًا؛ لأن القرداحي — ومن قبله الحدَّاد — لم يستحدث مسرحيات عربية تتناسب
مع موهبة الشيخ سلامة الغنائية، بل كان يعرض مسرحيات من رصيده الدرامي، المعتمدة
على الترجمة والتعريب، فيضطر الشيخ سلامة إما إلى غناء ما في هذه المسرحيات من
قصائد مقحمة عليها، أو إلى إدخال فنونه الغنائية الجماهيرية من قصائد وموشحات على
تمثيلها، بغض الطرف عن مناسبتها للنص الدرامي أو عدم مناسبتها.
ومن أسباب وأد هذه التجربة أيضًا أن عرض مسرحية «فرسان العرب» في مايو ١٨٨٢م، كان
آخر عرض مسرحي في الإسكندرية، وربما في مصر كلها؛ لأن مصر لم تشهد نشاطًا مسرحيًّا
بعد ذلك — لمدة عامين — بسبب الثورة العُرابية — نسبة إلى أحمد عرابي باشا — وتدمير
أجزاء كبيرة من مدينة الإسكندرية تحت وابل قنابل البوارج الإنجليزية التي مهَّدت
احتلال بريطانيا لمصر.
القباني في مصر
ظل أهالي الإسكندرية يعانون — آثار الثورة العُرابية واستمرار الاحتلال
الإنجليزي — عاملين متتاليين، متشوَّقين إلى سماع الأغاني ورؤية التمثيل العربي.
وكان مقيمًا بالإسكندرية — في هذه الفترة — سعد الله بك حلابو أحد الأعيان
السوريين، فاستطاع بماله ونفوذه — وبمساعدة آخرين — استقدام فرقة مسرحية عربية
سورية إلى الإسكندرية
٢٥ في يونيو ١٨٨٤م، فكان حدثًا فريدًا استقبلته الصحافة بالابتهاج الكبير،
خصوصًا جريدة «الأهرام»، وقام صاحباها اللبنانيان — سليم وبشارة تقلا — بالترويج
لهذه الفرقة ومدحها منذ وصولها، ربما بدافع الحماسة لفرقة شامية، أو بإيعاز من سعد
الله حلابو وغيره من الأعيان، ممن مهَّدوا لقدوم الفرقة أحسن تمهيد.
بدأت جريدة الأهرام مهمتها يوم ٢٣ / ٦ / ١٨٨٤ حين أعلنت قدوم فرقة سورية يديرها
الشيخ أبو خليل القباني الدمشقي، الذي وصفته بالكاتب المشهور والشاعر المُفْلِق. أما
فرقته فتتألف من «مهرة الفنانين في ضروب التمثيل وأساليبه، وبينهم زمرة من المنشدين
المطربين، تروق لسماعهم الآذان وتنشرح الصدور.» هذا يعني إنها فرقة تدمج الغناء
بالتمثيل العربي في نسيج فني واحد من غير إقحام لون في الآخر — كتجربة سلامة حجازي
مع الحدَّاد والقرداحي — مما يشير إلى أن هذه الفرقة — ربما — ستقدِّم مسرحًا عربيًّا
غنائيًّا. ولم تغفل الجريدة — في إعلانها — التأكيد على أن المسرحيات المُقدَّمة
ستكون عربية. وربما المقصود أنها مسرحيات عربية مؤلَّفة، لا أجنبية مترجمة أو
مُعرَّبة، كمعظم مسرحيات الفرق السابقة، كما أعلنت الجريدة أن المسرحية التي
ستُمثَّل هذا اليوم هي «أُنس الجليس».
وأخيرًا حددت الجريدة مكان التمثيل ﺑ «قهوة الدانوب، المعروفة بقهوة سليمان بك
رحمي». ربما يظنُّ القارئ أن مكان التمثيل المُعلَن لا يليق بهذه الفرقة المنتظرة
منذ عامين، ولكن هذا الظن يتلاشى أمام اسم صاحب المكان الذي يحمل رتبة «البكوية»؛
فمن غير اللائق اجتماعيًّا — في هذا الزمن — أن حامل البكوية يكون صاحب قهوة
متواضعة، بل هو صاحب قهوة فسيحة راقية فاخرة، تتسع لجمهور المسرح، وتليق باستقبال
فرقة القباني، ويفتخر بها صاحبها واضعًا اسمه ورتبته بجوار اسمها في إعلانات
الصحافة. ومن المحتمل أن هذه القهوة كانت على غرار كازينوهات شواطئ الإسكندرية
الحالية، خصوصًا وأن صاحبها سليمان بك رحمي كان ذا تاريخ ومكانة مرموقين في
الإسكندرية، بدليل إطلاق اسمه على أحد شوارعها الرئيسية منذ عقود وحتى
الآن.
أُنس الجليس
عرض القباني مسرحية «أُنس الجليس» لتكون أول عرض لفرقته في مصر، وكان عرضًا
ناجحًا مُباركًا، تمَّ تمثيله في غُرَّة رمضان. ولا نملك دليلًا على نجاح هذا
العرض سوى ما نشرته جريدة الأهرام واصفة سرور الجماهير الغفيرة بسبب «ما شهدوا من
براعة المشخِّصين، وتفنُّنهم في أساليب التمثيل، وراقهم حُسن الإلقاء وتوقيع
الأصوات والحركات وبلاغة الموضوع.» قد حددت الجريدة أن المسرحية عُرِضت في خمسة
فصول تلاها فصل مضحك، وهو الأمر الجديد الذي لم تُشِر إليه الجريدة من قبلُ.
٢٦
لا نملك دليلًا — كما قُلنا — على نجاح عرض القباني الأول في مصر سوى عبارات
جريدة الأهرام، التي يمكن أن تُفسَّر بأنها مجاملة للفرقة، أو مبالغة في وصف مشاعر
الجماهير المتعطِّشة للفنون المسرحية والغنائية منذ عامين. رغم ذلك يمكننا
الاعتماد على نص المسرحية — المنشور في هذا الكتاب
٢٧ — ربما نجد فيه ما يوافق أقوال الجريدة أو يخالفها، أو على أقل تقدير
يعكس لنا — بصورة منطقية — أجواء هذا العرض الذي تمَّ أمام جماهير الإسكندرية عام
١٨٨٤م.
أول ما يطَّلع عليه قارئ المسرحية مقطوعة من ستة أبيات
٢٨ أجملَ فيها القباني رؤيته الفنية بصفة عامة — يُرجح أنه — ألقاها قبل
تمثيل المسرحية، وكأنه يشرح للجمهور رسالته المسرحية، ويُطلعه على فحوى عروضه
القادمة، كما أن هذه الأبيات — وغيرها كما سنرى — تعزِّز رأي جريدة الأهرام في
وصفها القباني بالشاعر المُفْلِق لشعره العجيب؛ حيث قال:
مراسح أحرزت تمثيلَ من سلفوا
وعظًا وجاءت لنا عنهم كمرآت
تمثِّل اليوم أحوالَ الأولى سبقوا
من طيباتٍ لهم أو من إساءات
عسى يكون لنا فيما مضى عبر
تُجدي وتُعلِم أني عبرة الآتي
عسى نكون كرامًا إذ يشخِّصنا
مَن بعدنا أو فَيا طول الفضيحات
فالحر إن مات أحيته فضائله
والوغد إن عاش مقرونٌ بأموات
هذا هو القصد من تمثيل مَن عبروا
لا اللهو والزهو والإعجاب بالذات
وهذه الرؤية التي صاغها القباني شعرًا شرحها فيما بعدُ نثرًا، وظل يرددها أمام
تلاميذه، وكأنها ميثاق فني بينه وبينهم، أو بينه وبين جمهوره. هذا الشرح نقله إلينا
تلميذه كامل الخلعي، وفيه يقول القباني: «التمثيل جلاء البصائر، ومرآة الغابر،
ظاهره ترجمة أحوال وسير، وباطنه مواعظ وعبر. فيه من الحكم البالغة، والآيات
الدامغة، ما يطلق اللسان، ويشجع الجبان، ويصفي الأذهان، ويُرغب في اكتساب الفضيلة،
ويفتح للبليد باب الحيلة، ويرفع لواء الهمم، ويحركها إلى مسابقة الأمم، ويبعث على
الحزم والكرم. يلطف الطباع، ويشنِّف الأسماع. وهو أقرب وسيلة لتهذيب الأخلاق ومعرفة
طرق السياسة، وذريعة لاجتناء ثمرة الآداب والكياسة. هذا إذا تدرَّج فيه من ذكر
الأحوال إلى ضرب الأمثال، ومن بيان المنهاج إلى الاستنتاج؛ ليرتدع الغرُّ عن غيِّه
ويزدجر، ويجد العبرة في غيره فيعتبر.»
٢٩
هذه الرؤية الفنية أو الرسالة المسرحية — شعرًا أو نثرًا — صاغها القباني بوصفه
شاعرًا أديبًا عربيًّا منتميًا إلى عصره قبل أن يكون ممثِّلًا مسرحيًّا أو
ملحِّنًا موسيقيًّا، فمضمون هذه الرسالة كان توجُّهًا عربيًّا عامًّا منتشرًا بين
الشعراء والأدباء، والمعروف بحركة «إحياء التراث العربي»، التي تَقلَّد ريادتها
الشعرية محمود سامي البارودي (شاعر السيف والقلم). وهذه الحركة كانت ملتزمة بوجوب
إبراز التراث العربي في جميع أشكاله المُشرقة، وبضرورة مواجهة الثقافة الغربية
الوافدة بالثقافة العربية الأصيلة.
من خلال هذا المفهوم لحركة إحياء التراث العربي صاغ القباني رسالته المسرحية
السابقة — شعرًا أو نثرًا — من أجل تطبيق مفهوم الإحياء في مجال المسرح. وبمعنى آخر:
أراد القباني أن يؤسِّس مسرحًا عربيًّا فصيحًا؛ يعرض من خلاله موضوعات تراثية
مشرقة تحمل الكثير من الحكم والأمثال والنماذج الأدبية الرصينة (نثرًا وشعرًا)،
مُزيَّنة بأغانٍ وألحانٍ عربية — ليواجه به العروض المسرحية الأجنبية، أو العروض
العربية المعتمدة على نصوص مسرحية مترجمة أو مُعرَّبة.
ومن خلال هذا التوجه يمكننا تفسير التزام القباني كتابة مسرحياته باللغة العربية
الفصحى، بل وعلى عرض جميع مسرحياته بالفصحى — سواء كان كاتِبَها أو مكتوبة من قِبل
غيره — كإسهامٍ منه في مواجهة محاربة المستعمر للغة الفصحى وفرض اللغة الإنجليزية
على التعليم في مصر — في ذلك الوقت — من قِبل المحتل الإنجليزي، لا سيَّما أن
الدعوات التي هاجمت الفصحى وروَّجت إلى العامية ظهرت في هذه المدة، ونسبت إلى
المصريين التخلف والعجز بسبب تمسكهم بالفصحى، ونادت باتخاذ العامية لغة للتأليف
العلمي والأدبي.
٣٠
أما هدف القباني المسرحي من طرحه رسالته، فيتمثل في جمهوره الذي سيتخذ من قصص
التراث — المُمثَّلة أمامه — العظة والعبرة؛ ليستعين بهما على معايشة الحاضر
بصورة سليمة، واستشراف المستقبل بصورة قويمة. كما سيتعلم اكتساب الفضيلة وطلاقة
اللسان العربي، ويجني ثمرة الآداب العربية، ويدفع أمته إلى الأمام ويستمتع بجمال
الألحان. هكذا كان تحديد رسالة القباني المسرحية والهدف منها. لم يبقَ أمامنا إلا
تتبُّع منهج القباني في التزامه برسالته وتحقيق هدفه، والتعرف على أدوات هذا المنهج،
أو التعرف على أسلوبه في التزامه برسالته، وتحقيق هدفه من إحياء التراث.
بهذا الفكر الإصلاحي التنويري كتب القباني مسرحيته «أُنس الجليس» مستوحيًا فيها
«حكاية الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس» المنشورة من الليلة الخامسة والأربعين
إلى الحادية والخمسين في كتاب «ألف ليلة وليلة»؛ ليُبرهِن من البداية التزامه
برسالته المسرحية — المنبثقة من حركة إحياء التراث — بمعالجة موضوع من التراث
العربي الأدبي.
والمسرحية تدور أحداثها حول الجارية الجميلة أُنس الجليس، التي اشتراها الوزير
الفضل قينة — أي جارية مغنية — للوالي ابن سليمان، ولكنه لم يسلِّمها إليه، بل
أبقاها في منزله بعض الوقت، فوقع في حبها ابنه علي نور الدين، فرضخ الأب — بدافع
الأبوة — ووافق على زواجهما، متحمِّلًا غضب الوالي عليه. ثم يعلم الوالي بهذا الأمر
من الوزير ابن ساوي — غريم الوزير الفضل — فيُنزِل جام غضبه على وزيره الفضل، فيهرب
الحبيبان إلى بغداد، ويقابلان الخليفة هارون الرشيد، فيعلم قصتهما فيرسل إلى الوالي
رسالة يأمره بإقامة العدل، وبعد عدة أحداث يجتمع شمل الزوجين ويعود الحق إلى
أصحابه، ويُعاقب ابن ساوي على أفعاله، وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة.
هذا هو الموضوع الذي عُرِض على جمهور الإسكندرية الغفير الذي حضر العرض —
تأكيدًا على اتساع قهوة الدانوب — فأُعجب ببلاغة الموضوع كما أوضحت جريدة الأهرام،
مما يعني نجاح رسالة القباني؛ وتأكيدًا على صدق الجريدة في نقلها مشاعر
استحسان الجمهور لموضوع المسرحية، نقول إن القباني كان مؤلِّفًا للمسرحية أكثر منه
مقتبسًا لقصتها، أو صائغًا لحكايتها؛ فالقباني لم يتخلَّ عن تعاليم دينه الإسلامي، ولم
ينسلَّ من قيمه الخُلقية، ولم يُضحِّ بعاداته وتقاليده العربية، كي يفوز برضى جمهوره
ويثبِّت أقدام فرقته في البيئة المصرية، عندما عفَّ يده عما وجده في حكاية الليالي
مما يُغري الجمهور ويُثير شهواته. وهي أمور تخالف مفردات رسالته المسرحية، وتُخالف
مبدأ حركة الإحياء في وجوب إبراز التراث بوجه مشرق.
فقصة الليالي فيها مشهد تفصيلي جنسي فاضح، تمَّ بين علي نور الدين والجارية أنيس
الجليس، فلم يُشر إليه القباني ولو بالإيحاء. كما أنه أصرَّ في مسرحيته على زواج
الجارية بعلي نور الدين منذ لقاء الحب الأول بينهما، وهذا الأمر لم يتحقق لها في
حكاية الليالي إلا بعد حدوث الفاحشة بمدَّة طويلة، كما أن القباني لم يتطرق في
مسرحيته إلى مشاهد شُرب الخمر الكثيرة الموجودة في حكاية الليالي. كما نجح في إظهار
هارون الرشيد بمظهر يليق بخليفة المؤمنين في عدله وحكمته، خلافًا لصورته المشوَّهة
في حكاية الليالي.
وهذه الأمور تبيِّن مدى التزام القباني بمعطيات رسالته، ومدى قدرته على امتلاك
أدوات الكتابة المسرحية — الموظَّفة فنيًّا لصالح مبدأ حركة الإحياء بوجوب ظهور
التراث في صورة مشرقة — مما يدلُّ على اهتمامه بالبناء الفني لمسرحياته تبعًا
لتقاليد الكتابة المسرحية في هذا الزمن، التي تتصف بالبساطة والمباشرة والوضوح،
تبعًا للهدف المرجو من رسالته المسرحية.
لم يكتفِ القباني بذلك — وإن اكتفى فلا غبار عليه، فكفاه القيام بما قام به في
زمن كان المسرح العربي فيه يخطو خطواته الأولى — لأنه شحذ ملكته الشعرية فاستعاض
بأشعار حكاية الليالي أشعارًا من بنات أفكاره — في معظمها الأعم — تثبت بلا جدال
بأنه شاعر مفلق كما وصفته جريدة الأهرام، وهذا الأسلوب يعتبر أهم أداة من أدوات
تطبيق منهج رسالته المسرحية، وهو الأُسلوب الذي سيتبعه — وسيلتزم به — في جميع
كتاباته المسرحية فيما بعدُ، كما سنرى.
وأشعار مسرحية «أُنس الجليس» تنقسم إلى نوعين: النوع الأول أشعار كثيرة تُعد
حِكمًا ومواعظَ بليغة من تأليفه، التزامًا بمفردات رسالته، أو أشعارًا قليلة
مقتبسة — أو متضمنة — من نظم المشاهير، جاءت مناسبة في مواقف استخدامها الدرامي
متوافقة مع حوار الشخصيات، وكأنها نُظِمت من أجلها — معضدة معطيات رسالة القباني
المسرحية — بما تحمله من حِكم ومواعظ وعبر. والنوع الآخر أشعار من تأليفه تمثِّل
ألحانًا غنائية، أضفت على العروض جوًّا غنائيًّا موسيقيًّا، فأبدت الجماهير
استمتاعها بحُسن إلقائها — كما قالت جريدة الأهرام — تأكيدًا على تحقيق هدف
الرسالة.
ومن أمثلة النوع الأول من نظم القباني قول الوزير الفضل بن خاقان:
٣١
إذا اعتذر المسيء إليك يومًا
من الآثام عذر فتى مُقرِّ
فصُنْه عن عقابك واعفُ عنه
فإن العفو شيمة كلِّ حرِّ
إذا لم تصن عرضًا ولم تخشَ خالقًا
وتستحْي مخلوقًا فما شئت فافعل
ومن أمثلة الأشعار المقتبسة من المشاهير — التي لم يذكر القباني أسماء أصحابها —
بيتان للشاعر الحسين الأصبهاني الطغرائي صاحب لامية العجم، يقول فيهما:
٣٣
أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس وأصحبهم على دخَل
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعوِّل في الدنيا على رجل
وكذلك بيتان للحاجب المصحفي الأندلسي، قال فيهما:
٣٤
هبني أسأتُ فأين العفو والكرم
إذ قادني نحوك الإذعان والندم
بالغتَ في السخط فاصفح صفح مقتدر
إن الكرام إذا ما استُرحِموا رحموا
كما وجدنا بيتًا للشاعر محمد بن حازم الباهلي، قال فيه:
٣٥
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبًا
إليك ولم تغفر له فلك الذنب
وأخيرًا نجد بيتين من نظم أبي العلاء المعري، قال فيهما:
٣٦
الملك لله من يظفر بنَيل منًى
يرْددْه قهرًا ويضمن بعده الدَّرَكا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
فوق التراب لكان الأمر مشتركا
ورغم كثرة الأشعار في حكاية الليالي — ومناسبتها للبناء الدرامي إذا استخدمت في
المسرحية — إلا أن القباني لم يقتبس إلا النادر منها، وكأنه أراد إثبات أنه شاعر
مفلق بحق، قادر على نظم أشعار معبِّرة عن موضوعه، مناسبة للجماهير العربية
المسلمة، المتشوِّقة لسماع الحكم والمواعظ والعبر — وفق معطيات رسالته وهدفها —
بوصفها جماهير غضة، لم تألف — كثيرًا — رؤية المسرح العربي المؤلَّف. ولم نجد — حسب
اجتهادنا — إلا بيتين فقط قام القباني باقتباسهما من أشعار حكاية الليالي وجدهما
مناسبين للأشعار الوعظية ذات المعاني الرصينة — تطبيقًا لرسالته المسرحية —
المتوافقة مع أشعاره المؤلَّفة، أو المقتبسة من مشاهير الشعراء، جاء فيهما:
٣٧
بنفسك فُزْ إذا ما خفت ضيمًا
وخلِّ الدار تنعي من بناها
فإنك واجدٌ أرضًا بأرضٍ
ونفسك لم تجد نفسًا سواها
والتزامًا بمفردات الرسالة لم يقتصر القباني على الشعر وحده في تعضيد هدفه
المسرحي، بل استخدم النثر في عبارات إسلامية معبِّرة في بداية حوار الشخصيات أو في
ختامها، لتكون استهلالًا حسنًا أو ختامًا تتعلق به نفس المشاهد فيرسخ في وجدانه؛
محقِّقًا بذلك الهدف المنشود من رسالته المسرحية. ومثال على ذلك: «سبحان من لا
يغفل»، أو «سبحان من تنزَّه عن الرقاد»، أو «إنَّا لله الذي لا يدوم سواه»، أو «الصبر
مفتاح الفرج».
٣٨
أما الألحان الغنائية الموائمة للبناء الدرامي في المسرحية، فتُعدُّ الأداة
الثانية — بعد الشعر — من حيث الأهمية فيما يتعلق بتطبيق منهج رسالة القباني
المسرحية؛ فهذه الألحان جاءت بصورة تعادل الحوار النثري المتبادل بين شخصيات
المسرحية؛ مما يؤكِّد أن القباني كلفٌ بالجانب الغنائي الموسيقي — كما جاء في
رسالته المسرحية — الذي اتضحت معالمه في نص هذه المسرحية، بوصفه من أوائل
الأوبريتات العربية التي عُرِضت في الإسكندرية في ذلك الوقت، وقد جاءت ألحان مسرحية
«أُنس الجليس» في صورة قصائد غنائية وموشحات وأدوار — مجسِّدة رسالة القباني في
كلماتها ومعانيها — قام بأدائها مجموعة من المطربين والمنشدين في تشكيلات غنائية
جماعية. فعلى سبيل المثال نجد في النص الآتي:
فرجًا قريبًا يا قدير
يأتي بتيسير العسير
أنت المجير أنت النصير
فرجًا قريبًا يا قدير
ومثال آخر (الجميع لحن):
٤٠
عش مليكنا دومًا
منزه الأفكار
فكلنا لك عونًا
لكل ما تختار
دم أميرنا وارقى
للمعالي واسترقا
من أساءكم يلقا
مرهفًا بتَّار
أبقاك ربي أبدًا
لكل ما تختار
والأمثلة — في النص المسرحي — كثيرة لهذه الأدوار والموشحات، التي استملحها
الجمهور — تأكيدًا على تحقيق هدف الرسالة — فأبدى إعجابه ﺑ «حُسن الإلقاء وتوقيع
الأصوات والحركات»، كما قالت جريدة الأهرام؛ مما يدلُّ على أن القباني استعدَّ
جيِّدًا لهذا العرض وغمره بفيض من الغناء والموسيقى؛ لأنه أراد النجاح لأول تجربة
مسرحية غنائية له في مصر، وهي التجربة التي تعثَّرت الفرق المسرحية السابقة في
تحقيقها. وبناءً على ذلك يحق للقباني أن يكون صاحب أول محاولة ناجحة لعرض الأوبريت
العربي في مصر، الذي مهَّد الطريق أمام ظهور المسرح الغنائي ورسوخه.
وكفى بنا — لتأكيد هذه المكانة — شهادة الكاتب المسرحي إبراهيم رمزي،
٤١ عندما قال عن القباني عام ١٩١٦م إنه «أعرف الناس بالتلحين والموسيقى،
وإليه يُعزى أكثر الفضل في عمل القدود الشائعة في الروايات نقلًا عن الموشحات
العربية وعن التركية، ولا تزال تلاحينه شائعة في الروايات التلحينية بيننا.»
٤٢ وفي الوقت نفسه يحقُّ للشيخ سلامة حجازي أن يكون واضع حجر أساس هذا
اللون الفني في مصر أيضًا بمحاولاته الأولى مع عروض فرقتي سليمان الحدَّاد وسليمان
القرداحي.
ولعلَّ القارئ لم يلتفت إلى عبارة (توقيع الأصوات والحركات) التي ذكرتها جريدة
الأهرام؛ تعبيرًا عن سرور الجمهور بعرض مسرحية «أُنس الجليس»، وربما ظنَّها مدحًا
للتمثيل والغناء، ونسى أن الجريدة ذكرت أن الجمهور كان مسرورًا «من براعة
المشخِّصين وتفنُّنهم في أساليب التمثيل، وراقَهم حُسن الإلقاء»، وهذه العبارة هي مدح
التمثيل والغناء بالفعل. وبناء على هذا نعود إلى عبارة الجريدة (توقيع الأصوات
والحركات)، ماذا تعني؟ وما دلالتها في وصف مشاعر الجمهور لما شاهده؟
الحقيقة أن الجمهور شاهد فنًّا جديدًا غير مألوف في مصر، لم يعرف له اسمًا أو
مصطلحًا، فقامت الجريدة بوصفه بهذه العبارة التي تدلُّ على أن هذا الفن به غناء
يؤدَّى بصورة جماعية في حركات تعبيرية تمثيلية راقصة! ولكن الرقص المقصود هنا ليس
رقص الغوازي الخليع — المعارض لرسالة القباني وهدفها — بل هو أداة مستحدثة ضمن
أدوات القباني في تطبيق منهج رسالته المسرحية؛ لأنه رقص محتشم رزين، مسموح به،
ومعروف في سورية باسم «رقص السماح»،
٤٣ الذي يرجع الفضل إلى القباني في إدخاله لأول مرة إلى مصر من خلال عروضه
المسرحية، وبذلك يكون عرض «أُنس الجليس» نموذجًا لنواة المسرح الاستعراضي، وصورة
للأوبريت العربي، وبداية ناجحة للمسرح الغنائي العربي في مصر.
والمُلاحظ أن جريدة الأهرام في خبريها السابقين — عن وصول الفرقة وتمثيلها
لمسرحية «أُنس الجليس» — لم تتحدث عن عنصرين من عناصر العرض المسرحي، هما: الديكور
والشخصيات النسائية، رغم وجودهما في النص المسرحي؛ فالديكور محدد في بداية كل فصل
من فصول المسرحية هكذا: الفصل الأول سراية ملكية، والثاني حديقة وقصر وأنوار
وناعورة، والثالث منزل ابن سليمان، والرابع ثلاثة سجون، والأخير ديوان الخليفة
هارون الرشيد.
والديكور بهذا الوصف يؤكد التزام القباني بمفردات رسالته من حيث المناظر
التراثية. ورغم هذا الالتزام إلا أن وصف الديكور يثير سؤالًا يقول: هل استطاع
القباني وضع ديكورات هذه المناظر في مقهى الدانوب؟ فلو كانت الإجابة نعم؛ لكانت
جريدة الأهرام أثبتت ابتكارًا فنيًّا لا مثيل له. وللأسف الشديد لم تذكر الجريدة
شيئًا عن ذلك. وإذا طرحنا السؤال بصيغة أخرى: هل مقهى الدنوب — مهما كان متَّسِعًا
وراقيًا — يسمح بوضع هذه الديكورات وإزالتها في أثناء العرض؟
المنطق يقول إن القباني لم يستخدم الديكور بصورته المعروفة — وإلا كانت الجريدة
أشارت إليه — ولكنه استخدم ديكورًا موحيًا، أو رامزًا، أو ابتكر أسلوبًا ما لتنفيذه،
تبعًا لما يملكه من أدوات تعينه على تطبيق منهج رسالته من أجل تحقيق هدفه؛ لأن من
غير المستساغ أن العرض يكون قد مُثِّل أمام الجمهور بدون ديكور، وإلا اختلطت
المفاهيم على الجمهور، ويكون المشاهد قد رأى عرضًا لم يفهمه؛ لهذا أظنُّ أن
القباني وضع لوحة عليها اسم المنظر قبل بداية كل فصل، أو أنه جعل أحد الممثلين يشرح
المنظر للجمهور قبل التمثيل، أو أنه وضع أثاثًا بسيطًا يدلُّ على فكرة المنظر —
وهذا الأمر صعب تنفيذه أمام الجمهور في المقهى؛ لأنه يتطلب إظلام المكان، أو إسدال
الستار، ولا أظنُّ أن المقهى كان مُعدًّا لأيٍّ من الأمرين — أو أنه وضع ستارة
عليها رسم للمنظر، وهو الاحتمال المرجح.
وإذا تطرقنا إلى الشخصيات النسائية، فسنلاحظ أنها عنصر جذب كبير للعروض المسرحية
في مصر في تلك الفترة، وكانت الصحف تهتم بذكر هذا العنصر في أخبارها عن الفرق
المسرحية، لا سيَّما فرقتي سليم النقَّاش ويوسف الخياط.
٤٤ وصمت جريدة الأهرام عن هذا الأمر بالنسبة لفرقة القباني يؤكد خلوَّها
من العنصر النسائي! وبالتالي فالذي قام بدور شخصيتَي «أنس الجليس، ونعيم» في العرض
المسرحي رجلان.
٤٥
ومن وجهة نظري أن الذي دفع القباني إلى ذلك هو إيمانه بهدفه المسرحي! فكيف يتأتَّى
له إظهار النساء سافرات أمام الجمهور — عام ١٨٨٤م — في مسرحية من أهدافها وعظ
وإرشاد الجماهير؟! وإظهار المرأة سافرة — في هذا الوقت — منافٍ للتقاليد العربية
والإسلامية — الواجب إظهارها بصورة مشرقة، تبعًا لمبدأ حركة الإحياء — لا سيَّما وأن
فرقة القباني كانت الفرقة المسرحية العربية الوحيدة التي تعرض المسرحيات في
الإسكندرية.
هذه الإشكالية كانت العائق الأول أمام القباني في التزامه بمفردات رسالته
المسرحية، ولكنه عالجها مستخدمًا مهارته المسرحية؛ حيث قلَّص الدور النسائي إلى
دورين فقط، بينما بلغت أدوار الرجال أحد عشر دورًا، مع الإصرار على عدم غناء
الجارية «أنس الجليس» — مخالفًا بذلك صورتها في حكاية الليالي — رغم أنها «قينة»،
أي جارية عملها الأساسي هو الغناء؛ وذلك لإيمانه الشديد بهدف رسالته المسرحية وفق
مفهومه لإحياء التراث وإظهاره بأفضل صورة ممكنة.
لم يبقَ من عرض القباني الأول في مصر سوى الفصل المضحك الذي اختتم به ليلته
المسرحية الأولى في الإسكندرية، وهذا النوع الفني لم تتحدث عنه جريدة الأهرام ولم
تحدده! فالفصل المضحك المعروف قبل قدوم القباني كان عبارة عن فن البنتومايم، أو فصل
تمثيلي ضاحك قصير، والنوع الأول كان قاصرًا على الفرق الأجنبية وسيرك مسيو رانسي بالأزبكية.
٤٦
أما النوع الثاني فكانت تعرضه فرقة يوسف الخياط،
٤٧ ولعله النوع الذي قدمه القباني؛ لأن فن البنتومايم لم يكن معروفًا
عربيًّا — في هذا الوقت — وعندما كانت الصحف تتحدث عنه — في عروض الفرق الأجنبية،
أو عروض سيرك مسيو رانسي — كانت لا تعرف له اسمًا أو مصطلحًا، فتكتفي بوصفه قائلةً:
«… أناسًا يتكلمون بالإشارة، وهي ألعاب مضحكة»، أو «ألعاب بالإشارة كأن اللاعبين
خُرس لا يتكلمون إلا بالإشارة»، أو «لعب تياترو يجري بالإشارات لا بالتكلم»، أو
«فارصة مضحكة أتمَّها المشخصون بالإشارات الرشيقة العجيبة دون تكلم.»
٤٨
وربما يظنُّ القارئ أن قصيدتَي «فتى العصر»، و«فتاة العصر» المنشورتين بعد نهاية
نص
مسرحية أُنس الجليس
٤٩ — المنشور في هذا الكتاب — هما من الفصول المضحكة التي قدَّمها القباني
في عروضه المسرحية الأولى بالإسكندرية، أو أنهما من نظم القباني. ذا الظن غير مقبول
الاحتمال؛ لأن القصيدتين عبارة عن مونولوجين تشيع فيهما العبارات العامية، وهو
أسلوب لا يتفق مع أسلوب القباني في الكتابة الفصيحة — وفق رسالته المسرحية ومنهجه
في تطبيقها — إضافة إلى أن موضوعهما به سخرية من مظاهر اجتماعية سلبية لم تكن ظهرت
عام ١٨٨٤م.
ومن الأدلة على هذا الطرح أن هذين المونولوجين ظهرا ابتداءً من عام ١٩٠٧م، وكان
معظم الممثلين يختتمون بهما العروض المسرحية،
٥٠ والتفسير المقبول لنشرهما ضمن مسرحية القباني أن هذه المسرحية أصبحت
مباحة لمعظم الفِرق المسرحية الغنائية فيما بعدُ؛ حيث استمر عرضها حتى عام ١٩٢٣م،
٥١ وربما كانت هذه الفرق تختتم عرضها بهذين المونولوجين، فقام الناشر
بوضعهما في تذييل المسرحية كأنهما صنوان لنص المسرحية، لا سيَّما أن الناشر «فؤاد
الفرنساوي» كان مولعًا بتجميع الأغاني والطقاطيق والمونولوجات، ونشرها في كتيبات صغيرة.
٥٢
هذه هي تفاصيل ليلة أول عرض مسرحي قدَّمه القباني في مصر عام ١٨٨٤م، ويا لها من
ليلة شاهدة على نجاح مسرحية «أُنس الجليس» التي كتبها القباني نثرًا وشعرًا،
ورصَّعها بأغانيه وألحانه، ووشَّاها بحركات توقيعية موسيقية من رقص السماح؛ لتكون من
بواكير الأوبريت المسرحي العربي الاستعراضي المقدَّم في مصر، وتكون أول مثال دال
على التزام القباني برسالته المسرحية من خلال منهج تطبيقي أظهر الكثير من مهارات
القباني الفنية، وتكون بذلك شاهدة على تنظير الرسالة وتطبيقها، وفق مفهوم إحياء
التراث. وعلى الرغم من هذا النجاح، وكثرة عروض هذه المسرحية من فرقة القباني والفرق
الأخرى الذي وصل عددها إلى مائة ليلة عرض حتى عام ١٩٢٣م! رغم كل هذا، فإن عرض
القباني في اليوم التالي لمسرحية «نفح الرُّبى» اكتنفه الغموض!
نفح الرُّبى
تحدَّثت جريدة الأهرام عن نجاح عرض «نفح الرُّبى»، كما تحدَّثت من قبلُ عن نجاح عرض
«أُنس الجليس»، ولكن شتان بين النجاحين! ﻓ «أُنس الجليس» عرضها القباني أكثر من
أربعين مرة — بعد ذلك — مقابل عرضه لنفح الربى أربع مرات فقط في عامي ١٨٨٤ و١٨٨٩م.
٥٣ وهذا الأمر لا يستقيم مع أسلوب الفرق المسرحية في تلك الفترة! فمهما
لاقت الفرقة من إخفاق في عرض مسرحي ما، لا تستطيع تركه بالكلية.
وأمام ذلك أرى احتمالات أربعة لتفسير إحجام القباني عن عرض هذه المسرحية؛ الأول:
أن هذه المسرحية لم تكن من تأليف القباني، رغم وصف الجريدة بأنها «رواية عربية
لطيفة المعنى»؛
٥٤ حيث إننا سنرى — فيما بعدُ — أن القباني كان مُقِلًّا من تمثيل مسرحيات
الغير. والثاني: أنها مسرحية لا يتفق موضوعها مع مفردات رسالة القباني المسرحية.
والثالث: أنها مسرحية شبه خالية من الأغاني والألحان، وهما عماد عروض القباني، وأهم
أداتين من أدوات تطبيق منهج رسالته. والاحتمال الأخير: أن اسم «نفح الرُّبى» هو أحد
أسماء مسرحيات القباني المعروفة التي مُثِّلت بأكثر من اسم، كما سنرى أمثلة كثيرة
على ذلك فيما بعدُ.
وكان من الممكن التأكد من أحد هذه الاحتمالات لو قرأنا وصفًا أو عرضًا أو مضمونًا
للمسرحية منشورًا في إعلانات الصحف! أو اطَّلعنا على نص المسرحية — غير المنشور
— الذي يحتفظ به مخطوطًا الدكتور محمد يوسف نجم
٥٥ منذ أربعين سنة، والذي تردد في نسبة تأليفه إلى القباني؛ حيث قال عام
١٩٦٣م إنه من تأليفه، وفي عام ١٩٨٥م قال لعله من تأليفه.
٥٦
عفة المحبين
عرض القباني — في اليوم الثالث — مسرحية «عفة المحبين»، التي عرضها بعد ذلك بعدة
أسماء منها: «ولَّادة» أو «ولَّادة بنت المستكفي» أو «ولَّادة بنت المستكفي بالله» أو
«عفة المحبين الوليد بن زيدون وولَّادة بنت المستكفي».
٥٧ وهي من تأليف الشيخ إبراهيم الأحدب،
٥٨ الذي اعتمد في كتابتها على تراث الأدب الأندلسي وتاريخه؛ مما يعني أن
القباني ما زال ملتزمًا بعرض مسرحيات تراثية حتى ولو لم تكن من تأليفه.
وهذه المسرحية تدور أحداثها حول الحب العفيف الذي نشأ بين الشاعرة ولَّادة والوزير
ابن زيدون، الذي زاحمه في حبها الوزير أبو عامر (ابن عبدوس الملقب بالفار)، الذي
أرسل عجوزًا إلى ولَّادة تخطبها له، فردت عليها ولَّادة برسالتها الشهيرة التي كتبها
ابن زيدون — على لسانها — متهكِّمًا فيها من أبي عامر. كما تطرقت المسرحية إلى قصة
إهدار دم ابن زيدون وسجنه، ومن ثَمَّ هروبه إلى إشبيلية وتقلُّده الوزارة في عهد
المعتضد بن عباد، وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة باستمرار الحب العفيف بين ولَّادة وابن
زيدون، على غرار قصص العرب الشهيرة في الحب.
والملاحظ أن القباني — المؤمن بمفردات رسالته وهدفها — اختار هذا النص لتطابقه مع
مفردات رسالته بما فيه من معانٍ قويمة، تصلح لأن تكون عظة للمشاهدين وعبرة لهم،
محقِّقًا بذلك هدف رسالته، فموضوع المسرحية يعالج فكرة الحب العفيف واستمراره بين
المحبين، دون وقوع ما يجرح المشاعر الإنسانية، أو يُعد خروجًا عن التقاليد العربية،
أو يُعتبر خرقًا للتعاليم الإسلامية. ومن جانب آخر اعتبر القباني هذا النص معالجة
مشرقة للتاريخ — مما يخدم توجهه؛ لأن المؤلف — الشيخ الأحدب — كانت غايته «تبرئة
ولَّادة، الأميرة المسلمة ابنة خليفة المسلمين، مما نسبه إليها بعض المؤرخين من
استهتار وتبذُّل وعكوف على اللهو والملذات»،
٥٩ وهذه التبرئة ترسِّخ رسالة القباني في وجدان جمهوره، وبالتالي تحقق هدفه
المنشود.
ومما يجدر ذكره — في هذا المقام — أن أسلوب الأحدب في كتابته لهذه المسرحية تشابه
مع أسلوب القباني في مسرحية «أُنس الجليس»! فنص «ولَّادة» به أشعار من نظم الأحدب،
كما به أشعار من نظم الآخرين أمثال بشار بن برد.
٦٠ وبطبيعة الحال أكثر المؤلف اقتباساته من أشعار ابن زيدون وولَّادة.
٦١ كذلك استخدم معاني القرآن الكريم في أثناء الحوار، كقول ولَّادة: «… ألم
أكن معدودة من مُجيدي الشعراء، وقد رُفِع لي عند فريق الأدب أعظم لواء. وهم يقولون
ما لا يفعلون، وفي كل وادٍ من شعوب الكلام يهيمون»،
٦٢ وهو قول مأخوذ بمعناه من قوله تعالى:
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (سورة الفرقان، الآيات:
٢٢٤–٢٢٦).
وهذا التشابه ربما يفتح الباب أمام الباحثين للتعرف إلى المؤثر والمتأثر بين
الأحدب والقباني في كتاباتهما المسرحية، خصوصًا أنهما ينتميان للفترة نفسها، وللفن
المسرحي نفسه، وربما تواصلٌ ما حدث بينهما أدى إلى الاتفاق على كتابة هذه المسرحية —
وغيرها كما سنرى — بحيث تُكتب وفق رسالة القباني المسرحية، وقد طُبِعت هذه
المسرحية — في نسختها المُمثَّلة من قِبل فرقة القباني — مرتين ١٨٩٩ و١٩١٧.
٦٣ وقد نشر الدكتور محمد يوسف نجم مخطوطتها الأصلية عام ١٩٨٥م المكتوبة من
قبل الشيخ الأحدب، وقام بمقارنتها بالأصل المطبوع المُمثَّل، فاكتشف أن القباني —
عندما مثَّلها — أضاف إليها كما حذف منها، فأشار — في هوامشه — إلى هذه المواضع.
٦٤
ويحقُّ للقارئ الاعتقاد بأن ما فعله القباني — من حذف وإضافة — كان بسبب رؤيته في
الإخراج المسرحي، وهو أمر يُحسب له — في هذه الفترة المبكرة — ويدل في الوقت نفسه
على تدخله في نصوص غيره وفق رؤية رسالته المسرحية، وهذا الاعتقاد — من وجهة نظري
— يُمثل نصف الحقيقة. أما النصف الآخر فيتضح من المواضع التي حذفها القباني من
مخطوطة المسرحية، وأصرَّ على عدم تمثيلها أمام الجمهور! وهي مواضع تؤكد مدى تمسكه
برسالته الفنية، وصرامته في تطبيق منهجه في ظل إحياء التراث، وذلك من خلال تمسكه
بعاداته العربية وتقاليدها، وحفاظه على تعاليم دينه الإسلامي، ومهاراته الفنية في
إبعاد أي قولٍ يمسُّ — ولو بغير قصد — ثوابت هذه الأمور.
فعلى سبيل المثال: حذف القباني حوارًا طويلًا — شغل عدة صفحات في مخطوطة الأحدب —
بين حسَّان وأبي عامر، حول أسباب العشق وعلاماته، تطرَّقا فيه إلى أمور وتفاصيل
وعبارات وشواهد غير لائقة العرض أمام جمهور عام ١٨٨٤م، مما يؤثِّر سلبًا على
تحقيق هدف رسالته المسرحية. ومن أمثلة ذلك: علامات المحب لمحبوبه، ومنها: «محبته
القتل والموت ليبلغ رضاه»،
٦٥ وهو قول يتعارض مع قوله تعالى:
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، ويتعارض أيضًا مع قوله تعالى:
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ
خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (سورة البقرة، الآيتان: ١٩٠، ٩٤).
ومن علامات المحب أيضًا — كما جاءت في النص المخطوط للمسرحية: «تصديق حديثه وإن
كذب في ما قال».
٦٦ وهذا تسويغ غير مقبول للكذب، يتعارض مع آيات قرآنية كثيرة، منها:
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ (سورة البقرة، ١٠)، و
لَعْنَةَ اللهِ
عَلَى الْكَاذِبِينَ، و
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (سورة آل عمران، ٦١، ١٣٧). ومن علامات المحب
كذلك: «موافقته وإن ظلم الجار»،
٦٧ وهو قول يتنافى مع قوله تعالى:
وَاعْبُدُوا اللهَ
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى
وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا
فَخُورًا (سورة النساء، ٣٦). ومن علامات المحب أخيرًا: «الشهادة له
زورًا، وإن تعدَّى في دعواه وجار»،
٦٨ وهو قول يخالف قوله تعالى:
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ (سورة الحج، ٣٠)، وقوله تعالى:
وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (سورة
البقرة، ٢٢٩).
كذلك حذف القباني — من مخطوطة المسرحية — كل ما جاء في حوارها من افتراء على
الله ورسله، بأن «العشاق معذورون، مغفور لهم جميع الأقوال والأفعال»!
٦٩ أو كما «جاء في الحديث أن الحامل كانت ترى يوسف عليه السلام فتضع حملها
لشدة ما يفاجئها من الوجد والغرام»،
٧٠ أو أن قوله تعالى:
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى يُعتبر برهانًا واضحًا لمن يقول إن الغرام «اختياريٌّ؛ إذ من
المحال أن ينهى النفس عمَّا لا قدرة على دفعه وهو اضطراري.»
٧١ وهذا تفسير خاطئ؛ لأن المؤلف — الشيخ الأحدب — اقتطع جزءًا من آية، ثم
فسَّره على هواه، رغم أن المعنى القرآن المقصود تقول آيتاه:
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى، أي من أراد لقاء
ربه تاركًا ما في الدنيا من معاصٍ ومحارمَ ستكون الجنة جزاءه.
والعبارات — التي لا تتفق مع رسالة القباني وهدفه منها — كثيرة في النص المخطوط،
استطاع القباني حذفها في نصِّه المُمثَّل، دلالة على التزامه بإظهار التراث
العربي في أفضل صورة، ومنها عبارات تتعلق بالخمر، وبالغزل في الغلمان، وتشبيهات
ربما تُفسر بصورة خاطئة مثل: «آيات الجمال، أو جنة العيون، أو قول أحدهم: أصلي في
جامع الغرام إلى القبلتين» … إلخ ما يتنافى مع عادات العرب وتقاليدهم، ويتعارض مع
شريعة الإسلام السمحة، مما لا يُستحسن عرضه على الجمهور في فترة مبكرة من تاريخ
المسرح العربي.
٧٢
عنترة
وفي الليلة الرابعة قدم القباني مسرحية «عنترة»،
٧٣ التي سار في نهج كتابتها — على منوال ما قام به في «أُنس الجليس»؛
حيث أعاد تأليفها — معتمدًا القصص الشعبية التي كانت تُروى في المجالس والمقاهي
السورية، التزامًا بعرض الموضوعات التراثية. والطريف أن القباني لم يعرض المعروف عن
عنترة، مما تعوَّدت على رؤيته الجماهير، من غرامه بعبلة أو قصة تحريره من العبودية
… إلخ، بل جاء بما لم يكن في حسبان الجماهير مشاهدته! حيث عرض أحداثًا عن عنترة بعد
أن أصبح حُرًّا وزوجًا لعبلة، وهذا الأمر ربما كان مقصودًا؛ لأن الجماهير المصرية
رأت عنترة — من قبلُ مسرحيًّا — في صورته المعروفة في مسرحية «فرسان العرب» التي
قدمتها فرقة سليمان القرداحي عام ١٨٨٢م.
٧٤
وموضوع مسرحية عنترة للقباني يدور حول الأمير مسعود أمير اليمن، الذي يرى عبلة
فيقع في غرامها، فيُطمِّع فيها لنفسه مستغلًا عهدًا أقامه مع قبيلة عبس، على
الرغم من علمه بأنها زوجة عنترة. وتصل وقاحة هذا الأمير إلى أن يطلب من قبيلة عبس
إحضار عبلة إليه بعد أن أشاع أنها تزوجت عنترة رغمًا عنها. وأمام هذا الطلب الغريب
يثور عنترة وبعض أعيان قبيلته، فيغِيرون على الأمير مسعود ويرديه عنترة قتيلًا؛ من
أجل شرفه وشرف قبيلته. ولكن القتيل قبل موته حرَّض القبائل المتحالفة معه ضدَّ
عنترة وقبيلته. وتنتهي المسرحية بالاستعداد لهذه المعركة الكبرى، بعد أن جاءت بشارة
النصر لعنترة، عندما توافدت جيوش القبائل المتحالفة معه ضدَّ القبائل المعادية
الأُخرى.
وهناك احتمال بأن القباني استمع إلى قصة عنترة الشعبية في مقاهي سورية التي كثر
فيها القُصَّاص منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد أشار خليل الخوري إلى هذه المقاهي
الشعبية في حلب — وذكر طرائف حدثت من مستمعي قصة عنترة — في مقدمته لديوان عنتر،
عندما نشره — في طبعته الرابعة ببيروت — عام ١٨٩٣،
٧٥ ومن خلال هذه القصص كتب القباني مسرحيته، محقِّقًا هدف رسالته المسرحية
— وفق التزامه بإظهار التراث في صورة جيِّدة — عندما أظهر الخصال العربية الصالحة
للعرض أمام الجمهور، أملًا في احتذائها والسير على منوال معانيها السامية، لا
سيَّما فكرة اتحاد العرب ضدَّ أعدائهم.
وتبعًا لمنهج القباني في تحقيق هدف رسالته المسرحية وجدناه قد وشَّى جِيد عمله هذا
بأشعار من نظمه دلَّت على موهبته الشعرية الكبيرة؛ حيث لم يستعن بأشعار عنترة
المعروفة إلا في القليل النادر، واستطاع أن يتمثَّل عنترة في مشاعره، وألَّف
أشعارًا أدخلها في نسيج أبيات عنترة، بحيث يصعب على القارئ تمييز أبيات القباني
عن أبيات عنترة.
ومن أمثلة الأبيات التي اقتبسها القباني من شعر عنترة: ثمانية أبيات من قصيدة مطلعها:
٧٦
أحن إلى ضرب السيوف القواضب
وأصبو إلى طعن الرماح اللواعب
كما اقتبس القباني ثلاثة أبيات من شعر عنترة، ثم أضاف رابعًا إليها هكذا:
٧٧
لا تقضي الدَّيْن إلا بالقنا الذُّبل
ولا تحكِّم سوى الأسياف في المُقَل
ولا تجاور لئامًا ذلَّ جارهم
وخلِّهم في عراص الدار وارتحل
ولا تفرَّ إذا ما خضت معركة
فما يزيد فرار المرء في الأجل
أنا الشجاع الذي تعنو السباع له
طوعًا وترهب مني سطوة البطل
وطوَّر القباني في صياغته الشعرية — ومن ثَمَّ في أدوات تطبيق منهج رسالته — عندما
بدأ مطلع إحدى مقطوعاته ببيت من أشعار عنترة، ثم أكمل معناه بأبيات من نظمه، وكأنه
أصبح عنترة في أقواله وحماسته ومشاعره وأحاسيسه وصوره وأخيلته، وهذا الأسلوب يُعدُّ
ابتكارًا شعريًّا غير مسبوق — على حدِّ اجتهادنا في البحث — لأنه يختلف شكلًا عن
الاقتباس أو التضمين، ويتفق مضمونًا معهما. فهو يضاهي — بصورة موسَّعة — ما يُعرف
بالتشطير في الشعر، ويمكن أن نطلق عليه — إن صح التعبير أو الاصطلاح — «التبييت»
على غرار مصطلح التشطير:
٧٨
يريد مذلَّتي ويدور حولي
بجيش النائبات إذا أتاني
ولم يدرِ بأني سوف أُصْلي
حشاشته بجمر الهندوان
أيا ملكًا سما أصلًا وفصلًا
ودونك في المعالي الفرقدان
أيطلب عبلتي وغْدٌ لئيم
وسيفي والقنا فرسا رهان
أيابن مصاد سوى ترى مُصادًا
عفيرًا في المذلَّة والهوان
وفوقك في الثرى العقبان تهوي
إذا ما سار في اليمن اليماني
وموهبة القباني التأليفية لم تقتصر على ما سبق ذكره، بل انطلقت قوية في قصائده
المؤلَّفة، بعيدًا عن قصائد عنترة ومطالعها — كما سبق الاستشهاد — فنجده يتمثَّل
بعض معاني معلَّقة عمرو بن كلثوم في قول عنترة لعبلة في المسرحية:
٧٩
غدًا يا بنت مالك تنظرينا
وسوف ترين آساد العرينا
وسوف ترين مسعودًا مُلقًّى
على الصحراء من رمحي طعينا
أيابنة مالكٍ قَرِّي وسُودي
وطِيبي وافرحي وامشي الهُوَيْنا
ولا تخشَي فإن حماك ليث
يميت الموت قبل الدار عينا
وكأن القباني يستطيع تجسيد المعاني، مستلهمًا أقوال مشاهير الشعراء، دلالة على
حافظته الشعرية القوية، وقدرته على النظم المُعالج لمواقف موضوعاته المسرحية، وهو
في أسلوبه هذا يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ أسلوب الشاعر محمود سامي البارودي رائد حركة
الإحياء في مجال الشعر.
ويُضاف إلى ذلك كثرة ألحانه المتنوعة في المسرحية، التي أُلقيت بصورة فردية أو ثنائية
أو جماعية من خلال الإلقاء الغنائي الموسيقي التعبيري الحركي المصاحب لحركات رقص
السماح، وكل هذا التنوع يعكس مدى قدرة القباني على امتلاكه للأدوات المستخدمة في
تطبيق منهج رسالته المسرحية.
كما يُحسب للقباني أيضًا استخدامه الكوميديا اللفظية — في نطاق محدود — لا سيَّما
قول عمارة: «… لو أجابت سؤالي، وترفَّقت بحالي، وأقالتني من الغم، لكنت أطعمها مَمْ،
وأسقيها إمبو. ولو طاوعتني لو أجهلت ما لي من القدرة والحفاوة، حتى زجرتني وجعلتني
وَاوَة. آه، فلو لم أكن شرَّابًا بأنقُع، لكنت خوفتها بالبُعبُع. ولولا عنتر الأسود
الأفطس الأنكد وتأنيبه وعتبه، لقلت لها به به به.»
٨٠
فقول عمارة هذا ألقاه على نفسه متمنيًّا أن يُسمعه لعبلة. وكوميديا اللفظ هنا
تتمثل في كون عبلة ليست طفلة؛ حيث إن كلمة «مَم» تُقال للطفل عند الطعام، وكلمة
«إمبو» عند الشراب، وكلمة «وَاوَة» عندما يُجرح، وكلمة «بُعبُع» عند تخويفه … إلخ.
لنا أن نتخيل التأثير الكوميدي على المشاهدين عام ١٨٨٤م عند سماع إلقاء هذه
الكلمات التي أُلقيت — بلا شك — بصورة تمثيلية ساخرة ضاحكة.
ومسرحية «عنترة» — إضافة لما سبق — تُعدُّ نموذجًا لولع القباني برسالته الفنية،
وإصراره على تحقيق هدفه؛ حيث لم يكتفِ بما فيها من معانٍ ودلالاتٍ تخدم الرسالة
والهدف عام ١٨٨٤م، فأضاف إليها فصلًا آخر عام ١٨٩٧م «ضمَّنه تمثيل كثير من عوائد
العرب المحبوبة في فخارهم بأنسابهم وأحسابهم وأشعارهم، وبعضًا من ولائمهم وأكلهم وشربهم»،
٨١ مما يعني أنه كان يُعيد النظر في أعماله المسرحية، التزامًا بمفردات
الرسالة وهدفها، مما جعل الفرق المسرحية الأخرى تتأثر بهذه الرسالة، فظلَّت تعرض
مسرحية «عنترة» حتى عام ١٩٠٤م.
٨٢
ناكر الجميل
كانت جماهير الإسكندرية على موعد لمشاهدة عرض مسرحية «ناكر الجميل»
٨٣ — في الليلة الخامسة من ليالي القباني المسرحية في مصر — وقد حضره
الأديب أمين شُميِّل، وقرظه بأبيات شعرية، نشرتها الصحف في حينها.
٨٤ وربما كان حضوره تعضيدًا لفرقة شامية تحتاج مُساندة الأدباء
والكُتَّاب، خصوصًا أن التوقيت كان في موسم الصيف الذي يكثر في وجود عِلية القوم
للاصطياف.
ومسرحية «ناكر الجميل» بسيطة الموضوع، سهلة التناول الفني؛ حيث تدور حول «حليم»
ابن الوزير، الذي يعطف على غريب يُدعى «غادر»، فيحسن إليه ويتآخى معه ويقاسمه
الجاه والمال والميراث، وذلك من فرط حُسن أخلاق حليم. ولكن هذا الغادر قابل الإحسان
بالخسة والدناءة، ونوى قتل حليم ليفوز بكل شيء. وبحادثة غير مقنعة يقتل غادر
حبيبًا ابن الملك قسطنطين بدلًا من حليم ابن الوزير. وعندما أراد الشرطي القبض
على غادر القاتل نجد حليمًا يخفي أداة القتل — الخنجر — داخل ملابسه، فيستغل غادر
الفرصة ويخبر الشرطي بأن حليمًا هو القاتل، والدليل أن الخنجر مخبَّأ في ملابسه.
وبذلك يُتهم حليم ويحكم عليه الملك بالموت. وقبل تنفيذ الإعدام يقوم الوزير — والد
حليم — برشوة السيَّاف، الذي يُبقي على حياة حليم دون علم الملك، وفي الليلة
نفسها يحلم الملك حلمًا مفزعًا، يظهر فيه شبح ويخبر الملك بأنه ظلم حليمًا وأن
القاتل الحقيقي هو غادر، وفي الصباح يروي الملك الحلم للسياف الذي تطوع لاكتشاف
الحقيقة. وبالفعل تنجح خطة السيَّاف عندما استمال غادرًا إلى جانبه، وجعله يفضي بما
في ضميره من أسرار؛ حيث اعترف غادر بأنه القاتل الحقيقي. وهنا يظهر الملك ويواجه
غادرًا باعترافه، ويحكم عليه بالموت، ويُبدي ندمه على موت حليم المظلوم، فيخبره
السيَّاف بأن حليمًا ما زال حيًّا. ووسط فرح الجميع بنجاة حليم وعقاب غادر نجد
حليمًا — بخُلق حميد لا مثيل له — يستعطف الملك كي يعفو عن غادر، وتنتهي المسرحية
نهاية سعيدة للجميع.
هذه المسرحية يُرجَّح أنها أول مسرحية يقوم القباني بكتابتها
٨٥ — أو بالأحرى تأليفها — من غير الاعتماد على أصل تراثي معروف لها،
رغم شيوع روح «ألف ليلة وليلة» في أحداثها، دلالة على وضوح مفردات الرسالة في
ذهنه منذ بداية كتاباته المسرحية. وهناك أسباب منطقية عديدة لاعتبارها أولى كتابات
القباني المسرحية، منها أسلوب الكتابة في شكله الخارجي الذي يميل إلى الشكل الروائي
(القصصي) أكثر من ميله إلى الشكل المسرحي؛ حيث تداخل السرد مع الحكي مع الإرشادات
المسرحية من غير فواصل محددة للمناظر أو المشاهد، التي أطلق عليها القباني فيما بعدُ
في مسرحياته الأخرى اسم (وقائع).
نضيف إلى ذلك قلة ألحان المسرحية
٨٦ بمقارنتها بعدد الألحان في أية مسرحية سابقة، مما يدل على أن
الموسيقى لم تكن هدفًا فنيًّا في مخيِّلة باكورة القباني المسرحية، ذلك الهدف الذي
أصبح رئيسيًّا في أعماله التالية، كذلك نُدرة الشخصيات النسائية المتمثِّلة في
شخصية واحدة هي «هزار» والدة حليم، والاستغناء عنها جائز دون حدوث خلل في الموضوع
أو في السياق الدرامي. وهذه الأمور في مجمل مثالبها تُمثِّل طبيعة البدايات.
والجدير بالذكر — في هذا الصدد — أن القباني كتب «ناكر الجميل» بأسلوب الأوبريت —
كباقي كتاباته الأخرى — أي مزيجًا من النثر والشعر، ولكنه في النثر غالى في استخدام
الصنعة اللفظية، من سجع وجناس وطباق … إلخ مظاهر أسلوب الكتابة العربية في القرن
التاسع عشر، وهذا الأسلوب بهذا الغلو — ربما غير ملائم في العروض التمثيلية — ولكنه
ملائم في القراءة الأدبية — وهو أسلوب لم نلحظه في بقية النصوص المسرحية التي سبق
الحديث عنها، ومثال على ذلك قول ناصر لحليم: «والله إن «غادر» لذميم، وشيطان رجيم،
كثير الوسواس، خئون خناس، قليل الأمانة، مصدر الخيانة، ذو مضرَّة ورياء، ومخاصمة
ومراء، أخلاقه ذميمة، وأوصافه مشومة، خبيث الطوية، وحركاته شيطانية، كالنار في
الإحراق، وإبليس في الشقاق …» إلخ.
٨٧ ونماذج هذا الأسلوب كثيرة في النص، مما يدلُّ على أن القباني كتبه
بأسلوب أدبي — كمحاولة أولى — قبل أن يُمارس تمثيله بصورة مسرحية عملية.
أما الصياغة الشعرية في المسرحية، فالقباني لم يكن في مستواه المعهود الذي
رأيناه في مسرحياته السابقة، مما يُشير إلى أن «ناكر الجميل» كانت بداية مبكرة
لممارسته الكتابة المسرحية ونظم أحداثها شعرًا، فالقباني لم ينظم أشعارًا من تأليفه
بقدر ما اقتبس من أشعار الآخرين! كما أنه لم يستخدم أسلوبه المُتبَّع في دمج تآليفه
الشعرية داخل نسيج أبيات الآخرين المقتبسة. ويمكن تفسير ذلك بأن كثرة اقتباساته
الشعرية مرجعها أنها أبيات صارت — في الأدب العربي ووجدان شعوبه — حكمًا وأمثالًا
وأقوالًا مأثورة، تتفق مع مفردات رسالته المسرحية التي بدأت تتشكل ابتداءً من هذه
المسرحية.
والمعروف أن القباني كان لا يذكر أسماء الشعراء المقتبسة أشعارهم، ورغم ذلك
استطعنا التحقق من ستين بيتًا لشعراء كُثر — في مسرحية «ناكر الجميل» — منهم على
سبيل المثال وفق ترتيب الأبيات المقتبسة: أبو العتاهية، وأبو نواس، وأبو الطيب
المتنبي، وعنترة بن شداد، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وعبد الواحد المخزومي المعروف
بالببغاء، وعلي السبتي، وأبو الهدى الصيادي، وابن نباتة السعدي، وأبو زبيد الطائي،
وصالح بن عبد القدوس، وناصح الدين الأرجاني، ومروان بن أبي حفصة، ومالك الأزدي،
والإمام الشافعي، ومحمود الوراق، وابن اللبانة الداني، وأبو الحسن التهامي، وعمر
اليافي.
ومثال على ذلك، قول علي السبتي:
٨٨
أحسِن إلى الناس تستعبد قلوبهمو
فطالما استبعد الأحرارَ إحسان
وكن مع الناس معوانًا لذي إرب
يرجو نوالك إن الحر معوان
وكنت إذا الصديق أراد قهري
وأشرفني على ظمأٍ بريق
غفرت ذنوبه وكظمت غيظي
مخافة أن أعيش بلا صديق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشَّفت
له عن عدو في ثياب صديق
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركمو مني ابتسام
فقولي مضحك والفعل مبكي
وكما هو واضح من هذه الأمثلة — وما أشرنا إليه من قبلُ — بأن الأشعار المقتبسة في
مسرحية «ناكر الجميل» تمثل الحكم والنصائح والأمثال … إلخ، وكأنها إرشادات تقويمية
وعظيمة للنشء؛ ولهذا السبب لم تقم الفِرق المسرحية الأخرى بتمثيلها بقدر ما قامت
المدارس بعرضها على تلاميذها؛ لما فيها من أمور تربوية تعليمية، ناهيك عما فيها
من محفوظات شعرية تمدُّ الطالب بذخيرة لغوية أدبية تعينه على الإنشاء السليم،
وهذه الأمور تدخل في صميم مفردات رسالة القباني المسرحية. ومن هذا المنطلق التربوي
التعليمي أصبحت هذه المسرحية درَّة العروض المدرسية المدرسية في مصر من عام ١٨٩٧
إلى عام ١٩١٦م.
٩٢
الخل الوفي
اختتم القباني أُسبوعه التمثيلي الأول — بقهوة الدانوب بالإسكندرية — بعرض مسرحية
«الخل الوفي».
٩٣ وقد أطلعتنا الصحف على معلومات تساعدنا في تخيل هذا العرض، الذي لم
يختلف عن معظم عروض القباني السابقة — المعبِّرة عن رسالته والمحقِّقة لهدفه وفق
مفهوم إحياء التراث — حيث إن المسرحية «تاريخية وقعت في مملكة فارس، يُستفاد منها
حوادث تاريخية جليلة، يمكن للمرء قياسها على حوادث هذه الأيام من أبواب عديدة.
قد جمعت هذه الرواية من كل فن مُستطاب، فجاءت مشتملة على: خالص الحكم، وضروب
الحماسة، والمروءة، ووفاء العهود، وخديعة النساء، إلى غير ذلك.»
٩٤
وتُعدُّ مسرحية «الخل الوفي» لغزًا محيِّرًا في تاريخ مسرح القباني؛ لأنها مجهولة
النص رغم طباعته، مجهولة الكاتب رغم شهرته! فالقباني عرض هذه المسرحية عشرين مرة
منذ عام ١٨٨٤ إلى ١٨٩٧م، ورغم ذلك لم يذكر اسم كاتبها في إعلاناته الصحفية،
٩٥ وعندما عرضتها الفرق الأخرى قالت: إن مؤلفها هو إسماعيل عاصم،
٩٦ وهو من مشاهير الكُتَّاب في ذلك الوقت. ومن ناحية أخرى نجد الدكتور
محمد يوسف نجم يؤكد أنها مسرحية مترجمة عن ديماس الأب، ترجمها محمد المغربي.
٩٧
واحتمال تأليف إسماعيل عاصم لهذه المسرحية في غير محله،
٩٨ ولم يبقَ أمامنا من ثَمَّ غير القبول — مبدئيًّا — بأن مترجمها محمد
المغربي. وعندما اطَّلعنا على ترجمته وجدناها مسرحية في خمسة فصول، تدور أحداثها
في فلورنسا، وشخصيتها النسائية الوحيدة اسمها «لويزا».
٩٩ رغم أن النص المُمثَّل — من قِبل القباني — عام ١٨٨٤م كان في ثلاثة
فصول، وأحداثه تدور في فارس، وبه شخصية نسائية اسمها «شرارة».
١٠٠
وهذه الاختلافات تدفعنا إلى القول بأن القباني ربما كتب مسرحية باسم «الخل الوفي»
— وهي من نصوصه الضائعة، وما أكثرها — تختلف عن المسرحية التي ترجمها محمد المغربي
ونشرها بالاسم نفسه فيما بعدُ، خصوصًا أن معظم أحداثها تدور في الكنائس والأديرة،
ومنظرها المتكرر في معظم فصولها به تمثال للسيدة العذراء مريم
١٠١ — رضوان الله عليها — وهذه الأمور لم يألف القباني كتابتها من قبلُ، ولن
يكتب عنها فيما بعدُ.
ست مسرحيات تراثية عربية استطاع القباني تقديمها — في مقهى الدانوب — في أول
أسبوع منذ قدومه إلى مصر، عبَّرت عن مدى التزامه بإظهار التراث في صوره المشرقة،
وتمسُّكه بمفردات رسالته المسرحية. كما أبانت عن نجاحه في تحقيق هدفه، من خلال أدوات
منهجه المستخدمة في التطبيق، مثل: نظم الشعر، وتأليف الأغاني، والألحان المتنوعة،
وتشكيلات رقص السماح … إلخ. وهذه المسرحيات الست شكَّلت — في الوقت نفسه — رصيده
الدرامي الناجح،
١٠٢ الذي ستعتمد عليه فرقته سنوات طويلة.
هذا الرصيد الدرامي أعاد القباني عرضه أُسبوعًا آخر،
١٠٣ معتمدًا في نجاح إقبال الجمهور لرؤية مسرحياته التراثية الجادة بما
فيها من نصائح ومواعظ وحكم شعرية وغناء وحركات تعبيرية موسيقية راقصة محتشمة، مما
جعل فتح الله صوصة — أحد المشاهدين — يرى فيها مثال الفن المسرحي العربي المطلوب —
دلالة على استيعابه الرسالة، محقِّقًا هدفها — فاقترح على القباني عرض مسرحياته
بمسرح زيزينيا.
١٠٤
كان اقتراحًا وجيهًا، انتقال عروض القباني إلى زيزينيا، فهذا المسرح هو أمل الفرق
المسرحية في الإسكندرية، ومن يعرض على خشبته كأنه يعرض على خشبة دار الأوبرا
الخديوية في القاهرة، قمة آمال الفرق المسرحية. وهذه الخطوة لم يندفع القباني إليها
اندفاع الندامة، بل خطط لها تخطيط السلامة، فأضاف إلى رصيده الدرامي عملين جديدين،
هما: مسرحية «الأمير محمود وزهر الرياض»،
١٠٥ ومسرحية «الشيخ وضَّاح ومصباح وقوت الأرواح».
١٠٦ فشكَّل بذلك مجموعة من العروض قدَّر لها نجاحًا جماهيريًّا وكفاءة
متوخاة عندما يعرضها على مسرح زيزينيا.
الأمير محمود
مسرحية «الأمير محمود نجل شاه العجم» — كما جاء عنوانها على غلاف النص المطبوع
— تدور حول الأمير محمود، الذي أحب فتاة مرسومة على ورق ممدود، فعقد العزم على
السفر في أرجاء المعمورة بحثًا عن صاحبة الصورة، فيصل الهند ليجد جيوش أبيه تقف لها
بالند تحاول غزوها، فيتدخل لإنقاذ مليكها، فيحاول ملك الهند رد الجميل بجميل أفضل
من الجميل في مساعدته على إيجاد صاحبة الصورة، وذلك بتعليقها معروضة على باب
حمَّام الغرباء، ليراها كل قادم من الأنحاء، لعله يتعرف على صاحبتها الحسناء،
وبعد وقت ليس بالقصير يرى الصورة شاب فقير، فيُغمى عليه في الحال، بعد أن ظهر السر
المُحال؛ فهو كان يحب هذه الفتاة منذ حين، فهي ابنة ملك الصين، تُدعى زهر الرياض،
ولكن والدها أبعده عن البلاد، وبذلك عرف الأمير محمود مكان الأميرة المقصود، فرحل
إليها وهو نشوان، ليجدها مقيَّدة بحبائل شيطان، فيستعين بقدرته السحرية على إنقاذ
أميرته الصينية، فيقتل الشيطان، ويبتهج الخلَّان، ويفوز بالأميرة المصونة، صاحبة
الصورة الميمونة.
١٠٧
ومن الجائز أن تكون مسرحية «الأمير محمود» أول مسرحية يؤلِّفها القباني وهو في
مصر؛ حيث إن المسرحيات السابقة جاء بها من سورية مؤلَّفة — أو مكتوبة — ضمن
استعداداته في تجهيز فرقته قبل قدومها إلى مصر؛ لأنه بدأ التمثيل منذ يوم وصوله،
وظل يمثِّل كل يوم مسرحية جديدة لمدة أسبوع، ولكن «الأمير محمود» عرضها بعد أسبوعين
من وصوله، وبعد أن أعاد مسرحياته السابقة لمدة أسبوع بعد عرضها الأول؛ مما يعني أن
«الأمير محمود» لو كانت ضمن رصيد الفرقة الدرامي لكان عرضها ضمن مسرحياته في
الأسبوع الأول أو في الأسبوع الثاني بدلًا من إعادة مسرحيات سبق عرضها من
قبلُ.
ومما يُعضِّد هذا الرأي أن هذه المسرحيات كانت الأرقى أدبيًّا وفنيًّا من
سابقاتها، وهذا الرُّقي يتناسب مع خبرة القباني بجمهوره المسرحي الذي اكتسبها في
هذين الأسبوعين؛ حيث شعر بأن الجمهور يميل إلى قصص الغرام المستوحاة من التراث
العربي، مستمتعًا بما فيها من أشعار وألحان وموسيقى، فاستغل هذا الميل لصالح رسالته
بصورة أدبية، فألَّف موضوعًا تبنَّى فيه فكرة الحب العفيف، والحث على عدم
الاستسلام، ووصول الإنسان إلى مبتغاه بالجدِّ والعمل، ومحاربة الظلم والقهر في صورة
الشيطان. وهذه الأمور في مجملها تخدم رسالته، وتحقق هدفه في ظل إحياء
التراث.
أما الرقي الفني المقصود في هذه المسرحية، فقد تمثَّل في قدرة القباني على تطويع
أدوات منهج رسالته؛ حيث زخرف موضوعه بأشعاره الجيدة المناسبة للسياق الدرامي،
مُقِلًّا في اقتباسه من الآخرين؛ حيث اقتبس أربعة عشر بيتًا من أشعار: ابن حزم
الأندلسي، وأبي العتاهية، وابن قلاقس، وقيس بن الملوح، وهدبة بن الخشرم،
وأبي الشمقمق، وأبي فراس الحمداني، وأمين الجندي، مقابل نظمه ١٧٥ بيتًا من
تأليفه.
ومن أمثلة الأشعار المقتبسة: قول ابن حزم الأندلسي:
١٠٨
يا ليت شعريَ مَن كانت وكيف سرَت
أطلعة الشمس كانت أم أبي هي القمر
أظنُّه العقل أبداها تدبُّره
أو صورة الروح أبدتها لي الفِكَر
أو صورة مثلت في النفس من أملي
فقد تحيَّر في إدراكها البصر
لو لم يكن كل هذا في حادثة
أتى بها سببًا في حتفيَ القدر
ومن مظاهر تقدم القباني في أسلوبه المسرحي — الداعم لمنهج رسالته — تلطيف جفاف
الصنعة اللفظية، باحتفاظه بالسجع شكلًا، ومعاصرة معانيه مضمونًا، ورقة مفرداته
إيحاءً، وشرح النثر شعرًا. مثال ذلك قول الأمير لوالده الملك:
١٠٩ «مذاهب العشق يا والدي تختلف، يدركها كل مشوق كلِف؛ فقد يكون باللمس
ويكون بالنظر، ويكون باستحسان بعض الصور، ويكون يا والدي بالسماع، فيوقع بالمحب في
النزاع، وقد يكون بمجرد الوصف، فيورد العاشق موارد الحتف، ومنهم من أصابه في
الأحلام، فانتبه مرعوبًا من الوجد والهيام، ومنهم من عشق باللثم، فكابد كل غم وهم،
وقد يكون العشق اختياري، ويكون بمسارقة النظر اضطراري، وللعشق يا والدي مراتب
وأحكام، يعرفها كل من عشق فهام، والخلاصة يا والدي الحنون، أن الجنون فيه
فنون.
جنون العشق والبلوى فنون
إذا عبثت بذي لُبٍّ عيون
وتلك عن القلوب لها حديثٌ
وأسرارٌ تدِقُّ لها شئون
وما حركاتها إلا معانٍ
بما يبديه تنبعث الشجون
فتنطق عن خبايا في الزوايا
بما تبدوا به السر المصون
فيُطمع بالمنى صبًّا تعنَّى
بمعناه وغايته المنون»
كذلك برع القباني في إظهار قدراته الأدبية في هذه المسرحية — التزامًا بمفردات
رسالته — من خلال ظاهرة امتلاكه لوفرة المرادفات للفظة الواحدة، فعلى سبيل المثال
نجد الأمير محمود يشرح للوزير معنى الحب أو الغرام قائلًا: «… له مراتب ولوازم
وأسماء، تستعبد الأحرار وتذلُّ الأعزاء؛ فمنها: الهوى والعشق والجوى والوله والكلف
والتتييم والتتييه والتبل والشغف والتولُّه والصبابة والمِقَة والوجد والهيام والشجن
والتبريح والفتون والآلام والأرق والجنون والأنين والكمد والاحتراق والنحول
والاصفرار والذل والإهانة …» إلخ.
١١٠
الشيخ وضَّاح
وإذا أردنا الحديث عن مسرحية «الشيخ وضَّاح ومصباح وقوت الأرواح»، سنعيد حديثنا
السابق عن مسرحية «نفح الرُّبى»؛ لاشتراكهما في جميع الظروف والملابسات؛ فمسرحية
«الشيخ وضَّاح» — مسرحية جديدة — لم يعرضها القباني طوال تاريخه إلا أربع مرات فقط!
ثلاث منها في شهري يوليو وأغسطس ١٨٨٤م، والأخيرة بعد ذلك بخمس سنوات عام ١٨٨٩م.
١١١ وهو أسلوب مُحيَّر لم تعهده الفرق المسرحية في تلك الفترة، مما يدل
على أنها — ربما — مسرحية أخرى من رصيد القباني الدرامي، عرضها باسم آخر فيما
بعدُ، أو أن أحد الاحتمالات المذكورة عن مسرحية «نفح الربى» — التي تحدثنا عنها
سابقًا — ينطبق عليها. وللأسف لم تنشر الصحف ملخصًا عنها أو عن مغزاها أو عن
فكرتها. كذلك لم نطَّلع على نص المسرحية الذي يحتفظ به الدكتور نجم — كاحتفاظه
بنص «نفح الربى» أيضًا — منذ أربعين سنة؛ حتى نعرف حقيقة الأمر.
١١٢
عروض زيزينيا
أصبح رصيد فرقة القباني الدرامي ثماني مسرحيات، تضمن الفرقة لها نجاحًا مقبولًا
عند عرضها على مسرح زيزينيا؛ لذلك بدأت الفرقة تعيد عرض هذا الرصيد مرارًا
وتكرارًا — لتتمكن من إتقانها — في مقهى الدانوب، الذي تحول اسمه إلى «نادي
الروايات العربية» دلالة على نجاح العروض الممثلة. وربما أراد القباني تعضيد هذا
النجاح بمساندة رسمية حكومية، فنظم قصائد مادحة في خديوي مصر «محمد توفيق» ألقاها —
القباني — بنفسه في نهاية عروضه المسرحية قبيل انتقاله إلى زيزينيا.
١١٣
تكاتفت عدة عوامل قدرية وإدارية وفنية في نجاح عروض القباني بزيزينيا؛ فالعامل
القدري تمثَّل في عدم وجود أية فرقة مسرحية — عربية أو أجنبية — في الإسكندرية في
هذا الوقت — على قدر اجتهادنا في البحث — فكانت فرقة القباني الحصان الوحيد في
مضمار الفن المسرحي. ويأتي العامل الإداري ليساند القدر في صالح القباني؛ حيث قام
إسكندر فرح — أمين صندوق الفرقة — بعمل اكتتاب للجمهور من أجل مشاهدة خمسة عروض
مسرحية بثمن إجمالي واحد، وهو المعروف بنظام الاشتراك، أي إذا كان ثمن العرض الواحد
مبلغًا محددًا؛ فإن المشترك يدفع هذا المبلغ مخفَّضًا في حالة دفعه مقدَّمًا الثمن
الإجمالي للعروض الخمسة، وقام حبيب غرزوزي — اللبناني — ببيع هذه الاشتراكات في
مكتبته، باعتباره أشهر متعهدي حفلات المسارح في الإسكندرية، وأشهر ناشر للنصوص
المسرحية وبائعها في هذا الثغر.
أما العامل الفني فكان أقوى العوامل على الإطلاق؛ حيث قام المطرب عبده
الحمولي بالغناء بين الفصول،
١١٤ فتوافد الجمهور بشكل كبير، يتقدمهم محافظ الإسكندرية وبعض رجال الحكومة
ولفيف من كبار القوم وأعيانهم، وهكذا نجحت عروض القباني الخمسة: أُنس الجليس، وعفة
المحبين، ومصباح وقوت الأرواح، والأمير محمود وزهر الرياض، وعنترة العبسي.
١١٥
ويُلاحظ في أسماء هذه العروض أن القباني اختارها من رصيده الدرامي اختيارًا
موفَّقًا؛ لأنها المعبِّرة عن مفردات رسالته المسرحية، والمجسِّدة لمنهجه في
التطبيق، والمحققة لهدفه المنشود في ظل فكرة إحياء التراث؛ حيث كانت الأقوى
دراميًّا وجماهيريًّا، تبعًا للمفهوم الدرامي في تلك الفترة، ووفقًا للإقبال
الجماهيري عليها.
الشهر المجهول
شهر ونصف الشهر تقريبًا هي فترة نشاط القباني منذ وصوله حتى عروضه في زيزينيا،
وهي فترة بها زخم فني صاحبه نجاح جماهيري يُنبئ بنجاح أكثر في الشهر الآتي، ولكن
الآتي المرتقب لم يأتِ؛ لأن تتبع نشاط القباني المسرحي — بالنسبة لنا — مرتبط
بجريدة الأهرام — المصدر الوحيد للمعلومات عن القباني في هذا الوقت — التي اقترفت
مخالفة قانونية، فصدر الأمر باحتجابها لمدة شهر،
١١٦ وبالتالي احتجاب نشاط القباني المسرحي طوال هذا الشهر، وعندما عاودت
الجريدة الظهور علمنا أن الفرقة عادت إلى مقهى الدانوب، وأن عروضها مستمرة من خلال
رصيدها الدرامي السابق، باستثناء مسرحية جديدة هي «عائدة» المأخوذة من رصيد فرقة
سليم النقَّاش،
١١٧ والتي عرضتها — من قبلُ — معظم الفرق المسرحية العربية
والأجنبية.
وأحداث مسرحية «عائدة» تدور في العصر الفرعوني، حول أسْر عائدة ابنة ملك أثيوبيا
وقيامها بخدمة الأميرة المصرية أمنيريس، وأن الاثنتين تتنافسان في حب الضابط
راداميس، رغم حبه لعائدة دون الأخرى. ومن خلال الأحداث نجد أن أثيوبيا تغِير على
مصر، فيطلب فرعون من راداميس قيادة الجيش، مع تمني عائدة لها بالانتصار على أبيها
وجيش وطنها. وبعد ذهاب راداميس تختبر الأمير أمنيريس شعور عائدة له، فتخبرها بنبأ
موته في المعركة، ثم تنفي لها الخبر بعد أن علمت بحبها له. ويعود راداميس منتصرًا
ويجر خلفه الأسرى، فتقع أنظار عائدة على أبيها أسيرًا مكبَّلًا بالأغلال رغم
تنكُّره، فيطلب منها أن تكتم خبر حقيقته. بعد ذلك يأمر فرعون بزواج عائدة من راداميس،
ولكن راداميس يطلب من فرعون العفو عن الأسرى فيوافقه البعض ويخالفه رجال الدين. وفي
لقاء غرامي تذهب عائدة لمقابلة راداميس فيوقفها والدها، ويطلب منها سؤال راداميس عن
طريق الجيش المصري الذي سيُلاقي الأثيوبيين، ولكنها ترفض، فيضغط عليها والدها
فتوافق مرغمة. وعندما تلتقي براداميس تتفق معه على الهرب إلى موطنها، فيوافق
ويخبرها عن الطريق الذي سيسلكه الجيش، وهنا يظهر له عموناصر ويقبض عليه، ويُقدَّم
راداميس للمحاكمة، فيُحكم عليه بالسجن في قبو حتى الموت جزاءً لخيانته. ولكن عائدة
تسبقه إلى هذا القبو متخفية حتى تلقى معه المصير نفسه، وبذلك تنتهي
المسرحية.
وعرض القباني لمسرحية «عائدة» ربما يعدُّه البعض خرقًا لمفردات رسالته، ومخالفة
لفكرة إحياء التراث العربي، بوصفها تتحدث عن تاريخ الفراعنة من جهة، ومن جهة أخرى
لا تُعتبر من رصيد فرقته الدرامي، بل هي من رصيد فرقة أخرى. وبالنسبة للأمر الأول
فتاريخ الفراعنة لا ينفصل عن التراث التاريخي للمصريين، وهذه التفرقة التاريخية
الدقيقة لم ينشغل بها الفكر العربي في هذا الوقت، لا سيَّما أن المسرحية اشتملت على
معاني الحب العفيف والتضحية في سبيل الوطن والوفاء بالعهود والبرِّ بالوالدين …
إلخ. وهذه المعاني تتوافق مع رسالة القباني؛ مما يعني أنه كان ملتزمًا بعرض ما
يتوافق مع رسالته من مسرحيات، حتى لو كانت من الرصيد الدرامي للفرق الأخرى، مثلها
مثل المسرحيات المؤلَّفة من قِبل آخرين أمثال الشيخ إبراهيم الأحدب.
الاختيار الأخير
انتهت شهور الصيف، وأصبحت الإسكندرية خاوية من زائريها، فذاق القباني طعم الكساد
الجماهيري، ولم يجد الجديد في جعبته الفنية؛ كي يضمن استمرار رسالته المسرحية، كما
لم يجد ابتكارًا في أدوات منهجه يجذب به الجماهير. فعاش القباني أزمة حقيقية لا
مجال لاجتيازها سوى اختيار طريق من ثلاثة: إما العودة إلى وطنه سورية، وهو اختيار
مُجبر على رفضه — كما سنعلم لاحقًا — أو تكرار تجربة سليم النقَّاش عندما ترك
المسرح إلى نشاط آخر، وهو اختيار أشد قسوة من الأول؛ لأنه يعني التخلي عن رسالته
المسرحية. إذن لم يبقَ أمامه سوى الاختيار الأخير، وهو الانتقال برسالته من
الإسكندرية إلى القاهرة.
عروض العاصمة
جاء القباني بفرقته إلى القاهرة في منتصف أكتوبر ١٨٨٤م، واستأجر مسرح
البوليتياما، وبدأت عروضه المسرحية تتوالى مع إقبال جماهيري لا بأس به، استطاعت
جريدة الأهرام نقل مظاهر إعجابه، كما نقلت خبر تشجيع فارس نمر عندما ألقى خطبة بعد
عرض حضره للقباني، أبان فيها فضل فن الروايات على الهيئة الاجتماعية،
١١٨ مما يؤكد نجاح وصول رسالة القباني المسرحية إلى جماهير العاصمة، وتحقيق
الهدف منها.
ومما ساعد على نجاح عروض القباني الأولى في القاهرة، أنها كانت العروض العربية
الوحيدة المطروح عرضها في تلك الفترة، وبالتالي لم تلقَ فرقة القباني أية منافسة،
ويُضاف إلى ذلك قيام القباني بعرض مسرحيتين جديدتين، ضمَّهما إلى رصيده الدرامي
هما: «لباب الغرام» أو «الملك متريدات» و«حمزة المحتال».
١١٩
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام — دليلًا على تحقيق هدف الرسالة — أن نجاح
عروض القباني في مسرح البوليتياما بالعاصمة وتوافد الجمهور على رؤيتها أثَّر
سلبًا على عروض الفرق الأجنبية، التي كانت تُعرض على مسرح حديقة الأزبكية، وهذا
يعني أن القباني قدَّم عروضًا ذات مضامين ومعانٍ مطلوبة لجماهير تلك الفترة، لم تكن
متوفرة في العروض الأجنبية، وبمعنى آخر: أن رسالة القباني الفنية كانت أقوى من
رسالة العروض الأجنبية، وأن القباني — وفق مبدأ إحياء التراث — نجح في مواجهة
الثقافة الغربية بثقافته العربية المتمثلة في عروضه المسرحية التراثية. والدليل
على ذلك أن المسيو «أنريكو سانتيني» — مستأجر مسرح حديقة الأزبكية من الحكومة —
قدَّم طلبًا إلى نظارة الأشغال العمومية في سبتمبر ١٨٨٥م، لإعفائه من دفع أُجرة
المسرح عن هذا الموسم بسبب عروض الأوبرا والحفلات الموسيقية بكُشك حديقة الأزبكية
وعروض مسرح البوليتياما.
١٢٠
لباب الغرام
أحداث مسرحية «لباب الغرام» تدور حول ملك اليونان متريدات، الذي يشنُّ حربًا
على روما انتقامًا لمقتل والد خطيبته «مونيم»، وتأتي الأخبار بأنه مات في
المعركة، فيحضر ابنه «فرناس» — أمير إحدى المدن — محاولًا الاستيلاء على الحكم،
وإجبار «مونيم» على الزواج منه، ولكنها ترفض، كما يحضر الابن الآخر «إكسيفار» —
أمير إحدى المدن النائية — حزينًا على والده، ممنِّيًا النفس بالزواج من «مونيم»
التي أحبَّها في الماضي، وعندما علم بأن أباه خطبها آثر البُعد، وتدور مناقشة
محتدمة بين الشقيقين حول أحقية فرناس بالحكم، ومحاولة إكسيفار ثنيه عن عزمه هذا،
فتتدخل مونيم في النقاش وتنكشف عاطفتها تجاه إكسيفار، وفي هذا الوقت تأتي أخبار بأن
الملك ما زال حيًّا. وعندما يعود الملك يعرف من وزيره ما دار بين ابنيه ومونيم،
فيزجُّ بهم جميعًا في السجن، وبعد فترة يعفو الملك عن فرناس الذي جهَّز جيشًا
وتمرَّد على أبيه وانضم إلى أعدائه، وقرر قتل الجميع ليفوز بالمُلك، وفي الوقت
نفسه يهرب إكسيفار مع مونيم من السجن، وبعد عدة أحداث ينجح الأب في قتل ابنه فرناس
لخيانته، ولكن جيش الأعداء كاد يهزم متريدات، فخشى الملك من الوقوع في الأسر
ذليلًا، فحاول قتل نفسه، في الوقت الذي يظهر فيه إكسيفار وينتصر على الأعداء وينقذ
والده. وبهذا الفعل يتأكَّد الملك من شجاعة ابنه إكسيفار فيتنازل له عن العرش وعن
خطيبته، وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة.
وهذه المسرحية كتبها القباني متأثِّرًا بمسرحية «الملك متريدات» لراسين — من خلال
اطِّلاعه على تعريب للمسرحية، قاما به سليم تقلا كما نرجِّح،
١٢١ أو عن طريق آخر كما يرجِّح آخرون
١٢٢ — مع ملاحظة أن عرض هذه المسرحية من قِبل القباني لا يُعتبر خرقًا
لتوجهه في إحياء التراث العربي؛ لأنه حوَّل معانيها إلى أوبريت جيد في نثره وشعره،
وفق مفردات رسالته المسرحية، لما وجده في النص الأصلي من معانٍ صالحة للعرض أمام
الجماهير، تتفق مع موضوعاته التراثية السابقة، بما فيها من أحداث تاريخية إيجابية
لتمثلها من قِبل المشاهدين، أو سلبية لتجنبها من قبلهم، مثل الشجاعة والمروءة والحب
العفيف والإخلاص والوفاء والغدر والخيانة والخسة والدناءة … إلخ، وبالتالي يضمن
القباني تحقيق هدف رسالته.
وإذا كان القباني أثبت قدرته الشعرية في أعماله السابقة، فهو في «لباب الغرام»
تفوَّق على نفسه وأظهر مهارة شعرية ملحوظة — تُضاف إلى مهارته في تطبيق منهج رسالته
— حيث لم يقتبس سوى بيتين فقط من الصاحب بن عباد
١٢٣ — حسب اجتهادنا في تخريج الأشعار — مقابل نظمه لأكثر من ثلاثمائة بيت،
خلافًا لعشرات الأبيات التي كُتِبت بأشكال مختلفة من الشطرات الثلاثية والرباعية
والخماسية، التي تدخل في جنس الموشحات، وهذا الكم الهائل من النظم كان موجَّهًا نحو
ترسيخ مفردات رسالته، آملًا تحقيق هدفه؛ حيث دارت هذه الأشعار حول معاني المسرحية
المتنوعة — السابق ذكرها — من شجاعة ومروءة وحب وإخلاص … إلخ؛ مما يعني تمسك
القباني بمبدأ حركة الإحياء في مواجهة الثقافة الغربية بالثقافة العربية عندما
حوَّل معاني راسين إلى أشعار عربية أصيلة.
ومن ابتكارات القباني الكتابية في هذه المسرحية — التي تدخل ضمن تنوع أدوات منهجه
— أنه كان يمزج — في الحوار المسرحي — النثر بشطرتي الأبيات العمودية، ثم بشطرات
الموشحات — الثلاثية أو الرباعية أو الخماسية — مزجًا فنيًّا متوافقًا في معانيه
ومضامينه للتعبير عن الأحداث، وهو شكل جديد لم نعهده في الكتابات المسرحية السابقة
أو اللاحقة لكتابات القباني.
ومثال على ذلك قول إكسيفار:
١٢٤
آه كيف أغراني أبي بنكره، وخاضعني بتمويهه ومكره، حتى اطَّلع على سري،
وفهم حقيقة أمري، وأوقعني في الشدائد، والمصائب والمكائد، وقد أظهر لي
علامات الصلاح، وأوضح لي سبل النجاح، وقال لي إني بلغت سن اللغوب، وأنحلتني
الكروب والخطوب، وقد أزمعت أن أرقيك، على التخت الملوكاني دون أخيك،
وأزوِّجك بمونيم، وأجعلك ملكًا عظيم، فرقاني حالًا إلى الحبس، وجعل قريني
النحس، ما أيمنها من عبارة، وما أحسنها من زهارة، يا ترى أين مونيم الآن،
وما فعل بها والدي الخوَّان، هل عيوني تراها، أو أقضي شهيد هواها، آه، وا
عنائي، وشدتي وطول بلائي، من ظلم أبي، ولواعج كربي، وجور طوالع الهوى، الذي
أذاقتني علم الجوى، وسيرتني محزون، وأسير مسجون.
لولا الهوى ما نابني
ضيم ولا ذقت العذاب
كلا ولا أبصرت سجـ
ـنًا قد علاني باكتئاب
هل يا ترى مونيم تد
ري ما بقلبي من العذاب
أم هل أنال منها بعـ
ـد البعد ذا الحبس اقتراب
وا لوعتي جسمي غدا
من حرقة البين مُذاب
أنا في القيود مصفَّد
وفؤادي عاد في التهاب
وسواي بالإطلاق ير
فل والنعيم المستطاب
سُبحان من قسم الحظو
ظ فلا ملام ولا عتاب
طال انتحابي
وزادت شجوني
والقلب صابي
ألا فارحموني
نار الجوى بي
أبادت شجوني
لكم ثوابي
فلا تظلموني
قيدي ثقيل
وحبي جحيم
وجسمي نحيل
ودمعي سجيم
حزني طويل
وقلبي كليم
إني دخيل
فلا تقتلوني
حمزة المحتال
وإذا أردنا الحديث عن مسرحية «حمزة المحتال»، سنقول إنها لغز ألغاز عروض القباني
المسرحية؛ لأن فرقته لم تمثِّلها إلا مرة واحدة فقط يوم ٣ / ١١ / ١٨٨٤ بمسرح
البوليتياما بالقاهرة، ولم تُعد عرضها مطلقًا طوال تاريخها الفني. وغموض هذه المسرحية
يزداد بفقدان نصها، وعدم قيام أية فرقة أخرى بتمثيلها، ولحُسن الحظ أن جريدة
الأهرام نشرت خبر تمثيلها الوحيد — مبيِّنة فحوى موضوعها، وظروف عرضها، وما صاحبها
من مغريات فنية أخرى — قائلةً:
مثَّل فريق الروايات العربية في الليل الفائت رواية «حمزة المحتال»، وهي
مضحكة مبهجة، جمعت بين الهزل والجد فوائد أدبية متعددة، أخصها بيان عيب حرص
الغنى، وخصاصته وبخله بإنفاق القرش الواحد، ليكسب منه بعد ذلك ألوف القروش.
ونتيجة سوء تربية الأولاد بإفساد أخلاقهم من صغرهم، وإيضاح الأسباب التي
تجعل المال مضرًّا بأولاد الأغنياء، الذين يكتفون من اتباع مسرَّة اللبس
بحسن اللباس، وإتقان الزي وغير ذلك من الفوائد، وقد عقب الرواية فصل راقص،
ثم فصل مضحك، فأجاد المشخِّصون ونالوا رضى الحضور، الذين كرروا لهم
التصفيق استحسانًا، وفي ختام الرواية أعلن حضرة الفاضل الشيخ أبي خليل مدير
الفريق عن استعداده بتمثيل رواية «الخل الوفي» في مساء اليوم، فسأله
الجمهور بصوت واحد تكرار تشخيص رواية لباب الغرام «متريدات»، فأجاب سؤالهم.
١٢٥
وهذا الخبر المنشور عن المسرحية لم يوضِّح هل كان موضوعها تراثيًّا وفق توجه
القباني في إحياء التراث، أو اجتماعيًّا معاصرًا ليكون أول خرق لرسالته؟ وإذا
نحِّينا جانبًا هذا الأمر سنجد الموضوع متوافقًا مع هدف رسالة القباني، من حيث
إظهار عيوب المجتمع من خلال البخل والإسراف وسوء التربية … إلخ. ويمكننا أيضًا — من
خلال الخبر المنشور — استخلاص عدة أسباب منطقية تبيِّن لنا عزوف القباني عن إعادة
تمثيل هذه المسرحية مرة أُخرى.
السبب الأول: أنها مسرحية كوميدية، وهو نوع لم يألفه الجمهور في عروض القباني
المسرحية، ومن الجائز أن الجمهور أبان ذلك بعد عرض المسرحية، مثلما أبان عن رغبته
في مشاهدة مسرحية «لباب الغرام» بدلًا من «الخل الوفي». السبب الثاني: أن المسرحية
غير غنائية؛ لأن الجريدة في خبرها السابق لم تشر إلى حُسن الإلقاء وتوقيع الألحان …
إلخ العبارات الدالة على العرض الغنائي، كما عودتنا في أخبارها السابقة عن عروض
القباني الغنائية. السبب الثالث: أن العرض كان خاليًا من رقص السماح، بدليل أن
الجريدة لم تذكر عباراتها المعهودة في هذا الشأن، مثل: حُسن الإشارات، وتوقيع
الألحان والحركات … إلخ العبارات الدالة على هذا النوع من الرقص. هناك دليل آخر في
هذا المقام، وهو أن القباني عرض فصلًا راقصًا مستقلًّا بعد عرض المسرحية، وهو إجراء
لم يقم به من قبلُ، دلالة على خلو العرض الأساسي من رقص السماح، وكأن القباني أراد
تعويض نقص العرض الأساسي بهذا الفصل.
١٢٦
وإذا كانت هذه الأسباب تبرر عدم قيام القباني بإعادة عرض مسرحية «حمزة المحتال»،
فإنها في الوقت نفسه تقوي احتمال أن مؤلفها شخص آخر غير القباني — رغم قول بعض
الباحثين بأنها من تأليفه
١٢٧ — لأن القباني لم يكتب مسرحيات كوميدية من قبلُ — ولن يكتب فيما بعدُ —
وإذا كان القباني هو المؤلف، فكيف يؤلِّف مسرحية خالية من الغناء، وخالية من رقص
السماح، وهما من أهم عناصره الفنية المميزة لعروضه الجاذبة لجماهيره؟!
بشتَّى السبل حاول القباني إرضاء جمهوره؛ أملًا في نجاح عروضه الأولى في القاهرة
— وبالتالي إيصال رسالته المسرحية — فكان يخضع لرغبات الجماهير في عرض ما تستحسنه،
وحجب ما تمجُّه — كما أوضحنا — وكان يُحلي جيد لياليه المسرحية بغناء عبده الحمولي.
كما أعلن في الصحف عن نيته مستقبلًا تحسين مسرحياته، وزيادة عدد ممثليه ومطربيه،
ودفعهم إلى إتقان التمثيل،
١٢٨ مما يدل على أن قصورًا ما شعر به في فرقته. وهذه الإجراءات والنوايا
الحسنة أسهمت بصورة أو بأخرى في إقناع القباني بأن عروضه في العاصمة نالت رضى
الجمهور، وكُتب لها النجاح الذي كان يأمله، وحققت هدف رسالته كما أراد.
الأوبرا بين الواقع والحقيقة
اقتناع القباني بنجاح عروضه في القاهرة جعله يقدم على خطوة غير محسوبة؛ حيث قرر
القفز إلى أعلى قمة الشهرة المسرحية، متجاهلًا درجات سلم هذه الشهرة الواجب صعودها
من أسفل إلى أعلى، وذلك عندما قرر التمثيل في دار الأوبرا الخديوية، تلك الدار
التابعة للخاصة الخديوية مباشرة، والتي تحتكر التمثيل فيها الفرق الأجنبية
العالمية. ففي يوم ١٥ / ١٢ / ١٨٨٤ تقدَّم القباني وعبده الحمولي بطلب إلى وزير
الأشغال العمومية من أجل الترخيص بالتمثيل في دار الأوبرا.
١٢٩
ومن وجهة نظري أن هذا الطلب لم يُنفذ، ولم يقم القباني بالتمثيل في دار الأوبرا
في هذه المدة. والاحتمال الأكبر أن الوزارة وضعت العراقيل أمام تنفيذ هذا الطلب
الجريء؛ لأن الخاصة الخديوية — أو الحكومة المصرية — ظلَّت تكافح طويلًا في إبقاء
دار الأوبرا قاصرة على العروض الأجنبية دون العربية. وما سمحت به للفرق العربية من
عروض على خشبتها — في القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين — لم يكن إلا بضعة
حفلات في المناسبات الرسمية، أو عروض منتظمة تُقدم من خلال الأجانب أصحاب امتياز حق
استغلال الأوبرا.
١٣٠
وهناك تفسير منطقي آخر لعرقلة الحكومة طلب القباني عرض مسرحياته في الأوبرا، وهو
أن هدف رسالته المسرحية لا يتفق مع وجود المستعمر الأجنبي المسيطر على الحُكم
والحكومة. فكيف يسمح هذا المُستعمر — مُمثَّلًا في الحكومة — بعروض مسرحية تراثية
عربية هدفها: العظة والعبرة والتعليم وإجلاء البصائر ورفع الهمم وبعث الحزم وتقدم
الأمم … إلخ أهداف رسالة القباني المسرحية.
ومما يقوِّي الرأي بعدم تمثيل القباني في الأوبرا الخديوية — في هذه المدة — أن
الصحف لم تتحدث عن أخباره، أو عن عروض فرقته بصورة مستمرة كما هي العادة، واكتفت
جريدة الأهرام بخبر واحد يوم ١٤ / ١ / ١٨٨٥ قالت فيه: «مثَّل أمس فريق جناب الفاضل
الشيخ أبي خليل القباني رواية «ولَّادة»، وقد أجاد كعادته، ولكن كان الحضور قليلين
بسبب الأمطار، فالمرجو أن تزدحم أقدامهم في بقية ليالي التمثيل.» هذا الخبر لم تأتِ
بغيره الجريدة إلا بخبر مماثل في أبريل ١٨٨٥م، ثم بخبر ثالث في نوفمبر ١٨٨٥م،
وكأن القباني لا وجود له في مصر!
وإذا عُدنا إلى الخبر المنشور — السابق — سُنلاحظ أنه خبر عن عرض أُقيم في
الأقاليم، وليس في الأوبرا الخديوية! فالجريدة لم تُشر إلى المسرح المُمثَّل عليه
العرض، ولم تذكر أي تعليق أو استحسان من قِبل الجمهور، فجاء الخبر فاترًا فاقدًا لكل
أهمية تليق بعرض يُقام في الأوبرا الخديوية، وهذا الأمر غير مقبول منطقيًّا! فكيف
تهتم الصحف بعروض الفرقة في مسرح البوليتياما وتُسهب في الحديث عنها، وفي المقابل
تتجاهل عروضها في الأوبرا الخديوية ولا تأتي بأخبارها التفصيلية؟!
وشتان بين خبر الجريدة السابق عن عرض فرقة القباني — المفترض أنه مُقام في
الأوبرا — وخبرها المنشور في العدد نفسه عن فرقة يوسف الخياط — التي ستمثل في مسرح
البوليتياما وليس في الأوبرا — قائلةً: «في مساء السبت القادم يُمثِّل فريق جناب
يوسف أفندي خياط بتياترو البوليتياما رواية «الظلوم» بناءً على طلب الجمهور الذي
ارتاح إلى حُسن موضوعها وجمال مشاهدها. ولا يخفى أن هذه الرواية من خيرة الروايات
موضوعًا ومشاهدةً. ومنذ يوم أمس أعلن الفريق عن اعتماده على تمثيلها، فتقدم
الكثيرون إلى ابتياع الأوراق بين لوجات وكراس، والمرجو أن يزدحم الوفود في ليلة
السبت القادم.»
ويُلاحظ في خبر الجريدة عن القباني أنه أشار إلى ليالٍ أخرى تالية، ولكن الجريدة
أهملتها، ولم تتحدث عنها فيما بعدُ؛ وذلك لاحتمالين: الأول أنها عروض مُقامة في
الأقاليم، وهي عروض لا تهم القراء بقدر ما تهمهم أخبار عروض العاصمة والإسكندرية.
والآخر أن القباني نفسه كان غير موجود ضمن فرقته في هذه المدة، وكانت الفرقة تعرض
عروضها الإقليمية من أجل الحصول على نفقاتها، وهو الاحتمال الأرجح، وسيتكرر حدوثه
مستقبلًا كما سنرى.
والرأي بعدم تمثيل القباني في الأوبرا الخديوية — في هذه الفترة — يُخالفنا فيه
الدكتور محمد يوسف نجم، الذي أوضح أن القباني مثَّل ١٥ حفلة بالأوبرا في الفترة (من
٩ إلى ٢٩ يناير ١٨٨٥م)، اشترك في عشر منها عبده الحمولي،
١٣١ ووثَّق الدكتور معلوماته هذه — بعيدًا عن مرجعه الأثير (جريدة الأهرام)
— بقوله: «وقد تحققنا من ذلك في سجلات الأوبرا.»
١٣٢
وسجلات الأوبرا — التي اعتمد عليها الدكتور نجم — لا وجود لها الآن؛ لاحتراقها
ضمن حريق الأوبرا الشهير في سبعينيات القرن العشرين، ولكنها تتفق مع الوثائق التي
اعتمدنا عليها، والمحفوظة في دار الوثائق القومية، التي تقول بحقيقة أن القباني
قدَّم طلبًا للتمثيل في الأوبرا، ولكن واقع هذه الحقيقة يقول إن صمت الصحف المريب
حول هذه العروض، يثبت أنها عروض كان من المفروض أن تُعرض ولكنها لم تُعرض … وفرق
كبير بين الحقيقة والواقع! وربما مستقبلًا يأتي أحد الباحثين بأدلة تؤكِّد عدم
تمثيل القباني في هذه المدة أو تثبت العكس، ولكنني لا أتصور وجود أدلة تؤيد ما ذكره
أدهم الجندي — عن هذا الأمر — بأن الخديوي توفيق عندما قابل القباني أعطاه دار
الأوبرا، كي يمثل فيها لمدة سنة تشجيعًا لفنِّه دون مقابل.
١٣٣
وربما آخر ما نملكه من الأدلة المنطقية على عدم تمثيل القباني في الأوبرا هو ما
حدث بعد ذلك! فإذا كان القباني مثَّل بالفعل في الأوبرا لكان وصل إلى قمة الشهرة،
مما يجعله يتمسك بهذه القمة ويحافظ عليها، ويدافع عنها بكل ما لديه من موهبة فنية،
وقدرة إدارية على ثبات فرقته في الساحة المسرحية. الغريب أن العكس هو الذي حدث!
فلم نجد للقباني نشاطًا ملموسًا منذ يناير إلى نوفمبر ١٨٨٥م، ومعظم هذه الفترة كان
القباني في سورية، وإذا كان سفر القباني بسبب شعوره بالإحباط من عدم تمثيل فرقته في
الأوبرا فسيكون ذلك مبررًا مقبولًا، ولكن إذا كان مثَّل في الأوبرا فلن يكون سفره
مقبولًا، وهذا يعني أن هناك سببًا آخر أدَّى بالقباني إلى السفر وترك فرقته في مصر،
خصوصًا أن فرقته كانت الفرقة العربية المسرحية الوحيدة التي تعرض مسرحيات عربية في
مصر منذ قدومه لأول مرة وحتى عروضه في البوليتياما في نوفمبر ١٨٨٤م.
أول منافسة
السبب هو ظهور فرقة منافسة للقباني لأول مرة، وهي فرقة يوسف الخياط، التي عرضت
مسرحيتي «هارون الرشيد» و«الظلوم» على مسرح زيزينيا بالإسكندرية في ديسمبر ١٨٨٤م،
١٣٤ كما عرضت مسرحيتي «الكذوب» و«الظلوم» أيضًا على مسرحَي برنتانيا
والبوليتياما في يناير ١٨٨٥م. والمسرح الأخير كان مخصَّصًا لآخر عروض القباني.
١٣٥ وبهذه العروض — وغيرها
١٣٦ — استطاعت فرقة يوسف الخياط الهيمنة على الساحة المسرحية العربية في
الإسكندرية والقاهرة، في أثناء فترة غياب القباني في سورية، وهذا الموقف يشير إلى
أن القباني — بوصفه صاحب رسالة فنية — ذو طبيعة مسالمة، غير راغب في خوض المنافسات
الفنية، أما أعضاء فرقته في مصر فكانوا يمثِّلون — في أثناء غيابه — بعض العروض المتواضعة
١٣٧ لسد نفقاتهم كما أوضحنا من قبلُ.
عودة مماثلة
ظل القباني في سورية طوال ستة أشهر، يستعد استعدادًا قويًّا لعودته إلى مصر بصورة
فنية جديدة تضمن له نجاح رسالته الفنية واستمرارها، وتكفيه — في الوقت نفسه — عواقب
المنافسة غير المضمونة، وبعد أن كمُل استعداده جاء إلى الإسكندرية مرة ثانية في
نوفمبر ١٨٨٥م، ليُعيد مشهد قدومه الأول؛ حيث بدأ التمثيل في مقهى الدانوب، الذي
أصبح اسمه «تياترو الدانوب»، وقد وصفت جريدة الأهرام شكل الفرقة في صورتها الجديدة
بقولها: «إن الجوق تام العدة والنظام، ومؤلَّف من خيرة المشخصين، والروايات بديعة
الموضوع ومختلفة المشاهد، وسيعقب تمثيل كل رواية تقديم فصل بانتوميم مضحك.»
١٣٨
كانت بداية القباني الثانية ناجحة؛ حيث استطاع في أسبوع واحد عرض خمس مسرحيات،
القليل منها من رصيده الدرامي المعروف مسبقًا — مثل مسرحيتي «متريدات» و«عائدة» —
والكثير من المسرحيات الجديدة التي تمثل جانبًا إيجابيًّا من استعداده الجديد الذي
جاء به من سورية، وهذا الجديد أسفر عن ظهور مسرحيات عربية تراثية وفق التزامه بإحياء
التراث العربي هي: «مجنون ليلى» و«عبد السلام الحمصي» و«عاقبة الصيانة وغائلة
الخيانة». وحتى يضمن القباني نجاح عودته الثانية خفَّض أجرة الدخول.
١٣٩
مجنون ليلى
إذا أردنا الحديث عن مسرحية «مجنون ليلى» سنلاحظ أن القباني عرضها مرتين فقط يومي
١٢ و١٧ نوفمبر ١٨٨٥م،
١٤٠ ولم يعرضها بعد ذلك مطلقًا، ولم تعرضها أية فرقة بعد ذلك نهائيًّا!
والسبب في ذلك مجهول، ويثير الفضول لمعرفة الحقيقة وراء هذا الإحجام عن عرض هذه
المسرحية فيما بعدُ! لا سيَّما أن قصة «مجنون ليلى» من أشهر قصص الغرام في التراث
العربي والشعبي. وتعتبر مسرحية القباني أول معالجة مسرحية لهذه القصة قبل أن يتطرق
إلى معالجتها — أمير الشعراء — أحمد شوقي عام ١٩٣٠م!
ومما يسهم في ضبابية ظروف هذه المسرحية أن نصَّها الكامل مفقود رغم وجود أوراق
المشهد الأخير لدى الدكتور محمد يوسف نجم — منذ عقود أربعة — الذي تضاربت أقواله
حول نسبة هذه المسرحية إلى تآليف القباني؛ فتارة يقول إنها من مؤلفاته،
١٤١ وتارة أخرى يظنُّ أنها من تأليف الشيخ إبراهيم الأحدب،
١٤٢ وهذا الظن — بكل أسف — غير مقبول من الباحث؛ لأن بين يديه نص المشهد
الأخير من المسرحية، وأيضًا — بين يديه — النص الكامل لمخطوطة مسرحية «مجنون بني
عامر مع محبوبته» لإبراهيم الأحدب،
١٤٣ فلماذا الظن؟!
وربما عن قريب ينجح أحد الباحثين في الحصول على إجابات شافية لهذه الأسئلة حول
مسرحية «مجنون ليلى» وغيرها من مسرحيات القباني المجهولة. ولكن ما يهمنا في هذا
المقام أن القباني لم يحِد عن مفردات رسالته المسرحية؛ حيث إن مسرحية «مجنون ليلى»
إحدى قصص التراث الأدبي والشعبي العربيين، وفيها من معاني الفضيلة والحب العفيف
والإخلاص والوفاء الكثير، وهي معانٍ أصيلة تُسهم في تحقيق هدف رسالته.
ديك الجن
ومسرحية «عبد السلام الحمصي» — أو عبد السلام بن رغبان الحمصي المعروف بديك الجن
١٤٤ — لا تختلف في ظروفها كثيرًا عن مسرحية «مجنون ليلى»؛ حيث عرضها
القباني أيضًا مرتين فقط في نوفمبر ١٨٨٥م، ومارس ١٨٨٦م،
١٤٥ ولم تمثلها أية فرقة أخرى بعد ذلك. والجدير بالذكر أن هذه المسرحية
شذَّت عن سابقتها — مجنون ليلى — في أنها من تأليف الشيخ إبراهيم الأحدب وليست من
تأليف القباني، ونصها نشره الدكتور نجم عام ١٩٨٥م.
١٤٦ وقد اعتمد الشيخ الأحدب في كتابتها على أخبار ديك الجن المنشورة في
كتاب الأغاني للأصفهاني، وقد مثَّلها القباني لتوافقها مع رسالته المسرحية، لما فيها
من معاني الحب العفيف والإخلاص والوفاء والغدر والخيانة … إلخ المعاني الموجودة في
مسرحية «ولَّادة» للأحدب أيضًا، والتي تسهم كذلك في تحقيق هدف رسالة القباني
المسرحية.
عفيفة
لم يبقَ من مسرحيات القباني الجديدة سوى مسرحية «عاقبة الصيانة وغائلة الخيانة»
التي عرضها بأسماء أخرى، منها: «عاقبة الصيانة» أو «عاقبة الصيانة والخيانة» أو
«عفيفة»، وظل يمثِّلها عشرات المرات حتى عام ١٨٩٩م.
١٤٧ وأحداثها تدور حول قيام الأمير «علي» بمناصرة الأمير زهير ضدَّ أعداء
الأخير، ويترك الأمير علي الحكم وزوجته «عفيفة» في يد نائبه «سليم». ولكن سليمًا
خان العهد، وبدأ يراود عفيفة عن نفسها، ولكنها أبت ووبخت سليمًا توبيخًا شديدًا،
فأسرَّها في نفسه وقرر الانتقام منها بعد أن أنجبت ولدًا من الأمير علي في أثناء
غيابه. فأرسل سليم خطابًا إلى الأمير يبلغه فيه بأن زوجته عفيفة زنت وأنجبت ولدًا من
السفاح، فأرسل له الأمير ردًّا مكتوبًا يأمره فيه بقتل عفيفة وابنها. فيقوم سليم
بتسليم عفيفة إلى السجَّان كي ينفِّذ فيها الحكم في الصحراء، وبعد عودة الأمير علي
يكتشف خدعة سليم ويتأكد من عفاف عفيفة وأنها صانت شرفه وغيابه، وعبثًا حاول الأمير
التكفير عن ذنبه، خصوصًا بعد أن سمع بموت زوجته، ولكن السجَّان يخبره بأنها ما زالت
على قيد الحياة، وتعود عفيفة إلى زوجها وابنها، وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة
كالمعتاد.
وهذه المسرحية كتبها القباني — وفق مفردات رسالته المسرحية، وتوجهه في إحياء
التراث — بالأسلوب نفسه الذي اتَّبعه في بقية مسرحياته؛ حيث ألَّف قطعها الشعرية
والغنائية، مع تضمينها الكثير من أشعار الآخرين المناسبة لمعاني رسالته، أمثال:
المتنبي، وعنترة، والبهاء زهير، وبشار بن برد، وابن الرومي، وأبي هلال العسكري،
وابن المعتز، والسموأل، والثعالبي، وأبي ذؤيب الهذلي، وأبي نواس، وعروة بن حزام،
والقطامي التغلبي، والمعري، وصالح بن عبد القدوس، وكمال الدين بن النبيه، وحسن حسني
الطويراني، وعمر اليافي، وعمر الأنسي، وحنا الأسعد.
وربما هذه المسرحية تصلح نموذجًا لبيان ما قام به القباني من تغيير، أو تبديل في
الأشعار المقتبسة من آخرين، مما يدلُّ على تنوع أدوات تطبيق منهج رسالته، ويعكس —
في الوقت نفسه — قدرته الشعرية، وتنوع أسلوبه المسرحي في الكتابة، ومثال على ذلك
قصيدة حنا الأسعد،
١٤٨ الذي يقول فيها:
١٤٩
نداماي في صدري السقام لقد قرَّا
وطير اللقا بالهجر عن منظري فرَّا
وإن خلتمُ مَينًا بما بالحشا ضرَّا
سلوا فاتر الأجفان عن كبدي الحرَّا
وعن درِّ أجفاني سلوا العقد والنحرا
رماني ريمٌ بالجفون وما درى
وأعرض عني عزَّةً وتكبُّرًا
وكم جئت أنصاري بأمري مخبرا
حبيب إذا ما رمت عنه تصبُّرا
يقول الهوى لن تستطيع معي صبرا
وقد عزَّ عني بالحياة وصاله
وكم ذلل الآساد قهرًا دلاله
له جيش غنج لن يُباري قتاله
يذكِّرني عهد النجاشي خاله
وأجفانه الوسنا تذكِّرني كسرى
هذه القصيدة أعاد القباني صياغتها حذفًا وإضافةً وتعديلًا وتبديلًا … إلخ؛ كي
تصبح مناسبة للموقف الدرامي في المسرحية — وفق رسالته — فجاءت هكذا:
١٥٠
سلوا فاتر الأجفان عن كبدي الحرَّى
وعن در أجفاني سلوا العقد والنحرا
غزال إذا ما رمت عنه تصبرا
يقول الهوى لن تستطيع معي صبرا
من السمر بالألحاظ إن مال أو رنا
فلا تذكروا من بعده البيض والسمرا
بخيلًا غدا بالوصل ما جاء سائلًا
له الدمع إلا رد سائله نهرا
له مقلة يعزى لبابل سحرها
كأن بها هاروت قد أودع السحرا
يذكِّرني عهد النجاشي خاله
وأجفانه الوسنى تذكِّرني كسرى
ويفتر عن ثغر تنظَّم درُّه
فلم أدرِ عقدًا مذ تبسم أم ثغرا
تعشَّقته كالظبي والغصن قامة
رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا
ومن اللافت للنظر أن مسرحية «عفيفة» هي الوحيدة المطبوعة للقباني حاملة تفاصيل
الألحان بمصطلحاتها الموسيقية، مثل: مقام حجاز دوكاه، أصول نوخت، أو أصول سربند، أو
أصول مصمودي، أو مقام شاهناز الحجاز، أصول مدور … إلخ، وهذا راجع إلى قيام كامل الخلعي،
١٥١ بتلحين بعض أجزائها، وإشرافه على نشرها والتقديم لها، كما هو مبيَّن
في نص المسرحية المنشور في هذا الكتاب.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن معظم الألحان المذكورة في المسرحية مطبَّقة
على الأشعار والتواشيح المؤلَّفة من قِبل القباني؛ مما يعني أن القباني كان لا
يلحن القطع الشعرية المقتبسة من آخرين إلا نادرًا، وهذا الأسلوب يبيِّن لنا مدى
إحساسه الموسيقي أمام كلمات القصائد والأغاني، ومدى تمكُّنه من صياغة الأشعار
والكلمات المؤلفة بإحساسه الأدبي؛ لتنسجم مع الألحان النابعة من إحساسه الموسيقي،
بعكس معاناته في انسجام ألحانه النابعة من وجدانه الموسيقي مع الكلمات النابعة من
وجدان الآخرين. وهذه المعاناة تبرر لنا قيامه بكثير من التبديل والتعديل والحذف
والإضافة في الأشعار المقتبسة من آخرين والتي تشكِّل معظم أغاني مسرحياته. وهذه
الأمور في مجملها توضِّح لنا قدرة القباني في امتلاك أدوات منهجه المسرحي، وتوظيفها
خدمة لرسالته المسرحية.
هجوم الزمان
انتهت عروض القباني في الإسكندرية، وبدأ يستعد فنيًّا لاقتحام العاصمة مرة أخرى،
خصوصًا أن رصيده الدرامي وصل إلى أربع عشرة مسرحية، تكفي لأن تظهر فرقته بمظهر
مشرِّف، لا سيَّما وانه سيمثِّل على مسرح حديقة الأزبكية، ذلك المسرح العريق الذي
يُعتبر خطوة ضرورية لأية فرقة مسرحية تريد أن يُكتب لها النجاح والشهرة.
وصل القباني إلى القاهرة بفرقته في ديسمبر ١٨٨٥م، وبدأ في عرض مسرحياته التي لاقت
نجاحًا كبيرًا.
١٥٢ هذا النجاح أثار غيرة الآخرين وحسدهم، فأرادوا النيل منها أملًا في
إيقاف نجاحها المتواصل. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ وما الوسائل التي ستؤثِّر سلبًا
على القباني وفرقته؟ وما الأدوات التي ستُستخدم لإيقاف هذا النجاح؟ هنا ظهرت
جريدة «الزمان» مسخِّرة صفحاتها في إيجاد هذه الوسائل والأدوات التي من شأنها التأثير
سلبًا على القباني، مما يؤدي إلى وقف نجاحه — وربما نشاطه المسرحي — حيث قامت يوم
٢٢ / ١٢ / ١٨٨٥ بنشر مقالة هجومية ضدَّ القباني وفرقته — من غير ذكر اسميهما — تحت
عنوان «التشخيص العربي في تياترو الجنينة».
١٥٣
استهلَّت الجريدة هجومها بمقدمة مثيرة تجبر القارئ على قراءتها والاهتمام بكل
كلمة فيها، قائلةً: «صمتنا عن هذا التشخيص مدة طويلة من الزمن، وغضينا الطرف ساكتين
عن القذى إلى أن طفح الكيل وعم الويل، وأصبح الكلام فرضًا واجبًا، وشرح الحال خدمة
وطنية.» وبهذا الاستهلال أصبح القارئ واقعًا تحت تأثير أمر خطير يحدثه التمثيل
المسرحي، لا بد من الوقوف أمامه دينيًّا (الفرض الواجب)، وسياسيًّا (الخدمة
الوطنية). وهكذا نجح تأثير هذا الاستهلال — منذ البداية — لأن الجريدة استخدمت أهم
سلاحين (الدين والسياسة) بوصفهما من الخطوط الحمراء الواجب عدم تجاوزهما.
بعد هذا الاستهلال المؤثر مهَّدت الجريدة لموضوعها بشرح معنى التمثيل المسرحي
الذي يهذِّب الأخلاق ويُحسِّن الطباع، ويصل بجمهوره إلى درجات الكمال؛ لأنه يرى
ويسمع القصص التاريخية ذات المعاني القويمة والعظات الإيجابية … إلخ هذا التمهيد
السامي لمعنى التمثيل المتطابق مع رسالة القباني المسرحية، وكأن الجريدة تتحدث
بلسان القباني نفسه، ولكن الجريدة أظهرت عكس ذلك تمامًا! قائلةً: «ولكن من سوء الحظ
رأينا التشخيص العربي في تياترو جنينة الأزبكية جاريًا على ما يُفسد الآداب ويهتك
حرمتها، وينزع من القلوب تلك المبادئ الشريفة التي استغرق غرسها السنين
الطوال.»
وهذه العبارات أثارت فضول القارئ! فأي تمثيل مسرحي — في هذا الوقت — من الممكن أن
يُفسد الآداب، ويهتك الحرمات، وينزع من الإنسان مبادئ الشرف؟ علمًا بأن فرقة
القباني — رغم عدم ذكر اسمها — هي التي تمثِّل في مسرح حديقة الأزبكية في هذا
الوقت! ويجيب الكاتب بأن التمثيل المقصود هو تمثيل الرجال! ذلك التمثيل الذي اقشعر
منه بدنه عندما رأى رجالًا حالقي شواربهم ولحاهم يمثِّلون أدوارًا نسائية، ويتلفظون
بعبارات «يا قلبي … يا روحي»، وهي عبارات لا يمكن أن تُقال في محفل أدبي، كما ذكر
كاتب المقالة!
ومن البيِّن أن معطيات الكاتب لا تؤدي إلى النتائج التي استخلصها؛ لأن العبارات
التي استهجنها تُقال في موضوع مسرحي يتطلبه الموقف الدرامي. كما أنها عبارات
مستساغة لا خروج فيها على التقاليد أو الآداب العامة. وحتى يؤثِّر الكاتب في
قرَّائه ذكر أن المسرح محفل أدبي، وهو اسم يُطلق مجازًا على المسرح، ولكنه يختلف
عن معنى المحفل الأدبي المرتبط بالندوة أو الاجتماع أو … إلخ؛ لذلك أضاف الكاتب
انطباعات أخرى قدَّمها إلى القراء من أجل الوصول إلى موقف شرعي ديني عندما قال:
«ويا ليت أصحابنا اقتصروا على ملابس النساء … بل رأينا منهم من التهتك، وخلع
العذار، والإفراط في الغنج، وعدم المبالاة بالأدب، ما ألجأنا إلى أن نحرِّم حضور
الناس في تشخيصهم.»
هكذا استطاع الكاتب التأثير على القراء، وضمان إجماع موقفهم ضدَّ هذا التمثيل
المسرحي المشين الذي يحدث في مسرح حديقة الأزبكية، بعد أن نصَّب نفسه مفتيًا، فأفتى
بتحريم حضور الجمهور لمشاهدة التمثيل الذي يُعرض في هذا المسرح. ولكي يضمن الكاتب
تطبيق فتواه من قِبل الجمهور نبش ماضي هؤلاء الممثلين وفجَّر مفاجأة لم تكن في
الحسبان، عندما أقنع قراءه بأن فتواه هذه يوجهها ضدَّ ممثلين غير مصريين، بعد أن
طُبِّقت — من قبلُ — الفتوى عينها على هؤلاء الممثلين أنفسهم قائلًا: «على أن
هؤلاء المشخصين ليسوا بمصريين، بل هم من بعض المطرودين من سوريا؛ لأن حضرة والي
الشام لما رأى منهم هذه الأحوال، وعرف عواقبها، منعهم من التشخيص، وشدد عليهم اللوم
لدخولهم في صنف النساء مع أنهم رجال.»
وتعد هذه المقالة أقدم قول منشور عن قصة منع القباني من التمثيل في سورية، بما
فيها من حقائق اختلف حولها الباحثون المحدِّثون ممن قالوا إن فرمانًا أصدره السلطان
العثماني بمنع القباني من التمثيل.
١٥٤ والحقيقة أن والي الشام هو الذي أصدر هذا المنع — وربما شفاهة — من غير
إصدار وثيقة مكتوبة بذلك،
١٥٥ وإلا كانت الجريدة عزفت على هذا الوتر ألحانًا هجومية قاسية. كما أن
سبب المنع في سورية لم يكن ظهور الخليفة هارون الرشيد في صورة كوميدية، أو أن بعض
المشايخ حرَّموا التمثيل بصفة عامة … إلخ ما ذكره الباحثون.
١٥٦ وحقيقة هذا الأمر — بناء على مقالة جريدة الزمان — أن المنع كان بسبب
تشبُّه الرجال بالنساء في التمثيل؛ حيث إن فرقة القباني كانت خالية من العنصر
النسائي.
وإذا عدنا إلى المقالة — مرة أخرى — سنجد كاتبها أطال وأسهب في الاعتماد على
السُّنَّة النبوية، بوصفها المصدر التشريعي الثاني في الإسلام بعد القرآن الكريم،
فيما يتعلق بحُرمة النظر إلى الغلام الأمرد، وهو الوصف المنطبق على ممثلي فرقة
القباني، قائلًا في ذلك: «… إن الشريعة الإسلامية الشريفة لا تجوِّز النظر إلى وجه
الأمرد، الذي يُخشى منه الفتنة. بل إن هؤلاء الأشخاص مُردُ صناعة لا مُرد طبيعة، يأتون
من التهتُّك مما تستقبحه بنات الهوى.»
وأخيرًا يصل الكاتب إلى هدفه من هذا الهجوم قائلًا: «حيث إن التمثيل على هذه
الحال، فلنا الثقة التامة بأن سعادة محافظة عاصمتنا الهمام، نصير الأدب، والمحافظ
على فوائده، لم يشاهد ما هو جارٍ في هذا التياترو، وإلا لكان ينفي المشخصين من أول
وهلة … ولأجل ذلك نُظهر ثقتنا بأنه يتخذ الاحتياطات اللازمة لمنع هذا التمثيل
بالكلية … ولا شك أن ما حصل في دمشق الشام سيحصل في مصر القاهرة … وعندنا أن حضرات
رفقائنا أرباب الصحف يتقدَّمون لمساعدتنا في هذا المشروع الذي هو أول خدمة واجبة
للوطن العزيز.»
هجوم الزمان الآخر
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا هاجمت جريدة الزمان تمثيل فرقة القباني؟ وهل
هجومها كان موجَّهًا إلى التمثيل بصفة عامة، أو إلى تمثيل القباني وفرقته فقط؟
الإجابة من وجهة نظري أن الجريدة وجهت هجومها نحو القباني وفرقته بصفة خاصة؛ لأنها
أرادت النيل منه وإقصاء فرقته، والدليل على ذلك أنها نشرت — قبل مقالتها الهجومية
— مقالة بتاريخ ١١ / ٤ / ١٨٨٥ أشادت فيها بعرض مسرحية «الظلوم» لفرقة يوسف الخياط،
وأبانت ما في العرض من أمور الغرام والحب والغيرة، وما قام به سليم حبيب أسماء من
«حركات طبيعية تجذب القلوب … فضلًا عن أشعاره الرقيقة ولطف تعبيره ورشاقته»، وما
قامت به إحدى الممثِّلات «في حركاتها وبديع كلامها» … إلخ.
إذن، لماذا أشادت الجريدة بتمثيل فرقة يوسف الخياط، مقابل هجومها على فرقة
القباني والمطالبة بوقف تمثيلها وطردها من مصر؟! الإجابة — من وجهة نظري — أن بعض
الفرق المسرحية لاحظت صعود نجم القباني وتفوق فرقته في العروض المسرحية، خصوصًا بعد
أن عرضت على أحد مسارح القاهرة الكبرى — مسرح حديقة الأزبكية — وهذا الصعود
سيؤثِّر عليها سلبًا، فأرادت إقصاء القباني بوصفه منافسًا قويًّا يُخشى من نجاحه
وتفوقه. والدليل على ذلك أن جريدة الزمان لم تكتفِ بهجومها السابق، بل أردفته بهجوم
آخر بعد أربعة أيام فقط من هجومها الأول، فنشرت يوم ٢٦ / ١٢ / ١٨٨٥ — تحت عنوان
«تياترو جنينة الأزبكية»
١٥٧ — نص رسالة جاءتها من «مصطفى عارف» مع التعليق عليها.
أما الرسالة؛ فقد أيَّد فيها صاحبها هجوم الجريدة على أعضاء فرقة القباني —
التي تُمثِّل في حديقة الأزبكية — وأعاد عبارات الهجوم المنشورة من قبلُ باللفظ
تارة وبالمعنى تارة أخرى، حتى وصل إلى هدفه — الذي حاولت الجريدة الوصول إليه من
قبلُ — وهو التخلص من القباني وفرقته. ومن أمثلة ما قاله:
قد انبعث ذميم الأخلاق من هذه العصابة التي طوَّحت بها الأرياح الدمشقية
نفيًا للأقذار من أوديتها إلى هنا … ونحن نشارك جريدتكم الوضاء في عدم بقاء
مثل هذه الفئة بين ظهرانينا؛ فإنَّا وعمر الإنسانية لا نقبل أن أبناءنا
يتدنسون بمشاهدتها ويتلطَّخون بذميم آدابها. ونحن نحن المصريين لا نرضى بأن
يُقام لدينا سفهاء البلاد الذين أخلاقهم كالجرب السريع العدوى. وهل في شرعة
الإنصاف أن تقوم في بلادنا أُمة طُرِدت من بلادها لما نجم عنها الضرر
العمومي، زيادة عما يشوه وجه الشريعة الغرَّاء.
أما تعليق الجريدة على الرسالة فكان تأكيدًا على الهدف المشترك، وهو إبعاد
القباني وفرقته من مصر بعد أن زعمت بأن إدارتي المسرح والفرقة عرضتا عليها رشوة
عشرين جنيهًا، وَلُوجًا مجانيًّا في المسرح حتى توقف هجومها، ولكنها رفضت. وحتى لا
تُتهم الجريدة بالظلم والقسوة؛ لأنها تنادي بطرد فرقة مسرحية تعمل من أجل كسب قوتها
سارعت بالحل الأمثل للممثلين — في حال طردهم — بأن يعودوا إلى أعمالهم السابقة —
قبل عملهم في التمثيل — خصوصًا وأن عددهم قليل، قائلةً: «لا تجوِّز أية شريعة أو أي
قانون فساد عادات وأخلاق أية أمة؛ لأجل يعيش نحو ١٥ شخصًا قادرين على التكسب. بل
أن بعضًا منهم كان قهوجيًّا والآخر حلَّاقًا، والثاني يبيع المشمش والدقرين، وغير
ذلك.»
خيوط المؤامرة
وبناء على ما سبق نجد أن جريدة الزمان هاجمت القباني وفرقته من أجل مصلحة الفرق
المسرحية الأخرى، خصوصًا فرقة يوسف الخياط؛ لأن «مصطفى عارف» كاتب الرسالة ما هو
إلا ممثل في فرقة يوسف الخياط، وقد ذكرته جريدة الزمان وأشادت بتمثيله في مقالة —
سابقة — لها بتاريخ ١٠ / ٢ / ١٨٨٥ عندما تحدثت عن عرض مسرحية «شارلمان»! إذن ففرقة
يوسف الخياط — باعتبارها فرقة منافسة للقباني، وكذلك فرقة سليمان القرداحي كما
سيأتي لاحقًا — دبَّرت هذه المؤامرة مع جريدة الزمان من أجل إقصاء القباني؛ حيث إن
الجريدة لم تكتب — في هذه الفترة — مقالات مسرحية مادحة إلا في فرقتي الخياط
والقرداحي، ولم تكتب مقالات قادحة إلا في فرقة القباني!
وبكل أسف، نجحت المؤامرة وحققت جزءًا من أهدافها؛ حيث ابتعد القباني بفرقته إلى
أقاليم مصر — لا سيَّما مدينة طنطا — طوال ثلاثة أشهر، أعاد فيها تمثيل مسرحيات:
عنترة العبسي، وولَّادة، وعبد السلام الحمصي، وعائدة، وناكر الجميل،
١٥٨ تاركًا العاصمة وما حققه فيها من نجاح إلى فرقتي الخياط والقرداحي. ووصل
الأمر بمحيي الدين الدمشقي — أبرز عنصر في فرقة القباني — إلى ترك الفرقة والانضمام
إلى فرقة القرداحي.
١٥٩
وربما السر الخفي وراء هذه المؤامرة هو فقدان فرقتي القرداحي والخياط لأهم عنصر
فني تميَّزت به فرقة القباني، وهو الغناء. والدليل على ذلك أن هذا العنصر توفر
فجأة للفرقتين — في أثناء هجوم جريدة الزمان على القباني — في صورة المطرب مراد
رومانو الإسرائيلي،
١٦٠ الذي شارك القرداحي أولا،
١٦١ ومن بعده شارك الخياط.
١٦٢ وهذه الأمور تمت خلال الأشهر الثلاثة التي ابتعد فيها القباني عن
العاصمة، وكان مراد رومانو خشي من منافسة القباني له في مجال الغناء، فأبعده عن
العاصمة.
نجاح الهجوم الأخير
وابتداءً من منتصف فبراير إلى منتصف مارس ١٨٨٦م لم تتوقف الصحف المصرية عن
الإشادة بفرقة سليمان القرداحي ونشر أخبارها وإعلاناتها؛ تمهيدًا للحدث الكبير، وهو
تمثيلها لثلاثين ليلة عرض مسرحي بدار الأوبرا الخديوية لمدة شهرين ونصف، بناءً
على اتفاق تم بين القرداحي وبوني وسوسكينو صاحبا امتياز حق استغلال الأوبرا في
تلك المدة.
١٦٣ ولم تترك جريدة الزمان هذه الفرصة دون النيل من القباني، فنشرت مقالة
هجومية ثالثة ضده في ١٠ / ٣ / ١٨٨٦ بعنوان «تياترو الأوبرا» غلَّفتها بمديح
للقرداحي — دون ذكر اسمه في المقالة
١٦٤ — والإشارة إلى علوِّ مكانة فرقته لما ستعرضه من مسرحيات على دار
الأوبرا الخديوية.
بدأت الجريدة هجومها على القباني مع ذكر اسمه صراحة بعد أن لمَّحت إليه كثيرًا
في المقالتين السابقتين، قائلةً: «… يعلم حضرات قرَّاء جريدتنا ما قدَّمناه من
الكلام على تشخيص أبي خليل القباني الدمشقي؛ فإنه كان مخلًّا بالآداب والأخلاق،
لا تجوِّزه الشريعة الإسلامية الغرَّاء.» ثم بدأت مقارنتها بين فرقتي القباني
والقرداحي من حيث الديانة، فذكرت أن ممثلي فرقة سليمان القرداحي من المسلمين وأوردت أسماءهم.
١٦٥ وعندما جاء الدور على القباني قالت: «أما أبو خليل فإنه وإن اعتنق
الديانة الإسلامية … إلا أن فتيانه الذين يتولَّون التشخيص عارون عن هذه الديانة
المطهرة»، كما بينت أن القرداحي يمتلك عناصر نسائية بخلاف القباني الذي يجعل الرجال
يقومون بأدوار النساء. واختتمت الجريدة هجومها بحثِّ الجمهور على حضور مسرحيات
فرقة سليمان القرداحي التي ستُعرض في الأوبرا.
ومن اللافت أن الجريدة أرادت الإساءة إلى القباني بكل صورة ممكنة، لدرجة أنها
زعمت أنه كان على ديانة أُخرى غير الديانة الإسلامية التي اعتنقها فيما بعدُ،
ناسية — أو متعمدة النسيان — أن اسمه «أحمد»! وبهذه المزاعم نجحت جريدة الزمان في
إقصاء القباني مُدَّة من الزمان؛ حيث توارى عن الأنظار، وتفرَّق أعضاء فرقته،
وبالأخص — ساعده الأيمن — إسكندر فرح، الذي كوَّن فرقة مسرحية لم تنجح في بدايتها،
١٦٦ فلم يجد القباني مفرًّا من العودة إلى سورية. ولم نقرأ عن نشاطه المسرحي
في مصر طوال ثلاث سنوات استطاعت فيها فرقة سليمان القرداحي أن تتربع على عرش
المسرح العربي في مصر من خلال عروضها في الأوبرا الخديوية، وضمِّ الشيخ سلامة حجازي إليها،
١٦٧ باستثناء بعض العروض الإقليمية القليلة فرقة يوسف الخياط،
١٦٨ وبعض العروض المتفرقة من قِبل الفرق المؤقتة وفرق الهواة.
١٦٩
عودة ثالثة
ظل القباني في سورية ثلاث سنوات يُفكِّر في أحوال فنِّه وفرقته، وأخيرًا قرر ألا
يُطعن بالسلاح نفسه مرتين! فإذا كان مُنِع من التمثيل في سورية بأمر من الوالي،
فإنه لن يقبل التخلي عن رسالته المسرحية في مصر بأمرٍ من جريدة مغرضة. وبناء على
ذلك عاد القباني في مايو ١٨٨٩م بفرقة جديدة تحمل الجديد في العروض والفصول المضحكة
وألعاب السيف والترس، كما جاء بممثِّل خاص للفصول المضحكة، هو «أبو الخير» بدلًا من
محيي الدين الدمشقي الذي انضم إلى فرقة القرداحي.
وبهذا الشكل الجديد عرضت الفرقة عروضها المسرحية بمقهى الدانوب بالإسكندرية، حيث
عرضت مجموعة من مسرحيات رصيدها الدرامي، مثل: الأمير محمود، ونفح الربى، وعنترة
العبسي، وأنس الجليس، والشيخ وضَّاح وقوت الأرواح، وعائدة، وناكر الجميل.
١٧٠ كما عرضت أيضًا مسرحيتين جديدتين: الأولى «جميل وجميلة»، وهي مسرحية
مفقودة النص، ورغم ذلك يندرج موضوعها ضمن اهتمام القباني بإحياء التراث؛ حيث جاء
وصفها بأنها: «مسرحية عربية تاريخية».
١٧١ وهذه المسرحية عرضتها الفرقة كثيرًا فيما بعدُ، ومن المحتمل أن تكون من
تأليف القباني وضاع نصها، وما أكثر نصوص القباني الضائعة.
والمسرحية الجديدة الأخرى كانت «جينياف»، ولكن القباني عرضها مرة واحدة فقط، مما
يجعلنا نشك في أنها جديدة، بل من المحتمل أنها مسرحية «عاقبة الصيانة وغائلة
الخيانة»، وقد عرضها باسم «جينياف»؛ لأن جريدة الأهرام في إعلانها — المنشور بتاريخ
٧ / ٥ / ١٨٨٩ — قالت إنها «رواية تدل على حسن عاقبة العفاف والصيانة، وسوء منقلب
أهل الظلم والفساد»، وهو المعنى نفسه لمسرحية «عاقبة الصيانة وغائلة الخيانة». وهناك
احتمال آخر بأن تكون بالفعل مسرحية «جينياف» — تأليف كريستوف النمساوي — التي
ترجمها ميخائيل إبراهيم جهشان، وطبعت في المطبعة الأدبية ببيروت عام ١٨٧٨م. ومهما
كان أصلها، فإن موضوعها يدخل ضمن موضوعات عروض القباني المُمثلة لرسالته
المسرحية.
والجدير بالذكر أن هذه العروض — في مجملها — لم تنجح النجاح المأمول منها،
فانقطعت أخبار القباني أربعة أشهر، ربما كان يمثِّل في الأقاليم، أو على الأرجح
عاد إلى سورية مرة أخرى لت جديد فرقته بعد أن وعى الدرس جيِّدًا من هجوم جريدة
الزمان، عندما عابت عليه استخدام الرجال في أدوار النساء؛ لهذا ظهرت فرقة القباني
في أواخر سبتمبر ١٨٨٩م، بشكل جديد؛ حيث قرأنا — ولأول مرة — أخبارًا عن استحسان
الجمهور تمثيل إحدى الممثِّلات؛ مما يدلُّ على أن القباني استخدم — أخيرًا —
العنصر النسائي في فرقته.
وهذا الاستخدام لا يُعدُّ انحرافًا كبيرًا في رسالة القباني المسرحية في هذا
الوقت؛ بسبب وجود الممثلات بكثرة في الفرق المنافسة الأخرى، أمثال: فرقة إسكندر
فرح، وجوق السرور لميخائيل جرجس، وفرقة سليمان القرداحي. لذلك أراد القباني ألا يقل
في مستواه الفني عن بقية الفرق الأخرى؛ ليظل صامدًا من أجل هدف أسمى، وهو إيصال
رسالته إلى أكبر عدد من جمهوره، ولكن هذا التفكير جاء متأخِّرًا، فلم يجذب العنصر
النسائي في فرقة القباني الجمهور بشكل كبير؛ لوجود هذا العنصر بعدد أكبر، وبصورة
محترفة في بقية الفرق؛ لذلك عرض القباني القليل من عروضه المسرحية على مسرح شارع
عبد العزيز،
١٧٢ مثل: أنس الجليس، وجميل وجميلة، والأمير محمود.
١٧٣
حلم قديم لم يتحقق
تضافرت عدة عوامل أعاقت مسيرة القباني المسرحية — في ذلك الوقت — منها: تأخره في
استخدام العنصر النسائي في فرقته، وساعده الأيمن — إسكندر فرح — الذي أصبح منافسًا
له بين ليلة وضحاها، وظهور فرق أُخرى منافسة لم تكن معروفة، مثل: جوق السرور. كل ذلك
أحاط بالقباني، وبدلًا من استسلامه لليأس نتيجةً طبيعية لهذه العوامل، رأيناه يقدم
على خطوة جريئة — لم ينجح في تحقيقها من قبلُ — عندما تقدم بطلب الترخيص لفرقته
بالتمثيل في دار الأوبرا الخديوية!
أخبرتنا بذلك جريدة «المقطم» في عددها بتاريخ ٩ / ١٠ / ١٨٨٩، قائلةً: «أبت لجنة
التياترات إجابة الطلب الذي قدَّمه حضرة المتفنن الشيخ أبي خليل أفندي القباني إلى
نظارة الأشغال، وهو الترخيص لجوقه بالتمثيل في الأوبرا الخديوية، وقد بنت رفضها
على عدم كفاءة التأمين الذي وضعه الشيخ أبو خليل أفندي في نظارة الأشغال، وعلى
عدم معرفتها لجوقه المشار إليه، ولأن المدة التي يمكن الترخيص بها أُعطيت قبل ذلك
للمسيو روسي مدير الجوق الإيطالي.»
ورغم هذه المفاجأة غير السارة للقباني إلا أن الجريدة قالت أيضًا: «… ولا يخفى
أنه قد رُخِّص لجوق القباني أفندي غير مرة بالتمثيل في الأوبرا، ونال رضاء الجمهور في
حسن الإدارة والتمثيل.» ومن الجائز أن الجريدة — بهذا القول — أرادت مجاملة القباني،
أو تخفيف وطأة الخبر على جمهوره؛ لأنها تناقضت في أقوالها! فكيف يُستساغ أن تقول
بأن لجنة التياترات
١٧٤ رفضت طلبت القباني؛ لأنها لا تعرف فرقته، وفي الوقت نفسه تقول: إن لجنة
التياترات — التي لا تعرف فرقة القباني الآن — سبق وأن رخَّصت لها بالتمثيل في
الأوبرا أكثر من مرة! علمًا بأننا لم نجد أخبارًا منشورة تؤكِّد أن فرقة القباني
عرضت عروضًا مسرحية في الأوبرا الخديوية.
العالمة ليلى
وبناءً على ذلك لم ينجح القباني — مرةً ثانيةً — في اعتلاء خشبة دار الأوبرا
ممثِّلًا مع فرقته، فعوَّض ذلك الإخفاق بنجاح فني مبتكر عندما جاء بجوق المطربة
العالمة «ليلى الشامية»،
١٧٥ لتقديم فصلي طرب راقص بين فصول عروض مسرحياته وفي خواتمها، وهذا
الابتكار جعل النجاح المسرحي والتألق الفني ملازمين لفرقة القباني طوال شهرين
متواصلين، عرضت فيهما مسرحيتين جديدتين هما: «مي» و«قوت القلوب»، بالإضافة إلى عروض
من رصيدها الدرامي مثل: أنس الجليس، والصيانة والخيانة، وناكر الجميل، والولَّادة بنت
المستكفي، وعائدة، والخل الوفي.
١٧٦
ونتيجة لنجاح القباني — وبالتالي نجاح رسالته المسرحية، واستمرارها في التأثير
على جمهوره شهرين متواصلين من خلال عروضه المسرحية — نادت جريدة «المقطم» بأحقية
فرقته التمثيل في الأوبرا، عندما قالت في ٢٨ / ١٢ / ١٨٨٩: «بلغنا أن لجنة التياترو
تبحث الآن في إعطاء الأوبرا لجوق عربي، وتمنَّى البعض لو تحقق ذلك وأُعطيت الأوبرا
لجوق الشيخ أبي خليل أفندي؛ لما حازه من ثقة الناس به، وإقبالهم عليه.» لكن هيهات
أن تُعطى الأوبرا للقباني — قائد حركة إحياء التراث في تاريخ المسرح العربي — كي
يبثُّ من خشبتها رسالته الفنية، عبر عروضه المسرحية العربية، في ظل وجود مستعمر
أجنبي، وخاصةٍ خديوية جعلت الأوبرا حكرًا على الفرق الأجنبية.
مي
مسرحية «مي» التي أضافها القباني إلى رصيده الدرامي لم تثمر نجاحًا ملحوظًا؛
فمثَّلتها فرقته مرتين فقط، وفي المرة الثانية عرضتها في مدينة المنيا، وخُصِّص
دخلها للممثلتين الشقيقتين مريم ولبيبة سماط.
١٧٧ وهذا الإحجام عن تمثيلها — ربما — راجع إلى كونها تتحدث عن تاريخ
الإفرنج وحروبهم، وهو موضوع لم يعهد الجمهور رؤيته في عروض القباني، كذلك كثرة
أسماء الآلهة الموجودة في المسرحية، مثل: مارس إله الحرب وبلتون إله الجحيم، ناهيك
عن أسماء الشخصيات، مثل: هوراس وكورياس وهوستيليوس، وهذه الأسماء غير مألوفة في
كتابات القباني التراثية النضاحة بتاريخ العرب وعاداتهم والفوَّاحة بالمضامين
الإسلامية.
وبمعنى آخر: نستطيع القول بأن مسرحية «مي» لم تجسِّد معظم مفردات رسالة القباني
المسرحية، فأحجم عن عرضها. ويُضاف إلى ذلك أهم عنصر — من وجهة نظرنا — وقف حائلًا
أمام تكرار تمثيل هذه المسرحية، هو أن أشعارها الموضوعة وألحانها لم تكن مؤلَّفة من
قِبل القباني، بل قام بوضعها سليم النقَّاش مُعرِّب المسرحية.
١٧٨ والثابت حتى الآن أن القباني لا يميل إلى تلحين — أو غناء — إلا أشعاره
المؤلَّفة، وألحانه التي أتقن وضعها بنفسه، لا المفروضة عليه من قِبل آخرين كما
أوضحنا من قبلُ.
قوت القلوب
أما مسرحية «قوت القلوب» فكانت على عكس «مي» تمامًا؛ حيث عرضها القباني أكثر
من عشرين مرة طوال تاريخه؛ لأنه كاتبها ومؤلف معظم أشعارها وموشحاتها وأغانيها
وواضع جميع ألحانها، وقد عرضها باسم «قوت القلوب» تارة، وباسم «قوت القلوب مع غانم
بن أيوب» تارة أخرى، وتم طبعها باسم «هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت
القلوب».
وأحداث المسرحية تدور حول غيرة زبيدة زوجة هارون الرشيد من الجارية «قوت القلوب»،
فدبَّرت حيلة للتخلص منها في أثناء رحلة صيد لهارون الرشيد؛ حيث قامت بتخدير
الجارية ووضعها في صندوق، وطلبت من عبيدها وضعها في قبر بعيد بعد أن بنت قبرًا في
القصر مدعية بأنه قبر الجارية قوت القلوب. وعلى مقربة من القبر كان يقف التاجر غانم
بن أيوب الذي ارتاب مما في الصندوق، وبعد رحيل العبيد فتحه فوجد فيه الفتاة الجميلة
مغشيًّا عليها. وبعد أن عادت إلى رشدها طلبت منه الذهاب إلى بيته وقصَّت عليه قصتها.
وبعد أن قضت عدة أيام مع غانم وقعت في حبه كما وقع في حبها. وعلى الجانب الآخر نجد
هارون الرشيد يعود من رحلته ويُفاجأ بخبر موت قوت القلوب، فيبكيها بكاءً حارًّا،
فتشفق عليه إحدى الجواري وتخبره بالحقيقة، وأن قوتًا مع غانم، فيصدر أمره بالقبض
على قوت وقتل غانم بن أيوب. وبعد عدة أحداث تنكشف الأمور جلية أمام هارون الرشيد
الذي يتحقق من براءة قوت وصدق حبها لغانم، فيوافق على زواجهما بعد أن تعجبه
«فتنة»؛ شقيقة غانم، فيطلبها زوجة له، وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة.
وهذه المسرحية كتبها القباني معتمدًا في صياغتها — وموضوعها — على حكاية
«التاجر أيوب وابنه غانم وبنته فتنة» من حكايات «ألف ليلة وليلة»، وهي تستغرق من
الليلة الثانية والخمسين إلى الليلة الستين بعد أن خلَّصها مما يشينها من العبارات
غير اللائقة، والإيحاءات الجنسية، والكلمات الفاضحة … إلخ ما يتنافى مع الشريعة
الإسلامية، وما يتعارض مع العادات العربية وتقاليدها، وما يناقض مفردات رسالته
المسرحية، ويعيق تحقيق هدفه وفق مبدأ حركة الإحياء بإظهار التراث في صورة
مشرقة.
ومما يُحسب للقباني في كتابته لهذه المسرحية — وفق أدوات تطبيق منهج رسالته — أنه
لم يقتبس بيتًا واحدًا من أبيات حكاية الليالي، واستعاض عن ذلك بكثيرٍ من أشعاره
المؤلَّفة، وبقليل من أشعار القدماء والمعاصرين المقتبسة، أمثال: قيس بن ذريح،
وطرفة بن العبد، وليلى الأخيلية، وابن الرومي، ومحمد بن داود الظاهري، وأبي
العتاهية، والمفتي فتح الله، والأفوه الأودي، وعلي بن الجهم، وحسام الدين الحاجري،
وكمال الدين بن النبيه، وعائشة التيمورية.
ومن الثابت لدينا أن القباني — في تطبيق منهج رسالته — كان يتأنَّى في صياغة
أعماله المسرحية، ويتأمل في اقتباساته الشعرية، بحيث يكون الاقتباس مناسبًا للموقف
الدرامي، دالًّا عليه دلالة قوية، مؤثِّرًا في جمهوره تأثيرًا وجدانيًّا، تحقيقًا
لهدف رسالته. فإن كان الاقتباس لا يفي بذلك قام القباني بتطويعه بصورة فنية
شعرية حتى يجعل العمل دالًّا وفق رؤيته الدرامية. ومثال على ذلك البيت الذي
اقتبسه من قيس بن ذريح:
وتنفَّستُ إذ ذكرتُك حتى
زالت اليوم عن فؤادي ضُلوعي
نجد القباني يستغله مسرحيًّا في مناجاة هارون الرشيد لنفسه — باكيًا على قبر
قوت القلوب — قائلًا:
١٧٩
أنت في رحمة الله وقلبي
في عذاب وفرط حزني ضجيعي
قد تنهدت إن ذكرتك حت
زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي
فالقباني نظم البيت الأول ثم تلاه بالبيت المقتبس بعد استبدال عبارة «وتنفست»
ﺑ «قد تنهدت»؛ حيث إن التنهد مناسب لموقف النحيب والبكاء على فقد المحبوب أكثر من
التنفس. كذلك قام باقتباس بيت طرفة بن العبد — والمنسوب لآخرين أيضًا — الذي يقول
فيه:
ستُبدي لك الأيَّامُ ما كنتَ جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تُزوِّد
ووضعه متضافرًا داخل نسيج الحوار النثري بين الجاريتين «جميلة وجليلة» وهارون
الرشيد؛ حيث وجده مناسبًا للموقف الدرامي المسرحي كما تصوره وتخيل تأثيره على
المشاهدين، فجاء هكذا:
١٨٠
جميلة
:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا.
ملك
:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود. أقوت القلوب لم تمت؟
جليلة
:
سلامتها يا مولاي من الموت.
ومن مهارة القباني الشعرية — في تطبيق منهج رسالته — أنه كان يحوِّل المعنى
النثري في حكاية الليالي إلى حوار شعري في المسرحية، بعد تهذيبه وتشذيبه مما يجرح
الروح العربية الإسلامية. فعلى سبيل المثال نقرأ في حكاية الليالي هذا الموقف: «فلما
أقبل الليل، قام المتيَّم المسلوب غانم بن أيوب، وأوقد الشموع والقناديل، فأضاء المكان،
وأحضر آلة المدام، ثم نصب الحضرة، وجلس هو وإيَّاها، وكان يملأ ويسقيها وهي تملأ
وتسقيه، وهما يلعبان ويضحكان وينشدان الأشعار، وزاد بهما الفرح وتعلقا بحب بعضهما،
فسبحان مؤلف القلوب … ولعبا مع بعضهما حتى احمرَّت وجنتاهما واسودَّت أعينهما،
واشتاقت نفس غانم بن أيوب إلى تقبيل الجارية، فقال لها: يا سيدتي، ائذني لي بقبلة في
فيك، لعلها تبرِّد نار قلبي؟ فقالت: يا غانم، اصبر حتى أسكر وأغيب، وأسمح لك سرًّا
بحيث لم أشعر أنك قبَّلتني … ثم زادت محبَّته وانطلقت النيران في مهجته. هذا وهي
تتمنَّع منه وتقول: ما لك وصول إليَّ. ولم يزالا في عشقهما ومنادمتهما، وغانم بن
أيوب غريق في بحر الهيام. وأما هي فإنها قد ازدادت قسوة وامتناعًا.»
١٨١
وهذا الموقف حوَّله القباني — بعد إعادة صياغته بصورة قويمة — إلى حوار شعري هكذا:
١٨٢
غانم
:
قد طال تلهُّفي، وكثر انتحالي وتأسُّفي، وانصدع قلبي، وانذهل لبي.
بديعةَ المُحَيَّا
صِلي المحبَّ البالي
قوت
:
صهْ لا تكن بغِيَّا
فإنَّ وصليَ غالي
غانم
:
يا طلعة الثُّرَيَّا
صليني حان حالي
قوت
:
حبيبي كن تقيا
واصبر على الأهوال
غانم
:
يا قوت عِيل صبري
وفيك عطف بالي
قوت
:
وصالنا بعيد
يا صاحب النوال
غانم
:
ألا يا قوت رفقًا عيل صبري
ورقِّي فالغرام أذاع سري
قوت
:
أغانم دع هواك فدتك نفسي
فإن الأمر هذا عين ضري
غانم
:
كيف أسلوك يا بغيتي
والهوى هدَّ مُنيتي
قوت
:
خلِّ عشقي وصبوتي
واترك الحب بالَّتي
سنوات عجاف
انتهى الاتفاق بين القباني والعالمة ليلى، فاختفت أخبار القباني ثلاثة أشهر، ثم
عادت في النصف الثاني من سنة ١٨٩٠م تخبرنا بأن فرقته تجوب إقليمي صعيد مصر (المنيا
والفيوم) عارضة مسرحيات متنوعة من رصيدها الدرامي، بطولة الممثلتين الشقيقتين مريم
ولبيبة سماط.
١٨٣ وفي هذه الفترة تألقت عدة فرق مسرحية، فشعر القباني بعد استطاعته
منافستها، فترك مصر وعاد إلى سورية، ولم ينجح في العودة إلى مصر وممارسة نشاطه
المسرحي طوال أربع سنوات (١٨٩٠–١٨٩٤م)، وهذا الغياب الطويل غير المسبوق،
١٨٤ جعل الفرق المنافسة الأخرى تزداد تألُّقًا، فكان من الصعب على
القباني العودة مبكرًا ومجاراة تقدم هذه الفرقة وتألقها أو حتى قدرته على امتلاك
عناصر نجاحها!
فعلى سبيل المثال نجد فرقة إسكندر فرح — أكبر الفرق المسرحية المتألقة في هذه
الفترة (١٨٩٠–١٨٩٤م) — امتلكت أهم عنصر من عناصر النجاح المسرحي، وهو وجود الشيخ
سلامة حجازي مطربًا وممثلا. كذلك امتلاكها لدار عرض مسرحي خاص بها، وهي مسرح شارع
عبد العزيز، المميَّز بوجود ألواج مغطاة للحريم، واحتكارها لنصوص أشهر كتَّاب المسرح
في القرن التاسع عشر، وهو نجيب الحدَّاد. هذا بالإضافة إلى غناء المطربة سيدة السويسية،
١٨٥ وعروض الفرقة في دار الأوبرا الخديوية، وعرض الفصول المضحكة بعد العروض
الأساسية، وبيع النص المسرحي المطبوع مع التذاكر قبل رؤيته معروضًا داخل المسرح …
إلخ.
وإذا وضعنا في الاعتبار هذه الأمور، وأضفنا إليها أن إسكندر فرح كان الساعد
الأيمن للقباني، وقوة فرقته الإدارية، والعارف بأدق الأمور والأسرار الإيجابية
والسلبية للفرقة، سنضع أيدينا على سرِّ تفوُّق إسكندر فرح، وتألق فرقته في أثناء غياب
القباني، خصوصًا وأنه ضم إلى فرقته ممثلتي القباني لبيبة ومريم سماط. وهكذا عرضت
فرقة إسكندر فرح عروضها المسرحية الخاصة بها بنجاح،
١٨٦ ولكن النجاح الأكبر كان من نصيب مسرحيات القباني التي عرضتها فرقة فرح،
ومنها: أنس الجليس، وعنترة العبسي، ومتريدات، وولَّادة بنت المستكفي، وقوت القلوب.
١٨٧ وبذلك ظلت رسالة القباني المسرحية حية بين الجماهير، وأصبح القباني
الحاضر الغائب بوصفه قائد حركة إحياء التراث العربي في المسرح.
وكان جوق السرور لميخائيل جرجس التالي — بعد إسكندر فرح — في الأهمية والتألق —
في أثناء فترة غياب القباني — بوصفه أول جوق مصري مسرحي. ومن أسباب تألقه: التجوال
بعروضه من مكان إلى آخر بواسطة مسارحه المتنقلة، مثل: التياترو الوطني أمام الجران
بار، وتياترو لكسمبرج، ومسرحه بباب الشعرية أمام سوق الجراية، ومسرحه بسوق
الناصرية. كذلك عروضه في المسارح الثابتة، مثل مسرح: الألدرادو، وتياترو السكاتنج
رنج بالأزبكية، وقاعة كونيليانو بالإسكندرية، وأيضًا وجود «لطيفة عبد الله» بوصفها
أول ممثلة مصرية مسلمة، وأول مؤلفة مسرحية مصرية عربية.
١٨٨
وأخيرًا ابتكاره لفكرة سحب اليانصيب على أرقام تذاكر الدخول، وكانت الجوائز
المقدمة للجمهور ثمينة، منها: خواتم الألماس والزمرد والفيروز، أو الأقراط والأساور
الذهبية، أو الساعات الثمينة … إلخ. ضافة إلى ذلك نجد الفصول المضحكة، وألعاب
الجمباز، وفقرات السحر من السيماوي الإنجليزي جريجوري، وغناء المطربة ليلى، أو
الشيخ إبراهيم أحمد.
١٨٩ كل هذه العناصر ضمنت النجاح الكبير لعروض هذا الجوق، التي كان من بينها
مجموعة من مسرحيات القباني — دلالة على إيمان جوق السرور برسالة القباني — مثل:
ناكر الجميل، وقوت القلوب، والخل الوفي، ومتريدات،
١٩٠ بجانب عروض الجوق الخاصة به.
١٩١
أما فرقة سليمان القرداحي، فكانت الفرقة المتألقة الثالثة بسبب وجود الشيخ
سلامة حجازي في بعض عروضها، واشتراك سليمان الحدَّاد في قيادتها بعض الوقت، وعرض
مسرحياتها على مسارح معروفة، مثل: تياترو السكاتنج رنج بالأزبكية، وتياترو
البراديزو بالإسكندرية. هذا بالإضافة إلى وجود الفصول المضحكة في نهاية العروض، كما
هو معتاد عند جميع الفرق. وهذه العوامل أسهمت في نجاح عروض الفرقة،
١٩٢ التي كان من بينها بعض مسرحيات القباني — الدالة على تبنِّي القرداحي
رسالة القباني — مثل: أنس الجليس، وعاقبة الصيانة وغائلة الخيانة.
١٩٣
وبخلاف هذه الفرق الثلاث المتألقة، كانت هناك — في هذه الفترة — فرق مؤقتة وأخرى
مُهمشة، كانت تعرض مسرحيات القباني في أقاليم مصر — تأكيدًا على انتشار رسالته
بين الفرق — منها: جوق الاتحاد الوطني الذي مثَّل مسرحية «الأمير محمود»،
١٩٤ والجوق الشرقي الوطني لأحمد أبي العدل الذي عرض مسرحية «قوت القلوب»،
١٩٥ وجوق الكمال الوطني لعلي حمدي الذي عرض مسرحية «قوت القلوب» أيضًا،
١٩٦ وجوق جمعية الكمال الأسيوطية الذي عرض مسرحيتي «متريدات» و«ناكر الجميل».
١٩٧
ضباب الوجود
ومما سبق يتضح لنا أن القباني كان طوال أربع سنوات الغائب الحاضر في عروض الفرق
الأخرى التي كانت تعرض مسرحياته باستمرار في أثناء غيابه وكأنه موجود بين جماهيره،
وبعد هذا الغياب نشرت جريدة المقطم يوم ٢٠ / ١٠ / ١٨٩٤ خبرًا غريبًا قالت فيه:
حضر إلى العاصمة منذ مدة حضرة الأديب المتفنن أبي خليل أفندي القباني،
وشرع في تأليف جوق لتمثيل الروايات اختاره من نخبة الممثلين والممثلات،
وأعدَّ له عدة من الروايات البديعة، ووجَّه عنايته إلى ضبط ألحانها وتحسين
مشاهدها ووقائعها على نمطٍ يشوِّق الخاطر ويقرُّ الناظر. وسيشرع في
التمثيل بعد خمسة عشر يومًا، وتكون فاتحة تمثيله في مدينة طنطا حيث يقضي
نحو شهر من الزمان، ثم يعود إلى العاصمة ويمثِّل رواياتها فيها. هذا وإن
ما عُهِد في حضرة أبي خليل أفندي المشار إليه من طول الباع في هذا الفن
الجميل بعد مزاولته له مدة طويلة بين مصر والشام يضمن له النجاح
والفلاح.
وغرابة هذا الخبر أنه الوحيد — حسب اجتهادنا في البحث — الذي نُشِر عن القباني
بعد غياب أربع سنوات! ولم ننجح في الحصول على خبر غيره طوال أكثر من عامين بعد
نشره! ومن الملاحظ أن الخبر يقول: إن القباني موجود في القاهرة منذ مدة! وأنه
سيمثِّل بعد أُسبوعين في طنطا،
١٩٨ ومن ثَمَّ سيعود إلى القاهرة ليمثِّل فيها! ورغم كل هذه المعلومات إلا
إننا لم نجد خبرًا عن القباني أو مسرحه قبل هذا الخبر بأربع سنوات أو بعده بأكثر من
عامين!
ومن وجهة نظري، فإن خبر جريدة المقطم ربما يحتمل تفسيرين لا ثالث لهما: الأول أن
القباني حضر بالفعل إلى القاهرة، وفوجئ بتألق الفرق الأخرى — إسكندر فرح، وجوق
السرور، وسليمان القرداحي — فشعر بصعوبة منافستها، فآثر السلامة ورحل إلى طنطا
ومنها عاد إلى سورية. والآخر أن القباني لم يحضر إلى مصر وأن الخبر غير صحيح، نشرته
الجريدة بإيعاز من أحد أنصار القباني؛ حتى لا يُنسى اسمه وسط تألق الفرق الأخرى، أو
أن الجريدة نشرته لصالح إحدى الفرق، أو نكاية فيها، وهذا هو الأرجح؛ لأن من غير
المعقول أن يحضر القباني إلى مصر بعد غياب أربع سنوات لنجد هذا الخبر الوحيد
المنشور عنه، ثم تتوقف أخباره فجأة لأكثر من عامين بعد ذلك؛ لأن من غير المقبول
أن يكون رصيد القباني ومسرحه طوال أكثر من ست سنوات (١٨٩٠–١٨٩٦م) هذا الخبر
الوحيد!
وإذا أخذنا بأحد التفسيرين لخبر جريدة المقطم سنلاحظ أنه لم يؤثر في مسيرة المسرح
في مصر! فوجود القباني في طنطا أو عدم وجوده لم يؤثر على الفرق المسرحية التي
تألقت في السنوات الأربع السابقة كما تألقت في السنتين التاليتين. ففرقة إسكندر فرح
— في هاتين السنتين (من أكتوبر ١٨٩٤م إلى نوفمبر ١٨٩٦م) ظلَّت متفوقة في عروضها —
على بقية الفرق — بجهود الشيخ سلامة حجازي ووجود مسرحها الثابت؛ حيث عرضت مجموعة
من المسرحيات،
١٩٩ كان من بينها مسرحيتا القباني: «أنس الجليس» و«ولَّادة بنت المستكفي»،
٢٠٠ وكأنها لا زالت متبنية رسالة القباني المسرحية.
كما تألق أيضًا — في هذين العامين — جوق السرور، بفضل وجود بطلته لطيفة عبد الله،
وغناء المطربين: الشيخ إبراهيم، ومصطفى علي، ودرويش مصطفى الإسكندراني، مع إنشاء
الجوق لمسرحه العباسي ببولاق، فاستطاع أن يعرض مسرحياته بنجاح،
٢٠١ مع استمراره في بث رسالة القباني من خلال مسرحيتيه: «أنس الجليس»
و«عاقبة الصيانة وغائلة الخيانة».
٢٠٢
عودة رابعة ميمونة
ست سنوات مرت على غياب القباني عن مصر، ويفترض إذا قرر العودة مرة أخرى أن
يفكِّر في أسلوب فني جديد يستطيع به منافسة إسكندر فرح، باعتباره صاحب أكبر فرقة
مسرحية مهيمنة على الساحة طوال هذه السنوات الست. ولكن إسكندر يمتلك عنصرين مهمين،
هما: مطربه المتألق سلامة حجازي، ومسرحه الثابت بشارع عبد العزيز. والقباني بوصفه
ملحنًا ومغنيًّا — ربما — يستطيع منافسة الشيخ سلامة في مجال التلحين دون الغناء،
٢٠٣ ولكن من أين له بمسرح ثابت مثل غريمه؟! شاء القدر أن يظهر في هذه
الفترة عبد الرازق بك عنايت،
٢٠٤ أحد الموسرين المصريين المهتمين بالمسرح، الذي قرر مساعدة القباني
ببناء مسرح له من ماله الخاص.
٢٠٥
عاد القباني إلى مصر في نهاية نوفمبر ١٨٩٦م، ومارس نشاطه المسرحي شهرًا
بالإسكندرية، حتى يتم بناء مسرحه الجديد، ولكنه لم يُمثِّل في مقهى الدانوب، بل
مثَّل على مسرح القرداحي،
٢٠٦ وعرض عليه ثلاث مسرحيات جديدة هي: «الكوكبين» و«السلطان حسن» و«أسد
الشرى»، بجانب مسرحيات من رصيده الدرامي السابق.
٢٠٧
عروض بلا نصوص
وعلى الرغم من أن مسرحيات القباني الثلاث الجديدة من تأليفه، وقد مثَّلها عشرات
المرات — فيما بعدُ — إلا أن نصوصها مفقودة. ولحُسن الحظ فإن بعض إعلاناتها حملت
مغزاها أو فكرتها أو تفاصيل عنها، وأضاءت بعض جوانبها، وأثبتت أن القباني كتبها وفق
مفردات رسالته المسرحية، متوخِّيًا فيها تحقيق هدف الرسالة. فمثلًا «الكوكبين» مسرحية
أدبية غرامية حماسية شعرية، ذات خمسة فصول، وهي خليط من الهزل والجد والسرور والحزن.
٢٠٨ و«السلطان حسن» أو «الملك حسن» مسرحية أدبية غرامية تاريخية فكاهية،
ومن شخصياتها: تاج الفخار، والسلطان نور الدين، وابن السلطان حسن، وورد الجنان، ودر
الجمان، وزيدان الذي يمثِّل الخيانة والغدر فينال جزاءه ومن ثَمَّ يُقتل شر قتلة. كما
تتنكر في المسرحية إحدى الممثلات فتظهر الشهامة العربية، ويُبدي السلطان حسن من
المروءة والوفاء ما يدل على أنفة العرب وترفُّعهم عما يشين.
٢٠٩
أما مسرحية «أسد الشرى»، فهي أدبية فكاهية نثرية غرامية حماسية شعرية ذات خمسة فصول.
٢١٠ نشرت جريدة المؤيد ملخصًا عنها في ١٧ / ١ / ١٨٩٧، قالت فيه: «الرواية
مبنية على أن أميرًا أفرط في الشهوات والرذائل، فأحب امرأة ذات بعل، فراودها
فامتنعت، فقتل زوجها ظلمًا واعتداءً؛ لعله يتمكن من قضاء شهواته. فاحتالت المرأة
على كيده وخطفت ولد الأمير من مهده وربته، فشبَّ لصًّا قطَّاعًا للطرقات. ثم
حببت إليه أخته فخطفها وقرَّبها، ولما امتنعت عنه ضربها بمُدية، ثم جاء الأمير
لتخليص ابنته فأبصرها ميتة. وبعد أن قتل اللص قصَّت عليه عشيقته تفصيل الأمر
فمزَّقها بحسامه، ثم قتل نفسه، وأما ابنته فشُفيت من جراحها، وجاء حبيبها فزُفَّت
إليه.»
مسرح العتبة
بعد نجاح هذه المسرحيات في الإسكندرية جاء القباني إلى القاهرة، وبدأت الصحف تهتم
بأخبار مسرحه الجديد مسهبة في تحديد مكانه، مفصِّلة وصف تجهيزاته. فهذا المسرح يقع
في ميدان العتبة الخضراء، بجوار سوق الخضار، وأمام محطة الترمواي العمومية.
٢١١ وهو مسرح كبير مُزيَّن ومُزخرف ومكون من طابقين من الألواج، وقد أُنير
بضوء الإسيتيلين المخترع حديثًا، الذي يفوق ضوء الكهرباء. وبذلك اعتبرت الصحف أن
مسرح القباني «أول محل عمومي أُنير بهذا النور في القاهرة».
٢١٢
افتتح القباني مسحره هذا يوم ١٤ / ١ / ١٨٩٧ بعرض مسرحية «الكوكبين»،
٢١٣ ووصفت الصحف نجاح العرض كما أشادت بإقبال الجمهور وعودة أكثره — دون
مشاهدة العرض والاستمتاع به — لنفاد التذاكر،
٢١٤ وهذا الوصف يوحي بنجاح رسالة القباني، وقد حضر هذا الافتتاح المحامي
إسماعيل عاصم الذي ألقى خطبة بعد العرض اعترف فيها بأستاذية القباني قائلًا: «…
إنني بصفتي مؤلف روايات عديدة، وبصفتي أُحسن التمثيل، وقد شخَّصت مرات عديدة بعض
أدوار رواياتي، أفتخر بأن أقول: إن حضرة الفاضل الشيخ أبي خليل هو أستاذ الوحيد في
فن التمثيل، ولا أُعطي غيره هذا اللقب.»
٢١٥
وهذا القول من إسماعيل عاصم — الكاتب المسرحي المرموق، والشاعر القدير، والمحامي
الشهير، والخطيب المفوه، والممثل الهاوي — يُعدُّ وسامًا على صدر القباني، ويدلُّ
دلالة قاطعة على نجاح رسالة القباني المسرحية وتحقيق هدفها؛ لأن إسماعيل عاصم —
متأثِّرًا بأستاذه القباني — ألَّف مسرحيتين على غرار كتابات القباني وعروضه
المسرحية؛ الأولى «هناء المحبين» ١٨٩٣م، والأُخرى «حُسن العواقب» ١٨٩٤م، نهج في
تأليفهما نهج القباني من حيث استلهام التراث العربي.
٢١٦
هكذا نجح القباني في افتتاح مسرحه الثابت، الذي شاء القدر أن يكون قريبًا جدًّا
من مسرح إسكندر فرح، وبالتالي فرض الواقع التنافس الفني بينهما! وهو التنافس الذي
كان يخشاه القباني طوال السنوات الماضية، وفي يوم افتتاح القباني لمسرحه عرض إسكندر
فرح مسرحية «صلاح الدين الأيوبي»، ولم تنجح جماهيريًّا بسبب توافد الجمهور على
مسرح القباني الجديد، فمثَّل في اليوم التالي مسرحية «السر المكنون» في تياترو
كازينو حلوان،
٢١٧ تاركًا القباني يعرض مسرحيته الثانية «أسد الشرى» بنجاح أيضًا — حيث
خصص دخلها لمساعدة عائلة فقيرة
٢١٨ — وظلَّت المنافسة بين الاثنين قائمة ما يقرب من الأسبوعين؛ حيث عرض
القباني مسرحيات: الأمير محمود، وعنترة العبسي، وأنس الجليس، والخل الوفي، والسلطان
حسن. بينما عرض إسكندر فرح مسرحيات، ضرر الضرتين، وعظة الملوك، ومظالم الآباء.
٢١٩
والنجاح الذي أحرزه القباني في عروضه الأولى على مسرحه الخاص وجدنا تأثيره في
أسلوب الصحف التي تحدثت عن هذا النجاح، مثل جريدة الأخبار التي قالت يوم
٩ / ١٢ / ١٨٩٧ تحت عنوان «التشخيص العربي»: «كل من شاهد التمثيل في التياترو العربي
بأول سوق الخضار الجديد، وشاهد تشخيص جوق حضرة الفاضل المتفنن الشيخ أبي خليل
القباني، يشهد جليًّا أن هذا الجوق حاز قصب السبق على عموم الأجواق العربية، بهمة
ونشاط مديره، وبراعة ممثليه وممثلاته الأدباء؛ إذ إنه نال استحسان العموم على
اختلاف المذاهب والمشارب. وأكبر شاهد الإقبال عليه في كل ليلة حتى يغصَّ المرسح
بالمتفرِّجين …»
استمرت المنافسة الفنية بين فرقتي القباني وفرح — بعد ذلك — لمدة أربعة أشهر،
نجحت فيها فرقة القباني أن تقف على قدم المساواة مع الفرقة المتألقة الأولى في
مصر وهي فرقة إسكندر فرح، وهذه المساواة تأتي في صالح القباني الذي عرض في هذه
الأشهر مجموعة من مسرحيات رصيده الدرامي
٢٢٠ — الذي وصل إلى إحدى وعشرين مسرحية — ثم أضاف إليها مسرحية جديدة هي
«الحاكم بأمر الله العباسي»، وربما تكون من تأليف القباني — رغم فقدان نصها — لأنها
«مبنية على شيمة الوفاء، وعلو الهمة، وخلال الصدق والمروءة».
٢٢١
ومعاني المسرحية — كما هو واضح — تتفق مع موضوعات القباني السابقة — المعبرة عن
مفردات رسالته، وفق توجهه في إحياء التراث العربي مسرحيًّا — وتمَّ عرضها لأول مرة
يوم ٢٦ / ٢ / ١٨٩٧، وأجاد عرضها الممثلون، فارتجل الشاعر الشيخ عثمان الموصلي قصيدة
ذكر فيها موضوع الرواية وأسماء الممثلين. ويُقال إن القباني أدخل في مشهد زفاف ست
الملك (الدبكة) لأول مرة في هذه المسرحية،
٢٢٢ مما يعني إضافة جديدة إلى مفهوم المسرح الاستعراضي عند القباني في تلك
الفترة، وتطوُّرًا في أدوات تطبيق منهج الرسالة. هذا بخلاف الفصول المضحكة المقدمة
من حنا النقاش،
٢٢٣ مثل فصل «الفيلسوف».
٢٢٤ وفي مقابل ذلك عرض إسكندر فرح مجموعة من مسرحيات فرقته،
٢٢٥ إلى جانب عروض الفرقة في الأوبرا الخديوية إحياءً لحفلات الجمعيات الخيرية.
٢٢٦
ومما أعلى شأن القباني فنيًّا في هذه الأشهر ما رددته الصحف عن عزم الشيخ سلامة
حجازي ترك التمثيل — في فرقة إسكندر فرح — لأسباب صحية، وقد حصد القباني أثر هذه
الأخبار الإيجابية لصالحه لعدة أيام قبل أن يتراجع سلامة حجازي عن عزمه هذا.
٢٢٧ يُضاف إلى ذلك اعتلاء القباني خشبة دار الأوبرا الخديوية ممثِّلًا
وقائدًا لفرقته، محقِّقًا بذلك جزءًا من حلمه القديم؛ لأن عرضه هذا لم يكن عرضًا
خاصًّا به، بل كان إحياءً لحفلات إحدى لجان الجمعية السورية لجمع التبرعات للجيش
العثماني والمدرسة الحميدية.
٢٢٨
الانتقام
استغل القباني اضطراب فرقة إسكندر فرح بسبب ما أُشيع عن عزم الشيخ سلامة حجازي ترك
التمثيل، فعرض بنجاح مسرحية «الانتقام» يوم ٣ / ٤ / ١٨٩٧،
٢٢٩ وهي من تعريب نجيب الحدَّاد — كاتب فرقة إسكندر فرح — والتي عُرِضت
بأسماء عديدة — من قِبل معظم الفرق — منها: «السيد» و«الانتقام الجبري» و«غرام وانتقام»،
٢٣٠ وهي مسرحية تتفق في موضوعها مع هدف رسالة القباني المسرحية وأثرها
الإيجابي على الجمهور، ولكنها تختلف عن توجهه في إحياء التراث العربي؛ لأنها
مسرحية أجنبية مُعرَّبة، وتبرير ذلك — من وجهة نظري — أن القباني عرضها ضمن أُسلوبه
في منافسة إسكندر فرح أكثر من عرضها وفق أُسلوبه في إحياء التراث.
وتدور أحداث هذه المسرحية — في إشبيلية — حول البطل رودريك ابن الدون دياك، الذي
يحب شيمان ابنة الدون جومس، ومدى استعداد الأُسرتين بزفافهما، وقبل أيام من هذا
الزفاف يقوم فرنان ملك كستيليا باختيار مؤدِّب لابنه من بين دياك وجومس، فيقع
اختياره على الدون جومس مما أثار حقد الدون دياك، فتدور مناقشة مثيرة بينهما حول
اختيار الملك، فيقوم جومس بصفع دياك الذي يطلب عدل الملك من جراء هذه الصفعة، ومن
ثم يثير ابنه رودريك ضدَّ والد حبيبته؛ كي يأخذ بثأر أبيه، وبالفعل تتم مبارزة بين
رودريك وجومس تنتهي بموت جومس. وهنا نجد صراعًا عنيفًا تولَّد عند شيمان بين حبها
لرودريك وثأرها منه لأنه قتل أباها. فيذهب إليها رودريك ويطلب منها أن تقتله،
ولكنها لا تفعل بسبب حبها، وتطالب الملك بالعدل. وهنا يقترح دياك على ابنه رودريك
أن يذهب لمحاربة أعداء البلاد، لعله يموت شهيدًا دفاعًا عن الوطن بدلًا من أن يموت
بسبب انتقامه لشرف أبيه، ويمتثل رودريك لنصيحة أبيه، ويُبلي بلاءً حسنًا في المعركة،
ويعود منتصرًا فيخلع عليه الملك لقب «السيد» أي سيد الناس. وتشعر شيمان بأن ثأرها
ضاع أمام بطولة رودريك ولقبه، فتطلب من الملك العدل لمقتل أبيها، وتنشر بين الناس
أن من يبارز رودريك ويقتله سيصبح زوجًا لها. ويتقدم لهذا الأمر الدون صنش طمعًا في
شيمان، ولكن رودريك ينتصر عليه في المبارزة ويعفو عنه في النهاية. وهنا يأمر الملك
بزواج رودريك من شيمان، ولكن شيمان تؤجل هذا القران حتى تنتهي من حزنها على
أبيها، وأيضًا حتى ينتهي رودريك من انتصاراته، وتنتهي المسرحية.
ذاق القباني طعم النجاح الفني أربعة أشهر، وهي الفترة التي فُرِضت عليه ليكون
منافسًا فنيًّا لإسكندر فرح، ولكنه لم يستطع الصمود أكثر من ذلك — على الرغم من
غناء عبده الحمولي بين فصول عروضه المسرحية على تخت محمد العقاد — فترك ساحة
المنافسة وعاد إلى سورية — في أوائل مايو ١٨٩٧م
٢٣١ — أملًا في إيجاد أسلوب جديد يجعله يصمد في المنافسة الفنية فترات
أطول، فعاد إسكندر فرح إلى امتلاك زمام الأمور، وأصبحت فرقته الفرقة المسرحية
الأولى في مصر التي استمرت عروضها الفنية متواصلة ثلاثة أشهر دون منافسة.
٢٣٢
أما مسرح القباني بالعتبة فظلَّ مضاءً كل ليلة، لا ليعرض مسرحيات القباني أو
غيره، بل ليعرض ألعابًا من الأكروبات والجمباز من المصارعين ناجي كوتاليانوس
وبنايوتي كوتاليانو، أو فصولًا مضحكة من الجوق الدمشقي، أو قطعًا غنائية من السيدة السويسية.
٢٣٣
ملكة سرور
ثلاثة أشهر كاملة قضاها القباني في سورية، يُفكِّر في أسلوب جديد يفاجئ به الحركة
المسرحية في مصر، لتتبوأ فرقته مكانته الغائبة، ويستمر في بث رسالته المسرحية.
وربما عاد بتفكيره إلى الوراء وسرد تاريخه الفني، فلم يجد مجدًا لفرقته في مصر غير
فترة وجود العالمة ليلى الشامية التي جعلت من فرقته الفرقة المسرحية الأولى في مصر؛
لذلك هداه تفكيره إلى إعادة التجربة بشكل جديد، فقام بجمع مجموعة من المطربات
السوريات برئاسة المطربة «ملكة سرور» عازفة القانون، وأطلق على هذا الجمع جوقة
«المطربات الحسان». وهذه الجوقة خصصها لتقديم الفصول الغنائية بين فصول عروض
مسرحياته، وفي ختامها، بوصفها تجديدًا في أدوات تطبيق منهج رسالته المسرحية.
بهذا الشكل الفني عاد القباني إلى مصر في نهاية أغسطس ١٨٩٧م، وبدأت عروضه القوية
بمسرحيتين جديدتين: الأولى «إسكندر المقدوني»، وعرضها يوم ٢٥ / ٨ / ١٨٩٧ لأول مرة،
ثم أعاد عرضها بعد ذلك بعنوانين آخرين هما: «إسكندر الكبير الملقب بذي القرنين»
أو «الملك إسكندر المقدوني».
٢٣٤ والأخرى «المعتمد بن عباد» وعرضها يوم ١١ / ٩ / ١٨٩٧ لأول مرة.
٢٣٥ ورغم أن هاتين المسرحيتين من تأليف القباني، كما نصت إعلانات الصحف
على ذلك،
٢٣٦ إلا أن الدكتور محمد يوسف نجم شكَّك في الأولى ونسبها إلى إبراهيم
الأحدب قائلًا: «ولعلها مسرحية الإسكندر للأحدب»،
٢٣٧ وقام بنشر نص الأخرى ضمن نصوص مسرحيات إبراهيم الأحدب، علمًا بأن
مخطوطة مسرحية القباني تحمل عنوان «يوسف بن تاشفين والمعتمد بن عباد». وعلى الرغم
من امتلاك الدكتور نجم لنصَّي مسرحيتَي الأحدب والقباني إلا أنه لم يوضح الفرق بينهما.
٢٣٨
ومهما يكن من أمر نسبة تأليف هاتين المسرحيتين لإبراهيم الأحدب، إلا أن موضوع كل
منهما — المعتمد على التراث التاريخي — يُمثِّل فحوى رسالة القباني المسرحية، كما
أن عرضهما من قِبل فرقة القباني مثَّل نجاحًا كبيرًا أُضيف إلى نجاح عروضه الأخرى —
في هذه الفترة — من رصيده الدرامي، وهذا النجاح فاق نجاح الفرقة أيام وجود العالمة
ليلى؛ حيث استطاع القباني أن يسيطر على العاصمة مسرحيًّا، فوقع اختيار الحكومة
على فرقته كي تحيي ليلة الاحتفال بالجلوس السلطاني بحديقة الأزبكية — دليلًا
على نجاح الرسالة وتحقيق هدفها — من خلال عرضها لمسرحية «أسد الشرى»، بجانب من
أحيى الحفل من المطربين، أمثال: عبده الحمولي والشيخ يوسف المنيلاوي ومحمد عثمان.
٢٣٩
هذا التألق لفرقة القباني كان بفضل وجود جوقة الحسان بقيادة المطربة ملكة سرور،
التي أشادت بها جريدة مصر يوم ٤ / ١٠ / ١٨٩٧، قائلةً: «أحسن جوق أبي خليل التمثيل
أمس في تياترو حلوان، وراقت للجمهور نكات أحد الممثلين وهزله الرقيق، حتى إنهم
أكثروا من التصفيق والاستحسان من ابتداء التمثيل إلى انتهائه، ولكن هذا كله لم يكن
شيئًا مذكورًا عند التصفيق الهائل الذي ارتجَّت له جوانب الملهى مرارًا وتكرارًا حين
برزت حضرة
المطربة المبدعة السيدة ملكة سرور، وسحرت الألباب بما أوتيت من جمال الصوت والبراعة
في التلحين وكمال الأدب، ولا ريب أن وجود مثل هذا الامتياز في جوق عربي يجعل إقبال
الأدباء عليه محتمًا.»
كما أشادت بهذه المطربة الجريدة نفسها يوم ١٢ / ١٠ / ١٨٩٧ قائلةً: «لم يبقَ ريب في
أن حضرة الأستاذ أبي خليل صاحب جوق التمثيل المعروف باسمه قد خدم أصحاب الذوق ومحبي
الأنس في أنه كلَّف حضرة المطربة المبدعة السيدة ملكة سرور تشنيف الآذان بألحانها،
فإن الإقبال على هذا الجوق بعد أن اشتهر وجود هذه السيدة الكريمة فيه قد زاد إلى
حد يوجب المسرَّة، ولنا أمل أن يظل على ازدياد.» وبفضل هذه المطربة استطاعت فرقة
القباني امتلاك ناصية الفن المسرحي شهرين كاملين، وبدأت الصحف تشيد بعروضها ومدح
ممثليها أمثال: أحمد أبي العدل وهيلانة سماط. وبدأت عروض الفرقة تأخذ شكلًا فنيًّا
جديدًا أحسنت الصحف وصفها.
٢٤٠
منافسة شرسة
لم تستطع الفرق الأخرى مجابهة نجاح القباني أو الحيلولة من تقدمه، فهرعت كل فرقة
تتلمس رزقها في الأقاليم، بعد أن سيطرت فرقة القباني على العاصمة. فميخائيل جرجس —
صاحب جوق السرور — اختار محافظة أسيوط لعرض مسرحياته،
٢٤١ بينما اختار إسكندر فرح محافظتي المنيا وأسيوط أيضًا.
٢٤٢ ولأن الأخير له تاريخ فني طويل وفترات تألق محفورة في تاريخ المسرح؛
كان من الصعب عليه الابتعاد أكثر من ذلك، فقرر العودة إلى العاصمة، والنزول إلى ساحة
التنافس المسرحي، ومهَّدت جريدة الكمال عودته هذه — في عددها بتاريخ ١٠ / ١٠ / ١٨٩٧
— موضِّحة أن إسكندر فرح زاد في تزيين مسرحه، وفرشه بأفخر الطنافس، وأنه سيقدِّم
مسرحيات جديدة خاصة به لم تُمثَّل من قبلُ، ولن تُمثَّل في أية فرقة من بعد.
بهذا التحدي تأججت المنافسة الفنية بين فرقتي القباني وفرح، فراحت كل فرقة تقدم
أفضل ما لديها، مسخِّرة كافة إمكانياتها الفنية من أجل الظهور والصعود على أكتاف
الفرق الأخرى. وظل التألُّق الفني في العروض المسرحية متأرجحًا بين الفرقتين أكثر
من شهرين،
٢٤٣ مما يُصعِّب على المتتبع لأخبارهما الجزم بعلو كعب فرقة عن الأخرى!
ولكن المتأمل في بعض الأخبار المنشورة عنهما يستنتج أن القباني تفوَّق بعض الشيء
على غريمه إسكندر فرح؛ بفضل غناء المطربة ملكة سرور ووجود الممثلات الشقيقات:
مريم وهيلانة وحنينة سماط. ومن مظاهر هذا التفوق عرض القباني لمسرحية «أنس الجليس»
على دار الأوبرا الخديوية في ليلة احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية — في منتصف
ديسمبر ١٨٩٧م — وقد شاهد العرض الخديوي عباس حلمي الثاني شخصيًّا.
٢٤٤
انتقل الصراع بين الفرقتين إلى الصحف الموالية لهما، فوجدنا صحيفة «الكمال» تساند
فرقة إسكندر فرح وتتفنن في مدحها، وتؤكد أن أغاني مسرحياتها موظَّفة بصورة فنية،
بعكس فرقة القباني التي تقدِّم الأغاني بصورة مبتذلة غير لائقة، أشبه بما يُقدَّم
في الصالات الغنائية. كما قارنت بين صوت الشيخ سلامة باعتباره شابًّا، وصوت القباني
الذي بلغ الستين من عمره، كما لمزت جانب القباني في تآليفه المسرحية، من حيث
عباراتها المسجوعة التي لا تتناسب مع الموقف التمثيلي، بعكس تآليف نجيب الحدَّاد —
كاتب مسرحيات فرقة إسكندر فرح — كذلك عابت على فرقة القباني أنها أصبحت معرضًا
للنساء المطربات والملحنات، وأخيرًا أشاعت أن الألواج المغطاة في مسرح القباني
ألواج مشبوهة تفوح منها رائحة الموبقات، وقد تصدَّت جريدة «الأخبار» لهذا الهجوم
وفنَّدت هذه المزاعم؛ فساندت القباني بأقوالها.
٢٤٥
تمرد ملكة
أما جريدة «البصير» فقد وجَّهت طعنًا شديدًا إلى القباني عندما قالت بتاريخ
١٧ / ١ / ١٨٩٨: «… وأما جوق الشيخ أبي خليل فقد اشتهر بوجود السيدة ملكة سرور
المطربة فيه أكثر من اشتهاره بالتمثيل.» ربما هذه العبارة كانت تتردد كثيرًا في هذا
الوقت، وأصبحت من المسلَّمات، فشعرت ملكة سرور بأنها الورقة الرابحة في فرقة
القباني، فتمردت ولم تشارك بالغناء في عروض كثيرة،
٢٤٦ لا سيَّما عروض الفرقة أيام عيد الأضحى المبارك؛ حيث كان القباني يعرض
كل يوم — من أيام العيد الأربعة — مسرحية تختلف عن اليوم الذي يليه.
٢٤٧
وتجسَّد تمرد ملكة سرور بصورة ملحوظة في عدم مشاركتها في عرض مسرحية «اللقاء
المأنوس في حرب البسوس» — تأليف جرجس مرقص الرشيدي — التي مثلتها الفرقة لأول مرة.
٢٤٨ ووصل التمرد إلى قمته عندما أقامت حفلات غنائية خاصة بها — بعيدة عن
فرقة القباني — في كازينو حلوان وحديقة الأزبكية وتياترو التفريح بالمنصورة وتياترو
عباس بالإسكندرية في يناير ومارس ١٨٩٨م.
٢٤٩
وتُعد مسرحية «اللقاء المأنوس في حرب البسوس» مثالًا حيًّا لنجاح رسالة القباني
وتحقيق هدفها؛ لأن المرجح أن مؤلفها — جرجس مرقص الرشيدي
٢٥٠ — كتبها متأثِّرًا بكتابات القباني المجسدة لحركة إحياء التراث العربي
— وربما باتفاق بينهما — حيث إن موضوعها تاريخي أدبي، يحكي قصة الحرب الشهيرة، التي
دارت بين قبيلتي بكر وتغلب بسبب مقتل كُليب في العصر الجاهلي. ومما يعضد هذا الترجيح
أن فرقة القباني كانت الفرقة الوحيدة، التي مثَّلت هذه المسرحية، ولم تمثِّلها أية
فرقة مسرحية أُخرى؛
٢٥١ مما يعني أنها كُتِبت خصيصًا للقباني، وأن مؤلِّفها أحد تلاميذه
المتأثِّرين بأسلوبه، مثله مثل إسماعيل عاصم.
لم يقف إسكندر فرح متفرجًا أمام تمرد ملكة سرور على القباني، فاستغل الموقف
لصالحه، ووجَّه ضربة جديدة إلى منافسه، عندما نجح في إشراك ملكة سرور في بعض عروضه المسرحية.
٢٥٢ فردَّ عليه القباني الضربة عندما استعان بكاتب مسرحياته نجيب الحدَّاد في
تعريب مسرحية «البخيل» — المتوافقة مع موضوعات رسالة القباني المسرحية — التي عرضت
يوم ٢ / ٤ / ١٨٩٨ لأول مرة قبل أن تعرضها أية فرقة أخرى، وكان القباني يذكر في
إعلاناته أنها مُعرَّبة بقلم نجيب الحدَّاد، واصفًا إيَّاه ﺑ «الكاتب البارع، أو
الشاعر الفاضل والكاتب المجيد، أو الناظم الناثر المتفنن»، نكاية في إسكندر فرح.
٢٥٣
هذه المناوشات الفنية لم تؤثِّر في النتيجة الحتمية التي أصبحت جلية، وهي أن ملكة
سرور — الورقة الرابحة للقباني — أصبحت رابحة لمنافسه، أو رابحة لنفسها، وبدلًا من
أن تكون سحرًا لجالبها، طبقت مقولة «انقلب السحر على الساحر». وعلى الرغم من ذلك
أمسك القباني برباط جأشه ولم يستسلم، وعاد إلى سابق عهده يستعين في عروضه بالفصول
المضحكة بديلًا عن فصول الطرب،
٢٥٤ وهذا الأسلوب جعله يستمر في المنافسة الفنية بعض الوقت.
ولكن الفصول المضحكة — باعتبارها أُسلوبًا متَّبعًا عند جميع الفرق — لم تجذب
الجمهور المُتعطش للطرب والغناء، فاستعان القباني ببديل آخر وهو تقديم فصول غنائية
من قِبل بعض المطربين أمثال: إبراهيم القباني، وأحمد فريد، والشيخ صالح العوام،
وداود حسني.
٢٥٥ وهذا الأسلوب لم يفلح كثيرًا في جذب الجمهور، الذي تعوَّدت آذانه على
سماع المطربات، كما تعوَّدت عينه على النظر إلى حُسنهن، وهذه المحاولات في
مجملها، جعلت القباني يستمر في تقديم عروضه المسرحية، ولكن دون النجاح الذي ذاق
طعمه أيام وجود المطربة ملكة سرور، ونتيجة لذلك عاد القباني إلى سورية، فعادت فرقة
إسكندر إلى التألق من جديد.
٢٥٦
جوقة المطربات
ظلَّ القباني في سورية شهرين يعدُّ ابتكارًا فنيًّا جديدًا لفرقته، مستفيدًا من
أخطاء الماضي، وربما فطن — في هذه الفترة — إلى حقيقة أن وجود فرقته في مجال
المنافسة المسرحية متعلق بوجود الفصول الغنائية، وهذه الفصول عمادها الرئيسي
المطربة الأولى — مثل ليلى الشامية، أو ملكة سرور — يساندها مجموعة من المطربات،
وبخروج هذه المطربة تُصاب فرقته بالخمول، وتصبح هدفًا لسهام المنافسين! فلماذا لا
يفكر في أسلوب جديد يضمن لفرقته الاستمرار والتألق من غير وجود هذه
المطربة؟!
ربما فكر القباني هكذا! وبدأ في تنفيذ فكرته، عندما جاء بمجموعة من المطربات
السوريات وأخذ يعلمهن ويدرُّبهن، وسافر بهن إلى مصر في سبتمبر ١٨٩٨م، وأطلق عليهن
«جوقة المطربات»، من غير وجود رئيسة لهن، أو مطربة مميزة بينهن، يُوضع اسمها في
إعلانات الفرقة، كما حدث سابقًا في إعلانات الفرقة أيام العالمة ليلى، والمطربة
ملكة سرور. كما دعم القباني فكرته هذه — التي تُمثَّل تجديدًا في أدوات تطبيق منهج
رسالته — بمسرحيتين جديدتين، هما: «مكائد الغرام» و«لوسيا»،
٢٥٧ ليضمن بذلك نجاح تجربته، بحيث تساند المسرحيات الجديدة أي إخفاق
للمطربات، ويعالج غناء المطربات أي نقص في المسرحيات.
ومسرحية «مكائد الغرام» ربما ألَّفها القباني وضاع نصها كمعظم نصوصه، ورغم ذلك
فإن الدكتور محمد يوسف نجم لم يُشر إليها مطلقًا.
٢٥٨ أما مسرحية «لوسيا» التي نشر الدكتور نجم نصها باعتبارها من كتابات القباني،
٢٥٩ فإن جريدة المؤيد — بتاريخ ١٣ / ١٠ / ١٨٩٨ — تؤكِّد أن مؤلفها «نقولا
الحدَّاد»، قائلةً: «يمثِّل جوق حضرة الفاضل الشيخ أحمد أبو خليل القباني هذا المساء
رواية «لوسيا»، وهي رواية جديدة لم يسبق لها تمثيل في المراسح العربية، من تأليف
حضرة الأديب «نقولا أفندي حدَّاد».»
نجح القباني في عرضه الأول لمسرحيته الجديدة «مكائد الغرام» يوم ١٥ / ٩ / ١٨٩٨
الذي قدمه بالأسلوب الجديد. وبمعنى آخر؛ نجحت فكرته في تقديم عروض مسرحية تُصاحبها
فصول غنائية جماعية من جوقة المطربات، بوصفها أسلوبًا جديدًا في تطبيق منهج رسالته.
ظلت هذه الفكرة ناجحة شهرين مُتتاليين، قدم فيهما القباني مسرحيتيه الجديدتين، مع
إعادة لعروض أخرى من رصيده الدرامي.
٢٦٠
مريم مراد
نجحت التجربة إذن … ولكنها لم تستمر، ولم تقوَ على الاستمرار سوى شهرين فقط!
كانت فيهما فرقة إسكندر فرح ناجحة أيضًا،
٢٦١ بفضل وجود الشيخ سلامة حجازي، وغناء ملكة سرور في بعض العروض.
٢٦٢ فأين للقباني بملكة سرور أخرى تحافظ على نجاح عروضه؟! فقد شعر بأن
الجمهور حنَّ إلى سماع الغناء المنفرد، وملَّ سماع الغناء الجماعي! وتأكَّد بأن
نجاح فرقته هو وجه لعملة وجهها الآخر هو المطربة النجمة، التي ستحافظ على هذا
النجاح وتدفعه إلى الأمام، وبالتالي نجاح رسالته وتحقيق هدفها. وبعد أيام قليلة حصل
القباني على مبتغاه، وأعلن عن نجمته الجديدة في الصحف، وهي المطربة «مريم مراد»
التي أسهمت — بفصولها الغنائية — في استمرار نجاح عروض القباني طوال أكثر من شهرين
حتى يناير ١٨٩٩م.
٢٦٣
أكثر من شهرين فترة لا بأس بها، استمتع فيها القباني بنشوة النجاح الفني
وانتصاره، ولكن هذه النشوة أوقفها إسكندر فرح الذي تأثَّرت عروضه سلبًا — من حيث
إقبال الجماهير — بوجود هذه المطربة في مسرح غريمه القباني، فأعاد إسكندر فرح
الكرَّة مرة أخرى، وأعاد الزمن إلى الوراء، ولعب اللعبة نفسها مع القباني؛ حيث نجح
في ضمِّ المطربة «مريم مراد» إلى فرقته لتقدِّم فصولها الغنائية في مسرحه بدلًا من
تقديمها في مسرح منافسه.
٢٦٤
صمود يائس
تلقَّى القباني هذه الضربة من غريمه ولم يردُّها عليه، بل فكر في نجاح عروضه
وكيفية استمرار رسالته بصورة متألقة غير متأثرة بخروج نجمته الجديدة مريم مراد،
فعمد إلى تنوع أساليبه الفنية جذبًا لأكبر عدد من جمهور المسرح؛ حيث عرض ثلاث
مسرحيات جديدة هي: أستير، وروبرت والبرت، وهارون الرشيد مع خليفة الصياد،
٢٦٥ ثم استعان ببعض المطربين، أمثال: الشيخ حسن صالح، وإبراهيم القباني،
ومحمد عثمان،
٢٦٦ ثم طبق نظام سحب اليانصيب على أرقام التذاكر، وكانت الجوائز متنوعة
مثل: أطقم الملاعق الفضية، والساعات الذهبية،
٢٦٧ وأخيرًا عاد إلى الفصول المضحكة التي كانت تقدم بين فصول العروض
المسرحية وفي ختامها.
٢٦٨
وبهذا التنوع في أساليب العرض المسرحي — التي تُعدُّ تنوُّعًا في أدوات تطبيق
منهج رسالة القباني المسرحية — استطاع القباني الصمود ثلاثة أشهر، كانت الغلبة فيها
لفرقة إسكندر فرح من حيث النشاط المسرحي.
٢٦٩ ويُحسب للقباني صموده في عروض مسرحياته ونجاحه — رغم محدوديته مقارنة
بنجاح إسكندر فرح — طوال تسعة أشهر من سبتمبر ١٨٩٨ إلى مايو ١٨٩٩م.
استنفذ القباني كافة وسائلة الفنية، واستطاع الصمود أطول فترة ممكنة، وأخيرًا قرر
العودة إلى سورية — ومكث بها خمسة أشهر من يونيو إلى نوفمبر ١٨٩٩م — بحثًا عن أفكار
جديدة تمكِّنه من الاستمرار والنجاح في بث رسالته المسرحية، تاركًا الساحة المسرحية في
مصر، تمرح فيها عروض فرقة إسكندر فرح الناجحة،
٢٧٠ ومساهمًا في ظهور فرقة سليمان القرداحي وتألقها مرة أخرى؛ حيث قام
القرداحي بعرض مسرحياته على مسرح القباني نفسه — في أثناء وجود القباني في سورية
— وكان تارة يذكر اسم المسرح — في إعلاناته — بمسرح القباني،
٢٧١ وتارة أخرى بمسرح العتبة الخضراء أو مسرح سوق الخضار،
٢٧٢ خشية التباس الأمر على الجمهور، فيظنُّ أن القباني ما زالت عروضه
قائمة.
نهاية محترقة
عاد القباني إلى مصر في نوفمبر ١٨٩٩، ولم تثمر غيبته في سورية — طوال خمسة أشهر —
عن أية فكرة جديدة! فلأول مرة يعود القباني بعد غياب من غير تغيير في فرقته،
٢٧٣ أو ظهور لمطربة جديدة، أو الاستعانة بجوقة المطربات الحسان … إلخ
ابتكاراته الفنية — المعضِّدة لأدوات تطبيق منهج رسالته — التي يجذب بها جمهوره
بعد كل غياب عن مصر. وربما عامل السن كان وراء هذا الخمول؛ فالقباني عام ١٨٩٩م شارف
الستين بقليل أو كثير، وربما بحث ونقَّب عن الجديد فلم يجده، وربما اعتقد بأنه أدَّى
رسالته بالصورة المرضية، وحقَّق من ورائها أهدافه المرجوة؛ لا سيَّما أن حركة
الإحياء بدأت في الخفوت بعد أن أدَّت وظيفتها، ولا بد لها من أن تنتقل إلى مرحلة
أخرى، لم يكن القباني من فرسانها، فرضي بتكوين فرقة متواضعة عملت بتراخٍ طوال سبعة
أشهر؛ حيث أعادت عروضها القديمة، وكأن القباني استشعر حُسن الخاتمة، فكتب نهايته
المسرحية بهذه العودة الفاترة.
أول عرض قدمه القباني على مسرحه — بعد عودته من سورية — كان مسرحية «عائدة» في
نوفمبر ١٨٩٩م، ثم رحل بعروضه إلى المنيا والإسكندرية؛ حيث عرض عدة مسرحيات، منها
«عائدة» مع فصول مضحكة من حنا النقاش، تاركًا مسرحه في العاصمة إما لجمعية الفوائد
الأدبية تعرض عليه مسرحية «العاشق المفلس» أو لعروض خيال الظل والعرائس المتحركة
المعروفة ﺑ «المساخيط الخشبية». ثم نجده يعود إلى العاصمة ويعرض على مسرحه في
فبراير ١٩٠٠م مسرحية «مطامع النساء» — التي قتلتها عرضًا فرقة إسكندر فرح
٢٧٤ — ثم يعود إلى الأقاليم مرة أخرى في أبريل، ويمثل في الفيوم، ثم
يعرض عدة مسرحيات على تياترو التوفيق بالمنيا في مايو؛ لتكون آخر عروضه المسرحية
في مصر على الإطلاق؛ حيث جاءه — وهو في المنيا — خبر احتراق مسرحه بالقاهرة يوم ١٨ / ٥ / ١٩٠٠.
٢٧٥
احترق مسرح القباني،
٢٧٦ وتوقف نشاطه المسرحي إلى الأبد! ورغم ذلك لم تحترق رسالته المسرحية
التي تبنَّتها الفرق المسرحية الأخرى بعد وفاته بعشرين سنة، فمسرحيته «عنترة
العبسي» استمر عرضها حتى عام ١٩٠٦م من قِبل: فرقة إسكندر فرح، وفرقة سليمان
القرداحي، وفرقة يوسف الخياط، وجوق السرور، وجمعية الرابطة الأخوية الإسلامية.
٢٧٧ ومسرحيته «مكائد الغرام» مثَّلتها فرقة إسكندر فرح، وفرقة سلامة حجازي
حتى عام ١٩٠٩م.
٢٧٨ ومسرحيته «ناكر الجميل» ظلَّت تعرضها المدارس والأجواق حتى عام ١٩١٦م.
٢٧٩ ومسرحيته «أنس الجليس» ظلت تُعرض على المسارح المصرية حتى عام ١٩٢٣م
من قبل: فرقة إسكندر فرح، وفرقة سليمان القرداحي، وجوق السرور، وفرقة الشيخ سلامة
حجازي، وجوق أبيض وحجازي، وفرقة منيرة المهدية، وفرقة أولاد عكاشة.
٢٨٠
واستمرار عروض بعض مسرحيات القباني طوال عقدين من الزمان بعد وفاته لأكبر دليل
على إيمانه برسالته المسرحية، وثقته في تحقيق هدفها المنشود في ظل حركة إحياء
التراث العربي؛ فهذه الرسالة كانت صادقةً في صياغتها، ساميةً في معانيها، نابضةً
بحسِّ ممثليها، محققةً آمال مشاهديها، معبِّرةً عن متطلبات معاصريها، متوافقةً مع
تراث مُحييها. رحم الله القباني صاحب الرسالة المسرحية، قائد حركة إحياء التراث
العربي في المسرح.
الشامل الرائد
كلمة أخيرة يجب أن تكون إطارًا لصورة القباني السابقة، بوصفه صاحب رسالة، وقائدًا
لحركة الإحياء في المسرح. وهذه الكلمة تتمثل في عبارة واحدة تقول: «القباني هو الفنان
الشامل الرائد المؤثِّر في بدايات تاريخ المسرح العربي في مصر!» وهذه العبارة
أقولها من غير مجاملة، أو شعور بالعاطفة نحو شخصية أكتب عنها؛ لأن معطيات الواقع
الفني تبرِّرها، وحقائق التاريخ تؤكِّدها، والمنطق العقلي يقبلها.
القباني كان صاحب الفرقة وكاتبها ومخرجها وبطلها وملحنها ومطربها! من كان مثله من
المسرحيين باستثناء صنُّوع المشكوك في نشاطه وريادته؟ حتى ولو ظهر الدليل — الذي لم
نعثر عليه حتى الآن — على نشاط صنُّوع المسرحي، لن نجد دليلًا يثبت أنه كان مطربًا
أو ملحنًا، وبالتالي تنتفي منه صفة الشمول. وهذه الصفة تنتفي أيضًا من جميع أصحاب
الفرق المسرحية طوال القرن التاسع عشر في مصر! فسليم النقَّاش لم يكن مطربًا أو
ملحنًا، وكذلك يوسف الخياط وسليمان الحدَّاد وسليمان القرداحي وإسكندر فرح وميخائيل
جرجس.
أما كون القباني رائدًا مؤثِّرًا في المسرح العربي، فهذه نتيجة منطقية؛ لأن
المقصود بالتأثير الاستمرار، وليس البداية الريادية بوصفها الأول في الترتيب. ومن
خلال هذا المعنى يصبح القباني رائدًا مؤثِّرًا؛ لأن فرقته استمرت في مصر (١٦) ست
عشرة سنة من ١٨٨٤ إلى ١٩٠٠م، وهي أطول فترة من جميع الفرق المسرحية التي عملت قبله
أو بعده بصورة مستمرة — باستثناء فرقتي الحدَّاد والقرداحي، اللتين يصعب تتبع نشاطهما
لتوقفهما سنوات طويلة — ففرقة سليم النقَّاش لم تكمل سنتها الأولى، وفرقة يوسف الخياط
التي خرجت من عباءة النقاش استمرت (١١) إحدى عشرة سنة، وجوق السرور لميخائيل جرجس
استمر (١٢) اثنتي عشرة سنة، وفرقة إسكندر فرح — التي تشكَّلت من ممثلي القباني —
استمرت (١٤) أربع عشرة سنة، وفرقة سلامة حجازي — التي تشكَّلت من ممثلي إسكندر فرح
— استمرت (١٢) اثنتي عشرة سنة.
وإذا كانت ريادة القباني مؤثرة في قيادته لفرقته طوال هذه الفترة، فهي مؤثرة
أيضًا في ريادته للكتابة المسرحية التراثية؛ فمَن غير القباني كتب ومثَّل أكثر من
عشرين مسرحية عربية فصيحة — نثرًا وشعرًا — مستلهمًا فيها التراث العربي؟! لا يوجد؛
فمعظم الفرق المسرحية كانت تُمثِّل المسرحيات المترجمة والمُعرَّبة، وكذلك كان
شأن الكُتَّاب يترجمون أو يُعرِّبون، باستثناء الشيخ إبراهيم الأحدب، وإن كانت
مسرحياته المخطوطة — التي نُشِرت مؤخرًا — تحتاج إلى مراجعة وتدقيق، فمنها مسرحيات
نُسِبت إليه وهي للقباني.
وريادة القباني المؤثرة في قيادته لفرقته، وكتابته للمسرحيات التراثية، وتمثيلها؛
يُضاف إليها أيضًا ريادته المؤثِّرة في المسرح الغنائي! فمَن قبل القباني قدَّم
مسرحيات غنائية كاملة متكاملة مستمرة؟! لا يوجد؛ فقد حاول قبله سليم النقَّاش
وسليمان الحدَّاد وسليمان القرداحي؛ ولكن تجاربهم لم تكتمل. وعندما نجح وتفوق عليه
إسكندر فرح — ساعده الأيمن — بمساعدة سلامة حجازي، كانت ريادة المسرح الغنائي كُتِبت
باسم القباني.
وآخر ريادة مؤثِّرة تُحسب للقباني هي ظهور بواكير المسرح الاستعراضي على يديه،
عندما أدخل — ولأول مرة — رقص السماح في المسرح المصري، وهو لون استعراضي لم ينافسه
فيه أحد!
خاتمة
هكذا كان أحمد أبو خليل القباني الأديب، الذي أحيا التراث العربي في مسرحياته
بصورة مشرقة، وأسس مسرحًا عربيًّا مُطبَّقًا فيه رؤيته لحركة الإحياء في المسرح. إنه
القباني البليغ الذي التزم الفصحى في كتاباته وعروضه؛ لتكون سدًّا منيعًا ضدَّ
مروِّجي العامية. إنه القباني الشاعر الذي عبَّر بشعره المسرحي عن خلجات النفس،
وابتكر فكرة التبييت في الشعر، ومزج النثر بالشعر بالموشحات في حواره المسرحي،
واقتبس النماذج الشعرية المتألقة من تراثنا العربي الأصيل؛ لتكون أسلوبًا تربويًّا
تعليميًّا مؤثِّرًا في جمهوره، وأعاد صياغة أشعار الآخرين وفق رؤيته المسرحية، فنثر
الشعر ونظم النثر. إنه القباني الأستاذ الذي تأثَّر بكتاباته المؤلِّفون، وبعروضه
المسرحيون. إنه القباني الفنان الذي عرَّفنا برقص السماح، إنه القبَّاني المُنظِّر،
صاحب تنظير الرسالة المسرحية ومطبقها، إنه القباني المُلحن الموسيقي الكبير، حامل
لواء إحياء التراث في المسرح العربي.