الاستبداد والمال
الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: «أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرُّ، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال».
المال يصح في وصفه أن يقال: القوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدين مال، والثبات مال، والجاه مال، والجمع مال، والترتيب مال، والاقتصاد مال، والشهرة مال، والحاصل كل ما ينتفع به في الحياة هو مال.
وكل ذلك يباع ويشترى أي يستبدل بعضه ببعض، وموازين المعادلة هي: الحاجة والعزة والوقت والتعب، ومحافظة اليد والفضة والذهب والذمة، وسوقه المجتمعات وشيخ السوق السلطان … فانظر في سوق يتحكم فيه مستبد يأمر زيدا بالبيع وينهى عمرا عن الشراء ويغصب بكرا ماله ويحابي خالدا من مال الناس.
إن النظام الطبيعي في كل الحيوانات حتى في السمك والهوام، إلا أنثى العنكبوت، أن النوع الواحد منها لا يأكل بعضه بعضا، والإنسان يأكل الإنسان. ومن غريزة سائر الحيوان أن يلتمس الرزق من الله أي من مورده الطبيعي، وهذا الإنسان الظالم نفسه حريص على اختطافه من يد أخيه، بل من فيه، بل كم أكل الإنسان الإنسان!
الاستبداد والإنسان
عاش الإنسان دهرا طويلا يتلذذ بلحم الإنسان ويتملظ بدمائه، إلى أن تمكن الحكماء في الصين ثم الهند من إبطال أكل اللحم كليا، سدا للباب كما هو دأبهم إلى الآن. ثم جاءت الشرائع الدينية الأولى في غربي آسيا بتخصيص ما يؤكل من الإنسان بأسير الحرب، ثم بالقربان ينذر للمعبود ويذبح على يد الكهان. ثم أبطل أكل لحم القربان وجعل طعمة للنيران، وهكذا تدرج الإنسان إلى نسيان لذة لحم إخوانه، وما كان لينسى عبادة إهراق الدماء لولا أن إبراهيم شيخ الأنبياء استبدل قربان البشر بالحيوان واتبعه موسى عليهما السلام وبه جاء الإسلام. وهكذا بطل هذا العدوان بهذا الشكل إلا في أواسط أفريقيا عند (النامنام).
الاستبداد المشئوم لم يرض أن يقتل الإنسان الإنسان ذبحا ليأكل لحمه أكلا كما كان يفعل الهمج الأولون، بل تفنن في الظلم: فالمستبدون يأسرون جماعتهم ويذبحونهم فصدا بمبضع الظلم، ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم، ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم، أو بغصب ثمرات أتعابهم. وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل.
•••
ثم إن الرجال تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة أيضا، فإن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة، يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة، ينفقون ذلك في الرفه والإسراف، مثال ذلك أنهم يزينون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحيانا متراوحين بين الملاهي والمواخير ولا يفكرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام.
ثم أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون والمحتكرون وأمثال هذه الطبقة ويقدرون كذلك بخمسة في المائة، يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع. وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظالمة هي الاستبداد لا غيره. وهناك أصناف من الناس لا يعملون إلا قليلا، إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة والمشعوذين باسم الأدب أو الدين، وهؤلاء يقدرون بخمسة عشر في المائة أو يزيدون على أولئك.
نعم لا يقتضي أن يتساوى العالم الذي صرف زهوة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم في ظل الحائط، ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل، ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت، بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته ويقاربه في معيشته ويعينه على الاستقلال في حياته.
لا! لا! لا يطلب الفقير معاونة الغني، إنما يرجوه أن لا يظلمه، ولا يلتمس منه الرحمة، إنما يلتمس العدالة، لا يؤمِّل منه الإنصاف، إنما يسأله أن لا يميته في ميدان مزاحمة الحياة.
بسط المولى جلت حكمته سلطان الإنسان على الأكوان فطغى وبغى ونسي ربه وعبد المال والجمال وجعلهما منيته ومبتغاه، كأنه خلق خادما لبطنه وعضوه فقط، لا شأن له غير الغذاء والتحاك. وبالنظر إلى أن المال هو الوسيلة الموصلة للجماد كاد ينحصر أكبر همّ للإنسان في جمع المال ولهذا يكنى عنه بمعبود الأمم وبسر الوجود، وروى (كريسكوا) المؤرخ الروسي أن كاترينا شكت كسل رعيتها فأرشدها شيطانها إلى حمل النساء على الخلاعة ففعلت وأحدثت كسوة المراقص. فهب الشبان للعمل وكسب المال لصرفه على ربات الجمال، وفي ظرف خمس سنين تضاعف دخل خزينتها فاتسع لها مجال الإسراف. وهكذا المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال.
•••
المال عند الاقتصاديين ما ينتفع به الإنسان، وعند الحقوقيين ما يجري فيه المنع والبذل، وعند السياسيين ما تستعاض به القوة، وعند الأخلاقيين ما تحفظ به الحياة الشريفة. المال يستمد من الفيض الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة ونواميسها، ولا يُملك، أي لا يتخصص بإنسان، إلا بعمل فيه أو في مقابله.
والمقصود من المال هو أحد اثنين لا ثالث لهما وهما: تحصيل لذة أو دفع ألم، وفيهما تنحصر كل مقاصد الإنسان وعليهما مبنى أحكام الشرائع كلها، والحاكم المعتدل في طيِّب المال وخبيثه هو الوجدان الذي خلقه الله صبغة للنفس، وعبر عنه في القرآن بإلهامها فجورها وتقواها، فالوجدان خُيّر بين المال الحلال والمال الحرام.
ثم إن أعمال البشر في تحصيل المال ترجع إلى ثلاثة أصول:
-
(١)
استحضاره المواد الأصلية.
-
(٢)
تهيئة المواد للانتفاع بها.
-
(٣)
توزيعها على الناس. وهي الأصول التي تسمى بالزراعة والصناعة والتجارة، وكل وسيلة خارجة عن هذه الأصول وفروعها الأولية فهي وسائل ظالمة لا خير فيها. التمول، أي ادخار المال، طبيعة في بعض أنواع الحيوانات الدنيئة كالنمل والنحل، ولا أثر له.
في الحيوانات المرتقية غير الإنسان. الإنسان تطبّع على التمول لدواعي الحاجة المحققة أو الموهومة، ولا تحقق للحاجة إلا عند سكان الأراضي الضيقة الثمرات على أهلها، أو الأراضي المعرضة للقحط في بعض السنين. ويلتحق بالحاجة المحققة حاجة العاجزين جسما عن الارتزاق في البلاد المبتلاة بجور الطبيعة أو جور الاستبداد، وربما يلتحق بها أيضا الصرف على المضطرين وعلى المصارف العمومية في البلاد التي ينقصها الانتظام العام.
والمراد بالانتظام العام معيشة الاشتراك العمومي التي أسسها الإنجيل بتخصيصه عشر الأموال للمساكين، ولكن لم يكد يخرج ذلك من القول إلى الفعل. ثم أحدث الإسلام سنة الاشتراك على أتمّ نظام ولكن لم تدم أيضا أكثر من قرن واحد كان فيه المسلمون لا يجدون من يدفعون لهم الصدقات والكفارات. وذلك أن الإسلامية، كما سبق بيانه، أسست حكومة أرستقراطية المبنى، ديموقراطية الإدارة، فوضعت للبشر قانونا مؤسسا على قاعدة: أن المال هو قيمة الأعمال ولا يجتمع في يد الأغنياء إلا بأنواع من الغلبة والخداع.
فالعدالة المطلقة تقتضي أن يؤخذ قسم من مال الأغنياء ويُرد على الفقراء، بحيث يحصل التعديل ولا يموت النشاط للعمل. وهذه القاعدة يتمنى ما هو من نوعها أغلب العالم المتدن الإفرنجي، وتسعى وراءها الآن جمعيات منهم منتظمة مكونة من ملايين كثيرة. وهذه الجمعيات تقصد حصول التساوي أو التقارب في الحقوق والحالة المعاشية بين البشر، وتسعى ضد الاستبداد المالي فتطلب أن تكون الأراضي والأملاك الثابتة وآلات المعامل الصناعية الكبيرة مشتركة الشيوع بين عامة الأمة، وأن الأعمال والثمرات تكون موزعة بوجوه متقاربة بين الجميع، وأن الحكومة تضع قوانين لكافة الشئون حتى الجزئيات وتقوم بتنفيذها.
وهذه الأصول مع بعض التعديل قررتها الإسلامية دينا، وذلك أنها قررت:
ولا غرو إذا كانت المعيشة الاشتراكية من أبدع ما يتصوره العقل، ولكن مع الأسف لم يبلغ البشر بعد من الترقي ما يكفي لتوسيعهم نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى إدارة الأمم الكبيرة. وكم جربت الأمم ذلك فلم تنجح فيها إلا الأمم الصغيرة مدة قليلة. والسبب كما تقدم هو مجرد صعوبة التحليل والتركيب بين الصوالح والمصالح الكثيرة المختلفة. والمتأمل في عدم انتظام حالة العائلات الكبيرة، يقنع حالا بأن التكافل والتضامن غير ميسورين في الأمم الكبيرة، ولهذا يكون خير حل مقدور للمسألة الاجتماعية هو ما يأتي:
-
(١)
يكون الإنسان حرا مستقلا في شئونه كأنه خلق وحده.
-
(٢)
تكون العائلة كأنها أمة وحدها.
-
(٣)
تكون القرية أو المدينة مستقلة كأنها قارة واحدة لا علاقة لها بغيرها.
-
(٤)
تكون القبائل في الشعب أو الأقاليم في المملكة كأنها أفلاك كل منها مستقل في ذاته، لا يربطها بمركز نظامها الاجتماعي وهو الجنس أو الدين أو الملك غير محض التجاذب المانع من الوقوع في نظام آخر لا يلائم طبائع حياتها.
•••
ثم إن التمول لأجل الحاجات السالفة الذكر وبقدرها فقط محمود بثلاثة شروط وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال:
وحكومة الصين المختلة النظام في نظر المتمدنين لا تجبر قوانينها أن يمتلك الشخص الواحد أكثر من مقدار معين من الأرض لا يتجاوز العشرين كيلو مترا مربعا أي نحو خمسة أفدن مصرية أو ثلاثة عشر دونما عثمانيا. وروسيا المستبدة القاسية في عرف أكثر الأوروبيين وضعت أخيرا لولاياتها البولونية والغربية قانونا أشبه بقانون الصين، وزادت عليه أنها منعت سماع دعوى دين غير مسجل على فلاح، ولا تأذن لفلاح أن يستدين أكثر من نحو خمسمائة فرنك. وحكومات الشرق إذا لم تستدرك الأمر فتضع قانونا من قبيل قانون روسيا، تصبح الأراضي الزراعية بعد خمسين عاما أو قرنا على الأكثر كإرلاندا الإنكليزية المسكينة، التي وجدت لها في مدى ثلاثة قرون شخصا واحدا حاول أن يرحمها فلم يفلح وأعني به غلادستون، على أن الشرق ربما لا يجد في ثلاثين قرنا من يلتمس له الرحمة.
والشرط الثالث لجواز التمول، هو: ألا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير؛ لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان وهذا معنى الآية: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ والشرائع السماوية كلها وكذلك الحكمة الأخلاقية والعمرانية حرَّمت الربا صيانة لأخلاق المرابين من الفساد، لأن الربا هو كسب بدون مقابل مادي ففيه معنى الغصب، وبدون عمل لأن المرابي يكسب وهو نائم ففيه الألفة على البطالة، ومن دون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك ففيه النماء المطلق المؤدي لانحصار الثروات. ومن القواعد الاقتصادية المتفق عليها أن ليس من كسب لا عار ولا احتكار فيه أربح من الربا مهما كان معتدلا، وأن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي أو التقارب بين الناس.
وقد نظر الماليون وبعض الاقتصاديين من أنصار الاستبداد في أمر الربا فقالوا إن المعتدل منه نافع بل لابد منه. أولا: لأجل قيام المعاملات الكبيرة، وثانيا: لأجل النقود الموجودة لا تكفي للتداول فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها أيضا. وثالثا: لأجل أن كثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح أو لا يقدرون عليها، كما أن كثيرا من العارفين بها لا يجدون رءوس أموال ولا شركاء عنان. فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات بعض الأفراد. أما السياسيون الاشتراكيو المبادئ والأخلاقيون، فينظرون إلى أن ضرر الثروات الأفرادية في جمهور الأمم أكبر من نفعها، لأنها تمكن الاستبداد الداخلي فتجعل الناس صنفين: عبيدا وأسيادا، وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل للأمم التي تغني بغناء أفرادها التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة. وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة ولذلك يقتضي تحريم الربا تحريما مغلظا.
•••
حرص التمول، وهو الطمع القبيح، يخف كثيرا عند أهالي الحكومات العادلة المنتظمة ما لم يكن فساد الأخلاق متغلبا على الأهالي كأكثر الأمم المتدنة في عهدنا، لأن فساد الأخلاق يزيد في الميل إلى التمول في نسبة الحاجة الإسرافية، ولكن تحصيل الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسير جدا، وقد لا يتأتى إلا من طريق المراباة مع الأمم المنحطة، أو التجارة الكبيرة التي فيها نوع احتكار، أو الاستعمار في البلاد البعيدة مع المخاطرات، على أن هذه الصعوبة تكون مقرونة بلذة عظيمة من نوع لذة من يأكل ما طبخ أو يسكن ما بنى.
وحرص التمول القبيح يشتد كثيرا في رءوس الناس في عهد الحكومات المستبدة حيث يسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال، وبالتعدّي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء، ورأس مال ذلك هو أن يترك الإنسان الدين والوجدان والحياء جانبا وينحط في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم أو أحد أعوانه وعماله، ويكفيه وسيلة أن يتصل بباب أحدهم ويتقرب من أعتابه، ويظهر له أنه في الأخلاق من أمثاله وعلى شاكلته، ويبرهن له ذلك بأشياء من التملق وشهادة الزور، وخدمة الشهوات، والتجسس، والدلالة على السلب ونحو ذلك. ثم قد يطلع هذا المنتسب على بعض الخفايا والأسرار التي يخاف رجال الاستبداد من ظهورها خوفا حقيقيا أو وهميا، فيكسب المنتسب رسوخ القدم ويصير هو بابا لغيره، وهكذا يحصل على الثروة الطائلة إذا ساعدته الظروف على الثبات طويلا. وهذا أعظم أبواب الثروة في الشرق والغرب، ويليه الاتجار بالدين ثم الملاهي ثم الربا الفاحش وهي بئس المكاسب وبئس ما تؤثر في إفساد أخلاق الأمم.
وقد ذكر المدققون أن ثروة بعض الأفراد في الحكومات العادلة أضر كثيرا منها في الحكومات المستبدة، لأن الأغنياء في الأولى يصرفون قوتهم المالية في إفساد أخلاق الناس وإخلال المساواة وإيجاد الاستبداد، أما الأغنياء في الحكومات المستبدة فيصرفون ثروتهم في الأبهة والتعاظم إرهابا للناس وتعويضا للسفالة الحقيقية المنصبة عليهم بالتغالي الباطل، ويسرفون الأموال في الفسق والفجور.
بناء عليه ثروة هؤلاء يتعجلها الزوال حيث يغصبها الأقوى منهم من الأضعف، وقد يسلبها المستبد الأعظم في لحظة وبكلمة. وتزول أيضا والحمد لله قبل أن يتعلم أصحابها أو ورثتهم كيف تحفظ الثروات وكيف تنمو، وكيف يستعبدون بها الناس استعبادا أصوليا مستحكما، كما هو الحال في أوروبا المتمدنة المهددة بشروط الفوضويين بسبب اليأس من مقاومة الاستبداد المالي فيها.
ومن طبائع الاستبداد أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهورا بينا إلا فجأة قُريب قضاء الاستبداد نحبه. وأسباب ذلك أن الناس يقتصدون في النسل وتكثر وفياتهم ويكثر تغربهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب فتتقلص الثروة وتكثر النقود بين الأيدي. وبئست من ثروة ونقود تشبه نشوة المذبوح.
•••
ولنرجع إلى بحث طبيعة الاستبداد في مطلق المال، فأقول: إن الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضةً لسلب المستبد وأعوانه وعماله غصبا، أو بحجة باطلة، وعرضة أيضا لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظل أمان الإدارة الاستبدادية. وحيث المال لا يحصل إلا بالمشقة فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم الأمن على الانتفاع بالثمرة.
حفظ المال في عهد الإدارة المستبدة أصعب من كسبه، لأن ظهور أثره على صاحبه مجلبة لأنواع البلاء عليه، ولذلك يضطر الناس زمن الاستبداد لإخفاء نعمة الله والتظاهر بالفقر والفاقة، ولهذا ورد في أمثال الأسراء أن حفظ درهم من الذهب يحتاج إلى قنطار من العقل، وأن العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأن أسعد الناس الصعلوك الذي لا يعرف الحكام ولا يعرفونه.
ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرا وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضا قلوبهم التي لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءة ونذالة، خوف البُغاث من العُقاب، فهم لا يجسرون على الافتكار فضلا عن الإنكار، كأنهم يتوهمون أن داخل رءوسهم جواسيس عليهم. وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرهم فعلا رضاء المستبد عنهم بأي وجه كان رضاؤه.
وقد خالف الأخلاقيون المتأخرون أسلافهم في قولهم ليس الفقر بعيب، فقالوا: الفقر أبو المعائب لأنه مفتقر للغير والغناء استغناء عن الناس، ثم قالوا: الفقر يذهب بعزة النفس ويفضي إلى خلع الحياء، وقالوا: إن لحسن اللباس والأمتعة والتنعم في المعيشة تأثيرا مهما على نفوس البشر، خلافا لمن يقول ليس المرء بطيلسانه، وحديث (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم) هو لأنه يحمل على التعود جسما على المشاق في الحروب والأسفار وعند الحاجة. وقالوا: إن رغد العيش ونعيمه لمن أعظم الحاجات، به تعلو الهمة ولأجله تقتحم العظائم.
هذا وللمال الكثير آفات على الحياة الشريفة ترتعد منها فرائص أهل الفضيلة والكمال، الذين يفضلون الكفاف من الرزق مع حفظ الحرية والشرف على امتلاك دواعي الترف والسرف، وينظرون إلى المال الزائد عن الحاجة الكمالية أنه بلاء في بلاء في بلاء، أي أنه بلاء من حيث التعب في تحصيله، وبلاء من حيث القلق على حفظه، وبلاء من حيث الافتكار بإنمائه، وأما المكتفي فيعيش مطمئنا مستريحا أمينا بعض الأمن على دينه وشرفه وأخلاقه.
قرر الأخلاقيون أن الإنسان لا يكون حرا تماما ما لم تكن له صنعة مستقل فيها، أي غير مرءوس لأحد، لأن حريته الشخصية تكون تابعة لارتباطه بالرؤساء. وعليه تكون أقبح الوظائف هي وظائف الحكومة. وقالوا إن للصنعة تأثيرا في الأخلاق والأميال، وهي من أصدق ما يستدل به على أحوال الأفراد والأقوام، فالموظفون في الحكومة مثلا يفقدون الشفقة والعواطف العالية تبعا لصنعتهم التي من مقتضاها عدم الشعور بتبعة أعمالهم. وقال الحكماء إن العاجز يجمع المال بالتقتير والكريم يجمعه بالكسب، وقالوا إن أقل كسب يرضى به العاقل ما يكفي معاشه باقتصاد، وقالوا خير المال ما يكفي صاحبه ذل القلة وطغيان الكثرة. وهذا معنى الحديث (فاز المخفون) وحديث (اسألوا الله الكفاف من الرزق). ويقال الغنى غنى القلب، والغني من قلت حاجته، والغني من استغنى عن الناس. وقال بعض الحكماء كل إنسان فقير بالطبع ينقصه مثل ما يملك، فمن يملك عشرة يرى نفسه محتاجا لعشرة أخرى، ومن يملك ألفا يرى نفسه محتاجا لألف أخرى. وهذا معنى الحديث: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن يكون له واديان).
ولا يقصد الأخلاقيون من التزهيد في المال التثبيط عن كسبه، إنما يقصدون أن لا يتجاوز كسبه الطرائق الطبيعية الشريفة. أما السياسيون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت، والغربيون منهم يعينون الأمة على الكسب ليشاركوها، والشرقيون لا يفتكرون في غير سلب الموجود، وهذه من جملة الفروق بين الاستبدادين الغربي والشرقي، التي منها أن الاستبداد الغربي يكون أحكم وأرسخ وأشد وطأة ولكن مع اللين، والشرقي يكون مقلقلا سريع الزوال، ولكنه يكون مزعجا. ومنها أن الاستبداد الغربي إذا زال تبدل بحكومة عادلة تقيم ما ساعدت الظروف أن تقيم، أما الشرقي فيزول ويخلفه استبداد شرّ منه لأن من دأب الشرقيين أن لا يفتكروا في مستقبل قريب، كأن أكبر همهم منصرف إلى ما بعد الموت فقط، أو أنهم مبتلون بقصر البصر.
وخلاصة القول إن الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذلّ للنفوس من السؤال. داء إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي: القضاء القضاء، والأرض تناجي ربها بكشف البلاء. الاستبداد عهد أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء، وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجلهم الموت فيحسدهم الأحياء.