الفصل العاشر١
أبحرت الباخرة بمن عليها من الحجاج قاصدة بيت الله الحرام، فلما حاذت رابغ أحرمنا جميعًا، وفي بكرة الصبح من غدنا وصلنا إلى جدة فنزلنا من الباخرة إليها، ثم تخطيناها إلى مكة، وهنا طفنا بالكعبة الشريفة طواف القدوم في انتظار يوم التروية الذي يسبق وقفة عرفات.
وكانت حالتي النفسية تمور في هذه الأثناء مورًا جاوز كل ما تصورت، لقد كنت قبيل سفري أشعر حين صلواتي بأنني قريبة من ربي، وأنه يسمع دعائي أُكفِّر به عن ذنبي ليغفر لي ويرحمني، فلما لبست ثوب الإحرام شعرت بأنني تجردت لله — جل ثناؤه — ودخلت واسع رحمته، ولم يبق عندي شك، وقد جئت بيته خالصة القصد في التوجه إليه، في أنه غفر لي قبل أن أؤدي شعائر الحج؛ لأنه رب القلوب، ولأن الأعمال عنده بالنيات، ولأني قصدت بابه الكريم قانتة تائبة عابدة مسلمة إليه وجهي، آسفة على ما أسلفت من ذنوبي وأوزاري، فهو لا يرد من قصده من عباده ما خلُصَت نيته في قصده.
وبينا أنا في هذه الحال من الطمأنينة والغبطة إذ فوجئت بما أخرجني منها، فقد وقفت يومًا عند مدرسة من مدارس الحرم، فسمعت أستاذًا يحاضر الناس في الحج ويقول: «ليس الحج شعائر ومناسك وكفى، بل هو قبل كل شيء حساب النفس أمام بارئها عما قدمت في حياتها، وهل أدت للحياة واجبها بما يرضي الله ويرضي الضمير، فلم يحملها غرورها على اجتراح الآثام إرضاء لأهوائها، ولم يوسوس لها الشيطان بأن الحياة حق للحي وليست واجبًا عليه لله وللناس ولنفسه.»
زلزل هذا الكلام نفسي، وأخرجني من بُلَهْنِيَة الطمأنينة التي كانت تشتملني، وعاد بي إلى ماضي حياتي أنشره أمام بصيرتي ليكون صحيفتي عند ربي، وليكون ما أذرف من دمع التوبة عما فرط مني شفيعي إليه تعالت أسماؤه. صدق الأستاذ، ليس الحج شعائر ومناسك وكفى، ولكنه حساب النفس واعترافها بذنوبها قبل أن تحاسب حين يتوفاها ربها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كانت هذه المرحلة من مراحل نفسي أشق المراحل على وجداني، لكنني صمدت لها واجتزتها بإذعاني وإسلامي، وبإقراري بعجزي وضعفي، وباعترافي الكامل بذنوبي، وضراعتي إلى الله أن يغفر لي بعد الذي بلوت في حياتي من محن كانت الجزاء العادل عما كسبت نفسي. ولقد شعرت بعد اجتيازي هذه المرحلة برضا ملأ جوانحي وانتشر في كل وجودي، كما أضاء أمام بصيرتي نور يهديني السبيل إلى بارئي، فحمدته — جل شأنه — وازددت تواضعًا لله وثناء عليه، وتسليمًا بقضائه، وإسلامًا لأمره.
وإنني لسعيدة بما أنا فيه من حال الرضا، أصلي بالحرم الشريف كل فروضي، وأطوف بالكعبة كل يوم، إذ رأيت ما لم أكن أتوقع، فقد صليت العشاء الآخرة ذات مساء ثم ذهبت إلى مضجعي، فرأيت فيما يرى النائم أني هممت بأن أسعى بعد طوافي، فقصدت إلى باب الصفا لأخرج منه إلى المسعى، فإذا سيدة تُقبِل عليَّ تقبِّلني وتعانقني، فرفعت إليها عيني لأتبينها، فلما رأيتها لم أملك نفسي من الدهشة؛ فتلك صديقتي! نعم صديقتي التي اشتهرت بالخفة إلى حد الطيش، وقلت لها والدهشة لا تزال تملكني: «أنت هنا؟!» قالت: «نعم، مع زوجي، وقد رأيتك مقبلة عليَّ فشعرت ونحن في بيت الله بأنا أختان إن فرقت بيننا أهواء الدنيا في بلادنا، فلا شيء يفرق بيننا في هذا البيت العتيق!» وزادني كلامها هذا دهشة، فما عهدتها تنطق بمثل هذه الحكمة من قبل، وقبَّلتها كما قبَّلتني، وأردت أن أستأذنها لأخرج فأسعى فأمسكت بيدي وقالت: «سأسعى معك.» وسعينا وكلتانا تدعو وتستغفر ربها، وتتلو ما ألقي علينا أن نتلوه في رواحنا وجيئتنا بين الصفا والمروة، فلما أتممنا سعينا سألتني عن موعد طوافي الغداة، وقالت: «سأكون إلى جانبك نطوف معًا كما سعينا اليوم معًا.»
ثم رأيتني عدت إلى مسكني، ولم تنقض دهشتي ولا أكاد أصدق ما رأته عيني، فلما ذهبت صبح الغد للطواف ألفيت صديقتي في انتظاري، وتقدمت نحوي حين رأتني وقالت: «إن لي معك حديثًا قصيرًا قبل أن نبدأ الطواف، لقد هتف الليلة هاتف بي تبينته طيف زوجك الأول استحلفني أن أقسم لك أمام هذا البيت المحرم أني ما كانت بيني وبينه قط ريبة، وأني ما أحببته ولا أحبني، وأنا لم تزد مودتنا على موجب الصداقة البريئة الطاهرة أملاها عليَّ واجب الاعتراف بجميله لما صنعه لي ولأولادي من استخلاص ميراثنا، وأملتها عليه مروءته وشهامته.» ثم إنها جذبتني من يدي قبل أن أتمكن من أن أؤكد لها اقتناعي بصحة قولها، فلما كنا قبالة الحجر الأسود أقسمت هذه اليمين ثلاثًا، ثم قالت: «والآن سامحيني يا صديقتي ليغفر الله لك ولي»، وأجبتها: «بل سامحيني أنت فيما كان من سوء ظني بك، وإفساد زواجك بمن تزوجته أنا، وأقسم لك كما أقسمت لي أمام هذا البيت أنني يوم أفسدت هذا الزواج لم أكن أفكر في التزوج من صديقنا برغم ما أذعت أنت من ذلك»، قالت: «فسامحيني في هذه كذلك، فإنما كنت أدافع عن نفسي وعن شرفي.» وسامحتني وسامحتها، وأقسمنا على أن نعود لصداقتنا الأولى، ثم طفنا حول الكعبة أداءً لواجبنا وتوكيدًا لقسمنا، وافترقنا وكلتانا تحمد الله أن طهَّر الله قلبينا وغسل برحمته ما غسل من ذنوبنا، وتدعو الله لبنيها ولذويها أن يكلأهم برحمته وعنايته.
واستيقظت لصلاة الفجر وأنا أسائل نفسي عن سر ما رأيت في نومي، ثم ذهبت بعد أن أسفر الصبح ألتمس الأستاذ الذي يحاضر الناس في الحج فقصصت عليه حالي، وكيف اطمأنت نفسي وبلغت من الرضا غاية ما أطمع فيه، ورغبت إليه أن يفسر لي ما طاف بي وأنا مستغرقة في نومي، فقال: «إنه من الوضوح يا سيدتي بما لا يحتاج إلى تفسير، فمن أنعم الله عليه فبلغ مثلك حال الرضا يجب أن يطهر قلبه، وأن يطهر عقله الباطن من كل موجدة على أي إنسان، وأن يغفر للناس خطاياهم كما يطمع في أن يغفر الله له خطاياه، ولا يزال قلبك واجدًا على هذه السيدة، ولا بد لك إن شئت لحال الرضا أن تدوم أن تطردي هذه الموجدة من قلبك ومن ذاكرتك، ليكون تجردك لله خالصًا صادقًا مصدره حب الناس جميعًا، والمغفرة لكل مخطئ، والاستغفار عن كل خطيئة، ومن أتم الله ذلك له دام له الرضا في الدنيا وفي الآخرة.»
وتخطيت فناء الحرم والدمعة تنحدر من عيني، ووقفت في مقام إبراهيم ورفعت يدي إلى السماء، وهتف قلبي: «ما أكرمك ربي! أجديرة أنا بكل هذه العناية؟ أم أن أعظم الناس ذنوبًا أدناهم إلى عفوك وبرِّك؟ رب إني لأشعر في أعماق روحي بأن قلبي لا يزال في حاجة إلى أن يتطهر ليكون خليقًا بأن يسمو إلى حضرتك، ويشرف بالمثول في مقامك الكريم.»
وطال وقوفي وابتهالي إلى الله ودعائي إياه أن يهبني القدرة حتى يتطهر قلبي ووجداني ليدوم لي رضاه عني، فلما أتممت ابتهالي جلست مع الجالسين في مقام إبراهيم، حتى إذا سكن رَوْعي وهدأت نفسي وعاودتني طمأنينتي قمت فصليت، ثم طفت بالكعبة، ثم انتحيت جانبًا قريبًا من باب الصفا، هنالك ذكرت ما رأيت في نومي، فقمت فسعيت بين الصفا والمروة، وتلوت ما ألقي عليَّ أن أتلوه وأنا أسعى، وسمعت المؤذن ينادي لصلاة الظهر وأنا في آخر أشواط السعي، فدخلت الحرم من جديد فصليت وراء الإمام، ثم انصرفت إلى مسكني.
وشعرت حين خلوت إلى نفسي بأنني خلوت إلى حال جديدة من حالات نفسي، فلا بد لي إن أردت أن يديم الله ما أنعم عليَّ من حال الرضا، أن أمحو كل موجدة من قلبي، وأن أحب الناس جميعًا، وأن تكون محبة كل ما خلق الله شعاري ليشرح الله لي صدري، ويرفع عني وزري، فتطمئن نفسي وأرجع إلى ربي راضية مرضية، أتراني أستطيع أن أفعل؟ ذلك ما ابتهلت فيه إلى الله ليهبني القدرة عليه، والله سميع مجيب.
فلما كان المساء وصليت العشاء الآخرة نشرت صحيفتي أمام بصيرتي راجية أن يمحو الله منها كل شائبة من وزر أو شبهة من هوى، وقرأت في هذه الصحيفة أول ما قرأت ما كرره لي زوجي الأول من أن الغيرة والغرور هما مصدر علتي، وسبب ما أرهقته وأرهقت نفسي وولديَّ به من متاعب وبلاء، وسرعان ما تيقنت أنه — رحمة الله عليه — كان ثاقب النظر، وأن غيرتي وغروري جسَّما أنانيتي فصرت لا أرى غير نفسي، وأفرغت كل ما في نفسي من حب على هذه النفس الأمارة بالسوء، ولولا أمومتي وحبي ولديَّ — وهما بعض نفسي — لأنكرت الحب، وأنكرت كل ما يتصل بالحب من عواطف، فأنانيتي هي التي دفعتني للغيرة من صديقتي لأنني لست جميلة جمالها، ولست فاتنة فتنتها، وأنانيتي هي التي دفعتني للاغترار بنفسي والإيمان بذكائي وسحر حديثي، وإيثار من يؤمنون بهذا الذكاء وهذا السحر، فيدفعهم إيمانهم إلى الإعجاب بهما وإنكار ما سواهما، وأنانيتي هي التي جعلتني كذلك أسيرة نفسي فأذلتني لها، وضربت حولي نطاقًا من سجنها وحالت دون تبادلي مع الناس جميعًا أكرم العواطف، فلو أنني محوت بفضل من الله أنانيتي أو تغلبت على الأقل عليها، لحطمت جدران سجني، ولخرجت من عزلتي، ولأحببت كل ما حولي ومن حولي، ولتطهر قلبي ودامت عليَّ نعمة الرضا من ربي.
وجاهدت منذ ذلك اليوم نفسي، فلم أكن أرى في الحرم امرأة تبدو عليها مظاهر الهم والألم إلا سكبت فيها من روحي ما يزيل همها وألمها، سواء عليَّ عرفتها أم لم أعرفها، ولم أكن أسمع أنَّة مريض أو مكلوم القلب حتى أخف لشفاء مرضه أو لشفاء قلبه، ولم أكن أشعر بأنانيتي تتحرك فيما استبطن من أعماق وجودي حتى أقطب جبيني لها، وأردها إلى أعماق سجنها، بذلك صرت أفرح لأفراح الناس ممن حولي، وأتألم لآلامهم؛ ولذلك رجوت أن يشفيني الله من علتي، وأن يقبل بفضله خالص توبتي.
وجاء موعد الحج فقضينا مناسكه: صعدنا إلى عرفات نلبي داعي ربنا ونشهد بوحدانيته لا شريك له، وأن الحمد والنعمة والملك له تعالت أسماؤه، وهناك ابتهلت إليه ودعوته لكل من رغب إليَّ أن أدعو الله ليبارك عليه وليهديه ويغفر له ويرحمه، وكان أحر دعائي لولديَّ أن ينجيهما الله من شر نفسيهما، ومن الوقوع في مثل آثامي، وإلى والديَّ أن يجزيهما الله بما أحسنا إليَّ، وإلى زوجي أن يبلغه الله مراتب الرضا، وإلى الطيف الملتف في أكفانه زوجي الأول أن يثبِّته الله وأن يسكنه الجنة جزاء عفوه عني برغم ما أسأت إليه، ودعوت الله كذلك إلى الأقربين من أهلي وذوي رحمي كل باسمه، وإلى الناس جميعًا أن يرفع الله عنهم مقته وغضبه، وأن يديهم سواء السبيل.
وآن لنا بعد أن طفنا طواف الوداع وسعينا سعيه أن نذهب إلى مدينة الرسول — عليه السلام — وأنا أرجو أن أظل في رحابها حتى يقبضني الله إليه بها، وأن أُدفَن في ترابها.
لا قدرة لي على تصوير شعوري حين أهلت المدينة وطالعتنا أعاليها ونحن منها على مدى النظر، لقد كانت عمتي تحدثني بعد حجها أنهم لما شارفوا المدينة رأوا النور يتلألأ فوق القبة الخضراء من قباب المسجد النبوي، أما أنا فلم تر عيني حين شارفت المدينة إلا ما يراه من يقبل على أية مدينة في العالم، وكنت كلما اقتربنا منها ووضحت معالمها وتبيَّنَّا قبابها تمنيت لو كانت أدق نظامًا وأحسن عمارة، وكذلك كان شعوري منذ دخلتها، ولا يزال هذا الشعور آخذًا بنفسي إلى اليوم، ولا أزال أدعو الله في صلواتي أن يهيئ لها من يحسن عمارتها، ومن ينهض بكل مرافقها إلى مستوى الحضارة في أرقى صوره.
لم تر عيني حين شارفت المدينة نورًا يتلألأ فوق القبة الخضراء، لكنني أحسست بقلبي يملؤه النور أول ما علمت أننا نقترب من قبر الرسول الكريم، وقبل أن تطالعنا قباب مسجده، وانتشر النور من قلبي في كياني كله، وأعاد إلى ذاكرتي كل صفحة من حياة النبي العربي قرأتها قبل حجي، ولعل هذا النور الذي أضاء روحي وانتشر في كل وجودي كان ينتقل من قلب عمتي وأمثالها إلى أبصارهم فيرونه متلألئًا فوق القبة الخضراء، ولا تخالج نفوسهم إثارة ريب في أنه منبعث من قبر الرسول الكريم الكائن تحتها، والإيمان ينير البصائر كما ينير القلوب، فترى الأبصار بفيض من قوة هذا الإيمان ما لا نرى، وتقص صادقة ما لا ريب عندها في أنها رأته رؤية مادية كما رأت القبة الخضراء نفسها.
ودخلنا المدينة وأزلت عني غبار السفر، وقصدت لتوي إلى مسجد الرسول، فصليت في الروضة النبوية الشريفة صلاة القدوم، ثم إنني زرت الحجرة النبوية الشريفة ووقفت قبالة قبره ﷺ أسأله الشفاعة يوم الدين، وما لبثت حين بدأت أدعو ربي ليقبل شفاعة رسوله فيَّ أن انهملت عبرتي وخفق قلبي وانعقد لساني كأني في حضرة ملك عظيم، بل كأني في حضرة أعظم الملوك وأجلهم قدرًا وأوسعهم سلطانًا، وإن يكن سلطانه سلطان بر ورحمة، لا سلطان جبروت ونقمة، ولم أستطع وتلك حالي أن أغادر مكاني، فتشبثت بأعواد الحجرة حتى دفعني الزائرون والزائرات عنها ليلثموها تبرُّكًا بها، هنالك جلست قبالتها وأطلت التحديق فيها، وقلبي مأخوذ عن كل شيء إلا عنها، ونظري ثابت نحوها لا يتحول يمنة ولا يسرة، فلما انحلت عقدة لساني أخذت أدعو من أعماق قلبي رسول البر والرحمة والتوبة والمغفرة أن يديم الله ما أنعم به عليَّ من حال الرضا، وأن يفتح قلبي لمحبة الناس جميعًا، ولمحبة أمثالي الذين أسرفوا في حياتهم على أنفسهم، وأن يسعنا جميعًا في رحابه، وأن يتقبل توبة التائبين وأن يدخلهم فسيح رحمته.
واتخذت لي مكانًا في الروضة الشريفة أصلي فيه كل يوم فرائضي الخمس، وأدعو الله مخلصة أن يقبل توبتي، وأتلو فيه من سيرة الرسول ما أتخذ منه الأسوة الحسنة، مع إقراري بعجزي عن السمو إلى ذياك المقام وقد أدَّبه ربه فأحسن تأديبه.
وشعرت بقلبي يزداد كل يوم طمأنينة، وبنفسي تزداد كل يوم هدى، فدفعني ذلك إلى التفكير في المقام بالمدينة أجاور الرسول الكريم ما بقي من أيامي، لكني تركت بالقاهرة زوجًا أحسن إليَّ وولدين يشتاقهما قلبي، وتحن إلى نظرة منهما نفسي، ولئن استطعت أن أدعو الولدين لأراهما بالمدينة ولو مرة في كل عام، فليس من حقي أن أقيم بها إلا أن يأذن لي زوجي؛ لذلك كتبت إليه كتابًا رقيقًا أشرح له فيه ما مر من أحوالي، وأشكر الله ما أنعم به عليَّ، وأستأذنه في المقام مجاورة رسول الله ﷺ حتى يختارني ربي، وأقمت أنتظر الجواب على خطابي، ولدهشتي وفرحتي جاءني بعد قليل كتاب زوجي ينبئني بأنه قادم إليَّ ومعه ابنتي، وأن ابني كان يود أن يحضر لولا أن أمسكته مصالحنا في مصر ليرعاها.
ولم يطل انتظاري مقدمهم، فبعد أيام من تناولي كتاب زوجي تسلمت برقية بأنهم أبحروا من السويس إلى ينبع في طريقهم إلى المدينة، أتراني أنتظرهم حتى يحضروا إليَّ أم أخف للقائهم بينبع؟ كان الجواب على هذا السؤال مدار نزاع حامي الوطيس بين روحي وقلبي: قلبي يحرِّكه الشوق إليهم فيدفعني دفعًا عنيفًا لأذهب إلى ينبع، وروحي تحدثني بوحي من عقلي أنهم سيبلغون المدينة مساء اليوم الذي تستقبلهم ينبع في صباحه، وليس يشق عليَّ أن أنتظرهم هذه الساعات فلا يخلو مكاني في أثنائها في الروضة النبوية، ولا أشغل خلالها بشيء عما أخذت به نفسي من عبادة ربي، وغلبت روحي آخر الأمر فأذعنت مؤمنة بأن غلبها كان بقضاء من الله وقدره، وبقيت بالمدينة أنتظر القادمين العزيزين من غير أن أنقطع عن أداء ما لله عليَّ من حق.
واستقبلتهما وأنا في ثيابي الناصعة البياض، وحياني زوجي في شوق وإكرام، وتمنى لي حجًّا مبرورًا، وقابلت تحيته بمثلها في تواضع واحترام، أما ابنتي فاندفعت إليَّ تقبِّلني وتعانقني وتضمني إلى صدرها، فأشعر في هذه الضمة البنوية الصادرة من أعماق قلبها وكأنها تريد أن تعود بضعة مني كيوم كنت أحملها في أحشائي، فيزداد قلبي وقلبها امتزاجًا، وأحس بأننا روح واحد في جسدين، فلما فرغنا من تحياتنا وقبلاتنا وعناقنا، وذكرت لهم أني دعوت الله لهم ولأهلنا جميعًا، سألت ابنتي: وكيف أخوك؟ قالت: بخير يا أماه، وهو يسأل متى تعودين إلى القاهرة؟ ولمحت زوجي فإذا هذا السؤال مرتسم على وجهه، وإذا هو ينتظر أن يسمع جوابي عليه، قلت: ذلك ما سنتحدث فيه بعد أن تقيما معي أيامًا. وبعد برهة صمتٍ قال زوجي: أولًا يجب علينا أن نذهب إلى الحرم نؤدي لصاحبه — عليه الصلاة والسلام — تحية القدوم. قلت: ذلك لكما، وسأرافقكما، لكن الواجب عليكما أن تقرأ سيرته لتقدِّرا شرف مثولكما في حضرته حق قدره، وهذه السيرة عندي يستطيع أيكما أن يقرأها إذا قام الليل إلا قليلًا، فإذا هو زار الحرم بعد ذلك ووقف أمام الحجرة الشريفة استنار قلبه بنور صاحبها، وعرف كيف يجتمع الحق والخير والإيثار وإنكار الذات وسائر المعاني الرفيعة في نفس واحدة، هي ملاك المعاني السامية كلها، وهي القدوة خير قدوة لمن شاء أن يتبع خطاها، ويسير في أثرها.
وقرأ زوجي وقرأت ابنتي السيرة، وأخذا يصحباني كل يوم إلى مسجد صاحبها، ويجلسان معي في الروضة يصليان ويتعبدان، على أنني شعرت بعد أيام أنهما يحسباني أبالغ في تقواي، فلم أُعِرْ حسبانهما هذا بالًا؛ لأنني أدركت مما رأيت منهما أن أمرًا خاصًّا يشغلهما، وخلا إليَّ زوجي يومًا بين صلاتَي العصر والمغرب إذ كانت ابنتي في الحرم فسألني: والآن هل أستطيع أن أعلم متى اعتزمت العود إلى القاهرة؟ فقلت: أوتذكر لي أنت ما حدث بين ابنتي وزوجها؟ فأجابني وقد علته الدهشة: وكيف علمت؟ وهل كتب إليك أحد من مصر بما حدث؟! قلت: كلا، ولكنه إحساس خامر قلبي، وشهد به عندي ما كانت تنم عنه أساريركما كلما جاء ذكره في حديثي معكما. قال مبتسمًا بدء حديثه، بادية عليه سيما الأسف حين استطرد فيه: «لا يزال ذكاؤك لماحًا برغم تقواك، وكنت أحسب أن الذكاء والتقوى لا يجتمعان، أما وقد اجتمعا فلن أستطيع أن أخفي عنك شيئًا، والأمر يحتاج في معالجته إلى حكمتك وبصيرتك. إن ابنتك وزوجها يكثر اختلافهما حتى لأضيق أحيانًا بهما حين يحتكمان إليَّ فأحاول إصلاح ذات بينهما، وقد استطعت إلى عهد قريب أن أتغلب على منازعاتهما، وأن أردهما إلى حمى الصلح والسلام، ثم استفحل خلافهما في الفترة الأخيرة حتى خشيت انفصالهما، وكدت أيأس من إمكان تفاهمهما، وإنا لكذلك إذ جاءني كتابك تستأذنينني في البقاء بالمدينة هنا، وقد انتهزت فرصة تناوله واتخذت منه حجة للكلام في غير ما يشتد جدلهما حوله، ثم رأيت حين قررت المجيء إليك أن تصحبني ابنتك راجيًا أن يبعث بُعدها شوق كلٍّ من الزوجين إلى صاحبه، فينسيهما الشوق خلافهما. هذه قصتهما وقصتي معهما، ولن يستطيع أحد ما تستطيعين أنت علاجًا لحال يعصي عليَّ أمرها، وأخشى أن يفلت من يدي زمامها.»
قلت: «فلنستعن بالله فيما يعصي عليك، فإذا جاءت ابنتي خاطبتها آملة أن أردها إلى صوابها لترد هي زوجها إلى صوابه.»
وذهبنا إلى الحرم وصلينا المغرب والعشاء وراء الإمام، ثم عدنا وعادت ابنتي معنا، فلما تناولنا طعامنا، واستقر بنا المجلس، قلت لها: لقد دار بظني أنك على خلاف مع زوجك إذ كنت أراك وعمك تنقبض أساريركما كلما جرى اسمه على لساني، وقد سألت عمك عن ذلك فأخبرني أنكما بلغ من أمركما أن خشي انفصالكما، وأن كاد ييأس من إصلاح ذات بينكما، ففيم تختلفان؟ قالت وهي تحبس دمعة ترقرقت في عينيها: «لقد أصبحت حياتنا لا تطاق يا أماه؛ إن زوجي يريد أن يستأثر بكل شيء داخل المنزل على حين لا أسأله أنا شيئًا فيما خرج عن دائرة المنزل، إنه يريد أن يكون السيد المطاع، وأن تكون كلمته أمرًا لا أناقشه فيه، فإذا أردت أن أبدي له ملاحظة عن لون ثيابه أو زيه قال: ما لك أنت وذاك؟ هي ثيابي أنا، متناسيًا أن ما يوجه إلى ثيابه من نقد موجه إلى ذوقي وحسن عنايتي، وهو يريد مع ذلك أن يكون صاحب الرأي في ثيابي، في لونها وقماشها وتفصيلها، وأنت يا أماه تعرفين أن الرجال لا يعلمون شيئًا عن ثياب النساء، فالنساء يغيرن أزياءهن، والرجال معجبون دائمًا بكل ما يصنعن، حسبُ المرأة أن تملق غرور الرجل فتسأله رأيه في ثوبها ليبدي غاية الإعجاب بالثوب وبها، وهذا وإن أوهمت المرأة زوجها بأنها تستشيره قبل أن تختار القماش وطراز الثوب، وبلغ من أمر زوجي معي حين ثُرت باستبداده أن قال يومًا: «إنني لا أريد أن تصيري إلى ما صارت إليه أمك!» عند ذلك رأيت الكأس قد طفحت، وأنه وقد تخطاني إليك اليوم، فإنه سيتخطاك إلى أبي غدًا، وإذا لم تقم الحياة بين الزوجين على تبادل الاحترام فلا خير فيها، فالحب الذي يتجاوز الاحترام لا يكفي وحده لاتصال الحياة بين الزوجين.»
شعرت بأن ابنتي ذكرت إشارة زوجها إلى مصيري لتثير حماستي، لكنني كنت أشد حرصًا على مصيرها هي؛ لذلك سارعت فأجبتها: «لا تحسبي رجلًا يستطيع أن يستبد بامرأة إلا أن يكون وحشًا كاسرًا، أو تكون المرأة عنيفة فقدت كل معاني الأنوثة، أو مغرورة عبثت بها أنانيتها فلم يبق لزوجها إلا أن يفرض وجوده عليها.»
قالت ابنتي: «فأشيري عليَّ يا أماه، أنت تعلمين أنني أحب زوجي وأنه يحبني، لكنني أرى أن مشاركته في الصغير والجليل من الشئون فقدان ثقة بي، ولشد ما أخشى أن أبادله عدم الثقة فيكون لذلك من سوء الأثر في حياتنا ما أريد جهد طاقتي تجنبه.»
قلت: «فاسمعي يا صغيرتي، لا تطلبي إلى زوجك أن يثق بك ثقة عمياء، وهو لن يطلب إليك مثل هذه الثقة به، أنتما شريكان في كل شيء، ومن حق الشريك أن يحاسب شريكه، لقد خبرت هذا الأمر وبلوت من مره علقمًا، فثقة أبيك العمياء بي هي التي أضلتني، وسبقه إياي إلى رغباتي هو الذي جر عليك وعلى أخيك أبلغ الضرر، فهو لم يكن يراجعني أو يصدني عن شيء، وقد كنت معرضة للخطأ فيه، حسبه مني أنه كان يحبني، وكنت أول سني زواجنا أحبه، وأنني لم أكن أسأله عن شيء في عمله؛ لأنني لم أكن أعرف ألف الطب ولا باءه، وكان ذلك دافعي يومئذ لأرغب إليه في الانتقال من الطب إلى السلك السياسي؛ ليكون سلطاني أفسح مدى، لكنه أبى وأصر على إبائه، عند ذلك بدأ حبي إياه يضطرب في نفسي، والحب إذا اضطرب فمصيره إلى الاحتضار والموت، وما قيمة حب لا مظهر له إلا أن يقول الرجل للمرأة، أو تقول هي له: إنني أحبك، وألا يلتقيا إلا لإنجاب ذريتهما، وألا يحاول كلٌّ منهما أن يكمل نقص صاحبه ليسمو به إلى ما يقرِّبه من الكمال، ولو أن أباك راجعني بدء زوجيتنا فيما يخشى أن أتعرض للخطأ فيه، وردني برفق لا يعرف العنف الذي كنت أراجعه به بعد أن فتر حبي له، لما بلغت الأمور بيننا إلى ما تعلمين من انفصالنا، فلا تبالغي يا صغيرتي إذ تتحدثين عن حرص زوجك على الاستئثار بشئونك، بل تسامحا وتشاورا، وتشاركا في كل ما تستطيعان فيه تسامحًا أو مشورة أو اشتراكًا، ينتقل ذلك بحبكما من القلب إلى الروح، ولا حب كالحب بالروح بقاء ودوامًا.»
أحسنت ابنتي الإنصات إلى حديثي، فلما فرغت منه قالت، وعلى ثغرها ابتسامة تشوبها السخرية: «سامحيني يا أماه إذا قلت إنك لم تعرفي الرجال بعدُ برغم خبرتك الطويلة، إنهم لا يكفيهم أن يستأثروا بأجسامنا، فهم يريدون أن يستأثروا بقلوبنا وعقولنا وأذواقنا وكل شيء في وجودنا، إنهم لا حدَّ لأنانيتهم، وهم أشد حرصًا على أن يستأثروا بكل ذلك من المرأة ما كانوا أشد لها حبًّا، وحرصهم يتجاوز كل حد إذا بلغ حبهم العبادة، فإذا لم تصدهم المرأة عن غيهم في الاستئثار المطلق بها فني أمامهم وجودها، وأصبحت أَمَةَ رِقٍّ لهم، وهذا ما لا أرضاه ولن أرضاه مخافة الغد، وما أخشاه من مذلتي فيه.»
وابتسمتُ كما ابتسمتْ وقلت: «أنت على حق يا صغيرتي، أنا لم أعرف الرجال بعدُ كما عرفتهم أنت، ولكنما عرفت أن الرجل ضعيف عنيف، وأن المرأة ضعيفة قادرة، فالرجل إذا استُثِير جابَهَ الخطر ولو كان في مجابهة الخطر حتفه، وجابهه مضطرب الروية زائغ البصر، غير مؤمن بسلاح غير سلاح العنف. أما المرأة فالعنف ألد أعدائها، هي حمامة السلام، فإذا نصبت نفسها للقتال فويل لها وويل للسلام، وقدرة المرأة في ذكاء أنوثتها، هذه الأنوثة الذكية هي السلاح الحاسم الذي تستطيع به كل شيء، وتستطيع به أن تملك عقل الرجل وقلبه وروحه وكل حواسه، والأنوثة الذكية تأنَفُ العنف في كل مظاهره؛ لأنها تدرك ما للرفق والمحبة من سلطان قاهر يعنو له العنف ويتلاشى أمامه. بالرفق والمحبة تجعل المرأة هزيمتها نصرًا، وإذعانها أكبر من النصر، فعالجي يا صغيرتي زوجك بذكاء أنوثتك، وأنا كفيلة لك بأنه سيكون طوع إرادتك في كل ما تطلبين.»
قالت ابنتي في استسلام مصطنع: «سأحاول يا أماه، ولعلي أجد في حياتك درسًا لي، وإن كنت أخشى أن تغلبني كبريائي يومًا فلا أبلغ ما يشتد حرصي اليوم عليه.»
وقاطعتها في عنف قائلة: «تعسًا لباطل الكبرياء الذي ينفث فينا سموم الغرور، إنه هو الذي يهزمنا ويذلنا حين يكون النصر في قبضة يدنا، لا شيء يا ابنتي خير من التواضع ما لم ينزل بصاحبه إلى هوان المذلة، وإنني لأدعو لك من كل قلبي أن تبلغ أنوثتك من الذكاء ما يفتح لك بالتواضع أبواب السعادة والهناء.»
قالت: «ومتى تحضرين إلى القاهرة يا أماه لتسددي من خطاي ما أخشى أن يتعثر، ألا تعودين مع عمي ومعي؟»
وأجبتها: «ذلك ما سأحدث عمك فيه، فأنا لا أستطيع أن أبقى هنا أو أعود إلى هناك بغير إذنه، وسأكشف له عن مكنون صدري، ولا مرد بعد ذلك لحكمه.»
وأدركت ابنتي من عبارتي أنني أريد أن أخلو إلى عمها أحدثه فانسحبت متلطفة وقالت: أنا ذاهبة إلى مخدعي، فلتمسيا بخير. ورددنا تحيتها بمثلها.
فلما خلونا قال زوجي: «أخشى أن يكون حوارك مع ابنتك قد أجهدك وجعلك في حاجة إلى الراحة، فإن شئت تحدثنا عن عودك إلى القاهرة بعد صلاة الفجر.»
وأجبته: «الأمر على عكس ما تظن، فقد أيقظ هذا الحوار كل حواسي، وأطار كل خاطر للنوم من رأسي، فإن لم تكن أنت بحاجة إلى الراحة فإني مفضية إليك بذات نفسي، أما إن آثرت أن تستريح فأنا وما تريد.»
وآثر هو أن يستريح فنمت بجواره، وألصقت جسمي بجسمه، وشعرت بالدفء يسري منه إلى كل وجودي، ويبعث إلى قلبي من الطمأنينة ما سكَّن من يقظة أعصابي وهفا بي إلى النوم، واستيقظت مع الفجر وأيقظته، وصليت مؤتمة به، فلما فرغنا من صلاتنا ومن دعائنا قال: «ألا ترين أنك تظلمينني إذا بقيت هنا وتركتني أعود إلى القاهرة أعاني الوحدة وآلامها، إنني أدرك بعد الأيام التي أقمتها بالمدينة حلاوة هذه الحياة التي تحيينها، تقضين معظم نهارك وطرفًا من الليل في الحرم على مقربة من الرسول الكريم، وكم تمنيت لو استطعت أن أجاوره كما تجاورينه، لكنك تعلمين أن مصالحنا بمصر تحول بيني وبين هذه الأمنية العزيزة، ولك عليَّ إن أردت أن تحجي كل عام وأن تزوري أن أعاونك على ذلك، وأن أصحبك فيه كلما استطعت إلى صحبتك سبيلًا.»
قلت وقد ازداد قلبي رقة لهذا الرجل المحسن الكريم: «عزيز عليَّ أن أدعك تعاني الوحدة في مصر وأنت الذي أنقذتني منها، وكم نازعتني نفسي إلى العود معك، ولو أننا تحدثنا في هذا الأمر يوم مقدمك إلى هنا لهفت نفسي إلى ما تريد، فقد كنت أشعر يومئذ أني بلغت من تطهير قلبي إلى ما يديم عليَّ حال الرضا التي أكرمني الله بها، لكن الأيام التي قضيتها معي هنا أرهفت حسي نحوك، وجعلتني أشعر لك في أعماق قلبي بما لم أشعر من قبل بمثل بأسه وسلطانه، نعم، إني أحبك الآن حب امرأة لرجل، فجسمي يهواك كما يحبك قلبي، وأخشى أن ينسيني هذا الحب وهذا الهوى محبة غيرك ممن خلق الله، وما خلق الله، فإن حدث ذلك — وشدَّ ما أخشى أن يحدث — زالت عني حال الرضا، وعدت أعاني من حساب الضمير عن ماضي حياتي ما أنوء به. قد يكون هذا الحب العنيف من نزغ الشيطان، وقد يكون اختبارًا يريد به ربي أن يبلوني، وأن يشهدني على ضعف نفسي وباطل غروري؛ إذ أظن أنني سموت إلى مرتبة رضاه وروحي لا تزال تتجاذبها الأهواء، ويختلط فيها الخبيث بالطيب، فهل لي أن أرجوك — وأنت الزوج المحسن الكريم — أن تدعني هنا أتابع ما بدأته من تطهير قلبي حتى أطمئن إلى نقائه؟ ولعلك إن عدت للزيارة في شهر رجب ألفيتني في طاعة الله وطاعتك سباقة إلى مرضاتك!»
كنت أنظر إليه وأنا أخاطبه بعينين مُلئتا عطفًا ومحبة، ثم كنت أراه مع ذلك مشدوهًا كأنما أخاطبه بلغة غير مفهومة، وقد ظل بعد أن فرغت من حديثي تعلوه الدهشة، وكأنما يريد أن يتبين ما أريد فلا يسعفه ذكاؤه، وبعد برهة ساد فيها بيننا الصمت قال: «أصدقك أنني لم أفهم كل ما قلته، لكنك ذكرت أنك أصبحت تحبينني الآن حب امرأة لرجل، أَوَأفهم من ذلك أنك لم تكوني تحبينني قبل أن تحضري إلى المدينة؟» وسارعت فأجبته: «لا تبالغ يا عزيزي، ولا تحمِّل ما قلته معنى لا يحتمل، إنما قلت إنني أحببتك منذ جئت إلى هنا حبًّا لم أشعر من قبل بمثل بأسه وسلطانه، ولا أخالك تريدني على أن أقص عليك قصة عاطفتي نحوك من قبل فأنت تعرفها، وتعرف ما كان من حديث بعضهم عنها، وكل الذي أرغب إليك فيه ألا تأخذك النشوة بحبي إياك اليوم، وأن تدعو الله معي أن يديم عليَّ هذا الحب سلطانه من غير أن يحبسني في سجنه، وأن يدع قلبي مفتوحًا لحب كل ما خلق ومن خلق حتى يدوم لي عفوه عني، فأبقى في حال الرضا التي أنعم بها عليَّ.»
لم يدعني الرجل أستطرد في الحديث، بل قال: «بل أريد أن تقصِّي عليَّ قصة عاطفتك نحوي؛ فذلك أدنى لفهمي، وأحب إلى نفسي.»
قلت: «أتراك راجعك شبابك يوم كنت تريد أن تتزوج صديقتي؟ ولكن لا بأس بأن أجيبك إلى ما يرضيك، أنت تعلم أنني عرفتك أول ما عرفتك الصديق الوفي لزوجي الأول، كما كنت الصديق الوفي لصديقتي، كنت يومئذ أستريح إلى مجلسك، وآنس بحديثك، وأغتبط بحسن إصغائك إلى حديثي، فكنت إذا جئت إلينا سررت بلقياك، وحرصت على استبقائك عندي أطول زمن ممكن، فلما أشركت زوجي الأول معك في معاونة صديقتي على استخلاص ميراثها لم أجد بذلك أول الأمر بأسًا، لكنكما بالغتما من بعد في عنايتكما بهذا الأمر مبالغة أثارت نفسي بكما، وأقنعتني بأن جمال صديقتي، لا الوفاء لأولادها أو لذكرى زوجها، هو الذي يدفعكما إلى هذه المبالغة، ولقد كدت — لمبالغة زوجي الأول ولكثرة تردده على صديقتي — أحمِّلك أنت التبعة؛ لأنك شجعته على هذه المعاونة، ودفعته إليها، فلما أردت أن تتزوج صديقتي عرضت لي فرصة نادرة للانتقام منك ومنها فأفسدت هذا الزواج، ومرضت أنت بعد ذلك، واستبد بك المرض فتولاني الندم على ما فعلت، وبدأت عواطفي نحوك تحرك قلبي، وازدادت هذه العواطف حين أكدت لي غير مرة أنك لن تتزوجها، وحين انقطعت كل صلة بينك وبينها، على حين بقي زوجي متصلًا بها، وبدأ العطف إذ ذاك يشوبه الود وإن لم ينقلب حبًّا؛ لأننا وقفنا صفًّا واحدًا، تنكر أنت على صديقتي التي قاطعتني وأذاعت أنني أفسدت زواجها منك لأتزوجك، ولا أحب أنا زوجي؛ لأنه أبقى على ود صديقتي التي قاطعتني وطعنت عليَّ. وتضاعف ودي لك بعد أن هدك المرض بسبب فعلتي، وإنك واسيتني في محنة احتضار حبي لزوجي مواساة استراح لها قلبي، فاعترف بجميلك، وأقر في أعماقه بعظيم فضلك، وازددت أنا إقرارًا بهذا الفضل حين حاولت أنت غير مرة أن تعيد الصفاء بيني وبين زوجي وفاء منك لصداقته، مع يقينك إذ ذاك بأنك تحاول المستحيل.
من يومئذ وقفت إلى جانبي فخففت عني عبء عزلتي بعد أن انتقلت إلى الإسكندرية، ثم إنك أقنعت زوجي فطلقني فضاعف ذلك ودي لك، فلما رأيتني أضطرب في حياتي الجديدة كما تضطرب الخشبة الضئيلة أُلقي بها في لج البحر المتلاطم، مددت يدك إليَّ فأنقذتني وتزوجتني غير عابئ بإثم الظن وقالة السوء! يومئذ غمرني فضلك؛ فأصفيتك كل قلبي، فلم يبق لك من شريك فيه غير ولديَّ، وزاد ملكك هذا القلب حين اعتبرتهما ولديك، وبقينا من بعد ذلك السنين وأنا في رحاب فضلك، منسوبة أنا وولداي إليك، نعيش في ظل عطفك وسابغ برك، فلما ارتد ولداي فتسميا باسم أبيهما تصارع في قلبي حبي إياك وحبي إياهما، فهرعت إلى البلد الأمين لائذة بربي لاجئة إلى حماه، وأقمت في هذه الأرض المقدسة أدعو الله وأتوب إليه وأستغفره حتى اطمأن قلبي إلى أنه غفر لي وعفا عني، ومحا بفضل منه ما سلف من ذنوبي، عند ذلك شعرت بأن قلبي وروحي عاودهما شبابهما، وانفتحت لهما صفحة جديدة مبرأة من الذنوب، فلما جئت أنت إلى هنا أحسست بهذا الشباب ينتقل من قلبي، بفضلك وجميلك انقلب حبًّا جارفًا، حب امرأة لرجل، بل عشق فتاة لشاب، عند ذلك أيقنت أن هذا الحب لم يكن وليد يومه، وأنه لم يكن حبًّا من أول نظرة كما يقولون، بل نشأ منذ عهد بعيد نطفة، ثم مضغة، ثم علقة جعل ينمو حتى بلغ اليوم فتوة شبابه، ولقد كنت أسمع ولا أصدق أن حب الكهولة أعنف الحب، وهأنذي اليوم وقعت في براثنه بعد أن عشش في قلبي وأفرخ، وبعد أن حملته في قلبي كل هذه السنين كما تحمل المرأة طفلها في أحشائها تسعة أشهر، فإذا وضعته نسيت كل شيء، بل نسيت حياتها من أجل وليدها، وأكرر الآن أنني أخشى أن يبلغ من طغيان هذا الحب عليَّ أن يحبسني في سجنه، وأن ينسيني محبة ما خلق الله ومن خلق؛ ولذا أعود فأرجوك باسم هذا الحب أن تدعني هنا أتابع ما بدأت من تطهير قلبي حتى يسع إلى جانب حبك حب خلق الله؛ لأنه وسيلتنا إلى محبة الله ودوام عفوه وعطفه، فإن أذنت — ولا أخالك إلا آذنًا — أسديت لي يدًا تنفعني وتنفعك عند ربي، فإذا عدت بعد ذلك يومًا إلى القاهرة عدت بريئة مطهرة، وكنت النفس المطمئنة التي تطمع في أن يدخلها الله في عباده، وأن يدخلها جنته.»
كان زوجي يسمع قصتي مستريحًا لها راضيًا عنها، وتزداد أساريره انفراجًا كلما أمعنت فيها، فلما فرغت منها، وهز رأسه وكأنما تولاه العجب وقال: «لشدَّ ما تختلف الصور لتنتهي من بعد إلى التقاء، بل إلى امتزاج! فقصتي معك تختلف عن قصتك معي كل الاختلاف، والقصتان تنتهيان مع ذلك إلى امتزاج قلبينا أشد الامتزاج، لقد أحببتك أنا من أول نظرة، يوم قدمني زوجك الأول إليك على أنني صديقه الوفي، وقد تمنيت يومئذ لو لم تكوني زوجه لأتزوجك، ولعلك تذكرين أنك أنت التي طلبت إليَّ أن أُعنَى بميراث صديقتك وأبنائها، فاعتبر قلبي طلبك أمرًا لا مفر من نفاذه، ولا تنسي أنني استشرتك في الاستعانة بزوجك فأذنت لي، بل ألححت عليه في معاونتي، وأتاح لي ذلك فرصة الإكثار من التردد عليك، وإرضاء قلبي وروحي بجاذبيتك وسحر حديثك، وكان ذلك يلهب حبي، ويضاعف الصراع بينه وبين الوفاء لصديق ائتمنني على بيته وشرفه.
عند ذلك فكرت في التزوج من صديقتك وأنا أعلم الناس بخفتها ونزقها؛ لأجد في جمالها وفي حواسها بعض ما يسكن شغفي بك وحبي إياك، فلما أفسدت أنت هذا الزواج آمن قلبي بأنك تحبينني كما أحبك، لهذا عاد الصراع بين الحب والوفاء للصداقة أعنف مما كان، لكنني كتمت ما في نفسي إبقاء على شرفك وشرفي، وحاولت جهدي أن أعيد الحياة لحبك المحتضر، مكتفيًا من حبي إياك بالنظر إليك، والمتاع بسحر حديثك، فلما ذهب جهدي عبثًا، وطلقت من زوجك لم أرد أن أفاتحك بحبي حتى لا يصدق ما أذاعته صديقتك من أنك أردت الطلاق لتتزوجي مني، لكن رأيتك بعد ذلك ريشة في مهب الريح، فمددت يدي إليك إرضاء لحب تأجج في صدري كل هذه السنين، فتزوجنا. يومئذ اطمأن قلبي، ولم يعنني من بعد أن يقول مطلقك إنني خنت عهد صداقته، فالله يعلم وأنت تعلمين كم وفيت له، وكم قاسيت في سبيل هذا الوفاء؛ ولهذا أمتعنا الله سني زواجنا بالسعادة والنعمة، وكذلك امتزج قلبانا بعد أن بقيا متحاذيين على طريق الحياة السنين الطوال.»
وسكت الرجل بعد ذلك هنيهة، ثم قال: «على أنني يزداد يا عزيزتي عجبي حين تذكرين أنك لم تشعري ببأس الحب وسلطانه ما تشعرين اليوم، ثم تريدين مع ذلك أن نفترق! أصدقك القول إنني لم أفهم هذا التصوف الذي تلبسين اليوم لباسه، وكنت أحسب أن سلطان الحب الذي حدثتني عنه سيدفعك إلى مصاحبتي، والعود معي إلى دفء عشنا الجميل بالقاهرة.»
قلت وفي صوتي نبرة التوسل والاستجداء: «أنت تعلم أنك إن أمرتني أن أعود معك فلن أعصي لك أمرًا، وأني لن أقيم هنا إلا بإذن منك تبذله عن رضا وطيب نفس، وإنما أضرع إليك أن تدعني هنا في جوار الرسول إلى رجب المقبل حتى يطهر قلبي، ويتقبل مني ربي، وتصدق عنده توبتي، فلا تشوب نفسي بعد ذلك شائبة من وزر أو هوى، ولك عليَّ عهد الله وميثاقه إن أنت رغبت إليَّ خلال هذه الأشهر الستة أن أعود إلى القاهرة، ولو بعد أيام من وصولك إليها، فستجدني حاضرة عندك؛ إيمانًا مني بأن قلبك هو الذي دعاني.»
وبعد هنيهة أضفت: «والآن أطلب إلى هذا القلب الكبير أن يأذن ببقائي، ذلك رجاء أتوسل إليك في ضراعة أن تقبله، والأمر بعد الله لك جزاء حبك وإحسانك وبرك.»
كان زوجي مطرقًا وأنا أتكلم، فلما فرغت من حديثي رفع إليَّ رأسه، وقد ارتسمت معاني الطيبة والحب على محياه، وقال: «ما كنت لأحول بينك وبين ما تطمعين فيه من مغفرة بارئك وعفوه، فأنت وما تريدين، أقيمي إلى جوار الرسول الكريم ما طاب لك المقام، ولا تنسي الدعاء لي أن يغفر الله ذنوبي! أقيمي راضية عني مرضية مني، وأرجو الله أن يجمعنا هنا في زيارة رجب، وأن تطيب نفسك يومئذ بالعود إلى أرض الوطن طاهرة مطهرة.»
عقدت غبطتي بكرم عواطفه لساني، فلم أجد الألفاظ التي تكفي للثناء عليه، فقمت إليه فقبلته قبلة شكر ومحبة، ثم قلت له: «فليتول الله جزاء إكرامك إياي وإحسانك لي!»
وانتقلنا بالحديث إلى مألوف القول، ثم إنني بعثت بالخادم، فدعت ابنتي فتناولت فطورها معنا، فلما فرغت منه سألت: أوتعودين معنا يا أماه؟ وأجبتها: قد أذن لي عمك يا ابنتي في المقام هنا إلى زيارة رجب على أن أخف بالعودة إلى القاهرة ساعة يدعوني إليها، وإن لساني ليعجز عن شكره على جميل صنيعه. أما وقد علمت منه أنكما تعودان إلى مصر على الباخرة التي تبحر من ينبع بعد غد فإني أرجو لكما السلامة، وأحمِّلك إلى أخيك قبلات شوقي ومحبتي، وكم أتمنى لو أتيح له أن يحضر إلى هنا لأراه كما رأيتك، وأروي برؤيته شوقي الظامئ لضمه إلى صدري، وهو لا ريب أحكم من أن يحتاج الأمر بيني وبينه إلى حوار كالذي دار بيني وبينك.
وابتسمت الشابة وقالت: «إن طيبة قلبه، وكرم خلقه، وشدة حبه لزوجه يغنيه عن مثل هذا الحوار.
ولقد فكرت هذه الليلة طويلًا فيما أسديت لي يا أماه من نصائح فرأيتك على حق، أهو عقلي الذي هداني إلى تبين هذا الحق، أم هو وحي هذه المدينة المنورة، أم أنهما تآزرا على هدايتي؟! أيًّا كان الأمر فإني شاكرة لك من أعماق قلبي، مستغفرة عما لعله فرط مني في أثناء حديثي.»
وقبَّلتها وقلت: «إن الهدى يا ابنتي هدى الله، أمتعك الله بالسعادة والهناء.»
وفي الغد تأهب زوجي وابنتي للسفر إلى ينبع فصحبتهما إليها، وودعتهما حين أبحرت الباخرة، وعدت في رفقة إلى المدينة، واتخذت مكاني من الروضة، وحمدت الله أن هدى ابنتي إلى الحق، وهدى زوجي ليدعني في جوار الرسول الكريم.