الفصل الرابع
في الأيام الأخيرة من شهر «نوفمبر» من تلك السنة، أُصيبت طفلتنا بنزلة شُعَبيَّة حادة أرَّقتني وأرَّقت والدها، فلما بَرِئت رأى زوجي أن أسافر بها وبأخيها والمربية إلى الأقصر؛ ليقضي دفء جوها على كل أثر للمرض. وحجزنا أماكننا بفندق الأقصر، وسافرنا بقطار الصباح اتقاء برد الليل، وصحبنا زوجي إلى محطة العاصمة، ثم ودعنا ساعة تحرك القطار، وعاد توًّا إلى عيادته يزاول عمله.
وقد شعرت ساعة وجدتني وحيدة مع الطفلين بديوان سكة الحديد بشيء من الرهبة، إن الديوان مخصص للسيدات، ويغلب ألا يشاركنا فيه أحد طول الطريق، فالأوروبيات يجلسن مع أزواجهن إلا أن يكن مسافرات وحدهن، أما ولم تشاركنا مصرية ولا أوروبية حين سفر القطار من القاهرة ومن الجيزة فلا خوف من أن تصعد مسافرة بعد ذلك من محطة أخرى، وزايلتني الرهبة بعض الشيء بعد ساعة أو نحوها من انطلاق القطار، وإن بقيت أحسب ألف حساب لطارئ من الرجال يفتح الباب علينا ويحاول الجلوس معنا، ماذا عساي أن أصنع لو أن ذلك حدث؟ فليس في الديوان جرس أستطيع أن أدعو به من ينقذني من مثل هذا الموقف.
وصلنا إلى الأقصر ولم يحدث ما توهمته مخاوفي، فلما بلغت الفندق وصعدت إلى غرفتنا عاودتني المخاوف، لقد نزلت في أوروبا فنادق كبيرة شتى، ولم يخامرني مثل هذا الشعور، أتراني هناك كنت أكثر شجاعة، أم تراني كنت أكثر اطمئنانًا إلى الناس؟ لا هذا ولا ذاك، لكنني كنت في حماية زوجي، وكنت مطمئنة في جواره، أما الآن وليس معي إلا المربية والطفلان، فقد ألفيتني عزلاء مجردة من كل دفاع، على أن مدير الفندق — وكان سويسريًّا — أبدى لي من اللطف ما بدَّد الكثير من مخاوفي.
واستيقظت في الصباح وأخذت زينتي وتناولت فطوري ونزلت إلى بهو الفندق، فأقبل عليَّ مديره ليطمئن على راحتي وراحة أطفالي، واتصل حديثنا بالفرنسية، فسألني إن كنت أريد أن أزور قبر «توت عنخ آمون»، وكان قد كُشِف من سنتين، ليوفر لي أسباب هذه الزيارة، ولما كنت لم أَزُر الأقصر من قبل، وكنت لا أريد أن يعرف الرجل ذلك عني، فقد ذكرت له أني مُرجِئة زيارة الآثار حتى أطمئن على راحة طفليَّ، وقصصت عليه مرض ابنتي، وأنني جئت إلى الأقصر من أجلها، وأبدى الرجل أشد الاهتمام بأمر الطفلة، وقال: «إن الشمس تغمر فناء الفندق معظم النهار، وشمس الأقصر ممتعة جدًّا، وتستطيع الصغيرة أن تتسلى باللعب مع أخيها في حديقة الفندق، وبين نزلائنا أطفال استفادوا من جو هذا الفصل في الأقصر فائدة كبرى.»
وخرجت مع الطفلين والمربية إلى فناء الفندق نستمتع بدفء الشمس، وفرح الطفلان بهذا التغيير في لون حياتهما، واندفعا إلى ناحية حديقة الفندق، وتبعَتْهما مربيتهما، فبقيت زمنًا أُحدِّق فيما حولي وأرقُب هؤلاء السائحين، رجالًا ونساءً، وقد جاءوا إلى مصر من أقصى الأرض، يستمتعون بجو شتائها المنعش، وبمشاهدة مناظرها الخالدة على صفحات الطبيعة، وفي صحف التاريخ.
فلما قربت الظهيرة قمت أسير في طريق يشطر الحديقة حتى بلغت بابًا من الخشب مقفلًا، لكنه غير موصد، وصادفني عند هذا الباب بستانيٌّ حيَّاني وقدَّم لي باقة من زهر البنفسج، ثم فتح لي الباب الخشبي وقال: تفضلي يا سيدتي إن شئت، فقد تجدين بعض معارفك في حديقة «ونتر بالاس».
وكان هذا الباب الخشبي يفصل بالفعل بين حديقتي الفندقين: الأقصر، و«ونتر بالاس»، وذكرت هذه اللحظة صديقتي التي مات زوجها تاركًا لها ولذريتها الضعاف تركة قيمة، طمع فيها أهله، فمنعوا ورثته من الاستيلاء عليها وعلى إيرادها. وكانت أم صديقتي ذات ثراء، وكانت شديدة الإعزاز لابنتها؛ لأنها كانت وحيدتها بين إخوة ثلاثة قادرين على الكسب الوفير؛ لذلك أتاحت لها المتاع بالحياة بعد انقضاء مراسم الحزن على زوجها، فسافرت إلى الأقصر، وتركت أبناءها في رعاية أمها، ونزلت «ونتر بالاس»، فلما ذكرتها تخطيت إلى حديقة الفندق الفخم لعلي أجدها، ألا ما أبدع هذه الحديقة وأبهاها! وما أحقر حديقة فندق الأقصر إلى جانبها! فهذه الأشجار الباسقة، وهذه الأزهار النضيرة، وهذه الملاعب الفسيحة للتنس، وهذه الغزلان والطيور الجميلة في الحظائر، وهذه المقاعد الوثيرة بأشكالها المختلفة منثورة في كل ناحية من الحديقة، والشمس والظلال تتداول جوانب المكان المعطر بشذا الأزهار، هذا كله لم أشهد له نظيرًا فيما زرت من فنادق أوروبا، وهذا كله يجوس خلاله نفر قليل من الرجال والسيدات، كثرتهم من الأجانب، ويلعب في بعض أرجائه أطفال كأنهم الأزاهير لفرط العناية بهم وبما يلبسون.
درت في أرجاء الحديقة ألتمس صديقتي فلم أجدها، وعلوت السلم المؤدي من الحديقة إلى الفندق آملة أن أجدها في بعض أبهائه، أو أسأل عنها بعض رجاله، فعلمت من البواب أنها ذهبت في صحبة إلى بيبان الملوك، وأنها ستكون — لا ريب — ساعة الشاي في البهو الكبير، ودلفت من باب الفندق إلى شرفته، يا للجلال والبهاء والعظمة والجمال! فهذه الشرفة الرفيعة البديعة تطل على منظر كله الروعة لا نظير له في العالم، تطل على النيل تنساب مياهه السماوية الزرقة، هادئة هدوء هذا الفصل الرقيق من السنة، وتناسب فوق مياهه الزوارق، ذاهبة آيبة بين طيبة الأحياء، وطيبة الأموات، وقد تطوف أحيانًا حول جزيرة ناتئة في النهر حتى تغمرها مياه الفيضان، وعلى الجانب الآخر من النيل تتدرج هضاب «طيبة الأموات» في ارتفاع حتى تختلط بالسماء عند مدى النظر.
ووقفت إلى جانبي سيدة رأتني أحدق في إعجاب إلى هذا المنظر البديع، وعلمت أنني نزلت الأقصر العشية، فحيتني بالإنجليزية وقالت: إن هذا المنظر يكون أبدع بكرة الصباح وساعة المغيب وأشد سحرًا، وهذه الجبال التي تبدو أمامك الساعة وقد غمرها ضوء الشمس، وكاد وهجها يحجبها عن النظر، تبدو في الإصباح والإمساء وقد بادرتها الشمس، أو انحدرت من ورائها، ورسمت عليها خطوطًا من أشعتها الذهبية، تخالينها سطورًا تنطق بما احتوته هذه الجبال في جوفها، من فراعين وملكات، ومن قسس ووزراء، ومن فعال هؤلاء وأولئك، وكيف كتبوا من تاريخ الإنسانية صُحُفه الأولى. إنني أهيب بك أن تجيئي إلى موقفك هذا بكرة الصبح وساعة المغيب، ليتضاعف متاعك بالنيل والصحراء والجبال وما تحدث عنه من تاريخ ما قبل التاريخ!
وأقمت مكاني زمنًا مأخوذة بالمنظر الساحر أمامي، فلما امتلأت منه العين والجوانح عدت إلى فندقي أتفقد الطفلين العزيزين، وأشرف مع المربية على طعامهما، وتحدث إليَّ زوجي تليفونيًّا من القاهرة ليطمئن علينا فطمأنته على كل شيء، وغفوت غفوة الظهيرة، أستريح بها من شقة سفر أمس، فلما دنا موعد الشاي ذهبت من جديد إلى «ونتر بالاس»، وما كدت أدخل البهو الكبير حتى رأيت صديقتي في جانب منه، فقصدت إليها وجلسنا معًا إلى مائدة لا ثالث معنا حولها، وإنا لنتجاذب أطراف الحديث إذ أقبل علينا رجل ناهز الثلاثين، فحيا صديقتي، ثم أحنى رأسه تحية لي، واستأذن وجلس. وعلمت أن هذا الرجل من الأقصر، وأن له في فنادقها شأنًا، وسرعان ما أدركت أنه كثير التردد على نزلاء هذه الفنادق ونزيلاتها، فما كاد يشاركنا الحديث حتى رأيته يذكر لصديقتي أسماء طائفة من نزلاء «ونتر بالاس» ونزيلاته، ومن نزلاء فندق الأقصر ونزيلاته، ويروي عن هؤلاء وأولئك، وبخاصة عن هاتيك اللاتي ذكر أسماءهن، أنباء تنقلاتهن وملابسهن، ومبلغ انسجام ملابس السهرة على هذه وعدم انسجامها على تلك، وكيف ترقص هذه وكيف ترقص تلك، والحق أني ضقت بحديثه، لكن ما أبداه في أثناء الحديث من استعداد للقيام بأية خدمة أرغب فيها اقتضاني مجاملته، بل ملاطفته، ولعل كثيرات غيري من نزيلات الفندقين كن في مثل موقفي، يتظاهرن بالمجاملة والملاطفة انتظارًا لخدمة يؤديها هذا الرجل، أو تقديرًا لخدمة سبق له أداؤها.
وأحسست ساعة المغيب تدنو، فاستأذنت صاحبتي وصاحبها لخمس دقائق، ودلفت إلى الشرفة فألفيت السيدة التي وقفت إلى جانبي ساعة الظهيرة، وكأنها في انتظاري، ورأتني مقبلة فصاحت: «أترين هذا المغيب البديع؟ لكأن الشمس علمت بأنك تريدين مشاهدتها، فجمَّلت الوجود كله بزينتها، انظري، انظري إلى النهر والسماء والجبال، وكأن المغيب يضمها جميعًا في غلالة من ذهب.»
وانطلقت السيدة تصف ما ترى مأخوذة، كأنها واقعة تحت سلطان منوم مغناطيسي مقرُّه قرص الشمس! وأُخِذتُ بالمنظر وبحديثها، ووقعت أنا الأخرى تحت سلطان هذا المشهد الفذ من مشاهد الطبيعة، فلما آن للمساء والنهر والجبال أن تخلع زينتها عدت إلى مجلسي مع صديقتي، وقد غلبني البهر فعقد لساني، فلما أفقت من بهري أخذت أتكلم وأصف ما شهدت، وأصغيت لصوتي ولعباراتي، فإذا هي أنغام توقع لحن هذا المشهد الفذ الرائع، وقضيت في هذا الحديث زمنًا رأيت الرجل في أثنائه مسحورًا، فلما كاد يتولاه البهر الذي كان قد تولاني، تركت «ونتر بالاس»، وعدت إلى فندقي وإلى طفليَّ.
وأصبحت بكرة الغد، وتناولت فطوري، ثم إذا خادم الفندق تستأذن عليَّ وتدخل إليَّ طاقة كبيرة من أزهار شتى كلها الفتنة والجمال، شُبكت بها بطاقة صاحبنا الأقصري الذي تناول الشاي معنا أمس في «ونتر بالاس».
ولم يكن عجبي لجرأته دون سروري بهذه الأزهار البديعة الفاتنة، وطلبت إلى الخادم فأحضرت من الآنية ما وزعت فيه الأزهار لأزين بها جوانب غرفتي، فلما اطمأننت إلى أن كل آنية وضعت حيث يجب أن توضع أدرت نظري في الغرفة، وارتسمت على ثغري ابتسامة الرضا، فالأزهار تنشر في المكان الذي توضع فيه بهجة، وتبعث إلى القلب المسرة، وإلى النفس الغبطة والطمأنينة، ودعوت طفليَّ ومربيتهما، فاستمتعوا معي بهذه البهجة وهذا الجمال.
وهبطت إلى بهو الفندق، فإذا صاحبنا الأقصري جالس في صدره، وكأنه ينتظرني، فلما رآني أقبل عليَّ وحياني وعلى ثغره ابتسامة عريضة، وشكرته وأثنيت على أزهاره، وتحدثت إليه هنيهة حاولت الانصراف بعدها، فاستوقفني وقال إن عربته تحت تصرفي لأزور بها آثار الأقصر جميعًا، وإنه يسر إذا قبلت مصاحبته إياي في زيارة معبد الكرنك ليشرح لي من أسراره ما لا يعرفه أقدر التراجمة من أبناء المدينة، فشكرته واعتذرت له أن لديَّ اليوم شواغل تحول دون مغادرتي الفندق إلى زمن طويل، وأني مضطرة لذلك أن أرجئ زيارة الآثار إلى يوم آخر، وقَبِل اعتذاري في لطف وأسف، ثم قال إن صديقتي لا تبرح «ونتر بالاس» اليوم؛ لأنها تريد أن تستريح من مشقة زيارتها ببيان الملوك أمس.
وانصرف الرجل، وخرجت أرى طفليَّ في فناء الفندق وحديقته، ثم إنني اصطحبتهما ومربيتهما إلى حديقة «ونتر بالاس»، وهناك ألفيت صديقتي ممددة على كرسي طويل، وفي يدها قصة تقرؤها، فهي لم تكن تطيق أن تقرأ من الكتب غير القصص، واتجهت نحوها، فلما دنوت منها رفعت بصرها عن كتابها، ثم قامت وحيتني ودعت البستاني، فجاء بكرسي طويل آخر تمددت عليه إلى جانب كرسيها، فلما استقر بنا المجلس اتجهت إليَّ بنظراتها الفاتنة، وقالت: «خبريني، ماذا فعلت بهذا الأقصري؟! لقد سُحِر بك سحرًا، بل جُنَّ بك جنونًا، إنني لم أره قط كما رأيته أمس بعد أن غادرتنا، لقد انقلب على حين فجأة شاعرًا مفلقًا؛ فنظراتك، ولفتاتك، وحديثك، وهندامك، ورقتك، ولا أدري ماذا كذلك كانت مدار حديثه طول سهرته! ولقد سهر طويلًا وأسهرني معه، ولم يكن يتابع بنظراته الحائرة حركة الرقص على عادته، فقد كان في شغل شاغل عن ذلك كله بالحديث عنك، عنك أنت وحدك حتى خُيِّل إليَّ أنه يعرفك من زمن، وأن بينكما مودة، فلما أخبرني أنه رآك أمس أول مرة وأنت معي تولتني الحيرة؛ أي طِلَّسْم تحملين أضله عن صوابه كل هذا الضلال؟»
وتبسمت ضاحكة من قولها وقلت: «أنت تبالغين يا عزيزتي، وإن هناك لطرازًا من الرجال ذلك شأنهم حين يرون امرأة لأول مرة، وما يدريك لعل هذا الأقصري يوم رآك للمرة الأولى قد قضى سهرته حديثًا عنك، وقضى ليلة تفكيرًا فيك، وهو لا ريب قد حمل إليك صبح الغداة من ذلك اليوم طاقة كبيرة من أزهار جميلة شُبكت بها بطاقته، ووضع تحت تصرُّفك عربته تزورين بها الآثار، واستأذنك في أن يصحبك إلى معبد الكرنك ليشرح لك من أسراره ما لا يعرفه أقدر التراجمة في المدينة.»
وقالت صديقتي: «بل أنت التي تبالغين، صحيح أنني تلقيت غداة وصولي إلى هنا ومقابلته إياي للمرة الأولى طاقة من الأزهار، لكنها لم تكن كبيرة، ولم تُشبَك بها بطاقة ما، وهو قد صحبني إلى الكرنك، لكنه لم يصحبني وحدي، بل كنا جماعة من زوار الأقصر رجالًا ونساء، وكان أكثرنا من الأجانب، وكان معنا ترجمان تولى الشرح، ولم يتولَّهُ غيره، أما عربته فإنه يتلطف بإرسالها إليَّ كلما ذكرت له أنني ذاهبة إلى نزهة خلوية، أثرية أو غير أثرية.»
سمعت ذلك فاغتبطت، فشتان بين ما ذكرته صديقتي وما كان معي، وصديقتي جميلة حقًّا، فارعة القوام ممتلئة في غير سمنة، في عينيها حور، وفي نظراتها سحر، إذا مشت لفتت مشيتها النظر، وإذا ابتسمت أسعدت ابتساماتها جليسها، وهي مؤمنة بجمالها وبسلطانه على كل من يراها، وهي مع ذلك تذكر لي من أمر الأقصري ما ذكرت، ليس الجمال وحده صاحب السلطان إذن على الرجال، فهذا الأقصري الذي سُحِر في لحظات بحديث عن جمال بلده يستطيع أن يقرأ مثله أو خيرًا منه في الكتب، ويستطيع أن يسمع مثله أو خيرًا منه من غيري، قد سحره — لا ريب — شيء آخر غير الألفاظ التي اشتمل عليها الحديث، وهذا الشيء الآخر هو سر السحر الذي يبهر كل من يسمعني، هو سري أنا، سر السلطان الذي أحسه، ولا يحيط التحليل بكل مصادره.
ولكن من هذا الأقصري الذي ضقت أمس بحديثه حتى تخرجني الغبطة بسحره بي عن موجب الرزانة وحسن التقدير؟! لقد أحسنت صنعًا بالاعتذار عن مصاحبته إياي إلى «الكرنك»، وخير لشابة مثلي أن تلزم جانب اليقظة والحذر.
مرت هذه الخواطر بنفسي في مثل لمح البصر، فلم تلحظ صديقتي شيئًا منها، واستطرد بنا الحديث وأنا إلى جانبها في شئون وشجون، بعد أن قصَّت عليَّ في إيجاز مشاهداتها في آثار الأقصر وبيبان الملوك وبيبان الملكات، وإننا لفي حديثنا إذ مر بنا أجنبي وقف إلى جانبها فحياها بيده، وحياني بإشارة من رأسه، وتحدث إليها لحظات حديثًا عاديًّا، ودعاها بعده، ودعاني وإياها لتناول الشاي ثم انصرف. وذكرت لي صديقتي بعد انصرافه أنه ألماني مهذب مشتغل بالآثار، وأنه يحضر إلى الأقصر كل شتاء منذ سنوات لمتابعة أبحاثه، وأردت منها أن تعتذر إليه عن عدم قبولي دعوة لم توجَّه لي إلا لوجودي معها، فابتسمت وقالت: «من يدري! لعلها وُجِّهت إليَّ أنا من أجلك، وعلى أية حال لا ضير عليك من قبولها، وأؤكد لك أنك لن تأسفي لمعرفة هذا الرجل، فهو مهذب واسع الأفق والثقافة، حلو الحديث، لطيف المجلس، وهو لا يقيم بهذا الفندق، ولا يكثر التردد عليه، ولم أره هنا يومين متعاقبين منذ جئت إلى الأقصر، لهذا أرجوك أن تكوني معنا هنا ساعة الشاي، ولك أن تعتذري وتنصرفي بعد قليل من تناوله.»
وألحَّت الشابة الجميلة فنزلت على رجائها، وجئت للموعد فألفيت الرجل قد حجز لنا مائدة، وجلس إليها ينتظرنا، وأقبلت صديقتي وطلبنا الشاي وأخذنا نتحدث، وعلم مضيفنا أني جئت الأقصر لأول مرة في حياتي، فأخذ نفسه بأن يرسم لي — من هذه المدينة الصغيرة التي كانت من قبل عاصمة الفراعنة — صورة تحييها أمام خيالي في عهود عزها وجلالها، وتصفها في حاضرها بعيدة كل البعد عن هذه العزة وهذا الجلال، لولا معبدها الضخم القائم على شاطئ النيل الأيمن، ولولا القبور العجيبة التي نحتها الفراعنة مقرًّا لحياتهم الآخرة في جوف الهضاب الناتئة على الشاطئ الأيسر، وأخذ يتحدث في هذا حديث عليم ساحر الحديث طيلة تناولنا الشاي، فلما فرغ من القول شكرته، ثم أبديت له عجبي من أولئك الأقدمين، كيف تخيلوا حاجة الروح بعد الموت لطعام هذه الدنيا ومتاعها، حتى كانوا يدفنون مع الميت القمح والزهر والحلي، وما إلى ذلك من ألوان المتاع؟! وانتقلت من هذا الحديث إلى غيره، وإلى غيره، وجعل هو يجيبني إلى ما أسأل عنه.
وطاب لي المجلس فلم أعتذر ولم أنصرف، بل أقمت أستمتع بحديث مضيفنا وبأنغام الموسيقى، حتى لم يبقَ في بهو الفندق معنا إلا نفر قليل، عند ذلك قلت مبتسمةً: «أظن أنَّا لم يبقَ لنا من الانصراف بُد، وأنا أشكر صديقتي، وأشكرك يا سيدي، وأستأذنكما في العود إلى فندقي.»
قال الألماني: «أَوَتأذنين يا سيدتي أن أصاحبك إلى هناك، فالطريق طريقي وأنا أقيم على مقربة من فندق الأقصر؟ وانتقل الحديث في أثناء الطريق من الفراعنة إلى مشاهداتي في أوروبا، وأصغى الرجل لحديثي عن جمال سويسرا، ثم سألني عما إذا كنت قد زرت ألمانيا، وأبدى الأسف حين قلت إنني لم أزرها، وذكر أنه سيكون في برلين الصيف المقبل، وتمنى لو التقينا بها وتعرَّف إلى زوجي هناك.
نزلت صبح الغد إلى بهو الفندق، فألفيت صاحبنا الأقصري في مكانه لأمسه، وأقبل عليَّ حين رآني، وذكر لي بعد التحية أن الأثري الفرنسي، الذي يشرف على عملية التنقيب بالكرنك، ويقيم في منزل تجاه المعبد، يقيم اليوم حفلة شاي، وأنه علم بمقدمي من مصر، فأبدى الرغبة في حضوري هذه الحفلة، والاستعداد للمجيء إلى الفندق لدعوتي إذا كنت مستعدة لقبولها، وتحدث الأقصري عن هذا الأثري الفرنسي، مثنيًا على أعماله، محبذًا قبولي الدعوة، فلما أبديت أني لا أرفضها قدم بطاقتها باسمي، قلت: لا داعي إذن لتجشيم الرجل مشقة الحضور بنفسه، فبدت على محيا الأقصري علائم الغبطة، وقال: «سأصحبك إذن في عربتي إلى هناك.»
وذهبنا بعد الظهر معًا، وتم التعارف بيني وبين الفرنسي وسائر المدعوين إلى الحفلة، وبعد أن تناولنا الشاي ذهبنا في زيارة قصيرة إلى الكرنك، رأينا خلالها ما أسفرت عنه عملية التنقيب، على أني خرجت من هذه الزيارة القصيرة وأنا لا أكاد أصدق ما رأيت من جلال هذا المعبد وفخامته وعظمته، ورأى الفرنسي إعجابي، فقال إنه يُسرُّ بمصاحبتي في أرجاء المعبد كله دليلًا يشرح لي بعض أسراره، ونظرت إلى صاحبي الأقصري مبتسمة ابتسامة من يسأل: «أي الدليلين أختار، هو أم المشرف الفرنسي على المعبد؟» وجوابًا على ابتسامتي وجَّه هو الحديث إلى المشرف قائلًا: «متى قررت السيدة زيارة المعبد أحطتك تليفونيًّا، وحضرت معها لأستفيد جديدًا عن آخر ما وصل إليه تنقيبك!»
قضيت أسبوعين على هذا النحو بالأقصر، أستبشر كل صباح بمشاهدة طفليَّ زادهما هذا الجو البديع نشاطًا وصحة، وأتفق مع الطاهي على ما سيقدم لهما من طعام، وأقضي ما وراء ذلك متاعًا بنفسي وبصديقتي وبمعارفي الذين ألقاهم في حديقة «ونتر بالاس»، أو أجلس إليهم ساعة الشاي في بهوها، أو أزورهم بعد العشاء أحيانًا قليلة، أسمع موسيقى الرقص، وأمتع النظر بحركات الراقصين. وفي هذين الأسبوعين زرت آثار الأقصر في طيبة الأحياء، ومقابر الفراعنة ملوكًا وملكات في بيبانها، وزرت الكرنك مع فوج من السائحين في ضوء القمر، وأشهد لقد كنت سعيدة بمن عرفت من الأحياء سعادتي بهذه المشاهد الخالدة الباقية على الدهر بقاء الدهر، فكانت هذه وأولئك يشغلونني في يقظتي وفي نومي؛ لأنني لم يكن يشغلني شيء سواهم، ولأنني كنت في هذه الفترة أقضي نهاري وليلي كما يقضي السائحون نهارهم وليلهم، لا همَّ لهم إلا المتاع بالحاضر، لا يشغلهم غدهم عن يومهم، ولا يفكرون إلا فيما تقع عليه أنظارهم، وما تلتهمه مشاعرهم وحواسهم، وكذلك نسيت السلك الدبلوماسي، ونسيت تحديد النسل، ونسيت القاهرة، بل نسيت أوروبا؛ لأن الحاضر أمامي كان يملأ فراغ وقتي، ولا يدع لي فرصة للتفكير في شيء غيره.
فلما صدمني الواقع بأنَّا عائدون إلى القاهرة بعد غد، شعرت كأنني أفيق من حلم سعيد لذيذ، وكأني إنما جئت إلى الأقصر لِأَمسِي، واستبد بي هذا الشعور حين رأيت المربية صبح الغد تُعدُّ متاعنا للسفر، لم يبقَ لي إذن إلا أن أُودِّع كل ما رأيت ومن رأيت خلال هذين الأسبوعين السعيدين، لم يبقَ لي إلا أن أُودِّع هذه الغرفة التي احتوت أحلام يقظتي ونومي بفندق الأقصر، وهذا البهو وقاعة الطعام، وهذا الفناء، وهذه الحديقة، ولقد كانت ملعب طفليَّ، ومهبط أشعة الشمس المحسنة إليهما، وأن أودع حديقة «ونتر بالاس» وبهوها وشرفتها والنيل، وبيبان الملوك والملكات مما تطل هذه الشرفة عليه، وأن أودع صديقتي وصاحبها الأقصري، وهذا الألماني المثقف الظريف الذي تردد علينا بضع مرات كنت أحس كل مرة منها بأنه أوسع ثقافةً وأكثر ظرفًا! نعم، لم يبقَ لي إلا أن أودع من رأيت، وما رأيت، وأن أقول لهم ولها: إلى الملتقى إن قُدِّر لنا أن نلتقي ها هنا مرة أخرى.
وخرجت إلى فناء الفندق أشرف على الطفلين حتى تنزل المربية إليهما بعد أن تفرغ من إعداد المتاع، واتجه نظري إلى باب الفندق الخارجي فيما وراء الحديقة، ودارت برأسي خواطر مبهمة أوحت بها خلجات نفسي، ترى لو أنني جئت إلى هنا العام المقبل، أتراني ألتقي بمن أودع اليوم؟ وابتسمت في مرارة حين ارتسم أمام بصيرتي الجواب الطبيعي لهذا السؤال: نعم، سأرى الفندقين وحديقتهما، وسأرى النيل والمعابد، وقبور الملوك والملكات، كما أرى شمس الأقصر وقمرها.
أما صديقتي والأقصري والألماني، ومديرا الفندقين، ومن إليهم من رجال ونساء يقيمون هنا، دعك من السائحين والسائحات، فلا علم لي ولا علم لأيهم ما مصيره بعد عام، بل بعد شهر، بل بعد يوم، فقد يرجع الألماني إلى وطنه ثم لا يعود، وقد يمرض أحدهم وقد يموت. ألا تعسًا لهذه الحياة! لا نمسك منها إلا بخيال سريع التنقل سريع الزوال، وما أشهاها مع ذلك، وما ألذها، وما أطيب ما نسيغه من حلو متاعها! أتراها تكون كذلك لو أن الأحياء كُتِب لهم البقاء كما كُتِب على المعابد والنيل والشمس والقمر؟
ونزلت المربية فتركتها مع الطفلين، وأخذت طريقي إلى حديقة «ونتر بالاس»، وهناك جلست أتحدث إلى صديقتي حديث الوداع، وإنَّا لكذلك، إذ أقبل الأقصري فجلس إلينا يشاركنا في هذا الحديث، ثم قال ساعة انصرافه إنه دعا الألماني كما دعا الفرنسي المشرف على أعمال التنقيب بمعبد الكرنك لتناول الشاي معنا قُبيل المغيب ليقوم الجميع بتوديعي.
واجتمعنا حول مائدة الشاي، واستمعنا إلى الموسيقى، وتحدثنا، فلما آن موعد انصرافي حيَّاني الفرنسي بكلمات تسيل رقة، وتمنى لي عودًا سعيدًا إلى بيتي، وعانقتني صديقتي وتبادلنا قبلات حارة، وقال الأقصري إنه سيراني مرة أخرى على محطة سكة الحديد صبح الغد، وأما الألماني فقد أصر على مصاحبتي إلى فندقي، فطريقي طريقه إلى مسكنه، فلما بلغنا باب الفندق وقف يودعني، وأخرج من جيبه علبة صغيرة وقال: «أرجو يا سيدتي أن تقبلي هذا التذكار الصغير لتعارفنا القصير، خلال هذه الفترة الوجيزة، إنه لا يعبِّر عمَّا أشعر به نحوك من إكبار وتقدير فحسب، ولكنه يذكرني كذلك عندك كلما رأيته.» وشكرته وفتحت العلبة قبل أن ينصرف، فرأيت بها حلية صغيرة دقيقة الصنع غاية الدقة، فلما أبديت إعجابي بها قال: «لقد صنعتها بنفسي، وإن لم تكن صياغة الحلي صناعتي»، ثم ودعني وانصرف.
وفي الصباح الباكر جاءت عربة الأقصري فانتقلنا بها إلى المحطة، فإذا هو ينتظرنا على إفريزها، فلما آن لنا أن نستقل القطار، وصعد إليه الحمَّال بمتاعنا رأيت مع المتاع زنبيلًا أشار إليه الأقصري وقال: «إنها هدية صعيدية لا تليق بالمقام، تأكلونها شفاء وعافية.»
وانطلق بنا القطار، وأنا وحيدة في الديوان مع طفليَّ، أستشعر رهبة، ولم أشعر بحاجة إلى دفاع، وغلب النوم الطفلين لتبكيرهما في اليقظة، فاستلقى كلٌّ في ناحية، ورحت أنا يتردد خيالي بين الأقصر ومقامي بها، والقاهرة وإقبالي عليها، لكني ما لبثت بعد قليل أن نسيت القاهرة وتعلقت بالأقصر؛ ذلك أنني حانت مني التفاتة إلى متاعنا فأخذ الزنبيل بنظري، وأحيا صورة الأقصري في ذهني، وأحيا صورة بلده، ودفعني منظر الزنبيل وتوهُّم ما فيه إلى المقارنة بينه وبين الحلية التي أهدانيها الألماني، وبين ذوق كلٍّ من صاحبي الهديتين، وأدت بي هذه المقارنة إلى أن أسأل نفسي: أفكان من حقي أن أقبل أيًّا من الهديتين؟ صحيح أن هدية الأقصري قد زج بها بين متاعي من غير علمي، وأنها فوق ذلك طعام لن يبقى له غدًا أو بعد غد أثر، وأستطيع إذا سألني زوجي أن أذكر له كل شيء عنها، ولكن ماذا عساي أقول إذا سُئِلت عن هدية الألماني، وكيف سوَّلت لي نفسي قبولها؟
وأعترف، لقد بُهِتُّ وتولتني الحيرة، حين أردت الجواب على هذا السؤال، وفي الحق كيف قبلت هذا التذكار؟ وكيف جرؤ الألماني على تقديمه لي؟ وما معنى هذا الصنيع من جانبه؟ ليس للتذكار قيمة مادية ذات شأن، لكن تقديمه إليَّ ساعة توديعي مشفوعًا بالعبارات التي نطق بها كان يوجب عليَّ أن أتدبر الأمر أكثر مما فعلت، وأن أشكر وأعتذر عن عدم قبول هذا التذكار، ولكن بماذا كنت أعلل اعتذاري، من غير أن أُخِلَّ بواجب الأدب والمجاملة؟ إن الرجل لم تبدر منه في كل المرات التي جلس إلينا فيها أية بادرة لا ترضاها أدق قواعد الذوق، وعبارته الأخيرة أنه يقدم لي هذا التذكار لما يشعر به نحوي من إكبار وتقدير، عبارة مختارة أدق اختيار، فلو أنني اعتذرت ولم أقبل تذكاره لكان اعتذاري جافًّا لا يصدر عن إنسان مهذب!
لكن ما عساي أن أقول لزوجي حين يرى هذا التذكار؟ وهلا أقصُّ عليه أنباء جولاتي، وكل ما رأيت في الأقصر، وأنا إنما سافرت إليها من أجل ابنتنا لتمام بُرئِها؟ إن هذا التذكار ليفتح عليَّ أبوابًا ما أغناني عن فتحها، أفأخفيه عن زوجي تخلصًا من كل سؤال وجواب؟ إن كبريائي وكرامتي لتأبيان ذلك عليَّ؛ لأنني لم أرتكب إثمًا فأتستر عليه، ولكن هلَّا يثير هذا التذكار في نفسه من الغيرة ما قد يجني على مودتنا وعلى حبنا المتبادل، ثم يعذره كل إنسان عن غيرته، وإن لم يكن لي في ذلك ذنب ولا جريرة؟
جعلت أُقلِّب هذه الأمور في نفسي، والقطار ينهب بنا الطريق إلى العاصمة، فلما بلغها ألفيت زوجي في انتظاري على المحطة، ولمحت في نظراته وهج الشوق العنيف، وخُيِّل إليَّ أنه يريد أن يبتلعني ابتلاعًا، لكنه اكتفى بتقبيل الطفلين وإظهار الرضا عن صحتهما، فلما دخلت منزلنا وأزلت عني غبار السفر ولباسه وتزينت للنوم، وأوى الطفلان إلى مضجعهما، ألقيت بنفسي بين أحضانه، وسكبت في فمه كل ما اجتمع في جسمي، وفي قلبي، وفي عواطفي، وفي وجودي كله مدى وجودي بالأقصر من مشاعر وإحساس، وتلقَّى هو قُبلتي فزادته شوقًا لي، وأذبت نفسي وروحي فيه، وانتشرت بذلك في كل وجوده، فلما آن لنا أن نتحدث لم نجد ما نقوله، إننا كلينا هنا وكفى، وبعد ألفاظ قليلة مبعثرة تبادلناها قال: أحسبك متعبة من مشقة السفر طول النهار، فليرد عليك النوم راحتك وطمأنينتك، ولنتحدث غدًا عن الأقصر وما كان فيها.
واستيقظت صبح الغد في ساعة متأخرة فألفيته ذهب إلى عمله، وعدت أفكر فيما كان يشغلني وأنا بالقطار، فقلت: يجب أن أقصَّ عليه كل شيء، ويجب أن أذكر له الألماني وتذكاره، إن ما شهدته منذ بلغت القاهرة ليدلني على أن لي عليه من السلطان ما كان لحواء حين أغوت آدم فأكل من شجرة الخلد، وسأرى ما يكون لذلك من أثر ثم أتصرف.
وعاد من عمله مبكرًا، وقبَّلني قبلة شدت من عزمي، فلما جلسنا سألني وعلى ثغره ابتسامة الرضا عما رأيت في الأقصر، فذكرت له صديقتي التي مات زوجها، فاستولى أهله على تركته، وذكرت كيف كان يجتمع إلى مائدتها ﺑ «ونتر بالاس» قوم أولو ظُرف وكياسة، يتناولون الشاي ويتحدثون، منهم الأقصري الذي أهداني الزنبيل ساعة سفري، ومن هديته سنتناول طعامنا بعد هنيهة، ومنهم ألماني مهذب واسع الثقافة، كان قليل التردد علينا، وقد قضى عليه ظُرفه ساعة ودعني أن يهديني تذكارًا دقيقًا من صنع يده، وفتحت العلبة الصغيرة التي احتوت التذكار وأريتها لزوجي، فلما رآها قليلة القيمة المادية لم يُبدِ اهتمامًا بها. وذكرت الأثري الفرنسي المشرف على أعمال التنقيب بالكرنك، ثم ذكرت الكرنك وما تركه في نفسي من أثر عميق حين زرته مع صحبة في ضوء القمر، وبيبان الملوك، وقبر توت عنخ آمون، ومقابر الملكات، وذكرت ذلك كله، وذكرت النيل ومغارب الشمس البديعة، وأخذت أتحدث وأتحدث وهو يصغي إصغاءً مأخوذًا من سحر حديثي، ثم ختمت الحديث بأني كنت أغتبط بذلك كله، ثم أزداد غبطة حين أستيقظ في الصباح، فأرى طفلينا يزدادان نشاطًا وصحة، ويزيدانني بذلك هناءة وسعادة، ويجعلان من مقامنا بالأقصر فلذة من نعيم، كان يُضاعَف لو أن والدهما كان معنا يستمتع بمتاعنا، ويزيدنا سعادة بمتاعه!
قبَّلني زوجي حين فرغت من حديثي، وشكر لي عنايتي بالطفلين، ثم قمنا وتناولنا غذاءنا، وخلوت بعد ذلك إلى نفسي راضية عن نفسي، هأنذي لم أُخفِ شيئًا عن زوجي، وها هو ذا مطمئن مغتبط، وهذا طبيعي؛ فلا جناح على امرأة إذا رأى الناس فيها جاذبية أدنتهم منها وحببت إليهم مجلسها، أو رأوا في حديثها ما أخذ بسمعهم وأبصارهم، فيمَ إذن كان ترددي وأنا بالقطار؟ وفيمَ كانت خشيتي أن أثير هواجس الرجل أو أثير غيرته؟ إننا كثيرًا ما نجسم أمام خيالنا أمورًا لا جسامة في الواقع لها، وكثيرًا ما نضطرب أمام اعتبارات لا شيء فيها يوجب الاضطراب.
على أنني ابتسمت بعد هنيهة في نفسي، وتساءلت: أكان الأمر يتم بكل هذا اليسر لولا أنني سكبت في جنان زوجي كل ما اجتمع في جسمي وفي عواطفي وفي وجودي كله من حسٍّ ورغبة، ولولا أنني أذبت نفسي وروحي فيه، وانتشرت في كل وجوده لأول ما خلوت إليه بعد أن بلغنا القاهرة؟ وهل كان الأمر في مثل هذا اليسر لولا لواعج الشوق التي كانت تحرك كل روحه وكل عصبه، ولولا ما يكنُّ قلبه من حب فرض عليه كل سلطانه؟ إن شوقه وحبه هما اللذان نصراني بعد أن أرضيتهما بكل ما ينطوي عليه وجودي من أسباب إرضائهما، وبعد أن تعاونت أسباب هذا الإرضاء في ذكاء ومقدرة فلا أغمط حق نفسي، ولا أهون من قدر سلطاني القاهر، فلولا هذا السلطان لواجهت اليوم موقفًا ما أدقه وأعسره!
وتعاقبت الأيام وأقبل الصيف، وفكرت في السفر إلى أوروبا، ولم أكن في ريب من إجابة زوجي رغبتي، فقد رضي سلطاني وأقرَّه وخضع لحكمه برغم ما كان يبدو أحيانًا من تحكمه؛ لأنه رأى في هذا التحكم لونًا من دل المحب يزيده إغراء، على أن أمرًا حدث حال دون السفر، فقد مرض والدي واشتد به المرض حتى كان الأطباء يعودونه صباح مساء، وكان زوجي هو المشرف على تنفيذ العلاج الذي يقررونه، فلم يكن مستطاعًا أن ندعه في علته ونسافر إلى ربوع الاصطياف والتسلية، فلما برئ كان الصيف في مولياته، ولم أكن أحب الإسكندرية منذ سافرت مع والدي إليها بعد موت أمي؛ لذلك استقر مقامنا بالقاهرة حتى إذا كنا في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر رأى زوجي أن من حقي أن أستريح، فاقترح أن أذهب مع الطفلين والمربية إلى الأقصر كما فعلت في العام الماضي، وحجزنا أماكننا في فندق الأقصر، وسافرنا بقطار الصباح اتقاء برد الليل، فلما بلغت الفندق وجدت الأقصري والألماني في بهوه، وأقبلا مع مدير الفندق وقالا: لقد أخبرنا المدير بمجيئك فانتظرناك لنقول لك: حمدًا لله على السلامة. ثم ذكر أن صديقتي نزلت «ونتر بالاس»، وودعاني وانصرفا.
وذهبت مبكرة بعد ظهر الغد إلى «ونتر بالاس» فألفيت بهوها خاليًا، فتخطيت إلى شرفتها أؤدي للنيل ولما وراءه في الجانب الغربي تحية إكبار وإجلال، ولم يَطُل وقوفي حتى رأيت الإنجليزية التي وقفت إلى جانبي في العام الماضي تقبل عليَّ وتقول: «هاللو، أرأيت أنك لم تستطيعي مقاومة ما لهذا المنظر الساحر من سلطان؛ فجئت حاجَّة إليه هذا العام كَرَّة أخرى؛ ذلك شأني معه من أعوام عدة، لا يكاد الشتاء يقبل حتى أشعر بدافع يجذبني إلى هنا لأؤدي لهذا المشهد الفذ فرضًا، حاولت غير مرة أن أتنصل منه، ثم لم أجد مفرًّا من أدائه. وحدثيني بربك، أيُّ شعور يملكك حين تهبطين مئات الدرج إلى قبر فرعون نقشت جوانبه بطلاسم «كتاب الموتى»، ثم ترين مكان تابوته أو بقية من آثاره؟ إن الرهبة التي تملكني في تلك اللحظات لتريني العالم الآخر، وتريني ملكوت السموات، ألا ترين أنت أيضًا شيئًا من ذلك؟»
وأجبتها: «إنني لم أتردد بعدُ على تلك المقابر ما ترددت لأرى فيها ما ترين، إنما ملكني شعور العجب كيف ينفق هؤلاء الملوك كل ذلك الجهد، ويسخرون في سبيله ألوف العمال وعشرات آلافهم؛ لينقروا في جوف الصخر قصور قبورهم!» قالت — وفي لهجتها شيء من الإنكار عليَّ: «كلا يا سيدتي، لا تقولي هذا الكلام، فلو أنهم لم يفعلوا لما خلدوا للأجيال المتعاقبة على الدهر هذه الآثار البارعة الضخمة، التي تحدث عن حضارة روحية أضاعها عالمنا المادي الأحمق! إن هؤلاء الأقدمين في مصر والهند والصين قد هدتهم حكمتهم، وخلَّدوا من آثار علمهم وفنهم وحضارتهم ما لا قِبَل لعالم اليوم بمثله، إنهم كانوا يعيشون مطمئنين إلى خلد أرواحهم؛ فكانوا يقيمون لهذه الأرواح المقر اللائق بها، أما نحن فنعيش في عالم مضطرب سريع التغيُّر لا نستطيع أن نمسك منه بمعنى من معاني البقاء، وحسبنا لذلك منه حياتنا على الأرض، وما أقصرها! وما أتفه ما تكسبه أرواحنا في أثنائها! وإني لأشعر يوم نلتقي بهؤلاء الأقدمين في ملكوت السموات أنَّا سنرى أنفسنا أقزامًا إلى جانبهم، ونرى حضارتنا هباء إلى جانب حضارتهم.»
واستأذنت محدثتي، وعدت إلى بهو الفندق، وجلست إلى مائدة في أحد جوانبه، وبعد قليل رأيت صديقتي قادمة من ناحية المصعد فقمت إليها، وتهادينا التحية، وجلسنا حول المائدة وعدنا إلى مثل حالنا منذ عام! وإنا لكذلك إذ جاء الألماني ووقف هنيهة يتحدث إلينا، ثم انصرف معتذرًا بأن لديه موعدًا لا فكاك له منه، قالت صديقتي: «خبريني، ماذا صنعت بهذا الرجل؟ إن الأقصري ليذكر أنه مجنون بك، وإنه يقول إنه يرى الله في السماء ويراك على الأرض.» فضحكتُ ضحكة ذات مغزى وقلت: «وهل تصدقين الأقصري؟ لعله يراني أضيق به أحيانًا، وأني أجامل هذا الألماني، فدفعته الغيرة لأن يقول لك ما قال، إنني لم أر هذا الألماني في العام الماضي إلا معك، وكنت أراه معجبًا بك، وما أحسب الأقصري يريد بكلامه لك وقيعة بيننا!» قالت صديقتي: «لا أظن بالأقصري هذا الظن، والألماني رجل مهذب رقيق، ألا ترين أنه كان يأبى إلا أن يرافقك إلى الفندق كل مرة يجالسنا فيها، فكان يدعنا وينصرف معك حتى لا يدعك تسيرين وحدك.» ولم أرَ أن أُجيب فانصرفت بالحديث إلى موضوع آخر.
لست أنكر أني اغتبطت في دخيلة نفسي لما ذكرته صديقتي عن عواطف الألماني نحوي، لكني رأيت أن أقطع عني ألسنة المتقولين بالتزام جانب الحيطة والحكمة، فكنت إذا أردت الانصراف وهو في مجلسنا دعوت سيدة تقيم مثلى بفندق الأقصر، ولو كانت على مائدة غير مائدتنا؛ لنعود بعد ذلك إلى الفندق معًا، فلا يفكر هو في مرافقتي، فإن فعل لم يكن لصديقتي، ولا للأقصري، ولا لغيرهما أن يقولوا شيئًا.
ورأيت يومًا زوج صديقة لي، كنت أعجب بمنطقه، وكنت أعلم أنه ينزل «ونتر بالاس»، فلما رآني جاء يحيينا فاستبقيته هنيهة، ثم قلت: «حان موعد ذهابي إلى فندقي»، وقلتها بلهجة فهم منها أني أريد مرافقته إياي، وكان ذلك بالفعل قصدي إبعادًا لشبهة الألماني. وصحبني زوج الصديقة وهبطنا الدرج إلى الحديقة والوقت قد أمسى والظلام مد رواقه، وعثرت قدمه، فقال وكأنما يعتذر عن عثرته: «تبًّا لإدارة هذا الفندق، ما ضرَّ لو بعثروا بين أشجار الحديقة بعض الثريَّات الكهربية؟» وبدر مني عن غير عمد أن قلت: «يا عبيط!» ولم تُرضِه كلمتي فلم يسكت عليها، بل قال: «لو لم تكوني زوجًا لصديقي!» ولم أجب للحظتي، ولولا الظلام لبدت على وجهي حمرة الخجل، على أنني قلت بعد برهة: «ما لكم معشر الرجال تسرعون إلى سوء الظن حين لا يكون لسوء الظن موضع؟!» ولم يرد هو متابعة هذا الحديث، فأداره بذكاء إلى اتجاه آخر.
ويظهر أن الألماني فطن لحذري، وأراد التغلب عليه، فقد صادفته يومًا ساعة نزولي من غرفتي لأذهب إلى موعد الشاي ﺑ «ونتر بالاس»، فلما رآني تقدم إليَّ وحيَّاني في لطف وأدب وقال: جئت أدعوك لقضاء النهار بعد غد في البر الغربي حتى تشهدي ما تجريه مصلحة الآثار في الدير البحري، وسنتناول طعام الغداء هناك، وبدت عليَّ الحيرة، فلم يدع لي فرصة للاعتذار، بل قال: «وقد لاحظت ما بدا من حذرك هذا العام، فدعوت صاحبنا الأقصري ليكون معنا، وقد رجوته أن يقنع صديقتك بمرافقتنا كذلك.» قلت: إن كان الأمر كما تقول فأنعم بها من صحبة! قال وكأنما صفعته عبارتي: «لست أفهم يا سيدتي حذرك هذا، فهل بدر مني ما يوجب الريبة؟ وهل سمعت مني كلمة خدشت سمعك؟ أم أن ذنبي بل جريمتي أنني معجب بك إعجابًا لا حد له، معجب بذكائك، وبروحك المضيئة، وبحديثك الساحر، وبكل شيء؟ ومتى كان الإعجاب جريمة يُجزَى مجترفها هذا الجزاء القاسي؟ هأنذا صارحتك بما يدور في نفسي نحوك من عاطفة، لن تزداد على الأيام إلا سموًّا، ولست أنا وحدي الذي ملكني الإعجاب بك، فكثيرون ممن رأوك أو استمعوا إليك يعجبون كيف يكون فندق الأقصر أو فندق «ونتر بالاس» مسكنًا لملاك مثلك، ولو أن ذلك كان سائغًا لشادوا لك قصرًا يحجون إليه كلما نزلتِهِ، فأمثالك اللاتي وهبهن القدر ما وهبك يا سيدتي قليلات، فلا تسرفي في التواضع، ولا تجعلي من إعجابي بك جريمة تقتضي الحذر مني، والبعد عني! إنني لا أريد أن أسمع منك جوابًا على ما قلت، فإلى بعد غد، بعد فطورك، إلى الملتقى.» وتركني وانصرف.
وتولتني إثر هذا الحديث الذي يكاد يشبه الاعتراف دهشة أذهلتني، فبقيت مستلقية في مقعدي مضطربة النفس، لا أدري ماذا عساي أفعل، فلما هدأت قمت متحاملة على نفسي إلى «ونتر بالاس»، وجلست مع صديقتي، وسرعان ما جاء الأقصري، وبعد هنيهة غمز بعينه وقال: «نحن إذن ضيوف الألماني بعد غد إلى الجانب الغربي؛ لنرى الدير البحري وما يجري فيه.»
وقالت صديقتي: «وقد ألح صاحبنا هذا عليَّ لأقبل الدعوة برغم علمه بأنني شهدت من الآثار ما لا حاجة لي بعده أن أشهد جديدًا.»
قلت في هدوء متكلف: «لقد كنت موشكة أن أعتذر لولا حرصي على صحبتكما، فإن شئتما اعتذرنا جميعًا، ولا يزال في الوقت متسع.»
قال الأقصري متحمسًا: «كلا يا سيدتي، إن اعتذارنا يسيء إلى رجل رقيق مهذب جاملنا بدعوته إيانا، ولم يسئ قط إلينا، وأنا موقن أننا سنقضي بعد غد يومًا من الأيام التي لا تُنسَى.»
وقضينا بعد غد يومًا بالفعل لا ينسى، كانت الشمس محسنة كعادتها، وكان الهواء ناعمًا رقيقًا، وتخطينا النيل في زورق شراعي انساب على هون فوق مياهه الهادئة المطمئنة، ودرنا بين آثار «طيبة الأموات» وتماثيلها ومقابرها، حتى إذا انحدرت الشمس شيئًا ما بعد الزوال تناولنا غداءنا في استراحة [الدوك]، وذهبنا بعد ذلك إلى الدير البحري، فتلقانا الفرنسي الذي يقوم بالأعمال هناك، ودار معنا في أرجاء الدير، وأرانا في مخزن إلى جانبه بعض ما عثر عليه في أثناء حفره وتنقيبه، وكان يشملنا طول نهارنا جو مودة أذهب عني الحذر، وجعلني أشكر الألماني من كل قلبي أن هيَّأ لنا فرصة هذا اليوم الممتع الظريف، وكان الأقصري يبتعد عنا أحيانًا مع صديقتي فلا أضيق بذلك ولا أنكره، إن ما صبه الألماني في سمعي من آيات إعجابه قد صادف هوى في فؤادي وأرضى كبريائي، وهو اليوم سعيد بصحبتي، يريد أن يسمع مني أكثر مما يريد أن يتحدث إليَّ، وأنا ضنينة بالكلام وهو راضٍ مع ذلك كل الرضا بما أقول، ويرتد الأقصري مع صديقتي إلى ناحيتنا، فتتولاهما الدهشة لصمتنا؛ لأنهما لا يدركان المعنى الإنساني السامي الذي تنطوي عليه جوانحنا، والذي يقرِّب بين روحينا وعقلينا، وإن لم تضطرب بسببه ذرة من أعصابنا أو جسدنا.
وعدنا حين قاربت الشمس المغيب، فأقلنا الزورق إلى «ونتر بالاس»، ورافقني الألماني إلى فندق الأقصر بعدما اعتذرت لصديقتي بأنني متعبة شديدة الحاجة إلى الراحة، واحتوتني غرفتي فأزلت عني غبار النهار، واستلقيت على سريري أستعيد صور هذا اليوم الجميل السعيد، وبهذه الصورة اتصل الحديث الذي صبه الألماني في أذني أول أمس، فازددت غبطة وسرت في عروقي نشوة أشعرتني الرضا والنعيم، وتناولت طعام العشاء في غرفتي، وأويت من جديد إلى فراشي كأنما أريد أن أستعيد هذه الصورة المنعشة المسعدة، وارتسم خيال الألماني وراء هذه الصور كأنه يحركها، وأغمضت جفني لعلي أنام، فإذا النوم يجفوني، وإذا هذه الصور تزداد وضوحًا أمامي، وإذا بي أشعر كأن هذه الصور تنحدر بي إلى لون من الحس يقشعر له بدني، ويضطرب به تفكيري، وطال ذلك بي إلى ساعة من الليل لم أدر ما هيه، وأخيرًا غفوت، ويظهر أنني قد طالت غفوتي، فقد صحوت فإذا الأطفال هبطوا مع مربيتهم إلى الحديقة، ودعوت الخادم فأقبلت تسألني ما بي؟ ثم أحضرت لي طعام فطوري، ووقفت إلى جانبي تطمئن على صحتي، وهبطت إلى البهو، وطلبت زوجي بالقاهرة تليفونيًّا، ومكثت سويعة أنتظر دعوتي لمحادثته.
وإنما طلبت زوجي لأنني شعرت بالحاجة الماسة إلى سماع صوته، بل شعرت بالحاجة الماسة إلى وجوده بجانبي، لقد رأيت في أثناء غفوتي أنني علوت أعلى هضبة في الشاطئ الغربي، وأن ريحًا عاتية هبت ساعة المغيب فدفعتني أتدحرج على سفحها، وأصيح بأعلى صوتي فلا ينقذني أحد، ولعل هذا الصياح هو الذي دعا الخادم لتسألني عن صحتي وما بي، وجعلت أتدحرج وأتدحرج، وأصيح وأصيح، ثم إذا يد محسنة وصدر حنون تلقياني، ونظرت إلى صاحب هذه اليد وهذا الصدر فإذا هو زوجي، فلما استيقظت صممت على محادثته ودعوته ليجيء إلينا.
ودُعِيت لمحادثته وسمعت صوته يسألني في انزعاج: «كيف أنتم؟ ماذا حدث؟ لماذا طلبتني؟!» قلت: «كن مطمئنًّا، إننا جميعًا على خير ما تحب، لكنني شعرت منذ تركت القاهرة أننا ظلمناك، فأنت أحوج إلى الراحة منا، إنك لم تسترح طول الصيف، فاحضر إلينا فاقض معنا أسبوعًا، فالجو هنا كفيل بأن يعيد إليك طمأنينة نفسك وراحة أعصابك، وحسبك أن ترى الأطفال يمرحون سعداء فتكون سعيدًا بهم وبي، فمتى تحضر؟ خبرني لأخطرهم هنا في الفندق.» قال: «لا شيء أحب إليَّ من أن أراكم هانئين سعداء، وسأحضر بعد يومين بالقطار الذي يصل الأقصر بكرة الصباح، وماذا تريدين أن أُحضِر لكم من القاهرة، لك وللأطفال؟» وشكرته وقلت له: إلى اللقاء. وانتهى حديثنا، وأنا أسعد الزوجات.
وأسرعت إلى «ونتر بالاس» وأخبرت صديقتي بأن زوجي سيحضر بعد يومين، وأذاعت صديقتي النبأ، وعرفه كل معارفنا ساعة الشاي، فلما أويت إلى مخدعي بعد السهرة تولاني العجب من نفسي، فلماذا دعوت زوجي؟ يجب ألا يعلم أحد أنني أنا التي دعوته، بل يجب أن يعلموا أنه هو الذي قرر الحضور من تلقاء نفسه، ويجب أن يفهم الألماني ذلك بنوع خاص حتى لا يظن أنني أردت أن أحتمي بزوجي منه، ومن نفسي، إن كبريائي لتأبى عليَّ أن أضعف، أو أن يتوهم أحد أنني عرضة لأن أضعف، يجب أن أكون دائمًا صاحبة الرأي، وصاحبة السلطان، وأن يستجيب الغير لإرادتي وسلطاني بدافع من أنفسهم، ومن غير أن أطلب إليهم شيئًا طلبًا صريحًا. فلما جاء زوجي بكَّرت لملاقاته، وبعد أن تهادينا تحية كلها الود، وبعد أن اطمأن إلى صحة الطفلين وهناءتهما قلت له: «لقد فهم الناس هنا أنك أنت الذي أردت أن تحضر بدافع من عواطفك نحونا وشوقك لنا، وراقني هذا الذي فهموا فلم أعترضه، ولا شك في أن ما فهموا من ذلك يرضيك ويسرك؟» واغتبط زوجي لفهمهم الأمر على هذا الوجه وأكَّده لهم، وأقام معنا أسبوعًا عدنا بعده إلى القاهرة.
وفي خلال هذا الأسبوع دعوت الألماني والأقصري ودعوت صديقتي لتناول الشاي ولتناول العشاء معنا بفندق الأقصر، وأعدت على مسامع زوجي أمام الألماني أنه هو الذي أهداني التذكار الذي أريته إياه في العام الماضي، وطفنا جميعًا معًا لنُرِيَ زوجي من آثار الأقصر ما لم يكن رآه، فلما اقترب موعد سفرنا، وحانت لحظة استطاع الألماني أن يحدثني فيها على حدة قال: «أرجو أن أراك هنا العام المقبل، وأرجو أن تأذني لي إذا حضرت إلى القاهرة أن أزورك هناك.» قلت: «أَوَلا تريد أن ترى زوجي كذلك بالقاهرة؟» قال: «ذلك شأنك أنت، لكنني أصبحت أشعر أنه لا غنى لي عن أن أراك وأستمع إلى حديثك ولو مرة في كل عام، ولو اقتضاني الأمر أن أحج إليك كما يحج المسلم إلى مكة والمسيحي إلى بيت المقدس ليرفع إلى ربه دعاءه، كذلك أريد أن أرفع إليك في كل عام دعائي وآيات إعجابي صادقة خالصة لوجهك الكريم!»
وابتسمت ولم أجب أمارة أنني أغتبط بذلك ولا أعترضه، وكفته ابتسامتي ليشكرني وليحمد لي أن لم أرَ في إعجابه إثمًا يوجب التثريب عليه!
وعدت مع زوجي والطفلين والمربية إلى القاهرة وأنا مغتبطة أشد الاغتباط بأن دعوته، فحضر إلينا بالأقصر، ولم يكن مرجع غبطتي أنه حماني من ضعف نفسي، فلم يكن أيسر عليَّ من أن أتغلب على هذا الضعف، وأن أخضعه لإرادتي وسلطاني، لكن هذا الأسبوع الذي قضاه بالأقصر أتاح له فرصة لا يسمح عمله بأن يتاح له مثلها في القاهرة؛ أتاح له أن يرى إعجاب المعجبين بي، أجانب ومصريين، وأن يدرك أنني لست امرأة ككل النساء، صحيح أنه يحبني ويقدرني ويستجيب لكل رغباتي، لكنه كان في حاجة إلى أن يرى ما أرى إكبارًا لي، وتقديرًا لما يجب أن يكون لي في الحياة من مكانة، وليعلم أنني يوم أردت أن ننتقل إلى السلك الدبلوماسي إنما أردت أن أسمو بنفسي وبه إلى هذه المكانة الواجبة لي وله!
أما وقد رأى بعيني رأسه هذه الهالة التي كانت تحيط بي، فقد غفرت لنفسي لحظة الضعف التي دفعتني فطلبت مجيئه إلى الأقصر، بل حمدت هذه اللحظة، واطمأن قلبي كل الطمأنينة لِمَا صنعت في أثنائها. وعاد زوجي إلى عمله، وعدت إلى حياتي الرتيبة المتشابهة التي تبعث إلى نفسي السآمة لولا هذان الطفلان العزيزان اللذان كانا مصدر سعادتي وهناءتي، ولولا أنني شعرت بأن زوجي تبدَّلت عواطفه نحوي فأصبح شديد الإعجاب بي، سريعًا إلى تلبية رغباتي في إذعان جعله لا يناقشني في شيء، بل يسبقني إلى ما أريد إذا بدرت مني أمارة تدل على إرادتي.
من ذلك أنه أظهر لي أن سكننا لم يعد يليق بنا، وأنه يبحث عن مسكن يعجبني. ومنه أن الصيف لم يكد يقترب حتى رغب إليَّ في أن أعدَّ العدة لسفرنا إلى أوروبا، وأن أعد نفسي بنوع خاص للمكان الذي ينبغي لي في المجتمعات التي نغشاها.