الاستبداد والمجد
من الحكم البالغة للمتأخرين قولهم «الاستبداد أصل لكل فساد»، ومبنى ذلك أن الباحث المدقق في أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أن للاستبداد أثرا سيئا في كل واد، وقد سبق أن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، وإني الآن أبحث في أنه كيف يغالب الاستبداد المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد.
المجد هو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان، لا يترفع عنه نبي أو زاهد ولا ينحط عنه دني أو خامل. للمجد لذة روحية تقارب لذة العبادة عند الفانين في الله وتعادل لذة العلم عند الحكماء وتربو على لذة امتلاك الأرض مع قمرها عند الأمراء، وتزيد على لذة مفاجأة الإثراء عند الفقراء ولذا يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة.
وقد أشكل على بعض الباحثين أيّ الحرصين أقوى؟ حرص الحياة أم حرص المجد، والحقيقة التي عول عليها المتأخرون وميزوا بها تخليط ابن خلدون هي التفضيل، وذلك أنَّ المجد مفضل على الحياة عند الملوك والقواد وظيفةً، وعند النجباء والأحرار حميةً؛ وحب الحياة ممتاز على المجد عند الإسراء والأذلاء طبيعةً، وعند الجبناء والنساء ضرورةً. وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت عليهم السلام معذورين في إلقائهم بأنفسهم في تلك المهالك لأنهم لما كانوا نجباء أحرارا فحميتهم جعلتهم يفضلون الموت كراما على حياة ذل، مثل حياة ابن خلدون الذي خطأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدّد مجدهم، ذاهلا على أن بعض أنواع الحيوان ومنها البلبل وجدت فيها طبيعة اختيار الانتحار أحيانا تخلصا من قيود الذل، وأن أكثر سباع الطير والوحوش إذا أسرت كبيرة تأبى الغذاء حتى تموت، وأن الحرة تموت ولا تأكل بعرضها، والماجدة تموت ولا تأكل بثدييها!
المجد لا ينال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة وبتعبير الشرقيين: في سبيل الله أو سبيل الدين، وبتعبير الغربيين: في سبيل المدنية أو سبيل الإنسانية. والمولى تعالى المستحق التعظيم لذاته ما طالب عبيده بتمجيده إلا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم.
وهذا البذل إما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم وهو أضعف المجد، أو بذل العلم النافع المفيد للجماعة ويسمى مجد الفضيلة، أو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق وحفظ النظام ويسمى مجد النبالة، وهذا أعلى المجد وهو المراد عند الإطلاق؛ وهو المجد الذي تتوق إليه النفوس الكبيرة وتحن إليه أعناق النبلاء. وكم له من عشاق تلذ لهم في حبه المصاعب والمخاطرات وأكثرهم يكون من مواليد بيوت نادرة حمتها الصدف من عيون الظالمين المذلين، أو يكون من نجباء بيوت ما انقطعت فيها سلسلة المجاهدين وما انقطعت عجائزها عن بكائهم. ومن أمثلة المجد قولهم: خلق الله للمجد رجالا يستعذبون الموت في سبيله، ولا سبيل إليه إلا بعظيم الهمة والإقدام والثبات تلك الخصال الثلاث التي بها تقدر قيم الرجال.
وهذا (نيرون) الظالم سأل (أغربين) الشاعر وهو تحت النطع: من أشقى الناس؟ فأجابه معرضا به: من إذا ذكر الناس الاستبداد كان مثالا له في الخيال. وكان (ترابان) العادل إذا قلد سيفا لقائد يقول له: هذا سيف الأمة أرجو أن لا أتعدى القانون فلا يكون له نصيب في عنقي. وخرج قيس من مجلس الوليد مغضبا يقول: أتريد أن تكون جبارا؟! والله إن نعال الصعاليك لأطول من سيفك. وقيل لأحد الأباة: ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك؟ فقال: ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين. وقال آخر: عليّ أن أفي بوظيفتي وما عليّ ضمان القضاء. وقيل لأحد النبلاء: لماذا لا تبني لك دارا؟ فقال ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر؟ وهذه ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها) وهي امرأة عجوز تودع ابنها بقولها: إن كنت على الحق فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت. وهذا مكماهون رئيس جمهورية فرنسا استبد في أمر واحد فدخل عليه صديقه غامبتا وهو يقول: الأمر للأمة لا إليك، فاعتدل أو اعتزل وإلا فأنت المخذول المهان الميت!
والحاصل أن المجد هو المجد محبب للنفوس لا تفتأ تسعى وراءه وترقى مراقيه، وهو ميسر في عهد العدل لكل إنسان على حسب استعداده وهمته، وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الإمكان.
يقابل المجد من حيث مبناه التمجد؟ وما هو التمجد؟ وماذا يكون التمجد؟ التمجد لفظ هائل المعنى ولهذا أراني أتعثر بالكلام وأتلعثم في الخطاب، ولاسيما من حيث أخشى مساس إحساس بعض المطالعين؛ إن لم يكن من جهة أنفسهم فمن جهة أجدادهم الأولين، فأناشدهم الوجدان والحق المهان، أن يتجردوا دقيقتين من النفس وهواها، ثم هم مثلي ومثل سائر الجانين على الإنسانية لا يعدمون تأويلا. وإنني أعلل النفس بقبولهم تهويني هذا فأنطلق وأقول: التمجد خاص بالإدارات المستبدة، وهو القربى من المستبد بالفعل كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالملقبين بنحو دوق وبارون، والمخاطبين بنحو رب العزة ورب الصولة، أو الموسومين بالنياشين أو المطوقين بالحمائل؛ وبتعريف آخر: التمجد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية.
وبوصف أجلى هو أن يتقلد الرجل سيفا من قبل الجبّار يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلق على صدره وساما مشعرا بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان أو يتزين بسيور مزركشة تنبئ بأنه صار مخنثا أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وبعبارة أوضح وأخصر هو أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم.
قلت إن التمجد خاص بالإدارات الاستبدادية، وذلك لأن الحكومة الحرة التي تمثل عواطف الأمة تأبى كل الإباء إخلال التساوي بين الأفراد إلا لفضل حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا رفعا صوريا أثناء قيامه في خدمتها أي الخدمة العمومية، وذلك تشويقا له على التفاني في الخدمة، كما أنها لا تميز أحدا منها بوسام أو تشرفه بلقب إلا ما كان علميا أو ذكرى لخدمة مهمة وفقه الله إليها. وبمثل هذا يرفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات في القلوب لا في الحقوق.
وهذا لقب اللوردية مثلا عند الإنكليزية هو من بقايا عهد الاستبداد، ومع ذلك لا يناله عندهم غالبا إلا من يخدم أمته خدمة عظيمة ويكون من حيث أخلاقه وثروته أهلا لأن يخدمها خدمات مهمة غيرها، ومن المقرر أن لا اعتبار للورد في نظر الأمة إلا إذا كان مؤسسا لا وارثا، أو كانت الأمة تقرأ في جبهته سطرا محررا بقلم الوطنية وبمداد الشهامة ممضيا بدمه يقسم فيه بشرفه أنه ضمين بثروته وحياته ناموس الأمة أي قانونها الأساسي، حفيظ على روحها أي حريتها.
التمجد لا يكاد يوجد له أثر في الأمم القديمة إلا في دعوى الألوهية وما بمعناها من نفع الناس بالأنفاس، أو في دعوى النجابة بالنسب التي يهول بها الأصلاء نسل الملوك والأمراء، وإنما نشأ التمجد بالألقاب والشارات في القرون الوسطى، وراج سوقه في القرون الأخيرة ثم قامت فتاة الحرية تتغنى بالمساواة وتغسل أدرانه على حسب قوتها وطاقتها ولم تبلغ غايتها إلى الآن في غير أمريكا.
المتمجدون يريدون أن يخدعوا العامة، وما يخدعون غير نسائهم اللاتي يتفحفحن بين عجائز الحي بأنهم كبار العقول، كبار النفوس، أحرار في شئونهم، لا يزاح لهم نقاب، ولا تصفع منهم رقاب؛ فيحوجهم هذا المظهر الكاذب لتحمل الإساءات والإهانات التي تقع عليهم من قبل المستبد بل تحوجهم للحرص على كتمها بل على إظهار عكسها، بل على مقاومة من يدعي خلافها، بل على تغليط أفكار الناس في حق المستبد وإبعادهم عن اعتقاد أن من شأنه الظلم.
وهكذا يكون المتمجدون أعداءً للعدل أنصارا للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصده المستبد من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها؛ فيسوقها مثلا لحرب اقتضاها محض التجبر والعدوان على الجيران فيوهما أنه يريد نصرة الدين، أو يسرف بالملايين من أموال الأمة في ملذاته وتأييد استبداده باسم حفظ شرف الأمة وأبهة المملكة، أو يستخدم الأمة في التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنهم أعداء لها. أو يتصرف في حقوق المملكة والأمة كما يشاؤه هواه باسم أن ذلك من مقتضى الحكمة والسياسة.
والخلاصة أن المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة أو مسئولة الدولة أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أن كل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها حتى إنه لا يستثني منها الدفاع عن الاستقلال، لأنه ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمرو؟ وما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكا كان أو غاصبا.
المستبد لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتخذهم كأنموذج البائع الغشاش على أنه لا يستعملهم في شيء من مهامه فيكونون لديه كمصحف في خمارة أو سبحة في يد زنديق، وربما لا يستخدم أحيانا بعضهم في بعض الشئون تغليظا لأذهان العامة في أنه لا يتعمد استخدام الأراذل والأسافل فقط ولهذا يقال دولة الاستبداد دولة بله وأوغاد.
المستبد يجرب أحيانا في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضا اغترارا منه بأنه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشكل الذي يريد فيكونوا له أعوانا خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثم هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو ينكل بهم. ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله.
وهنا أنبه فكر المطالعين إلى أن هذه الفئة من العقلاء الأمناء بالجملة، الذين يذوقون عسيلة مجد الحكومة وينشطون لخدمة الأمة ونيل مجد النبالة، ثم يضرب على يدهم لمجرد أن بين أضلعهم قبسة من الإيمان وفي أعينهم بارقة من الإنسانية، هي الفئة التي تتكهرب بعداوة الاستبداد وينادي أفرادها بالإصلاح. وهذا الانقلاب قد أعيى المستبدين لأنهم لا يستغنون عن التجربة ولا يأمنون هذه المغبة. ومن هنا ابتدأت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب، والمستبدون المحنكون يطيلون أمد التجربة بالمناصب الصغيرة فيستعملون قاعدة الترقي مع التراخي ويسمون ذلك برعاية قاعدة القدم، ثم يختمون التجريب بإعطاء المتمرن خدمة يكون فيها رئيسا مطلقا ولو في قرية، فإن أظهر مهارة في الاستبداد، وذلك ما يسمونه حكمة الحكومة فبها ونعمت، وإلا قالوا عنه هذا حيوان يا ضيعة الأمل فيه.
إن للأصالة مشاكلة قوية للمجد والتمجد فلا بد أن نبحث فيها قليلا ثم نعود لموضوع المستبد وأعوانه المتمجدين فأقول: الأصالة صفة قد يكون لها بعض المزايا من حيث الأميال التي يرثها الأبناء من الآباء، ومن حيث التربية التي تكون مستحكمة في البيت ولو رياء، ومن حيث إن الأصالة تكون مقرونة غالبا بشيء من الثروة المعينة على مظاهر الشهامة والرحمة، ومن حيث إن الثروة تعين أهل البيت على إخفاء بعض رذائلهم عن أولادهم، ومن حيث إنها مدعاة غالبا للتمثل بالأقران مشوقة للتفوق والتميز، ومن حيث تقويتها العلاقة بالأمة والوطن خوف مذلة الاغتراب، ومن حيث إن أهلها يكونون منظورين دائما فيتحاشون المعائب والنقائص بعض التحاشي.
وبيوت الأصالة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: بيوت علم وفضيلة، وبيوت مال وكرم، وبيوت ظلم وإمارة. وهذا الأخير هو القسم الأكثر عددا والأهم موقعا، وهم كما سبقت الإشارة إليه مطمح نظر المستبد في الاستعانة وموضع ثقته، وهم الجند الذي يجتمع تحت لوائه بسهولة وربما يكفيه أن يضحك في وجههم ضحكة. فلننظر ما هو نصيب أهل هذا القسم من تلك المزايا الموروثة: هل يرث الابن من جده المؤسس لمجده أمياله في العدالة ولم توجد، أم يدب ويشب على غير الترف المصغر للعقول، المميت للهمم، أم يتربى على غير الوقار المضحك للباطل السائد فيما بين العائلة في بيتهم؟ أم يستخدم الثروة في غير الملاذ الجسمية الدنيئة البهيمية وتلك الأبهة الطاووسية الباطلة، أم يتمثل بغير أقران السوء المتملقين المنافقين، أم لا يستحقر قومه لجهلهم قدر النطفة الملعونة التي خلق منها جنابه، أم لا يبغض العلماء الذين لا يقدرونه قدره حسبما هو قائم في مخيلة خيلائه، أم يرى لجنابه مقرا يليق به غير مقعد التحكم ومستراح التأمر؟ أم يستحي من الناس، ومن هم الناس؟ ما الناس عند حضرته غير أشباح فيها أرواح خلقت لخدمته!
وهذه حالة الأكثرين من الأصلاء؛ على أننا لا نبخس حق من نال منهم حظا من العلم وأوتي الحكمة وأراد الله به خيرا فأصابه بنصيب من القهر انخفض به شاموخ أنفه، فإن هؤلاء، وقليل ما هم، ينجبون نجابة عظيمة عجيبة، فيصدق عليهم أنهم قد ورثوا قوة القلب يستعملونها في الخير لا في الشر، واستفادوا من أنفة الكبرياء الجسارة على العظماء؛ وهكذا تتحول فيهم ميزة الشر إلى فائض خير وحسب شامخ من نحو الحنين على الوطن وأهله والأنين لمصابه والإقدام على العظائم في سبيل القوم؛ وأمثال هؤلاء النوابغ النجباء إذا كثروا في أمة يوشك أن يترقى منهم آحاد إلى درجة الخوارق فيقودوا أممهم إلى النجاح والفلاح، ولا غرو فإن اجتماع نفوذ النسب وقوة الحسب يفعلان ولا عجب شبه فعل المستبد العادل الذي ينشده الشرقيون وخصوصا المسلمون؛ وإن كان العقل لا يجوز أن يتصف بالاستبداد مع العدل غير الله وحده؛ ألا قاتل الله الهمة الساقطة التي قد تتسفل بالإنسان إلى عدم إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن أم هو محال.
•••
الأصلاء باعتبار أكثريتهم هم جرثومة البلاء في كل قبيلة ومن كل قبيل. لأن بني آدم داموا إخوانا متساوين إلى أن ميزت الصدفة بعض أفرادهم بكثرة النسل فنشأت منها القوات العصبية؛ ونشأ من تنازعها تميز أفراد على أفراد، وحفظ هذه الميزة أوجد الأصلاء، فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة أشراف، ومتى وجد بيت من الأصلاء يتميز كثيرا في القوة على باقي البيوت يستبد وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا كان لباقي البيوت بقية بأس، أو المطلقة إذا لم يبق أمامه من يتقيه.
بناء عليه إذا لم يوجد في أمة أصلاء بالكلية، أو وجد ولكن كان لسواد الناس صوت غالب، أقامت تلك الأمة لنفسها حكومة انتخابية لا وراثة فيها ابتداء، ولكن لا يتوالى بضعة متولين إلا ويصير أنسالهم أصلاء يتناظرون، كل فريق منهم يسعى لاجتذاب طرف من الأمة استعدادا للمغالبة وإعادة التاريخ الأول.
ومن أكبر مضار الأصلاء، أنهم ينهمكون أثناء المغالبة على إظهار الأبهة والعظمة، يسترهبون أعين الناس ويسحرون عقولهم ويتكبرون عليهم. ثم إذا غلب غالبهم واستبد بالأمر لا يتركها الباقون لألفتهم لذتها ولمضاهاة المستبد في نظر الناس. والمستبد نفسه لا يحملهم على تركها بل يدر عليهم المال ويعينهم عليها ويعطيهم الألقاب والرتب وشيئا من النفوذ والتسلط على الناس ليتلهوا بذلك عن مقاومة استبداده، ولأجل أن يألفوها مديدا فتفسد أخلاقهم فينفر منهم الناس ولا يبقى لهم ملجأ غير بابه فيصيرون أعوانا له بعد أن كانوا أضدادا.
ويستعمل المستبد أيضا مع الأصلاء سياسة الشد والإرخاء، والمنع والإعطاء، والالتفات والإغضاء، كي لا يبطروا، وسياسة إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي لا يتفقوا عليه، وتارة يعاقب عقابا شديدا باسم العدالة إرضاء للعوام، وأخرى يقرنهم بأفراد كانوا يقبلون أذيالهم استكبارا فيجعلهم سادة عليهم يفركون آذانهم استحقارا، يقصد بذلك كسر شوكتهم أمام إمام الناس وعصر أنوفهم أمام عظمته. والحاصل أن المستبد يذلل الأصلاء بكل وسيلة حتى يجعلهم مترامين دائما بين رجليه كي يتخذهم لجاما لتذليل الرعية، ويستعمل عين هذه السياسة مع العلماء ورؤساء الأديان الذين متى شم من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو علمه ينكل به أو يستبدله بالأحمق الجاهل إيقاظا له ولأمثاله من كل ظان من أن إدارة الظلم محتاجة إلى شيء من العقل أو الاقتدار فوق مشيئة المستبد. وبهذه السياسة ونحوها يخلو الجو فيعصف وينسف ويتصرف في الرعية كريش يقلبه الصرصر في جو محرق.
المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنسانا فصار إلها. ثم يرجع النظر فيرى نفسه في نفس الأمر أعجز من كل عاجز وأنه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش وما التاج وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الريش في رأسك طاووسا وأنت غراب، أم تظن الأحجار البراقة في تاجك نجوما ورأسك سماء، أم تتوهم أن زينة صدرك ومنكبيك أخرجتك عن كونك قطعة طين من هذه الأرض؟ والله ما مكنك في هذا المقام وسلطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا، وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظر أيها الصغير المكبر الحقير الموقر كيف تعيش معنا!
ثم يلتفت إلى جماهير الرعية المتفرجين، فيرى منهم الطائشين المهللين المسبحين بحمده، ومنهم المسحورين المبهوتين كأنهم أموات من حين، ولكن يتجلى في فكره أن خلال الساكتين بعض أفراد عقلاء أمجاد يخاطبونه بالعيون بأن لنا معاشر الأمة شئونا عمومية وكّلناك في قضائها على ما نريد ونبغي، لا على ما تريد فتبغي. فإن وفيت حق الوكالة حق لك الاحترام، وإن مكرت مكرنا وحاقت بك العاقبة، ألا إن مكر الله عظيم.
وعندئذ يرجع المستبد إلى نفسه قائلا: الأعوان الأعوان، الحملة السدنة، أسلمهم القياد وأردفهم بجيش من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء، وبغير هذا الحزم لا يدوم لي ملك كيفما أكون، بل أبقى أسيرا للعدل معرضا للمناقشة منغصا في نعيم الملك، ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطانا جبارا متفردا قهارا.
الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم، إلى الشرطي، إلى الفرَّاش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشرا أم خنازير، من آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طباعا وخصالا أعلاهم وظيفة وقربا، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه دونه لؤما وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه. وربما يغتر المطالع كما اغتر كثير من المؤرخين البسطاء بأن بعض وزراء المستبدين يتأوهون من المستبد ويتشكون من أعماله ويجهرون بملامه، ويظهرون لو أنه ساعدهم الإمكان لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة بأموالهم بل وحياتهم، فكيف والحالة هذه يكون هؤلاء لؤماء، بل كيف ذلك وقد وجد منهم الذين خاطروا بأنفسهم والذين أقدموا فعلا على مقاومة الاستبداد فنالوا المراد أو بعضه أو هلكوا دونه؟
فجواب ذلك أن المستبد لا يخرج قط عن أنه خائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه فهو ووزراؤه كزمرة لصوص: رئيس وأعوان، فهل يجوّز العقل أن يُنتخب رفاق من غير أهل الوفاق وهو الذي لا يستوزر إلا بعد تجربة واختبار، عمرا طويلا.
هل يمكن أن يكون الوزير متخلقا بالخير حقيقة وبالشر ظاهرا فيُخدع المستبد بأعماله ولا يخاف من أنه كما نصبه وأعزه بكلمة يعزله ويذله؟
بناء عليه فالمستبد وهو من لا يجهل أن الناس أعداؤه لظلمه لا يأمن على بابه إلا من يثق به أنه أظلم منه للناس وأبعد منه عن أعدائه، وأما تَلَوم بعض الوزراء على لوم المستبد فهو إن لم يكن خداعا للأمة فهو حنق على المستبد لأنه بخس ذلك المتلوم حقه فقدم عليه من هو دونه في خدمته بتضحية دينه ووجدانه. وكذلك لا يكون الوزير أمينا من صولة المستبد في صحبته ما لم يسبق بينهما وفاق واتفاق على خيرة الشيطان، لأن الوزير محسود بالطبع، يتوقع له المزاحمون كل شر، ويبغضه الناس ولو تبعا لظالمهم وهو هدف في كل ساعة للشكايات والوشايات. كيف يكون عند الوزير شيء من التقوى أو الحياء أو العدل أو الحكمة أو المروءة أو الشفقة على الأمة وهو العالم بأن الأمة تبغضه وتمقته وتتوقع له كل سوء وتشمت بمصائبه، فلا ترضى عنه ما لم يتفق معها على المستبد وما هو بفاعل ذلك أبدا إلا إذا يئس من إقباله عنده، وإن يئس وفعل فلا يقصد نفع الأمة قط، إنما يريد فتح بابٍ لمستبدٍ جديد عساه يستوزره فيؤازره على وزره.
والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد، لا وزير الأمة كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ من أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أن الأمة لا تقلد القيادة لمثله.
بناء عليه لا يغترُّ العقلاء بما يتشدق به الوزراء والقواد من الإنكار على الاستبداد والتفلسف بالإصلاح وإن تلهفوا وإن تأففوا، ولا ينخدعون لمظاهر غيرتهم وإن ناحوا وإن بكوا، ولا يثقون بهم وبوجدانهم مهما صلوا وسبحوا لأن ذلك كله ينافي سيرهم وسيرتهم، ولا دليل على أنهم أصبحوا يخالفون ما شبوا وشابوا عليه، هم أقرب أن لا يقصدوا بتلك المظاهر غير إقلاق المستبد وتهديد سلطته ليشاركهم في استدرار دماء الرعية أي أموالها. نعم، كيف يجوز تصديق الوزير والعامل الكبير الذي قد ألف عمرا طويلا لذة البذخ وعزة الجبروت في أنه يرضى بالدخول تحت حكم الأمة ويخاطر بعرض سيفه عليها فتحله أو تكسره تحت أرجلها. أليس هو عضوا ظاهر الفساد من جسم تلك الأمة التي قتلت الاستبداد فيها كل الأميال الشريفة العالية فأبعدها عن الأنس بالإنسانية، حتى صار الفلاح التعيس منها يؤخذ للجندية وهو يبكي، فلا يكاد يلبس كم السترة العسكرية إلا ويتلبس بشر الأخلاق فيتنمر على أمه وأبيه، ويتمرد على أهل قريته وذويه، ويكظ أسنانه عطشا للدماء لا يميز بين أخ أو عدو. إن أكابر رجال عهد الاستبداد لا أخلاق لهم ولا ذمة، فكل ما يتظاهرون به أحيانا من التذمر والتألم يقصدون به غش الأمة المسكينة التي يطمعهم في انخداعها وانقيادها لهم علمهم بأن الاستبداد القائم بهم والمستمر بهمتهم قد أعمى أبصارها وبصائرها، وخدر أعصابها فجعلها كالمصاب ببحران الحمى، فهي لا ترى غير هول وظلام وشدة وآلام، فتئن من البلاء ولا تدري ما هو تداويه، ولا من أين جاءها لتصده، فتواسيها فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين يقولون يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تَلَقِّيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم التدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنا في أوطاننا، واكشف عنا البلاء أنت حسبنا ونعم الوكيل. ويغرر الأمة آخرون من المتكبرين بأنهم الأطباء الرحماء المهتمون بمداواة المرض، إنما هم يترقبون سنوح الفرص، وكلا الفريقين والله إما أدنياء جبناء أو هم خائنون مخادعون، يريدون التثبيط والتلبيد والامتنان على الظالمين.
هذا ولا ينكر التاريخ أن الزمان أوجد نادرا بعض وزراء وازروا الاستبداد عمرا طويلا ثم ندموا على ما فرطوا فتابوا وأنابوا، ورجعوا لصف الأمة واستعدوا بأموالهم وأنفسهم لإنقاذها من داء الاستبداد. ولهذا لا يجوز اليأس من وجود بعض أفراد من الوزراء والقواد عريقين في الشهامة، فيظهر فيهم سر الوراثة ولو بعد بطون أو بعد الأربعين وربما السبعين من أعمارهم ظهورا بينا تلألأ في محيا صاحبه ثريا صدق النجابة. ولا ينبغي لأمة أن تتكل على أن يظهر فيها أمثال هؤلاء، لأن وجودهم من نوع الصدف التي لا تبنى عليها آمال ولا أحلام.
والنتيجة أن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين، والأمة، أي أمة كانت، ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والإهداء والثبات، حتى إذا ما اكفهرت سماء عقول بنيها قيض الله لها من جمعهم الكبير أفرادا كبار النفوس قادة أبرارا يشترون لها السعادة بشقائهم والحياة بموتهم، حيث يكون الله جعل في ذلك لذتهم ولمثل تلك الشهادة الشريفة خلقهم كما خلق رجال عهد الاستبداد فساقا فجارا مهالكهم الشهوات والمثالب. فسبحان الذي يختار من يشاء لما يشاء وهو الخلاق العظيم.