الفصل السادس
لم أنظر إلى اصطيافنا بأوروبا هذا العام مطمئنة النفس قريرة العين، أنا حقًّا في أشد الحاجة إليه، فهذا الجو الذي يحيط بي خانق، ولم يبقَ لي طاقة باحتماله، وأعصابي مرهقة يثيرها مس الهواء، لكن الهواجس كانت تفزعني، وتبلبل خاطري، وتزيد نفسي قلقًا، وأعصابي اضطرابًا، فما بال زوجي لا يريد أن يصحبنا إلى أوروبا؟ أي شيء يمسكه بالقاهرة ليصلى صيفها القائظ؟
وهنا ارتسمت أمامي صورة صديقتي وهي تنظر بعينيها الجميلتين الساحرتين إلى هذا الطبيب الذي وهبها كل عناية لإنقاذ ميراثها وميراث أطفالها، أَوَلا تكون هذه المرأة هي السبب في تخلفه عن مصاحبتنا وبقائه بالقاهرة؟ أنا أعلم أنها تصطاف بالإسكندرية، لكن الذهاب من القاهرة إلى الإسكندرية آخر كل أسبوع لقضاء يومين أو ثلاثة على مقربة منها والتقاءهما كلما شاءا؛ أمرٌ يسير!
وإذا أنا كنت قد فعلت ما فعلت لأمنع زواجها من صديقنا، أفأسافر إلى أوروبا وأدعها تغصب مني والد أطفالي، على حين أنتقل أنا بهما بين بلاد المياه، وفي أعالي الجبال الأوروبية الجميلة؟!
ودار بخاطري أن أعتذر عن عدم السفر، وأن أكتفي بالذهاب إلى الإسكندرية أقضي الصيف بها. وإني لأفكر كيف أصوِّر الأمر لزوجي إذ مر بي صديقنا، وأخذ يسألني عن موعد السفر وبرنامجه، قلت بعد حوار طويل: وما اهتمامك أنت وزوجي بهذا الأمر؟ كأنما تريدان إبعادي عن مصر لأمر تدبرانه؟
فبهت الرجل لسماع هذه العبارة، وقد قلتها بنغمة كلها الجد والحزم، وقال بعد هنيهة: «أوهجست بنفسك هواجس جنونية جديدة لتقولي مثل هذا الكلام السخيف؟» قلت: «فلمَ إذن لا يصاحبنا زوجي إلى أوروبا؟»
هنا تبسم الرجل ضاحكًا وقال: «إذن فاعلمي أنه استدان المبلغ اللازم لسفركم، وكنت أنا واسطته وضامنه، وهو يريد أن يشتغل في الصيف ليسدد ما استدان، أَوَيكفيك هذا العلم لتهدأ نفسك وتسكن أعصابك؟»
قلت وأنا أحاول التسكين من وساوس نفسي: «ما كان أغناه عن هذه الاستدانة وأغناني عن التعرض لهذه الهواجس! إنني لم أرغب إليه في السفر، بل هو الذي عرضه عليَّ، ولو علمت أن الأمر يقتضيه أن يستدين لما قبلته، بل لكفانا أن نقضي معًا شهرًا بأي مصيف، وأن نقيم بقية الصيف هنا في وكرنا وملجئنا»، وأجاب صديقنا مبتسمًا: «ثم تبقى أعصابك مضطربة، وحسك مرهفًا طيلة العام المقبل؛ فتجعلين حياته جحيمًا! لا تحسبي يا سيدتي أنه نسي في هذا الأمر نفسه، ولم يفكر إلا فيك، فقد ذكرت له حين طلب إليَّ التوسط في الاستدانة وضمانه فيها هذا الكلام الذي قلت أنت الآن، وعرضت عليه أن تذهبوا إلى مكان قصيٍّ كمرسى مطروح، فحدثني بلغة الطبيب الذي يعرفك خير معرفة أنك لا دواء لك إلا السفر إلى أوروبا، وأن ما يتكلفه في ذلك من النفقة أيسر عليه من بقائك فيما أنت فيه مما ينغص عليه وعلى الطفلين عيشهم، ألا ترين أنه يحسن التقدير والحساب؟ فاطرحي من خيالك المريض هواجس لا وجود لها إلا في هذا الخيال، واستقبلي سفرك بنفس راضية لتعود إليك صحتك، وليعود إلى طفليك مرحهما وابتسامهما، وسأمر بك بعد ثلاثة أيام لأعرف كيف أعددت لرحلتك وبرنامجها.»
وصدق الرجل وعده ومر بي بعد ثلاثة أيام فألفاني أكثر هدوءًا وطمأنينة، ذلك بأنني كنت قد أخذت أثق به وأطمئن إلى كلامه بعد أن أيقنت من خلال أحاديثه المتكررة أنه لن يتزوج صديقتي، ودار بيننا في رفق حديث هادئ أطلعته في أثنائه على خطة سفري وعدته.
وصحبني هو وزوجي إلى الإسكندرية حتى ودَّعاني ساعة تحركت الباخرة، فلما بعدت عن الشاطئ وغابت عنا آثاره ذهبت أستقبل هواء البحر أملأ منه صدري ورئتيَّ، مقتنعة بأن فيه الدواء الناجع لعلتي، واستنشقت هذا الهواء ملء خياشيمي، فأحسست فيه حياة تنعش قلبي، وترفع عن صدري عبئًا كان يثقله، وتمددت على مقعد طويل أرحت إلى مسنده ظهري ليكون صدري أكثر استقبالًا لهذا الهواء المحسن، وتطلعت بنظري إلى الأفق الممتد بين السماء والماء، وكأنما يتهادى مع الباخرة فوق لج البحر العظيم، وانقضت ساعة وأخرى وأنا على هذه الحال، أزداد كل ساعة شعورًا بأن الأعصاب المنهارة التي كانت تتحكم في وجودي تستقيم وتقوى شيئًا فشيئًا، ألم يقل صديقنا إن السفر إلى أوروبا فيه دواء علتي، وهأنذي أشعر بفعل هذا الدواء منذ اللحظات الأولى.
وأقبل المساء فكنت أهدأ نومًا، وتقضَّت أيامنا على الباخرة وأنا أشعر كل يوم بأنني أحسن حالًا مما كنت عليه في اليوم الذي سبقه، وكان على الباخرة سيدات رقيقات رأينني ورأين أطفالي، فكن يداعبن الأطفال ويحادثنني في مألوف ما يتحدث المسافرون فيه، فلما أصبحت اليوم الأخير والباخرة تتأهب لإلقاء مراسيها على رصيف المرفأ، جئن يودعنني، ثم قالت إحداهن وكأنها تهمس في أذني: «أهنئك من كل قلبي يا سيدتي، لقد أشفقت عليك ساعة رأيتك تصعدين الباخرة في الإسكندرية، كان وجهك شاحبًا، وملامحك متعبة، وكان الجهد باديًا عليك، وكأنما قضيت زمنًا طويلًا في غرفة مظلمة، أما الآن — ولا حسد — فوجهك مشرق، وملامحك باسمة، وكلك حيوية ونشاط.» فشكرتها وقلت: «لقد كنت أحسُّ الإعياءَ حقًّا، لقد مرت بي أحداث أرهقتني، وأشعر الآن أنني أفقت وحَيِيت.»
وسافرنا توًّا من المرفأ إلى الجبال، وأخذت أتنقل مع الأطفال من مصيف إلى مصيف، وقد نسيت كل شيء إلا أنني حييت، فلما اطمأننت إلى العافية وإلى أطفالي أخذت أستعيد هذا الماضي القريب في دهشة، وأعجب لما حدث فيه، فإذا رأيته بدأ يشغل حيزًا من تفكيري لم يكن أيسر من أن أهز أكتافي، وأعود إلى متاعي بجمال الطبيعة من حولي، لكنَّ أمرًا واحدًا لم يبرح ذهني، ذلك أمر صديقتي وعناية زوجي بشأنها وبميراث أطفالها عناية غير مألوفة، فلن تحرك الرحمة والإنسانية وحدهما رجلًا ليعرِّض نفسه إلى ما تعرَّض له زوجي من أجل هذه الفاتنة!
وفيما ننتقل بين المصايف صادفتني السيدة الأمريكية المعنية بزينة سريرها أكثر من عنايتها بزينة خروجها ونزهتها، وهي التي عرفتها الصيف الماضي إذ كان زوجي معنا في أوروبا، فقد صادفتني أسير في بهو الفندق وطفلاي يسيران معي، فلما رأتني أقبلت عليَّ وعانقتني، وأبدت من السرور بلقائي ما أنعش نفسي، وعدنا سيرتنا العام الماضي، وزدنا عليها أنني جلست وإياها على مائدة واحدة في غرفة الطعام.
وكانت تدعو بعض أصدقائها وصديقاتها أحيانًا لتناول الطعام معنا، فيتيح ذلك لنا فرصة الحديث في شئون شتى، ولهؤلاء الغربيين جرأة على موضوعات يمنعنا الحياء في مصر أن نعرض لها، ولست أنسى لهم حديثًا ترك في نفسي من بعد أثرًا عميقًا، وكان للسيدة الأمريكية فيه رأي جريء لم أجد مثل صراحته فيما سبق من مطالعاتي، فقد تحدثوا عن الحب، وعن صلات الرجل والمرأة، وأيَّد بعضهم ما يقوله الروائيون من أن الحب عاطفة يقصد بها الرجل تملك المرأة، وأيَّد آخرون مذهب شوبنهور من أن الحب أسطورة تقصد الطبيعة من ورائها إلى تخليد النوع وتحسينه، قالت الأمريكية: «أما أن الحب عاطفة يقصد بها الرجل تملك المرأة، فحديث خرافة ابتدعه الرجال إرضاء لغرورهم، فلست أعرف رجلًا تملك امرأة في غير الكتب التي يزوقها القصاصون، أما الواقع فإن النساء هن اللواتي يمتلكن الرجال، ويسخِّرنهم كما يشأن لأغراض الحياة، وقصة آدم وحواء تصور هذا الواقع خير تصوير، فحواء هي التي أرادت أن تطعم من شجرة الخلد فسخَّرت آدم لما أرادت، فأذعن لها وهو يعلم أنه يخالف بهذا الإذعان أمر ربه، والمرأة هي التي تخلق من الرجل ملاكًا أو شيطانًا حسب هواها، ترتفع به إلى الذروة أو تهوي به إلى الحضيض، وقلَّ أن كان العكس صحيحًا، والرجال أنفسهم لا ينكرون على المرأة هذا السلطان ولا يأبونه، ألا يتحدث الشعراء من أقدم العصور عن ربة الشعر على أنها مصدر وحيهم وإلهامهم، والغزل في الشعر من فنون الرجال يتغزلون به في المرأة، ويتخذونه زلفى إليها؟ وقلَّ أن روى التاريخ لامرأة شعر غزل إلا أن يكون الرجال قد زيفوه لينزلوا بالمرأة إلى مثل مكانتهم، وماذا يمتلك الرجل من المرأة فيما يزوِّر القصاصون؟ جسمها، إنه يملكه سويعة يذل لصاحبته بعدها ما عاش، وفي طبعها ما في طبع كل أنثى مما يذكره شوبنهور: أن تخلِّد النوع. والرجل يحسب أنه يتملكها حين تسخِّره هي ليتم أسمى غرض في الحياة وأرفعه، ذلك أن تخلق جيلًا جديدًا!»
قالت سيدة من الحاضرات: «إن ما ذكرته يصدق على الزواج أو على التناسل إن شئت، لكنك لم تذكري شيئًا عن الحب، والحب لا صلة له بالتناسل، بل هو عاطفة مجردة مكتفية بذاتها كالصداقة. والحب كلما ازداد تجردًا ازداد سموًّا، وكلما كان خالصًا لوجهه وحده كان رحيق العواطف وخلاصتها جميعًا.»
أجابت الأمريكية: «إن هذا الحب الرحيق الذي تذكرين، وهذه العاطفة السامية المكتفية بذاتها، حب ملائكي لا يعرفه بنو الإنسان، وهو على كل حال ليس الحب الذي يذكر القصاصون أن الرجل يقصد به إلى امتلاك المرأة، ولئن وُجِد هذا الحب الملائكي بين شاب وفتاة، أو بين رجل وامرأة، ونذر كلاهما لله أو للعذراء ألا يقرب أيهما صاحبه، وألا يكون بينهما قط شيء من صلة الجسد، إنهما إذن لمن أتقى أبناء الكنيسة الكاثوليكية البررة المطهرين، وليسا من أبناء عالمنا نحن، عالم الحياة والتجدد. أما حب الرجل والمرأة في عالم الحياة، فغايته إنشاء الشركة اللازمة لأداء واجب الحياة على خير وجه، ووسيلته التجانس والتجاذب بين الشريكين على نحو يكفل انتقاء أحسن بذرة للتربة التي تصلح لها، والتي تتكفل هذه الشركة بتعهد ثمراتها، هذه صورة مادية قد لا ترضي الخيال الشعري، لكنها الصورة التي تنتقل مع تاريخ الإنسانية منذ عرفنا تاريخ الإنسانية، فالتشريع الذي وضعه الرجال في مختلف العصور يقررها، والواقع الذي تراه أعيننا يشهد بها، فإذا أراد رجل أو أرادت امرأة أن تسمو على هذه الصورة المادية فقد أنكر كلاهما واجب الحياة وتنكَّر له، وهذا — مع الشيء الكثير من الأسف — ما تيقنته أنا بعد تجارب كثيرة مريرة.»
قلت ملقيةً الكلام إلى الحاضرين من غير أن أوجهه إلى أحد بذاته: «والغيرة، ألها صلة بالحب؟ أم أنها مستقلة عنه قائمة بذاتها؟»
قالت الأمريكية وكأنما حرك هذا السؤال عندها شجنًا دفينًا: «غيرة المرأة عاطفة طبيعية باعثها الدفاع عن النفس، وعن المُلك، فالمرأة — كما ذكرت — تملك الرجل الذي تحب وتحرص على ألا تفرط فيه، وهي لذلك تحوطه بالعناية التي يحيط بها الإنسان أعز ما يملك، وهي تعتبر ماله ملكها، وصحته ملكها، وقلبه ملكها، وسمعته ملكها، ومكانته في المجتمع ملكها، فإذا حاولت امرأة غيرها أن تغصب هذا الملك منها فمن حقها أن تدفع هذا الاعتداء بكل وسائلها، وفي مقدمة هذه الوسائل أن تنصب شباكها حول الرجل نفسه حتى لا يفلت منها، فإن نجحت فذاك، وإن تغلبت عليها غريمتها أو حاول رجلها أن يفر منها، فمن حقها أن تعلن عليهما حربًا شعواء، قد تكون الهزيمة في هذه الحرب نصيبها، ولكن خوف الهزيمة لا يجوز أن يثنيها عن النضال، فلا تفرط في قيد أنملة من ملكها إلا مغلوبة على أمرها، وإذا هُزِمت مع ذلك فلها العذر، ولها من استماتتها في النضال عن ملكها عزاء عن فقده آخر الأمر، وإن لم يردَّ هذا العزاء فائتًا، ولم ينجها من أن تغرق نفسها فيما يذيب الهم ويذهب الحزن.»
قالت الأمريكية عباراتها الأخيرة وقد شردت نظراتها، وانخفض صوتها، وكأنما حركت نفسها هواجس ماضٍ قاست فيه أهوالًا، وانهزمت فيه بعد دفاع طويل مجيد، عند ذلك أدركت حرصها على الشراب، تغرق فيه همها، وقد رأيتها ذلك اليوم أشد إكبابًا عليه كأنما هاجت الذكرى أشجانها، فاستعانت بالشراب على نسيانها، وخشيت أن يعاودها من هذه الذكرى رجع يثير من نفسي ما لا أريد أن يثور، وأنا حريصة على أن أفيد لصحتي ولأعصابي ولكل حيويتي من هذا الاصطياف ما استطعت، فانتقلت إلى مصيف آخر أكثر مرحًا، وأخذت أعبث أنا وأطفالي وأرتع معهم، نرتفع إلى قُنَن الجبال، ونلعب في الثلوج البيضاء المتراكمة عليها، ونهبط إلى الوديان نستمتع بخضرتها ومياهها، وننتقل ثم ننتقل حتى لا يدع لي المقام في مكان واحد فرصة للتفكير في غير المرح والمتاع.
وعدنا آخر الصيف إلى مصر، واستقبلنا زوجي على ظهر الباخرة أول ما أرست بالإسكندرية، وفرح الطفلان بأبيهما فتعلقا بعنقه وأخذا يقبِّلانه، فسألني هو كيف أمضينا صيفنا، فذكرت له طرفًا مما رأينا، وذكرت الأمريكية التي زارها معي العام الماضي في غرفة نومها، ولكني لم أذكر شيئًا من أحاديثها وأحاديث أصحابها، وسألته بدوري كيف قضى صيفه؟ ورجوت ألا يكون قيظ القاهرة أرهقه، وأجابني أنه استطاع أن ينتهز فترات جاء في أثنائها إلى الإسكندرية يستريح من عناء العمل، ويستنشق هواء البحر يُسَرِّي به عن نفسه، ويعتاض به من قيظ بلغت درجته الأربعين في بعض الأيام، وذكَّرتني زوراته الإسكندرية حيث مصطاف صديقتي بهواجسي قبيل سفري إلى أوروبا، على أني آثرت الصمت فلم أقل شيئًا.
وانتقلنا إلى القاهرة، وجاء صديقنا يحمد الله على سلامتنا، فأبدى اغتباطه بما أفدت لصحتي من رحلتي، وسروره بما عاودني من سكوني وطمأنينتي، وتقضت أوائل الخريف بعد ذلك رتيبة متشابهة تبعث إلى النفس السأم والملال، فلما كنت في الأيام الأولى من شهر ديسمبر أقبل زوجي يومًا يذكر لي أن جماعة من أصدقائه الذوات، سيدات ورجالًا، يريدون أن يستمتعوا تلك الليلة بضوء القمر عند سفح الأهرام، وأنهم يدعوننا لمشاركتهم في هذا المتاع، وأنه ذكر لهم أن مثل هذه النزهة الليلية غير مألوفة لي، فألحُّوا عليه في أن يقنعني بمشاركتهم وقبولي دعوتهم، وأنه وعدهم أن يفعل، وسألني بمَ يجيبهم، قلت: وما رأيك أنت؟ فأنا في هذا الأمر على ما تحب، إن شئت ذهبنا وإن شئت اعتذرنا.»
وإنما أردت بهذا الأدب الجم أن ألقي عليه كل التبعة، على أنني كنت أود من كل قلبي أن يقبل هذه الدعوة، فهي لون جديد من الحياة يشوقني أن أعرفه، وأصحابها طراز من الجمعية القاهرية الراقية يسرني أن أتعرف إليهم، ولقد كنت فوق هذا وذاك أفكر في الوسيلة التي أسترد بها زوجي إلى حظيرتي، فلا يبقى لديَّ خيال شك في تعلقه بصديقتي، وقد استبد بي هذا التفكير بعد أن ذكر حين استقبلنا على الباخرة بالإسكندرية أنه جاء من القاهرة إليها غير مرة في أثناء غيابنا في أوروبا حين كانت صديقتي تصطاف بها، فإذا قبلنا هذه الدعوى فتحت أمامي بابًا أنفذ منه للغرض الذي أقصد إليه.
وبدا على زوجي بعض التردد بعدما ذكرت أني تركت الأمر له. قلت: «فيمَ تتردد؟ إن لم يكن في هذه الدعوة ما يغريك فلا أيسر عليك من أن تعتذر عنها، وكل الذي أرجوك فيه ألا تحتج في اعتذارك بي حتى لا يفسر القوم ذلك تفسيرًا يسوءني، تستطيع إن شئت أن تحتج بعملك، فأنت طبيب معرض لأن تُطلَب في كل وقت، أما إن راقك أن تقبل الدعوة فأبلغ أصحابها شكري إياهم، واغتباطي بالتعرف إليهم.»
وسكت زوجي هنيهة ثم قال: «أما وأنت لا ترفضينها فأنا أقبلها، وسأبلغهم ذلك الساعة، وإنني لواثق من أنك ستُسرِّين بمعرفتهم، فهم غاية في الرقة رجالًا ونساء، وقد أبدوا من الحرص على التعرف إليك ما شكرتهم عليه، وإنني لواثق من أنكم ستصبحون أصدقاء عما قليل.»
ما أشد غبطتي وما أسعدني بما قال! فهذا يتفق مع ما دار بخاطري، وما فكرت فيه من وسيلة أسترده بها إلى حظيرتي، لا بد أن أثير الغيرة في نفسه حتى لا يظل متوهمًا أنني لا أعرف غيره، ولا أحب غيره، ولا أقدر غيره، مما دعاه إلى الاكتفاء نحوي بأداء واجبه ربًّا لأسرتنا، وأن يتناسى شخصيتي وما حباني القدر من مواهب يعجب بها غيره أشد الإعجاب.
وأقبل المساء وأشاع القمر بضيائه الرطب الندي معاني النعيم في أجواء القاهرة، واشتملها كلها، وتزينت لهذه النزهة الصحراوية زينة جمعت إلى البساطة الإغراء. ودق التليفون، وقال زوجي إن القوم في طريقهم إلينا، فهبطنا إلى الطابق الأول حتى إذا سمعنا نفير سياراتهم خرجنا إليهم فألفيناهم نزلوا من السيارات لتحيتنا، وتعرفت إليهم، ودعاني أحدهم لأجلس في سيارته إلى جانبه وهو على عجلة القيادة، وذهبت زوجه في سيارة أخرى، وتفرقنا حتى لا تجلس زوجة مع زوجها في سيارة واحدة، وانطلقنا مسرعين حتى إذا بلغنا طريق الهرم سرنا على هون مبطئين، وما كان لنا ألا نفعل، فقد سكب القمر على ما حولنا من المزارع والمساكن أمواجًا من نور غمرت ما بين السماء الأرض، وجعلتنا نسبح منها فوق أثير شعري رقت معه قلوبنا، وسمت عواطفنا حتى كادت تلتقي وتتعانق، قلت لزميلي في السيارة: «لست أدري كيف أشكر لكم هذه الدعوة، فلست أذكر أني رأيت القمر أبهى سنًا، وأروع جمالًا في هالته البديعة مما هو اليوم، لقد طالما اجتزت هذا الطريق في ضوء عاشق السموات فلم أره يرنو إليَّ ويحدثني بمثل هذه اللغة التي يحدثني بها الليلة؟»
وأجاب صاحبي: «أنت يا سيدتي التي أوحيت إلى القمر كل هذا الشعر الذي يوقع لنا الليلة أنغامه، وسترينه على سفح الأهرام، وعلى وجه أبي الهول أروع شعرًا وأبدع إيقاعًا بفضل وحيك وإلهامك.» واتصل بيننا بعد ذلك حديث رقيق حرصت ما استطعت على أن يزداد ظرفًا ورقة وسحرًا، فإذا تحدث الرجل بعد ذلك عني حديثًا بلغ سمع زوجي عرف أنه ظالمي، وأن من حقي أن أثور بهذا الظلم.
وبلغنا سفح الأهرام، وأوغلنا في الصحراء، ثم تركنا السيارات وأخذنا ننعم في هذا الجو الشعري الساحر بأعذب ألوان الحس، كنا نتطلع إلى ناحية الأهرام فنراها قد كساها القمر من ضيائه حلة زادتها بهاء ومهابة ورهبة، ثم نتطلع إلى رمال الصحراء المتموجة تحت أشعة القمر في ارتفاع وانخفاض يخلقان منها بحرًا لُجِّيًّا وإن لم يصطخب له موج، وإن كان صامتًا صمت الليل، ونرتفع ببصرنا أحيانًا إلى السماء فإذا الجو كله معطر بعبير هذه الساعة اللذيذة المنعشة، وإذا القمر قد أذاب في هذا الجو نورًا مطمئنًّا تستريح له العين، وينهل منه القلب، وتنتشي بسحره العواطف، ويعبث الهوى في أثنائه بالأفئدة بين الجوانح.
وسرعان ما أقام القوم مرقصًا على أنغام أسطوانات جلبوها وجلبوا «فونوغرافها» معهم، وشاركت وشارك زوجي بطبيعة الحال في الرقص، وإن لم نرقص مرة واحدة معًا خلال الساعات المتعاقبة التي شهد فيها ساهر السموات هذا المرح السابغ المجنون، وقد ألقيت نفسي في أثناء هذا الرقص بين أذرع الرجال من أصحابنا جميعًا، وجعلت أكثر رقصاتي مع زميلي في السيارة، وكنت في أثناء رقصي معه أتابع الأحاديث الحلوة التي بدأناها في طريق الهرم.
فلما أخذنا من الرقص حظنا كاملًا، جلسنا على سجادة جيء بها لهذا الغرض، وتناولنا طعامًا خفيفًا نكظم به صيحات معداتنا بعد أن هضم الرقص ما كانت تحتويه، وجعل القوم في أثناء الطعام يثنون أطيب الثناء على رقصي، وينسبون لقوامي البارع أكبر الفضل فيه.
وعدنا أدراجنا بعد أن شكرت القوم من كل قلبي لأنهم أتاحوا لي فرصة متاع لا عهد لي بمثلها من قبل، وأجاب القوم بأنهم هم الذين يشكرونني لأني دفعت إلى سهرتهم من حيويتي ومن رقتي حياةً ورِقَّةً لم يعرفوهما فيما سبق لهم من مثلها.
وانطلقت السيارة بي وبزوجي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فلما شعرت أني وإياه في خلوة قلت: «ألم تحدثك نفسك طيلة ساعات الرقص أن تطلبني لرقصة معك؟» وكأنما أدهشه سؤالي هذا فأجابني: «لقد رأيتك في أثناء الرقص كله في غبطة لم أرد أن أفسدها عليك، أو أنتقص منها.» قلت: «لست أنكر أنني اغتبطت بهذه النزهة الساهرة من أولها إلى آخرها، لكنك كنت أكثر مني اغتباطًا، فقد رأيتك تائهًا في أحلام أفسح سعة من الصحراء، وأقسم أنني لم أكن خطرت بأحلامك، ولو أنني خطرت بها لدعوتني ولو مرة واحدة إلى الرقص معك.»
وأجابني وكأنما أخذ لهذا الجواب عدته: «لكن ذلك لم يكن يليق، فنحن مدعوان إلى هذه الحفلة، فيجب ألا يشعر أصحابها بأنا ننكمش عنهم إلى ناحية لحظة واحدة، ولأي اعتبار.» قلت: «وما لهم لم يرعوا ذلك فيما بينهم، فقد راقصت كل سيدة زوجها مرة على الأقل، أما أنت فقد تعمدت إهمالي لغرض لا أفهمه.» وأدرت وجهي غاضبة، واستمر هو يقود السيارة إلى منزلنا.
ومر بي صديقنا الغداة فقصصت عليه أنباء سهرتنا وما دار بيني وبين زوجي حين عودتنا، فابتسم وقال: «مسكين زوجك! إنه رجل طيب، ولكنه لا يفهم العواطف كما تفهمينها، هي ليست في نظره لونًا من ألوان الفن الجميل الذي يشهد الناس صوره المختلفة على المسرح، ولكنها بعض واجبات الحياة الزوجية يؤديها الرجل فيما يبديه من عناية براحة زوجه وأولاده، وعذره عن هذا الفهم أنه فلاح، هو من أبناء الأعيان يرون الحب المسرحي عيبًا غير لائق بالناس الطيبين، وهو مقتنع بأنه يؤدي لك ولطفليك ما لكم عليه من حق، ويحسب أنه يؤدي هذا الواجب على الوجه الأكمل، وهو يظهر لي دهشته أحيانًا، ويسألني: أمقصر هو في حقكم في شيء برغم ما يحمِّل نفسه من أعباء يخشى أن ينوء بها يومًا من الأيام؟»
وقلت في نفسي: «نعم، هو فلاح وفيه خبث الفلاحين، وكل ما درسه، وكل ما رآه في أسفاره إلى أوروبا، وكل ما تعلمه من معاشرة الذوات وأبناء الذوات لم يغيِّر طينته، وإن أسبغ عليه طلاء ظاهرًا من الثقافة والتمدن، فإذا حك هذا الطلاء ظهر الفلاح بقسوته وضعفه وخبثه، ألا يتزوج أحدهم زوجة ثانية ثم لا تعلم زوجه الأولى بما فعل سنين متعاقبة؟! وما يدريني لعله تزوج صديقتي، وهو — لا ريب — يحبها وإن لم يتزوجها، إن هذه الطيبة التي يتظاهر بها ليست إلا ثوب رياء يستر به مكره وخبثه، أفلا يجمل بي أن أحاربه بمثل سلاحه، فأظهر غير ما أبطن، علِّي بذلك أستل منه سره، وأقف على مكنون صدره؟»
وفي الغد كان القمر بدرًا كاملًا، فاتفقنا مع أصدقائنا الذوات على أن نوغل في الصحراء، وأن نجعل الاستراحة القائمة في منتصف الطريق بين القاهرة والإسكندرية غايتنا، وقضينا وقتًا ناعمًا استمعنا فيه من «الجراموفون» أحلى الأغاني وأعذب الأنغام، وتناولنا من الأحاديث، كل جماعة في ناحية، ما أرضى هوانا وأمتع أرواحنا وقلوبنا، ألا ما أروح الصحراء في ضوء القمر! أنت منها في لجة تجمع السماء والهواء والأرض في غلالة من غمام مضيء، لا تعرف العين له بداية ولا نهاية، ولا تعرف أين منه مساكن الشياطين، وأين منه منازل الملائكة؟ كل شيء فيه مبهم أمام العين، واضح أمام البصيرة تقرأ سطور الغيب في لوحه المحفوظ، فأنت تشعر وأنت في هذا المحيط الباهر الوضَّاء كأنما كُشِف عنك غطاؤك، وكأنما اتصلت على موج الأثير بعوالم الكون جميعًا وهي مع ذلك محجوبة عنك، لا ترى فيها الدقائق التي ترى في وضح النهار، وأنت مع ذلك معجب بما ترى، تحسب أنك استبطنت أسرار الكون، وعرفت منها ما كان وما يكون!
وعدنا أدراجنا حين تكبد القمر السماء، وإننا لننهب الطريق إلى القاهرة إذ وقفت إحدى السيارات، واندفع نفيرها يعلن نداء الاستغاثة، وفي لمح البصر اجتمعت السيارات كلها حول السيارة المنكوبة، ونزلنا جميعا رجالًا ونساء نتساءل: ما أصابها؟ ولم يكن العطب فادحًا، إنما هي عجلة انفجرت ويجب تبديلها، يكفي إذن أن يتعاون رجلان في هذه المهمة، وكان أحد الرجلين زوجي، وانصرفنا جميعًا نستمتع من جديد بالهواء المنعش، والضياء الرقيق، والحديث العذب، والضحكات الناعمة تتأرجح على أرج النسيم فتنتشي بها أسماع الرجال نشوة تترجمها بسمات ثغورهم، وبريق عيونهم.
وكنا إذ ذاك في طريق الصحراء على بضعة كيلومترات من طريق الهرم، فلما استعادت السيارة المنكوبة مقدرتها على السير ركبت كل سيدة مع زوجها حتى بلغنا منازلنا.
لذَّ لي عيش هؤلاء الذوات، واستراحت نفسي للون حياتهم، وأعجبني فيهم ظرفهم وحسن ذوقهم في الحياة، ولطف مسلكهم فيها، وارتبطت لذلك معهم بأوثق صلة، ولقد كنا حين لا يسعفنا ضوء القمر بسهرات في الهواء الطلق نؤثر أن نجتمع في منزل من منازلنا نقضي فيه سهرة لا تقل عن سهرات الصحراء متاعًا ومرحًا، كنا نرقص ونغني ونستمع إلى الموسيقى تثير من ألوان الطرب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا عدت مع زوجي إلى منزلنا في الهزيع الأخير من الليل كان الجهد قد أخذ منا، فنمنا إلى الضحى، فإذا استيقظت علمت أن زوجي قد بكر إلى عمله كعادته، وأمر ألا يزعجني عن فراشي أحد.
ولم أكن أحسب أن هذا اللون من حياة الذوات باهظ النفقة، لكني سرعان ما تبينت خطئي، فالولائم والأزهار النادرة والحلي والثياب وما يتصل بذلك من ملحقاته لا ينتهي حين يبدأ، ولا تنتهي نفقاته، ونحن نعيش من قبل عن سعة اضطرت زوجي للاستدانة سدًّا لنفقات سفرنا إلى أوروبا، وليس في مقدورنا الآن وقد عرفنا هذه الألوان الجديدة من الحياة، وتعرفنا إلى أصحابها أن نرتد عنها، حتى نترع منها ويفيض بنا كأسها، ولم يَدُرْ بخاطر زوجي أن يخالفني في ذلك حذر المستقبل، ولعل عقله الباطن هو الذي صده عن أن يفعل مخافة كلام الناس، إنه يحسب أنه انتقل بي إلى مصاف الذوات، ومن العار عليه أن يرتد بي عن هذه الصفوف خشية إملاق، فالله يرزق من يشاء بغير حساب، أليس صاحبه المليونير كان إلى بضع سنوات متواضع الثراء، وكان يقترض منه ثم يرد له ما اقترضه، فما ضره وقد أصبح الرجل مليونيرًا أن يقترض هو منه في انتظار أن يسد الله عنه دينه؟
ولكن كيف يحتال لذلك من غير أن يجرح إباءه الذاتي؛ دعا المليونير إلى وليمة فاخرة عندنا، وأوصاني أن أبالغ في اللطف معه، والتودد إليه، وحسن اللقيا لزوجه، ولم أجد في تنفيذ الوصية مشقة؛ فقد أعجبتني هذه الزوج، وحلَّت أجمل مكان من نفسي، فبالغت في تحيتها عن رضًا مني، واطمئنان إليها، وكان المليونير قليل الكلام، كثيرًا ما يغيب بذهنه عن المجلس، وكأنه يفكر في مشروعاته وحساباته، وقد بذلت جهدي لاستدراجه إلى الكلام في الشئون الجارية مما تنشر الصحف أو تتداوله المجالس، فكان يحصر ذهنه ليحسن الإصغاء إليَّ، ثم يحييني في عبارات موجزة جدية محكمة.
وزرنا الرجل بعد ذلك وتردد علينا، لقد طالما سمعت عنه من رجال ذوي ثقافة أنه محدود الأفق لا يستطيع أن يسمو بعقله فوق الماديات، وفوق ما يتناول الناس من منافع الحياة، وقد أردت أن أسبر غوره لأعرف مبلغ ما في هذا الكلام من دقة وصدق، فدلني ما شهدت على صحته، لكني رأيت ذلك التفكير المادي الذي ينسبونه إليه واسع المدى إلى غير حد، إذا تكلم في أحد مشروعاته تناول تفاصيله في دقة غاية الدقة، وقص ما أنفق للحصول على هذا المشروع من جهد ومال قَصَصًا يستهوي اللُّب، ويكاد يذكِّر الإنسان بالقصص البوليسية، وهو يؤمن بالمال إيمانًا لا حد له. وقد ذكرني إيمانه هذا بغنيٍّ آخر نعرفه جعله الإيمان بالمال شحيحًا غاية الشح، إلا أن يكون له من وراء السخاء منفعة مادية، هنالك ينفق عن سعة ولكن بحساب، عابه أحد أصحابه يومًا لعبادته المال وحرصه عليه، وكان صاحبه هذا مولعًا بالتحف والصور الزيتية ينفق في اقتنائها الشيء الكثير، وكان جواب الغني الشحيح على ما عابه به صاحبه صريحًا واضحًا، قال: «أوتستطيع أن توضح لي سبب اقتنائك هذه الصور التي تزين جدران بيتك، وهذه التحف الكثيرة المنشورة في أرجائه، وهي تكلفك الألوف؟!» ودهش صاحبه وقال: «عجبًا لك يا أخي! ألا تعرف شيئًا اسمه الجمال وذوق الجمال والمتاع به، إنني إذ أقف أمام هذه الصور وهذه التحف أتأملها أشعر بمتاع يتضاءل المال إلى جانبه، ويهون في سبيله، إنما المال يا أخي وسيلة للمتاع بالحياة وجمالها، فإذا نحن لم ننفقه واكتنزناه لم نعرف للجمال قدرًا، ولم نُسِغْ للحياة طعمًا.» قال المؤمن بالمال: «إني أوافقك على كل ما قلت، ولا أخالفك إلا في استنتاجك الأخير، أنت تعشق الجمال، وترى في اقتناء الصور والتحف — وإن كلفتك من المال ما كلفتك — وسيلتك إلى المتاع بالحياة، وأنا أرى في المتاع بالحياة رأيًا آخر؛ إني حين أتناول كشف حسابي من البنك آخر كل شهر وأرى رصيدي فيه يزداد، أشعر بمزيد من العزة والسلطان يضاعف متاعي بالحياة، ولا تثريب عليَّ ولا عليك إذا اختلف ذوقنا في المتاع بالحياة، واختلفت وسيلتنا إلى هذا المتاع.»
ولم يكن للمليونير كذلك إيمان عميق بغير المال، فكان غرامه بالنساء هوى طارئًا لا عمق فيه، وكان تعلقه بمتع الحياة سطحيًّا لا يعنيه منه إلا المظهر البادي للناس يُرضي به غرور نفسه وكبرياء سلطانه، كان لكاتب صحفي دالة عليه، ولقد زاره يومًا وأخذ يتحدث وإياه في أمور جارية لا نتيجة لها، ودخل السكرتير وأخبر المليونير أن أحد أصحاب الدولة السابقين يستأذن عليه، وكان صاحب الدولة السابق هذا عضوًا منتدبًا لإدارة شركة من شركات المليونير، وأجاب الرجل سكرتيره: «قل له فلينتظر فلي حديث معه»، فلما انصرف السكرتير قال الصحفي: «ليس بيننا حديث ذو شأن حتى تُنظِر رجلًا في مقام صاحب الدولة هذا»، وكان جواب المليونير: «بالله عليك خبرني، أتحسب أني — ولي من الثراء ما لي — آكل خيرًا مما تأكل، أو ألبس خيرًا مما تلبس، أو أنام في فراش أوثر من فراش نومك؟ لا شيء من كل هذا، فأي قيمة للثراء إذن إذا لم أشعر أني أستطيع بفضل سلطانه أن أدع صاحب الدولة هذا وأمثاله ينتظرونني إن أمرت، ويدخلون عليَّ إن شئت؟»
كنت قد سمعت هذه القصة، وخشيت أن ينال زوجي ما نال صاحب الدولة يوم يعلم المليونير أنه يطمع منه في قرض، على أن زوجي لم يخبرني من ذلك بشيء، ولم أسأله أنا عن شيء، لكني لاحظت بعد أن تم القرض أن المليونير قل تردده علينا، وكان أكثر مجيئه حين يكون زوجي في عمله، وكنت ألقاه متلطفة في مودة، فإذا عاد زوجي من عمله أخبرته بمجيئه، وقصصت عليه ما دار بيننا من حديث، فلا يعلق على ذلك بكلمة، وكأن رجلًا لم يقابل زوجه، ولم يقل لها عبارة مجاملة.
أدهشني هذا الجمود من زوجي؛ فلا تحركه أية غيرة عليَّ، أنا التي فعلت ما فعلت لغير شيء إلا لعنايته بميراث صديقتي وأطفالها، أتراني أحبه وهو لا يحبني؟ أم أنه طراز من الرجال لا يعرف كيف يعبر عن حبه برغم تعلقه بي؟ أنا لا أطلب إليه أن يكون شاعرًا يتغزل فيَّ، ولكني أريد منه أن يتحدث إليَّ ويصغي لحديثي في إعجاب كما يفعل صديقنا، وكما يفعل غيره من الرجال الذين يقضون الساعات مصغين وعيونهم تناجيني في صمت وإذعان، ألا تعسًا ليوم ربط الزواج بيني وبينه فيه! ولكن ماذا عساي أن أفعل وهذان الطفلان يوثقاننا في رباط يتعذر الفكاك منه؟
ولم أكن أستطيع أن أشكوه إلا لصديقنا، فزوجي اليوم طبيب مشهود لطبه بين زملائه وبين مرضاه، ولو أنني شكوته إلى أبي لرماني بالجنون، ولنسب جنوني إلى خلة ورثتها من أمي، فذلك دأب الرجال ينسبون فضائل ذريتهم إلى ما ورثوه منهم، وينسبون عيوبها إلى ما ورثوه من أمهاتهم؛ ذلك شأنهم ولو كانت الأم لا تزال معهم وكانوا لا يزالون يحبونها، ما بالك بهم إذا انفصلت الأم عنهم أو ماتت وحل غيرها محلها عندهم؟!
والآن ماذا أفعل إزاء ذلك الجمود الذي يلقاني به زوجي؟ إنه لا يزيد على أن يسألني عن حاجاتي وحاجات أطفالي، فإذا ذكرتها قضاها أو أتاح لي فرصة قضائها، لكنه لم يُعنَ يومًا بثوب جديد أرتديه، ولا بقبعة ألبسها، ولا بحذاء أنتعله، ولم يقف أمام شيء من ذلك مثنيًا في إعجاب، وهو إنما يتحرك بعض الشيء للجديد الذي يلبسه الطفلان، هذا وما حباني به القدر من جاذبية استهوت كثيرين لا يحركه نحوي، ولا يثير غيرته عليَّ، وقد حاولت أن أحرِّك هذه الغيرة في نفسه في أثناء مرحنا في الليالي القمرية التي نعمنا بها مع أصدقائنا الذوات فلم أنجح، أتراني انهزمت، ويجب أن ألقي سلاحي؟! لكنه لم يجرحني يومًا بكلمة ولم يُغضِ يومًا عن تلبية رغباتي ما استطاع، ولم تتغير معاملته لي قط، ولم أعلم من صلاته بصديقتي ما يثير شبهاتي، وإن أثار غيرتي.
ولم يكن صديقنا يزيد حين أذكر له ما يعنيني من خلجات نفسي على أن يسخر مني ومن نزعاتي الخيالية نحو رجل لم يهبه القدر ذرة من نعمة الخيال، وانتهى بي الأمر إلى أن أستسلم للمقادير، وأن أذعن لقضاء الله فيَّ.
وأقبل الصيف فقضى زوجي جانبًا منه في ربوع لبنان، وبقيت أنا وأطفالي بالقاهرة، والعجيب أنه كان يحدثني كل يوم بالتليفون من مصيفه يسأل عن صحتنا وحاجاتنا، مما يشهد بشديد عنايته براحتنا وطمأنينتنا، وعظيم حرصه على أن يطمئن علينا، أم تلك نعرة الفلاح يريد أن يتظاهر أمام أصحابه الذين يصطاف معهم بأنه أكثرهم جميعًا برًّا بأهله وعطفًا عليهم؟
وبقيت في حيرتي، تضيق نفسي أحيانًا، وتدفعني إلى الثورة على ما أنا فيه، وأستسلم أحيانًا أخرى إشفاقًا على طفليَّ أن يصيبهما من ثورتي ما يفسد حياتهما. وأفكر في أثناء ثورتي وأثناء استسلامي في هذا القضاء الذي نزل بي، وفرضته الأقدار عليَّ، والذي جعلني أضطرب في حياتي ولا أعرف لها مستقرًّا.
وهداني تفكيري آخر الأمر إلى خطة رسمتها، واعتزمت تنفيذها، فما الذي يمسكني في هذا الوضع؟ هو شعوري بأنه مفروض عليَّ ولا فكاك لي منه، ومبعث هذا الشعور حرصي على مستقبل الطفلين، فلو أنني تخلصت من هذا الشعور واسترددت استقلالي لاستطعت أن أصور حياتي على ما أريد، وأن أطرح كل ما أضيق به، فكيف أبلغ هذه الغاية، وأحقق هذا الغرض؟
فكرت أولًا وقبل كل شيء في أمر الطفلين، وقررت أني لن أتخلى بحال عنهما وأدعهما لأي سبب لأبيهما، هما منعاني من الانتحار مخافة يُتْمِهما، فليس يجوز أن أراهما بعيني يتيمي الأم وأنا على قيد الحياة؛ إنهما يتقدمان الآن من الطفولة إلى الصبا، وهما مبعث سروري ومصدر ما أشعر به أحيانًا من السعادة، فمن الحمق الذي لا حمق بعده أن أحرم نفسي منهما، وأحرمهما من حناني وعطفي، وهما لن يشعرا قط بالحرمان من أبيهما، فعمله يشغله عنهما، وهو قليلًا ما يراهما، لا بد لي إذن من أن أحتفظ بهما، وأن أبذل في سبيل ذلك كل ما أستطيع بذله.
ثم يجب أن أوفر من المال كل ما أستطيع ليكون سندي في تنفيذ خطتي؛ ولهذا فتحت لنفسي حسابًا خاصًّا في البنك، جعلت أودع فيه كل ما يصل إليَّ من والدي، وكل ما أقتصده من نفقات المنزل ومن أي مصدر أحصل عليه لي وللطفلين، قد لا يكون ذلك وفيرًا، وقد يحتاج اقتصاد مبلغ ذي قيمة إلى سنوات، لكن الخطة التي رسمتها للنضال كان أساسها الصبر والاحتمال، فليس يسيرًا أن ينجح في نضال من ليس يستطيع الصبر، وأنا بعدُ أدافع عن حريتي وعن كرامتي، وذلك نضال لا أذكر أن مصرية سبقتني إليه، بل قلَّ أن سبقتني إليه في غير مصر امرأة يحيط بها وبمجتمعها ما يحيط بي من ظروف.
وكانت الخطوات الأولى لتنفيذ هذه الخطة بطيئة بالفعل، انقضت الشهور الأولى ولم أستطع أن أقتصد شيئًا يذكر، وشعرت إثر انقضائها بشيء من اليأس في نجاح ما اعتزمت، وبدا لي أني لو سلكت خطة أخرى، فهاجمت زوجي في سمعته الطيبة — وبخاصة فيما يتصل بعنايته بصديقتي وبميراث أطفالها — فقد أختصر الطريق إلى غايتي، ولعلي أشرت إلى شيء من هذا في حديث جرى بيني وبينه في نوبة غضب لم أملك معها صوابي، فقد جاءني صديقنا يومًا متجهمًا، فلما سألته عن سبب تجهمه قال: «هو هذا الجنون الذي قام برأسك وجعلك تهددين زوجك بتحطيم سمعته، بل بتحطيم حياته، أوَلا تعلمين أن ما يمس زوجك يمس طفليك في صميم حياتهما؟ إنهما ابناه رضيت أنت أم أبيت، فإذا حاولت أن تشوهي سمعته أو تحطمي حياته فاعلمي أن الحجر الذي تقذفينه يصيبهما قبل أن يصيبه، ولن يقول الناس يومئذ إنك زوج غاضبة أو عاقة، بل سيقولون إنك أم شريرة، وقد يقولون أكثر من هذا، وقد جئتك الآن لتقسمي أمامي بحياة طفليك أنك لن تجازفي بشيء من هذا الجنون، الذي يضر بك قبل أن يضر بأي إنسان آخر، ولن أقبل يمينًا أخرى غير حياة هذين الطفلين العزيزين عليك، فأنا أعلم أنهما أعز عليك حتى من نفسك.»
ووجمت برهة غير قصيرة تردد في أثنائها أمام خيالي طيف الطفلين؛ فانحدرت من عيني دمعة قلت بعدها: «أعدك بألا أفعل، وأرجوك في ألا تلحَّ عليَّ في هذا القسم الذي تطلب، فلن أستطيع أن أقسمه، لكن هذا الوعد الذي بذلته لك وعد قطعته ولن أخل به إلا أن يكون ذلك بعلم منك.»
ويظهر أن موقفي هذا قد كان له أثره، فقد بدأ زوجي يسخو في النفقة سخاء لم يكن لي به من قبل عهد، لم أكن أطلب شيئًا للمنزل أو لي أو للطفلين إلا أجابني إلى ما أطلب، ووضع في يدي من المال أكثر مما أرغب فيه، بذلك بدأت خطتي المرسومة تنجح على نحو لم أتوقعه، وبذلك أخذ رصيدي الخاص في البنك يزداد شهرًا بعد شهر، وأخذت أشعر أنني أمهد بالفعل لاسترداد حريتي، وأن شيئًا من الصبر كفيل بأن يفتح لي باب الخطوة الحاسمة لاستكمالها.
وتوفي والدي وأنا في صميم هذه المعركة الصامتة أناضل نضال امرأة مُسَّت عزتها وجُرِحت كرامتها، وقد حزنت أشد الحزن لوفاة هذا الوالد البر الحنون الذي لم يذكر والدتي يومًا بسوء، وطالما أسدى إليَّ أصدق النصح وأحكمه، على أن وفاته قربتني من الأمل الذي كان يداعبني في استرداد حريتي، ولم يكن ذلك لأني ورثت عنه مالًا يُعتمَد عليه، فقد رُزِقت زوجه الثانية عديدًا من الأطفال، فتت تركته وجعل الاعتماد على حصة كل وارث فيها غير مستطاع لمن كان في مثل مكانتي، ولكني أحسست بوفاته أني أصبحت طليقة من قيود معنوية كان وجوده يفرضها عليَّ.
على أنني رأيت أن أدع العيدين يمران على وفاته قبل أن أتخذ أي موقف حاسم؛ وذلك إرضاء لذكراه، وحتى لا يقول الناس إنه — عليه رحمة الله — هو الذي كان يحمل زوجي على إمساكي، بذلك انقضت شهور ستة تابعت فيها خطتي، وازداد خلالها رصيدي في البنك، ورأيت بعدها أن أخطو الخطوة الأخيرة؛ أضطره بها أن ينزل على كل ما أريد.
استغرقت خطتي منذ بدأت تنفيذها إلى ذلك اليوم ما يزيد على ثلاث سنوات خُيِّل إليَّ أن ما أتممته فيها كفيل بأن يثير زوجي، ويحمله على التسليم من غير قيد ولا شرط، فقد عزلته في غرفة في أقصى المنزل نقلت إليها سرير نومه وكتبه وأدواته الطبية، وكنت أتناول الطعام أحيانًا وأخرج من المنزل قبل أن يحضر، وكنت أقص عليه أحيانًا في ازدهاء وعلو ما يغمرني به المعجبون من عبارات الثناء التي تثير غيرته، وكنت أبالغ في الإنفاق مبالغة ينوء بها إيراده من عمله، وإيراده من ثروته، وتحمله من غير شك على الاستدانة، وكنت أفعل هذا كله متعمدة إساءته وإثارته، وكنت أحسب أنه سيجيء يومًا وقد فاض معين حلمه وطار صوابه ليقتلني أو ليضربني غير عابئ بالنتائج، أو أنه سيقول لي يومًا: «لك ما شئت على أن ننفصل وأتخلص من هذا السعير الذي أعيش فيه»، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، بل ظل الرجل يتحمل كل ما يلقاه مني في صبر، وكأن حبنا المتبادل أو زواجنا لا يزال يملأ قلبه، وكأن ما أوجهه له في وجود أصدقائنا وصديقاتنا لا يحرك شعرة من إبائه وكرامته، ولقد عجبت لهذا الإذعان المطلق من جانبه حتى ظننت يومًا أنه مدبرٌ أمرًا ضدي، وفكرت ما عسى يكون هذا الأمر لأفسده، ولكنَّ مرَّ الأسابيعِ والشهورِ أقنعني أن إذعانه عجز، وأنه أضعف من أن يقف رافعًا رأسه أمامي.
وأعجب من ذلك أنه لم يكن يناقش قط في أثناء هذه الفترة الأخيرة في أمر الطفلين وطريقة تربيتهما وتعليمهما، بل كان يقر كل تصرفاتي بشأنهما من غير بحث، فكانا يلبسان كما أشاء، ويذهبان إلى المدرسة التي أختار، وكان لمربيتهما رأي تأخذ وتعطي فيه معي حين لا يقول هو شيئًا، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنهما ليسا ولديه.
وكانت حالته هذه تثير إشفاقي عليه أحيانًا، فقد بدا لي أنه انحلت همته، وتضعضع عزمه، وتداعت إرادته؛ فأصبح كأولئك الذين يصيبهم الانهيار العصبي، فهم يبثون كل إنسان شكواهم، ولا يعرفون كيف يواجهون الحياة وأعباءها، وهم يخشون يومهم وغدهم، ويحسون الخطر في كل لحظة يهدد وجودهم، وطبيعي أن تأثر بهذا الاضطراب عمله في عيادته، وتزعزعت ثقة مرضاه به، ولكني مع ذلك لم أكن مستعدة لتخفيف طلباتي المالية منه؛ لذلك اضطر أن يلجأ إلى كبير في الدولة يرجوه أن يسند إليه منصبًا طبيًّا فيها، وكان هذا الكبير يعلم من أمره لكثرة ما سمع به ومنه ما أثار شفقته، فأسند إليه عملًا محترمًا لا يحتاج إلى مجهود فكري، فهو إشراف إداري على طائفة من الأطباء الناشئين في مصلحة كبرى، وما لبثت حين علمت بذلك أن اطمأننت إلى أنني في حِلٍّ من أن أمتص مرتبه هذا أو معظمه، فطفلاي أولى به من أبيهما، ومن الواجب عليَّ وحدي أن أفكر في مستقبلهما.
ترى هل بقيت فيه بعد كل الذي مر به بقية للنضال، أم تراه أصبح كالجدار المتداعي، لا يلبث حين تعصف به الريح أن ينقض وينهار؟ لقد خُيِّل إليَّ يومًا أنني لو طلبت إليه أن ننفصل بالطلاق فإنه لن يتردد في ذلك، بل يتلقاه شاكرًا متنفسًا الصعداء، مؤمنًا بأنه قد آن له أن ينتقل من الجحيم إلى المطهر في انتظار يوم تتم عليه مغفرة الله فيه، لكني خشيت إن أنا أقدمت على هذه الخطوة بنفسي أن يعاوده عناد الفلاح فيرفض لغير شيء إلا التشبث بهذا العناد، لهذا آثرت أن ألقي على صديقنا هذا العبء، فإن نجح فيه في غير مشقة فذاك، وإلا أقدمت على الخطوة الحاسمة التي اعتزمتها.
ودعوت صديقنا واتفقت معه على أن يذكر لزوجي أن الحال التي يعانيها لا تحتمل، وأنه رحمة به يرى أن يخاطبني في أن ننفصل بالطلاق، فإن أنا قبلت ذلك ولم يدفعني العناد إلى لدد في الخصومة كان ذلك خيرًا له ولي، واضطلع صديقنا بهذه المهمة وخاطب زوجي كما اتفقنا، لكنه عاد يذكر لي أن زوجي أجفل حين سمع كلمة الطلاق، وقال له: «وماذا يقول الناس عنا؟ وماذا يكون مصير طفلينا؟ إنني احتملت وأحتمل ما تعلم، وأكثر مما تعلم، حتى لا يشمت الشامتون بنا، وحتى لا يشعر الطفلان بأنهما ليسا كغيرهما من أبناء طبقتهما، وأنا لا أزال أطمع في أن يرد الصبر إلى زوجي رزانتها وحكمتها، بل إني لأعتقد أنها لو خوطبت في هذا الأمر الذي تخاطبني فيه لكانت أكثر مني إنكارًا له وتقززًا من الكلام فيه.»
وعجبت لما سمعت! لقد كنت أتوقع أن يغتبط الرجل بفكرة انفصالنا، وها هو ذا يفزع منها وينفر أشد نفار، ولست أحسبه يفزع وينفر تعلقًا منه بي، أو تلبية منه لداعي محبته إياي، فلو أنه أحبني كما أحب ليلى المجنون لما بقي في قلبه أثارة من هذا الحب بعد الذي صنعته معه.
وهنا برقت أمامي فكرة آمنت بأنها التصوير الصحيح لما بعثه على أن يرفض طلاقي، لقد خيل إليه أن صديقنا يريد أن ننفصل لأتزوجه، فقد أذاعت صديقتي هذا الحديث بعد انقطاع ما بيننا وألحت في إذاعته، وأكبر ظني أن ما تذيعه صديقتي يؤمن به زوجي، ولذلك عاند وتشبث بعناده. نعم، ذلك باعثه على رفض ما عرض عليه أن ننفصل بالحسنى، أما وذلك شأنه فلم يبق لي مفر أن أنفِّذ خطتي، ولا أظنه يستطيع مقاومتها، ولو جمع في نفسه مكر الفلاحين جميعًا، بل مكر النساء جميعًا.
وقررت أن أنفذ هذه الخطة منذ غد!