الفصل الثالث
قضينا بدء حياتنا الزوجية سنوات هانئة سعيدة ليتها دامت، ولقد طالما بحثتُ عن السبب فيما طرأ عليها من بعد، أنا أعلم أن كثيرين يتهمونني بأني السبب، وأنه لولاي لبقينا فيما كنا فيه من نعمة وطمأنينة، ولكني لا أقر هذا القول ولا أرضاه، بل أحسبني كنت ضحية أكثر مما كنت مسئولة عما حدث، ولست أريد بتدوين هذه القصة أن أدافع عن نفسي، وحسبي أن أسوق الحوادث كما وقعت، وأدع من تقع عينه يومًا على هذه القصة أن يحكم لي أو عليَّ.
ولا أريد بتبرئة نفسي أن أتهم زوجي بأنه هو وحده سبب ما أصابنا، ولو أنني فعلت لكنت ظالمة، وإن كنت لا أستطيع أن أبرِّئه براءة كاملة، مع الاعتراف من جانبي بأنه لم يقصد إلى غرض سيئ، بل لعل طيبته وبالغ عطفه يُحمِّلانه من التبعة أكثر مما كان يحمل لو أنه كان أكثر قصدًا فيهما.
لقد بدأنا حياتنا الزوجية حبيبين سعيدين، كان كل ما حولنا يبسم لنا، ويشدو لنا بأنغام السعادة، كنا نخرج تحت جنح الظلام في سيارته، وكان هو يقودها، مرة إلى سفح الهرم، وأخرى إلى القناطر الخيرية، وثالثة إلى المعادي، ورابعة إلى عزبة والدي، فلم أكن أرى في الطريق — إلى أيٍّ من هذه الأماكن الخلوية — إلا السعادة يحملها الهواء معه إلى قلبي وروحي، وكنت لا أشعر حين عودتنا من هذه الجولات بشيء غير عبير الحب يحمله النسيم على أجنحته، ويدخل به وإيانا إلى عشنا الصغير الجميل، وكان زوجي الشاب الرقيق العزيز يتمنى لو استطعنا أن نسافر إلى أوروبا نمضي في ربوع سويسرا أو النمسا شهر العسل، لولا أن كانت الحرب العالمية الأولى تحول بيننا وبين تحقيق هذه الأمنية الساحرة البديعة، وقد استعضنا عن هذا السفر بالمقام زمنًا في ذهبية لأحد أصدقاء أبي، فكنت أحس إذ أنظر إلى ماء النيل من نوافذها وكأنه يحمل في تياره أريج الصبا ونسيمه العليل.
وكان زوجي يغيب عني ساعات كل يوم في عمله، فكنت أشعر بأني من انتظاره على لظى، لا يُبرد سعيرها إلا أريج يحمل الحب شذاه آتيًا من ناحية عيادته، فإذا عاد إلى عشنا وتعانقنا شعرت كأنني ذُبت في هذا العناق خلاله وأصبحت حبة قلبه، وكان هو من جانبه يبادلني حبًّا بحب، وهيامًا بهيام، كان كل تفكيره متى فرغ من عمله كيف يزيدني سعادة وهناءة، فإذا جلس إلى جانبي، وألقيت برأسي على صدره شعرت من نبضات قلبه بطمأنينة إلى الحياة تنقلني من هذا العالم الذي يضطرب فيه الناس، جريًا وراء أهوائهم ومنافعهم إلى عالم من الأحلام مفروشة أرضه بالورد، معطر هواؤه بشذا الحب وأنغام الهوى والغرام، أين أنا الآن مما كنت فيه منذ توفيت أمي؟!
بل أين أنا الآن مما كنت منذ ولدت؟! إنني سعيدة سعيدة سعيدة، سعيدة بما لا تعبر عنه الألفاظ، بل لا تعبر عنه الموسيقى، وكأني أتقلب من عالم الناس في نعيم جنة الخلد، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وما يحملني على أجنحة من الخيال إلى عالم السعداء والراضين، عالم المحبين الذي يستمتعون بنعمة الحب إلى غاية حدود المتاع.
انقضى العام الأول من حياتنا الزوجية وأنا في هذا البحر اللُّجِّيِّ من فيض السعادة، وكنت في أثناء ذلك لا أخالط غير زوجي من الرجال إلا أبي والأقربين من محارمي، فلم يكن يباح للمرأة من طبقتنا يومئذ أن تتحدث إلى غير هؤلاء من الرجال، أما النساء فكانت تزورني منهن بعض زميلاتي وصديقات صباي وحبيبات أمي، وكانت زوج أبي تزورني أحيانًا بطبيعة الحال، وكنت أنقل كل حديث يجري بيني وبينهن، أو بيني وبين أبي ومحارمي، إلى زوجي العزيز، وكنت أشعر بالغبطة حين أراه مسرورًا لسماع هذا القَصص الساذج؛ لأني كنت مصدره، ولم يكن يُخفِي ذلك عليَّ، بل كثيرًا ما كان يقول لي إذا أنا فرغت من رواية أقاصيصي: تحدثي، تحدثي، إن نغمات صوتك تشجيني، ونظراتك إليَّ في أثناء الحديث تنفذ إلى قلبي، وتبعث إلى وجودي كله النشوة والطرب.
وكنت أعلم أن في نظراتي جاذبية طالما سُحِرت بها وأنا أنظر إلى نفسي في المرآة، جاذبية لا ترجع إلى جمال عيني، بل إلى قوة التعبير التي تنبعث من هذه النظرات، ولم أكن أحسب أن هذه الجاذبية قديرة على أن تسحر غيري كما كانت تسحرني، وكنت أشعر كذلك أن لصوتي حين أتحدث سلطانًا لا يقل عن سلطان نظراتي، وكنت قد ورثت نغمة صوتي عن المرحومة أمي، كما ورثت لباقة حديثي وقوة تعبيره عن عواطفي ومقاصدي عن أبي، ولا شك في أن قراءاتي الكثيرة في الكتب العربية والأجنبية قد أعانت هذه الوراثة، وبلغت بي إلى هذه المقدرة التي كان يعجب بها زوجي، على أنني لم أقدِّر سلطان هذه الملكات على غيري لأول ما حدثني زوجي عنها، بل حسبت أن حبنا المتبادل هو الذي يوحي إليه إطراءه، فلما رأيته يكرر الإطراء في مناسبات شتى أخذت أعتدُّ بهذه الملكات وأُعنَى بتنمية غراسها، فعدت إلى مرآتي أدرس فيها سلطان نظراتي، وعدت إلى كتبي أقرؤها حين غياب زوجي في عمله وفراغي من تدبير المنزل، وكنت أقرأ بصوت مسموع ما يعجبني وما يزيده حسنُ الإلقاء أثرًا في النفس، فإذا جاءت صديقاتي والأقربون من ذوي رحمي لزيارتي، أخذت أتحسس أثر مواهبي فيهم، وسلطان نظراتي وعباراتي عليهم.
ومن يومئذ آمنت حقًّا بأن من البيان لسحرًا، فقد كان الذين يزورونني يبالغون في إعجابهم، بحسن إنصاتهم لحديثي واستزادتهم منه؛ مما جعلني أنا كذلك ألذ بالإصغاء لصوتي والاستماع لحديثي حين متاع الآخرين به، وكنت أحرص على ملاحظة أثره في نفوسهم، وبخاصة حين كنت أصور لهم ما تركه حادث في نفسي من مسرة أو ألم، من رضا أو غضب، من غبطة بالجمال أو تقزُّز من القبح، فإذا شاركوني في إحساسي، ولمحت على وجوههم أمارات هذه المشاركة، اطمأننت وازددت رضا عن نفسي وإيمانًا بسلطاني.
انتهت الحرب العالمية الأولى في منتصف الخريف، وخُيِّل إليَّ عند ذلك أن الجو أصبح مهيئًا لأسافر مع زوجي إلى أوروبا ننشر في ربوعها الجميلة عبير حبنا، ونستنشق مع نسمات جبالها الرفيعة الذرى أريجًا منعشًا يضاعف متاعنا بالحياة، ونجتلي في أم المدائن باريس ما تهوي إليه كل أنثى، وما يتفتح له قلب كل مشغوف بالفن وكل مولع بالجمال، وأشرت في حديثي مع زوجي إلى رغبتي هذه، فلم يلبث أن ذهب من بكرة غده إلى مكاتب السياحة يعد لسفرنا العدة، فلما عاد لموعد الغداء أخبرني في أسف أن السفر فيما وراء حدود مصر لا يزال محظورًا بأمر السلطة العسكرية البريطانية، وأنها تأبى إباء تامًّا أن ترخص به لأحد، وأنه يؤثر إذا رغبت وجاء الشتاء أن نقضي أسبوعين أو ثلاثة بمشتى الأقصر نزور هناك آثار الفراعنة، وأحسست أنه يريد إرضائي ولو على حساب عمله، وقدرت ما لعل زوج أبي أو بعض صديقاتي يتقولنه عليَّ، فلم يكن سائغًا إلى يومئذ أن تنزل مصرية فندقًا في بلد مصري، لهذا وذاك أبديت الرغبة عن مغادرة العاصمة، وقبَّلت زوجي شاكرة إياه من كل قلبي.
ولم يكن حديثي مع زوجي يتعدى حياتنا الخاصة، وكان هو يذكر لي مشاهداته في عمله، وأحاديثه مع أصدقائه، وقلما يجري على لسانه شأن من الشئون العامة، وكنت أقص عليه ما أراه في زياراتي لصديقاتي، وما يجري في زياراتهن لي، ثم ينقضي الوقت بعد ذلك، ولا نحس كيف انقضى ولا نشعر بمروره، وكانت رغبة زوجي عن الخوض في الشئون العامة طبيعية بحكم عمله، وبحكم الظروف المحيطة به؛ فهو طبيب متصل بالناس على اختلاف ميولهم وألوانهم، فلا بد له أن يحتفظ بحسن صلاته بهم جميعًا، والجو الذي كان مخيمًا على مصر يومئذ كان الحكم العرفي البريطاني، وكان ما حدث إبَّان الحرب من اعتقالات يشيع في النفوس الحذر والخوف.
على أن انتهاء الحرب آذن بنشاط سياسي عام أخذ زوجي يحدثني عنه كل يوم، ويروي لي طرفًا من أخباره، وبعد أشهر قبضت السلطة البريطانية على الزعماء المصريين المطالبين باستقلال وطنهم، ونفتهم إلى جزيرة مالطة. هنالك قامت في البلاد كلها، من أقصاها إلى أقصاها، ثورة كانت العاصمة روحها ومصدر الوحي بها، وخاف أبي أن تتطور الثورة إلى عنف قد يصيبنا شرره، فاقترح أن تذهب السيدات إلى العزبة، فرارًا بهن من مصير لا يعرفه أحد.
وسافرت مع زوجي وزوج أبي وأخي الطفل في سيارة زوجي، ولشد ما كان عجبي حين رأيت مظاهر هذه الثورة منتشرة في كل مكان، ورأيت الفلاحين والفلاحات فرادى وزرافات لا يكادون يروننا حتى يهتفوا بحياة مصر واستقلالها، هي ثورة شاملة إذن، أترانا نكون أكثر أمنًا في العزبة منا في العاصمة؟ لكنا ما لبثنا حين تخطينا أسوار المنزل إلى الحديقة واجتزناها إلى داخل البناء أن رأينا فيه حصنًا آمنًا، يبعدنا عن مظنة العدوان، ثم ما لبثنا أن رأينا أهلنا وذوي رحمنا أقبلوا علينا، يهنئوننا بسلامة الوصول، وبالنجاة مما علموا أن القاهرة تعج به من أسباب الاضطراب، عند ذلك سكنت نفوسنا جميعًا، واطمأننا إلى حكمة والدي في مشورته علينا.
وأقمنا أسابيع عدة بالريف، وكان زوجي يذهب إلى القاهرة في أثناء الأسبوع ثم يجيء إلينا في نهايته يقص علينا ما يجري هناك، ولم يكن يجد في الانتقال مشقة؛ لأن الأطباء كانت لهم حرية التنقل بتصريح عام خاص بهم، وقد قص علينا يومًا في حماسة أن سيدات القاهرة خرجن في مظاهرة مرتدياتٍ براقعهن وحَبَراتهن، وأن الجيش البريطاني لم يجرؤ على التعرض لهن بأذى، وأن هذه المظاهرات أثارت العاصمة كلها، وتركت في النفوس أثرًا أعظم من كل ما سبقه.
وتولاني لسماع هذا النبأ ألم وأسف أن لم أكن هناك لأشارك المتظاهرات، ولأبدو أمام سيدات العاصمة في مظهري الحق، ولم أستطع أن أكتم ما دار بنفسي عن زوجي، فلما سمعه نظر إليَّ في ابتسام وقال: أَوَكنت تستطيعين؟ لا تنسي أنك حامل، وهذا الحمل هو الذي دفعني للموافقة على مجيئك إلى هنا إشفاقًا عليك من أن يصيبك اضطراب العاصمة العصبي بأذى.
ولكن هذه العبارات لم تشفِ غلتي، فقد تصورت السيدات سائرات في مظاهرتهن، ورأيت صديقاتي في مقدمتهن، وشعرت بمكاني خاليًا بينهن، وخُيِّل إليَّ لو أنني كنت معهن أشغل هذا المكان لكانت المظاهرة أتم روعة، وأشد لفتًا للأنظار، أتُرَى تعود السيدات إلى تنظيم مظاهرة أخرى، بعد عودتي إلى القاهرة، فأشترك فيها؟! ولكن هبني عدت، وهب السيدات فكرن في تنظيم مظاهرة أخرى، فما عساي أستطيع أن أفعل وأنا حامل؟!
ولمح زوجي ما يدور بخاطري، وخشي أن يطول تفكيري فيه فرأى أن يصرفني عنه بالحديث فيما هو أحب إلى نفسي ونفسه، ولهذا سألني: أتراك فكرت في اسم طفلنا العزيز ولدًا كان أو بنتًا؟ وحرَّك سؤاله غريزة الأمومة في دخيلة كياني، وحرَّك الطفل الجنين أحشائي، وابتسمت كأنني في حلم سعيد، ونسيت المظاهرة والمتظاهرات، وارتسم في خيالي هذا الطفل العزيز حين مولده، وبعد لحظة نسيت الطفل واسمه كما نسيت المظاهرة والمتظاهرات، وتعلقت بعنق زوجي وقبَّلته بكل ما فيَّ من حرارة الأنوثة والشباب والأمومة المرجوة وقلت: أحبك.
ولم تنطق شفتاي بهذه الكلمة عن إرادة مني، بل دفعها إليهما قلبي دفعًا، لم يكن لهما من الاستجابة إليه بد، فهذا الزوج العزيز هو مصدر هذه الأمومة التي أخصبت أحشائي، وجعلتني أسعد في يقظتي وفي نومي بانتظار ثمرتها، وهل تراني أو ترى كل امرأة تبتغي في الحياة أشهى من هذه الثمرة؟ ولم أكن أعلم إلى يومئذ ما تحمل الأمومة معها من تضحيات وآلام، ولم أكن إلى يومئذ أُقدِّر الأعباء التي يحتملها الآباء والأمهات في صمت وإذعان، ولم أكن أستشف الغيب فأرى خلاله ما سأتجشمه وما سيتجشمه زوجي العزيز اليوم، الشقي غدًا، بسبب هذه الأمومة وهذه الأبوة، لم يكشف لي في تلك اللحظة عن شيء من هذا، بل صور لي الشباب والحب حياة معطرة بشذا الورود والرياحين وبمنظرها البديع البهيج، وسمت غريزة الأمومة فوق التفكير في متاعبها، وزيَّنت لي أحلامي أن الحياة طريق معبد وثير تتدلى على جوانبه الأغصان الخضر تكسوها الأزاهير العطرة، وفاضت عني السعادة بهذا كله، فازددت حبًّا لمن آمنت بأنه مصدر هذه السعادة، ودفع قلبي إلى شفتيَّ كلمة «أحبك».
انقضت على مقامي بالعزبة أسابيع أفرجت السلطات البريطانية في أثنائها عن الزعماء المطالبين بالاستقلال الذين نفتهم إلى مالطة، بذلك هدأت النفوس الثائرة، وإن لم تنطفئ ثورتها، وأتاح لنا هذا الهدوء أن نعود إلى العاصمة، وأن أستقر فيها، وهناك انقضت أشهر الحمل، وأثمرت أمومتي طفلة أنساني بكاؤها ساعة مولدها ما تجشمت في حملها تسعة أشهر من مشقة، وشُغلت بهذه الطفلة عن كل شيء آخر، حتى عن أبيها الذي كان يحبها من أجلي كما أخذت أحبه من أجلها.
وعجيب حقًّا ما طرأ بعد أمومتي على حبي زوجي، لقد بقي هذا الحب قويًّا كما كان، لكن لونه تغير، لقد كنت أحب هذا الرجل الشاب لذاته، فكنت كلي له، كنت أشعر بالسعادة إذا استطعت أن أزيده رضًا بالحياة وسعادةً فيها، كنت أشعر بأنني قديرة على أن أهبه كل نفسي، وأن أضحي من أجله بحياتي، كنت أشعر أنني بضعة منه لا غنى لي عن حبه، ولا غنى له عن حبي، وكنت كثيرًا ما أذكر قول الشاعر:
لأن قوله هذا كان يصوِّر لنا حالنا في كثير من الأحيان، كان ذلك شأننا قبل أمومتي، أما بعد أمومتي فلم أصبح قادرة على التضحية بحياتي من أجل زوجي؛ لأن حياتي أصبحت ملكًا لهذه الطفلة التي تطالبني بكل أسباب الحياة، وكنت أرى زوجي يحنو على هذه الطفلة التي انفرجت أحشائي عنها، ويلمع في عينيه حبٌّ أبويٌّ نديٌّ بمعاني العطف والرحمة، فكنت أحبه لذلك، وكنت أزداد حبًّا له كلما ازداد حُنُوُّهُ على الطفلة وحبه لها، وكنت أحس بأنه مُطالَب وإياي بتهيئة أسباب الحياة الناعمة لابنتنا، وأني مطالبة لذلك بتشجيعه على أداء هذا الواجب المشترك، وأنا لا أملك من أسباب هذا التشجيع إلا الحب، بهذا تغير لون حبي لزوجي وإن بقي قويًّا كما كان، وبهذا صهرت الأمومة عاطفة الحب كما تصهر النار الذهب وشكَّلته بالصورة التي ترضاها.
وللأمومة سلطان قوي قاهر لا يقف عند اختلاف التلوين لحب متبادل. قصَّت عليَّ إحدى زميلاتي، وكانت قد سبقتني إلى الأمومة، وكانت متزوجة رجلًا يكبرها بخمس وعشرين سنة، وكانت لذلك تحس نحوه الهيبة أكثر مما تحس الحب، إنها حاولت المواءمة بين شبابها وكهولته، وأنفقت في ذلك جهدًا كاد ينتهي إلى اليأس، ثم إنها حملت ورزقت طفلة كطفلتي، فإذا لون الحياة كله يتغير أمامها، وإذا هذه البضعة من وجودها والحشاشة من قلبها تُحيل القتامَ المخيِّم عليها ضياءً وضَّاءً يكشف أمامها طريق السعادة في الحياة، وإذا هيبتها زوجها تنقلب تعلقًا به لتعلقه بهذه الطفلة، وإذا هي تجد في العناية بالطفلة ونظافتها ورعايتها ما يسعدها ويشغل كل وقتها، وإذا هي تنعم من أمومتها بكل ما تطمع فيه المرأة من نعمة الحياة.
وانقضت عشرون سنة أو تزيد على حديث زميلتي، ثم جمعني مجلس بشيخ من كبار مفكرينا قصصت عليه في أثنائه طرفًا من شئوني وشجوني، وبعد أن أنصت إليَّ طويلًا في إصغاء زادني إمعانًا في حديثي ومحبة لهذا الشيخ الجليل، قال: إن حديثَكِ لساحر، وما ذكرتِه عن أمومتك الأولى يعيد إلى ذاكرتي قصة المرحومة زوجتي — وكانت زوجه قد توفيت منذ أكثر من أربعين عامًا — لقد تزوجتها ولما أبلغ الثلاثين، وكانت هي طفلة رقيقة متعلمة كأحسن ما تتعلم الفتاة في ذلك الجيل، وكنت أترجم إذ ذاك كتابًا في الفلسفة السياسية، وكنت أُملِي عليها في الصباح ما ترجمته العشية لتكتبه بخطها الجميل.
وانقضت بعد ذلك أشهر رُزِقنا بعدها ابنًا، فلما استعادت صحتها ونشاطها خُيِّل إليَّ أنا قادران على العود إلى ما كنا فيه، فأمليها وتكتب، ولم يبد من جانبها على ذلك أي اعتراض، لكني أدركت بعد قليل أنني أطلب المحال، فقد كنت أبدأ الإملاء وتبدأ الكتابة، ثم سرعان ما تعتذر بأن الطفل يبكي، وتنفلت لترى سبب بكائه، وكثيرًا ما كنت أتبعها لعلي أستطيع معاونتها في شأنها كما كانت تعاونني في شأني، وكثيرًا ما كنت أحمل الطفل عنها لتهيئ له ما ترى أن تهيئه، وكانت تعتذر لي أحيانًا، وتحاول أن تدعو الخادم لتتولى معونتها، فكنت أرجوها ألا تفعل، وكنت أجد في صحبتها وفي معاونتي لها وفي تدليلي الطفل مكانها — على ما في هذا التدليل من سخف لم أكن أسيغه — لذَّةً أكبر اللذة؛ لأنها كانت تُسرُّ به وتجزيني عنه مزيدًا من العطف والحب.
سمعت حديث جليسي الشيخ المفكر وهو يسوقه في طلاوة تسحر الأذن، وتدفعه إلى القلب، فلما أتمه قلت فيما بيني وبين نفسي: ما أشبه حال هذا الرجل العظيم وزوجه بحالي أنا وزوجي، لقد كانت زوجه تحبه من أجل طفلها، وكان هو يحب طفلها من أجلها، وكانت الأمومة سر هذا وذاك، كما كانت السر في إنقاذ زميلتي من يأس يهددها، حتى أضاءت الأمومة قلبها بنور الحياة ونعمائها.
كان من بين صديقاتي اللائي جئن يهنِّئنني بمولد طفلتي ثم استمر تزاورنا، مَن اشتركن في مظاهرة السيدات السياسية التي أشرت إليها من قبل، وكانت كل واحدة منهن تتحدث عن مكانها في هذه المظاهرة، وعن المجهود الذي بذلته قبلها وفي أثنائها بإفاضة وحماسة يشهدان بأنها تركت في نفوسهن أثرًا عميقًا، ولم يقف حديث بعضهن عن المظاهرة وعن الأثر السياسي العميق الذي كان لها، بل أخذن يتحدثن عما تستطيعه المرأة في ميادين الحياة العامة سياسية واجتماعية، ويذكرن أن حجاب المرأة الذي حال إلى يومئذ بينها وبين اقتحام هذه الميادين يجب أن يزول، ولقد ذهبن إلى أن هذا الحجاب سُبَّة يجب التخلص منها؛ لأنه ينزل بكرامة المرأة إلى مكان وضيع يهوي بقيمتها الإنسانية إلى حيث تصبح عبدًا ومتاعًا للرجل لا أكثر، وشعرت في هذا الحديث بمقدمة ثورة اجتماعية رجوت — إن قُدِّر لها التمام — أن تتم في هدوء وطمأنينة. على أنني لم أكن أستطيع الاشتراك في هذه الثورة الاجتماعية على شدة اقتناعي بضرورتها؛ لأن أمومتي كانت تشغل كل وقتي وكل جهدي، ولأنني خشيت أن أثير بيني وبين زوجي زوبعة لا خير في إثارتها؛ لهذا بقيت راضية بما أنا فيه لأنعم بأمومتي وبحب زوجي، وتركت لهاتيك الثائرات أن يفتحن الطريق إن وجدن إلى فتحه الوسيلة.
وأستطيع اليوم أن أقول إنهن نجحن في ثورتهن إلى حد بعيد، ويرجع نجاحهن إلى أنهن سلكن في هذه الثورة سبيل الحكمة والتصون عن كل عنف، فقد بدأن جهادهن في سبيل حريتهن بالنهوض بأعمال الخير: عنايةً بالمرضى، وبرًّا بالفقراء، وعطفًا على الطفولة المشردة، وما إلى ذلك من أعمال إنسانية تتفق مع فطرتهن، ومع ما جبلت المرأة عليه من بر وحنان، وما كان للرجال أن يعترضوا طريقهن في هذا السبيل، بل أعانوهن وشجعوهن، وكان طبيعيًّا بعد ذلك أن تخلع المرأة حجابها، وأن تلقي جانبًا هذا البرقع، ثم هذه «البيشة» التي كانت تستر بها وجهها؛ لأن فاعل الخير والقائم بالعمل الإنساني لا يستخفي ولا يتستر، وإنما يستخفي المريب وذو النية المتهمة.
وطالب النساء بعد ذلك بألوان من الإصلاح الاجتماعي أقرهنَّ الرجال عليها، ورأوا فيها للمجتمع صلاحًا وخيرًا. وبهذه الحكمة وهذا الاعتدال استطاعت الثورة الاجتماعية التي تمخضت عنها تلك المظاهرة السياسية الأولى أن تحطِّم الحجاب، وأن تفتح أمام الفتاة وأمام المرأة أبوابًا كريمة كانت من قبل موصدةً في وجهها، ولعلنا — نحن النساء — نستطيع بهذه الحكمة أن نحقق لأنفسنا وللرجال وللمجتمع المصري كله غاية ما تصبو الشعوب المتحضرة إليه من رُقِيٍّ وتقدُّم.
استدار العام منذ مولد طفلتي، فإذا أحشائي تتحرك بأمومة جديدة، ورُزِقت هذه المرة غلامًا كان قُرَّة عين لي ولوالده، برغم وضع متعسر أشرف بي على الموت، ولهذا شعرت بأنني أديت للإنسانية وللجماعة المصرية ما لهما عليَّ وعلى زوجي من حق بعد أن أنجبت هذين الطفلين، وعاهدت نفسي أن أقف بأمومتي عند هذا الحد.
وقد وفيت بالعهد وإن كنت أعترف بأن نفسي نازعتني غير مرة إلى نقضه، وفي كل واحدة من هذه المرات كنت أقاوم غريزة ليست مقاومتها أمرًا يسيرًا، ولست أدري أكان ما قاسيت حين مولد غلامي هو الذي شجعني على هذه المقاومة، أم شجعني عليها اعتبارات أخرى كنت أراها رأي العين، ولا يحسب كثيرات من النساء لها حسابًا، بل إني لأعرف من هاتيك الكثيرات من لا تكاد تضع حملها وتتخلص من آلام ولادتها حتى تبتسم رجاء أمومة جديدة، وكأنها تجد في ألم الوضع لذة، أو كأنما يعوضها الطفل الذي تنفرج عنه أحشاؤها عن كل ألم، وكأن ما يجشمها هذا الطفل من مشقة هو لذة حياتها وكمال سعادتها.
والعجب أن النسوة اللاتي يتولين بأنفسهن شئون أطفالهن ولا تسمح وسائلهن بالاستعانة بمربية أو خادم هن اللواتي تتحكم فيهن غريزة الأمومة، ولا يفكرن في مقاومة سلطانها القاهر، مؤمنات بأن ذلك من أمر الله، وأن الأطفال عطاؤه المحبب. وقد يكون لهاتيك المؤمنات عذرهن بإيمانهن، أما بنات طبقتي المستسلمات لغريزة الأمومة، العاجزات عن مقاومتها بعد أن يُرزَقن طفلين أو ثلاثة، فهن في نظري أعجب وأغرب؛ لأنهن لا يدعن أطفالهن للطبيعة كما تفعل الأوليات، وتربية الطفل أشد عسرًا من حمله وميلاده ألف مرة.
وكان حرصي على عهدي أول ما اشتد الخلاف عليه بيني وبين زوجي، فقد كان يؤمن إيمان العجائز بأن كل طفل يأتي ورزقه معه، وبأنه هو الذي يكد لحياة الأسرة، وبأنا يجب ألا نعترض إرادة الله! وكنت أجيبه بأن السعي للرزق لن يزيده إرهاقًا، وبأني أنا التي أحمل مشقة الأطفال حملًا ورضاعة وتربية؛ لأني لا أستطيع أن أدع طفلي لمرضع، ولا أن أعتمد الاعتماد التام على المربية التي عندنا، برغم ثقتي التامة بها.
وقد تكرر اختلافي مع زوجي في هذا الأمر غير مرة في فترات متباعدة امتدت بضع سنوات، وكان كلٌّ منا يسوق خلال جدله ألوانًا من الحجج لا تخلو من طرافة، كان زوجي يقول لي أحيانًا: أَوَتأمنين غدرات القدر بأحد هذين الطفلين أو بهما جميعًا؟ وكنت أجيبه: وهل تأمن غدر القدر بك أو بي أو بنا معًا فيُيَتَّم أطفالنا؟ أَوَلَا ترى أنهم كلما كانوا أقل عددًا كان رُزْؤُهم فينا أخف حملًا؟
وكان يقول لي: لقد نشرت الصحف اليوم أن فرنسا قررت للأسر التي يزيد أبناؤها على طفلين مكافأة يرتفع قدرها كلما زاد عدد الأطفال.
وكنت أجيبه: إنما تريد فرنسا زيادة سكانها لتزيد في الجيش، ولتزداد الأيدي العاملة عندها، ولا أحسبنا أنا وأنت نريد أن يكون أبناؤنا جنودًا أو عمالًا.
فلندع هذه المكافأة، وهذا الفخر للمؤمنات بأمومتهن، واللاتي جعل القدر من حظهن وحظ ذريتهن أن يكونوا جنودًا أو عمالًا، أو ممرضات أو عاملات.
وكان إذا مرض أحد طفلينا، ورآني نازعتني غريزة الأمومة وطمع في أن أضعف أمامها، أظهر لي من الحب والحنان ما أكاد أنهزم دونه، ولكنني سرعان ما كنت أستجمع قوة المقاومة، وأسمو بها فوق ضعفي ونوازعي، وأقف بها إلى جانب عهدي.
وكثيرًا ما كان يبدي دهشته ويقول: هذا أعجب ما رأيت! امرأة تقاوم سلطان الأمومة، وتأبى أن تحمل وتلد، وأب يريدها أن تنجب فتقاوم إرادته، لقد رأيت عكس ذلك غير مرة إشفاقًا من الآباء على أولادهم في مستقبل حياتهم وعيشهم، أما أن تقف امرأة هذا الموقف، فلا تفسير له عندي إلا من أنانيتها وحرصها على شبابها وحريتها.
ولم يكن هذا الهجوم يزعجني، بل كنت أقاومه بسلاح المرأة، كنت أبتسم وأعانق زوجي، وأقول له: هب هذا الاتهام الذي توجهه إليَّ صحيحًا، فلمن أحتفظ بهذا الشباب؟! ألست أحتفظ به لك؟ وأنت تعلم أن حريتي كقلبي في ملكك، وكنت أسوق إليه من معسول القول ما يذيب اعتراضه وغضبه، وما يرده إلى حال من الرضا لا سبيل له إلى مقاومتها؛ لأنه يحبني بقلبه وعقله وكل وجوده.
على أن ذوبان غضبه لم يكن ينقله إلى معسكري، فقد كان عنيدًا في إصراره على رأيه، لا تزحزحه عنه حجة، ولا يصرفه عنه برهان، وكان برغم ذلك ضعيفًا أمامي كل الضعف؛ ضعف الأم لابنها، فكنت أنا طفله المدلل، يعمل جهده إلى إجابة رغباتي وإن لم تعجبه، ما دام لا يرى فيها مضرة ولا شنعة. وقد انتهى بعد المناقشات التي دارت بيننا إلى الاقتناع بأن أمومتي من شأني، وأنه لا يستطيع أن يرغمني فيها على شيء لا أريده.
وشاءت الأقدار أن تعاونني على التشبث بعزمي والوفاء بعهدي، فقد كان في مقدمة ما أدت إليه مظاهرة السيدات السياسية من تطور اجتماعي أن رفعت الحجاب، وأباحت للمرأة أن تخرج مع زوجها أو أبيها أو أخيها أو الأقربين من محارمها، وأن تتحدث إلى من يلقونهم في هذه الحال من الرجال، وكانت المرأة من طبقتنا لا تملك إلى ذلك العهد أن تحادث رجلًا غير محرم، فإذا خرجت إلى الطريق مع زوجها وصادفا رجلًا يعرف الزوج، وأراد أن يتبادل معه مجرد التحية، انتحت المرأة جانبًا وأدارت وجهها حتى لا يراه هذا الأجنبي؛ لأن وجهها كصورتها كانا عورة لا يجوز أن يطَّلع عليهما الرجال. وكان لزوجي أصدقاء من رجال السلك السياسي الأجانب لا أدري كيف ولا متى عرفهم، فلما حدث ذلك التطور بدأ زوجي يدعوهم وقريناتهم لتناول الشاي عندنا، وكان طبيعيًّا أن أقابلهم وأن أتحدث إليهم كما كان هو يقابل زوجاتهم ويتحدث إليهن.
وصادف ذلك التطور الاجتماعي تطور سياسي يقابله؛ ذلك أن اعترفت إنجلترا باستقلال مصر، وأن أُعِيدت وزارة الخارجية المصرية، وكانت قد أُلغِيَت منذ بداية الحرب العالمية الأولى، وترتب على عود وزارة الخارجية لدولة مستقلة أن بدأت تلك الوزارة تنظم التمثيل السياسي والقنصلي للبلاد في الخارج، وبدأت أسمع أنهم يرشحون لهذه المناصب من فئات مختلفة كانت فئة الأطباء من بينهم، ثم علمت أن أطباء من معارفنا رُشِّحوا بالفعل لهذه المناصب.
قلت فيما بيني وبين نفسي: ولم لا يعين زوجي في لندن أو باريس أو روما، فنستمتع بالحياة في هذه العواصم الكبرى بما فيها من آثار الفن والجمال، ويكون بيننا وبين الدبلوماسيين والقنصليين من كل الأمم علاقات طيبة نستريح إليها، وتفيد مصر منها؟! فإذا تحقق هذا الأمل كان أوجب عليَّ أن أستمسك بعهدي، وأن أقف بأمومتي عند ابني وابنتي.
وداعبني الأمل، ثم تحكمت فيَّ رغبة الالتحاق بالسلك الدبلوماسي، فأفضيت لزوجي بخلجات نفسي، وذكرت له أسماء الأطباء المرشحين لهذا السلك، وطلبت إليه أن يعمل جهده ليُرشَّح كما رُشِّحوا، وكنت أظن أنه سيرحب بهذه الرغبة ويطير لتحقيقها، ولشد ما كانت دهشتي عندما أبدى لي الرغبة عن كل تفكير في هذا الأمر، وكانت حجته أن الأطباء الذين رُشِّحوا للسلك ليست لهم في عالم الطب مكانة، وليس لهم بين الأطباء مثل اعتباره، فإذا هو بذل من جانبه أي مسعى لتحقيق رغبتي جنى ذلك على مركزه وعلى عمله، وهو — بعدُ — طبيب ناشئ استطاع أن يبلغ في فنه بمجهوده مقامًا محمودًا، فمن سوء الرأي صرفه عن الطب إلى غيره إرضاءً لنزوة طارئة.
وعبثًا حاولت أن أعدل به عن رأيه، فقد بلغ من تشبثه به أن طلب إليَّ ألا أعود إلى مخاطبته في الأمر، أو إظهار الأسف على رغبته عنه، وزارني والدي يومًا فأبديت له رغبتي، وذكرت له عناد زوجي، فابتسم وقال: إن زوجك رجل عاقل، وهو يعلم كما يعلم كثيرون أن هذه المناصب لا تُعطَى اليوم للشبان المتزوجين مجانًا، فهل أنت مستعدة لدفع الثمن؟ وأجفلت فَزِعَةً لسماع هذه العبارة، ولم أُحِرْ جوابًا، ولم أعاود الحديث مع زوجي في هذا الموضوع من بعد.
ثم إنني قدَّرت بعد أن رَوَّيت في هذا الأمر أن أبي أراد بعبارته المزعجة أن يصدمني ليصرفني عن التفكير في أمر لا يرغب فيه زوجي، وذلك إبقاءً على مودتنا وما يعرف من حُبِّنا المتبادل.
وتمكن هذا التفكير من نفسي، ودس إلى قلبي جرثومة أخذت تعبث بعاطفتي نحو زوجي، وعملت هذه الجرثومة عملها بتوالي الأيام، حتى توهمت أن ما يقوله زوجي عن مكانته في الطب لا حقيقة له، وأنه من قبيل الخداع النفسي؛ اعتذارًا عن عجزه عن أن يسعى لينال المنصب الذي أصبو إليه، وأن هذا العجز ضعف غير لائق بالرجال.
كان لاختلافنا هذه المرة من الأثر في نفسي ما لم أشعر بمثله حين اختلفنا على تحديد النسل، ففي هذه المرة الأولى كان الأمر كله بيدي، وكان النصر لذلك حليفي، من غير أن أتحمل في سبيله أية تضحية، ونحن في هذه الحال أشد عطفًا على الهزيم وإشفاقًا من أن يناله بسبب انتصارنا ما يسوءه؛ لذلك كنت أُقبِّل زوجي إثر كل مناقشة بيننا في أمر نسلنا لأهوِّن عليه هزيمته. أما بعد اختلافنا الأخير ورفضه أن يبذل أي مسعى لانتقالنا إلى السلك الدبلوماسي، فقد شعرت بأنني انهزمت، وبأن هذه الهزيمة آذت كرامتي، وخُيِّل إليَّ أن زوجي قصد إلى هذا الإيذاء متعمدًا، ولم يكن يضيره أن يسعى، فإن وُفِّق فقد بلغت ما أردت، وإن لم يُوفَّق فلا ذنب عليه، ولن يصيبه من جرَّاء ذلك في عمله أي ضرر.
وحزَّت هذه الكرامة المهيضة في نفسي: أَأُجزَى بكل ما بذلته لإرضاء زوجي بألا يعبأ بالسعي لمطلب يناله من هو أقل منه، وتناله من هي أقل مني؟!
وبلغ من حنقي أن خُيِّل إليَّ أن زوجي ذهب إلى والدي، وطلب إليه أن يردني عن الإلحاح في أمر لا يرضاه، وأن ذلك كان السبب في قسوة الجواب الذي واجهني به والدي حين أفضيت إليه برغبتي، ولو أن زوجي لم يفعل من ذلك ما فعل، ولم يظهر لوالدي معارضته رغبتي، لاستطعت أن أستعين بوالدي في السعي لتحقيق غرضي، فله كلمة مسموعة في دوائر رسمية كثيرة، وصلاته بأولي الأمر تدعوهم لمجاملته.
وجعلت أشكو حالي لبعض صديقاتي اللواتي هن في مثل سني، فإذا كل واحدة منهن تشكو حالها، وتكاد تعلن الثورة على زوجها، وجمعت هذه الحال بين خمس منا، فكَثُر تزاورنا، وكَثُر ترديدنا الشكوى من حالنا، تقول إحداهن إنها رغبت إلى زوجها في تغيير مسكنها فأبى، وتقول ثانية إنها لا تكاد ترى زوجها الطبيب إلا ساعات الطعام، فإذا حدثته في ذلك اعتذر بكثرة عمله، وتسوق الباقيات أمثال هذه الأقاويل، ويتكرر ذلك في كل زياراتنا، ثم لا تزيد على الشكوى؛ لأننا لم نكن نستطيع أكثر منها.
وفتَّ في عضدنا أن إحدانا غضبت من زوجها ولجأت إلى بيت أهلها، فتلقاها أبوها عابس الوجه مقطب الجبين، وقال لها في صرامة وحِدَّة: الواجب عليك أن تحمدي الله على ما أنت فيه، وأن تقبلي يد زوجك صباح مساء، فكم من مثيلاتك تعيش مثل عيشك في بحبوحة ونعمة؟! وزوجك رجل رقيق مهذب، رضيُّ الخلق، وأنا لا أشك من غير تحقيق في أن الحق عليك من رأسك إلى رجليك، فارجعي إلى بيت زوجك واعتذري إليه، وإلا ذهبت أنا بنفسي واعتذرت إليه.
والعجب أن زوجي لم يتغير عليَّ في هذا الظرف برغم ما بدا من نفوري، بل لقد ازداد لطفًا بي وعطفًا عليَّ، وقد بلغ من ذلك أن زال من نفسي كل شك في أنه يحبني من أعماق قلبه، مع ذلك بقيت الرغبة الدفينة في الانتقال من الطب إلى السلك الدبلوماسي تساورني، وكان اعتدادي بنفسي وبسحر حديثي مصدر هذه الرغبة وإلحاحها عليَّ، فكنت أقدِّر أنني سأبلغ في محيط هذا السلك ما لا تبلغه امرأة غيري، وقد بقي هذا الاعتقاد متشبثًا بنفسي إلى عدة سنوات من بعد، وإني لأذكر يومًا بعد هذه السنوات دخلت فيه إلى اجتماع للسيدات، مصريات وأجنبيات، فلقينني بما تعودت من ترحيب، إلا زوج وزير ألمانيا المفوض، وكانت متعالية تعتد بجمالها، وبجنسها، وبمركز زوجها، وبواسع ثقافتها، فلم يسعني إلا أن وجهت إليها نظرة ازدراء زلزلت كبرياءها، ثم آليت على نفسي أن أتقن الألمانية، وأن أقرأ خير مؤلفاتها بلغة العظماء من كُتَّابها، وعرفَتِ السيدة المتعالية من بعض صديقاتي ما أقدمتُ عليه، فانتهزت أول فرصة تلاقينا فيها لتقدِّم إليَّ معاذيرها. بذلك تصافينا واتصلت مودتنا، ولم يلفتني ذلك عما أخذت به نفسي؛ فأتقنت الألمانية، وقرأت بها «جيتي» و«هيني» و«نيتشه»، وتأثرت إلى حد كبير بآراء «نيتشه» من أن القوة — والقوة وحدها — هي مصدر كل سلطان في الحياة.
وللمرأة من أسباب القوة ووسائلها الكثير مما لا سبيل للرجل إليه؛ لها الذكاء، ولها الحيلة، ولها الرقة، ولها سحر النظرات والحديث، ولها الصبر، الصبر الذي يمكِّنها من أن تحمل الجنين تسعة أشهر، وترضعه عامًا أو أكثر من عام، وتتولى بعد ذلك تربيته والعناية به، أين للرجل هذه الوسائل التي تجمعها كلمة الأنوثة؟ وهل تستطيع قوته المادية أن تتغلب عليها؟!
وقد استطاع زوجي بعد اختلافنا على الانتقال إلى السلك الدبلوماسي أن يتغلب على نفوري بحنانه ولطفه، وبحبه إياي حبًّا كان يحرك كل قلبه وكل حواسه وكل رجولته، ثم إنه كان يحدثني كل يوم عن عمله في الطب، وعن اطراد مكانته في السمو بين زملائه، وعن كسبه الوفير منه، كما أخذ يغدق عليَّ من صنوف الهدايا ما يهواه قلب المرأة من حُليٍّ ومجوهرات، ومن تحف زخرفية بديعة تزدان بها حجرات المنزل، وتتمتع العين بدقة صنعها وبارع جمالها، وكم أغراني للذهاب بنفسي أختار من الثياب وأدوات الزينة ومن هذه التحف الزخرفية ما أشاء، وانتهى بي لطفه إلى أن سكن نفوري، فعدنا إلى سابق مودتنا.
ولكن حبي إياه كان قد خُدِش، ولم يكن لي مع ذلك بد من التظاهر بأن شيئًا لم يحدث، وبأنا ما زلنا نتبادل الحب صفوًا كاملًا، وماذا عساي كنت قادرة أن أصنع وبين يدي هذان الطفلان لا يزالان في غرارة طفولتهما بحاجة إلى عناية أبيهما وعطفه؟! ولن يدور بخاطري أن ألجأ إلى بيت أبي فتشمت بي زوجه، ويلقاني هو بوجه عابس أن ليس لي فيه أمٌّ يغفر حنانها ما لا يرضاه الأب الغضوب. لا مفر إذن من الصبر من أجل هذين الطفلين، ومن أن أعمل على مداراة ذلك الخدش إن استطعت إلى مداراته سبيلًا.
وبالغ زوجي في العمل على مرضاتي، فلما كان الصيف سافرنا جميعًا إلى أوروبا، وسافرت معنا مربية أولادنا، وقضينا في هذه السفرة زمنًا سعدت به، وبَرِئت نفسي في أثنائه، حتى خُيِّل إليَّ أني كنت متجنية على هذا الزوج العزيز الكريم، كم من مرة وقفت إلى جانبه على سطح الباخرة التي تجري فوق لجة بحيرة «ليمان»، واستمتعت معه بمغرب الشمس فوق قُنَن الجبال المحيطة بها، وبالهواء العذب الساحر الذي ينساب مع أشعتها الذهبية إلى الصدور ينعشها وينعش القلوب معها.
وكم من مرة درت معه في أنحاء باريس في الليل أو في النهار، وكم نعمنا بمشاهدها ومسارحها، وبمظاهر الفتنة التي لا حصر لها فيها، وكم، وكم. وقد بلغ من إعجابي بهذا الرجل في هذه الفترة أنني كنت أنظر إليه في بعض الأحيان لا على أنه زوجي، بل على أنه حبيبي، حبيب قلبي وروحي، فقد وهبني كل نفسه ليله ونهاره، فلم يكن لي بد من أن أهبه كل نفسي وكل حياتي.
فلما عدنا إلى مصر، وعاد زوجي إلى عمله، وعدت إلى حياة المنزل الرتيبة، وانقشعت من حولي هذه الغمامة الشعرية التي أحاطت بي في أوروبا، فلم يبقَ لي إلا ذكراها، والتحدث لصديقاتي عنها، عاودني الأسف أنَّا لم ننتقل إلى السلك السياسي، وخُيِّل إليَّ أن أهل هذا السلك يقضون حياتهم كما يقضي المصطافون حياتهم، يتنقلون حيث يشاءون، وينعمون بجمال الطبيعة وبجمال الحضارة أينما يريدون.
وجلست ذات مساء بعد أسابيع من عودتنا إلى مصر أتحدث إلى زوجي، وكان قد عاد من عمله وعليه آثار الغبطة، فذكرت له رحلتنا وأثرها الجميل في نفسي، فقال: أرجو يا عزيزتي أن نتمكن من قضاء الصيف كل عام في بعض ربوع أوروبا الجميلة، وما دام هذا يرضيك فإنه يسعدني، وهل لي من سعادة إلا في رضاك وغبطة طفلينا وراحتهما؟!
ولم أملك نفسي وقد سمعت عبارته، فعانقته وقبَّلته شاكرة أجزل الشكر؛ إذ رأيت في وعده هذا بعض العوض — إن لم يكن كل العوض — عن السلك السياسي، وقد كنت راغبة في الانتقال إليه أشد الرغبة.