الاستبداد والتربية
خلق الله في الإنسان استعدادا للصلاح واستعداد للفساد، فأبواه يصلحانه وأبواه يفسدانه. أي أن التربية تربو باستعداده جسما ونفسا وعقلا إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقد سبق أن الاستبداد المشئوم يؤثر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم، بناء عليه تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته، وهل يتم بناء وراءه هادم؟
الإنسان لا حدّ لغايتيه رقيا وانحطاطا. وهذا الإنسان الذي حارت العقول فيه، الذي تحمّل أمانة تربية النفس، وقد أبتها العوالم، فأتم خالقه استعداده ثم أوكله لخيرته. فهو إن يشأ الكمال يبلغ فيه إلى ما فوق مرتبة الملائكة، وإن شاء تلبس بالرذائل حتى يكون أحط من الشياطين، على أن الإنسان أقرب للشر منه للخير. وكفى أن الله ما ذكر الإنسان في القرآن، إلا وقرن اسمه بوصف قبيح كظلوم وغرور وكفار وجبار وجهول وأثيم. ما ذكر الله تعالى الإنسان في القرآن إلا وهجاه فقال: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى، وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً، خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ما وجد من مخلوقات الله من نازع الله في عظمته، والمستبدون من الإنسان ينازعونه فيها، والمتناهون في الرذالة قد يقبحون عبثا لغير حاجة في النفس حتى وقد يتعمدون الإساءة لأنفسهم.
الإنسان في نشأته كالغصن الرطب فهو مستقيم لدن بطبعه، ولكنها أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال الشر، فإذا شب يبس وبقي على أمياله ما دام حيا. بل تبقى روحه إلى أبد الآبدين في نعيم السرور بإيفائه حق وظيفة الحياة أو في جحيم الندم على تفريطه. وربما كان لا غرابة في تشبيه الإنسان بعد الموت بالمرء الفرح الفخور إذا نام ولذت له الأحلام، أو بالمجرم الجاني إذا نام فغشيته قوارص الوجدان بهواجس كلها ملام وآلام.
التربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهم أصولها وجود المربين وأهم فروعها وجود الدين. وجعلت الدين فرعًا لا أصلا، لأن الدين علم لا يفيد العمل إذا لم يكن مقرونًا بالتمرين. وهذا هو سبب اختلاف الأخلاف من علماء الدين عند الإسلام عن أمثالهم من البراهمة والنصارى، وهو سبب إقبال المسلمين في القرن الخامس وفيما بعده، على قبول أصول الطرائق التي كانت لبًّا محضًا لما كانت تعليمًا وتمرينًا أي تربية للمريدين، ثم خالطها القشر، ثم صارت قشرًا محضا، ثم صار أكثرها لهوا أو كفرا.
ملكة التربية بعد حصولها إن كانت شرا تضافرت مع النفس ووليها الشيطان الخناس فرسخت، وإن كانت خيرا تبقى مقلقلة كالسفينة في بحر الأهواء، لا يرسو بها إلا فرعها الديني في السر والعلانية، أو الوازع السياسي عند يقين العقاب.
والاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات منه فلا يمسها لأنها تلائمه في الأكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلا تفيد في تطهير النفوس شيئا، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعا لفقده في النفوس، التي ألفت أن تتلجأ وتتلوى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يستغرب في الأسير الأليف تلك الحال، أي الرياء، أن يستعمله أيضا مع ربه، ومع أبيه وأمه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه.
التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين، هي وظيفة الأم أو الحاضنة، ثم تضاف إليها تربية النفس إلى السابعة، وهي وظيفة الأبوين والعائلة معا، ثم تضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ، وهي وظيفة المعلمين والمدارس، ثم تأتي تربية القدرة بالأقربين والخلطاء إلى الزواج، وهي وظيفة الصدفة، ثم تأتي تربية المقارنة، وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق.
ولا بد أن تصحب التربية من بعد البلوغ، تربية الظروف المحيطة، وتربية الهيئة الاجتماعية، وتربية القانون أو السير السياسي، وتربية الإنسان نفسه.
•••
وهكذا الأمة تحرص على أن يعيش ابنها راضيًا بنصيبه من حياته لا يفتكر قط كيف تكون بعده حالة صبية ضعاف يتركهم وراءه، بل يموت مطمئنًا راضيًا مرضيًّا آخر دعائه: فلتحيَ الأمة فلتحيَ الهمة.
أما المعيشة الفوضى في الإدارات المستبدة فهي غنية عن التربية، لأنها محض نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والأحراش، يسطو عليها الحَرق والغرق. وتحطمها العواصف والأيدي القواصف، ويتصرف في فسائلها وفروعها الفأس الأعمى، فتعيش ما شاءت رحمة الحطابين أن تعيش، والخيار للصدفة تعوج أو تستقيم، تثمر أو تعقم.
يعيش الإنسان في ظل العدالة والحرية نشيطا على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله، إن طعم تلذذ، وإن تلهى تروح وتريض، لأنه هكذا رأى أبويه وأقرباءه، وهكذا يرى قومه الذين يعيش بينهم. يراهم رجالا ونساءً، أغنياء وفقراء، ملوكًا وصعاليك، كلهم دائبين على الأعمال يفتخر منهم كاسب الدينار بكده وجده، على مالك المليار إرثًا عن أبيه وجده. نعم يعيش العامل ناعم البال يسره النجاح ولا تقبضه الخيبة، إنما ينتقل من عمل إلى غيره، ومن فكر إلى آخر، فيكون متلذذًا بآماله إن لم يسارعه السعد في أعماله، وكيفما كان يبلغ العذر عند نفسه والناس بمجرد إيفائه وظيفة الحياة أي العمل. ويكون فرحًا فخورًا نجح أو لم ينجح، لأنه بريء من عار العجز والبطالة.
أما أسير الاستبداد، فيعيش خاملا خامدًا ضائع القصد، حائرًا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته ويدرج أيامه وأعوامه، كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب. ويخطئ والله من يظن أن أكثر الأسراء لاسيما منهم الفقراء لا يشعرون بآلام الأسر. مستدلا بأنهم لو كانوا يشعرون لبادروا إلى إزالته، والحقيقة في ذلك أنهم يشعرون بأكثر الآلام ولكنهم لا يدركون ما هو سببها ومن أين جاءتهم. فيرى أحدهم نفسه منقبضًا عن العمل، لأنه غير أمين على اختصاصه بالثمرة. وربما ظن السلب حقًّا طبيعيًّا للأقوياء فيتمنى أن لو كان منهم. ثم يعمل تارة ولكن بدون نشاط ولا إتقان فيفشل ضرورة، ولا يدري أيضًا ما السبب، فيغضب على ما يسميه سعدًا أو حظًّا أو طالعًا أو قدرًا. والمسكين من أين له أن يعرف أن النشاط والإتقان لا يتأتيان إلا مع لذة انتظار النجاح في العمل، تلك اللذة التي قدر الحكماء أنها اللذة الكبرى، لاستمرار زمانها من حين العزم إلى تمام العمل، والأسير لا اطمئنان فيه على الاستمرار، ولا تشجيع له على الصبر والجلد.
الأسير المعذب المنتسب إلى دين يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعده له الرحمن، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وأنه ربما كان خاسر الصفقتين، بل ذلك هو الكائن غالبًا. ولبسطاء الإسلام مسليات أظنها خاصة بهم يعطفون مصائبهم عليها وهي نحو قولهم: الدنيا سجن المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحب الله عبدًا ابتلاه، هذا شأن آخر الزمان، حسب المرء لقيمات يقمن صلبه. ويتناسون حديث «إن الله يكره العبد البطال» والحديث المفيد معنى «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها»، ويتغافلون عن النص القاطع المؤجل قيام الساعة إلى ما بعد استكمال الأرض زخرفتها وزينتها. وأين ذلك بعد؟
وكل هذه المسليات المثبطات تهون عند ذلك السم القاتل، الذي يحول الأذهان عن التماس معرفة سبب الشقاء، فيرفع المسئولية عن المستبدين ويلقيها على عاتق القضاء والقدر، بل على عاتق الأسراء المساكين أنفسهم. وأعني بهذا السم سوء فهم العوام، وبله الخواص، لما ورد في التوراة من نحو: «اخضعوا للسلطان ولا سلطة إلا من الله» و«الحاكم لا يتقلد السيف جزافًا، إنه مقام للانتقام من أهل الشر»: ولما ورد في الرسائل من نحو: «فلتخضع كل نسمة للسلطة المقامة من الله»، وقد صاغ وعاظ المسلمين ومحدثوهم من ذلك قولهم: «السلطان ظل الله في الأرض». و «الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه». و«الملوك ملهمون». هذا وكل ما ورد في هذا المعنى إن صح فهو مقيد بالعدالة أو محتمل للتأويل بما يعقل، وبما ينطبق على حكم الآية الكريمة التي فيها فصل الخطاب وهي: أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. وآية: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ.
•••
التربية علم وعمل. وليس من شأن الأمم المملوكة شئونها، أن يوجد فيها من يعلم التربية ولا من يعلمها. حتى إن الباحث لا يرى عند الأسراء علمًا في التربية مدفونًا في الكتب فضلا عن الأذهان. أما العمل فكيف يتصور وجوده بلا سبق عزم، وهو بلا سبق يقين، وهو بلا سبق علم. وقد ورد في الأثر «النية سابقة العمل». وورد في الحديث: «إنما الأعمال بالنيات». بناء عليه ما أبعد الناس المغصوبة إرادتهم، المغلولة أيديهم، عن توجيه الفكر إلى مقصد مفيد كالتربية، أو توجيه الجسم إلى عمل نافع كتمرين الوجه على الحياء والقلب على الشفقة.
نعم ما أبعد الأسراء عن الاستعداد لقبول التربية، وهي قصر النظر على المحاسن والعبر، وقصر السمع على الفوائد والحكم، وتعويد اللسان على قول الخير، وتعويد اليد على الإتقان، وتكبير النفس عن السفاسف، وتكبير الوجدان عن نصرة الباطل، ورعاية الترتيب في الشئون، ورعاية التوفير في الوقت والمال. والاندفاع بالكلية لحفظ الشرف، لحفظ الحقوق، ولحماية الدين، لحماية الناموس، ولحب الوطن، لحب العائلة، ولإعانة العلم، لإعانة الضعيف، ولاحتقار الظالمين، لاحتقار الحياة. إلى غير ذلك مما لا ينبت إلا في أرض العدل، تحت سماء الحرية، في رياض التربيتين العائلية والقومية.
الاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحس وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره. وينتج من ذلك أن الاستبداد المشئوم، هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. بناء عليه يرى الآباء أن تعبهم في تربية الأبناء التربية الأولى على غير ذلك لا بد أن يذهب عبثا تحت أرجل تربية الاستبداد، كما ذهبت قبلها تربية آبائهم لهم، أو تربية غيرهم لأبنائهم سدى.
ثم إن عبيد السلطة التي لا حدود لها هم غير مالكين أنفسهم، ولا هم آمنون على أنهم يربون أولادهم لهم. بل هم يربون أنعاما للمستبدين، وأعوانًا لهم عليهم. وفي الحقيقة أن الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق. فالتوالد من حيث هو زمن الاستبداد حمق، والاعتناء بالتربية حمق مضاعف! وقد قال شاعر:
وغالب الأسراء لا يدفعهم للزواج قصد التوالد، إنما يدفعهم إليه الجهل المظلم وإنهم حتى الأغنياء منهم محرومون من كل الملذات الحقيقية: كلذة العلم وتعليمه، ولذة المجد والحماية، ولذة الإيثار والبذل، ولذة إحراز مقام في القلوب، ولذة نفوذ الرأي الصائب، ولذة كبر النفس عن السفاسف، إلى غير ذلك من الملذات الروحية.
العِرض، زمن الاستبداد، كسائر الحقوق غير مصون، بل هو معرض لهتك الفساق من المستبدين والأشرار من أعوانهم، فإنهم كما أخبر القرآن عن الفراعنة، يأسرون الأولاد ويستحيون النساء، خصوصًا في الحواضر الصغيرة والقرى المستضعف أهلها. ومن الأمور المشاهدة أن الأمم التي تقع تحت أسر أمة تغايرها في السيماء، لا يمضي عليها أجيال إلا وتغشو فيها سيماء الآسرين: كسواد العيون في الإسبانيول، وبياض البشرة في الأفريقيين. وعدم الاطمئنان على العرض، يضعف الحب الذي لا يتم إلا بالاختصاص، ويضعف لصقة الأولاد بأزواج أمهاتهم فتضعف الغيرة على تحمل مشاق التربية، تلك الغيرة التي لأجلها شرع الله النكاح وحرم السفاح.
للسعة والفقر أيضًا دخل كبير في تسهيل التربية، وأين الأسراء من السعة كما أن لانتظام المعيشة ولو مع الفقر علاقة قوية في التربية، ومعيشة الأسراء أغنياء كانوا أو معدمين، كلها خلل في خلل، وضيق في ضيق، وذلك يجعل الأسير هين النفس، وهذا أول دركات الانحطاط، ويرى ذاته لا يستحق المزيد في النعيم مطمعا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا، وهذا ثاني الدركات، ويرى استعداده قاصرًا عن الترقي في العلم، وهذا ثالثها، ويرى حياته على بساطتها لا تقوى إلا بمعاونة غيره له، وهذا رابعها، وهلم جرا!
بناء عليه ما أبعد الأسراء عن النشاط للتربية، ثم لماذا يتحملون مشاق التربية وهم إن نوّروا أولادهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية إحساسهم، فيزيدونهم شقاءً، ويزودونهم بلاءً، ولهذا لا غرو أن يختار الأسراء الذين فيهم بقية من الإدراك، ترك أولادهم هملا تجرفهم البلاهة إلى حيث تشاء.
وإذا افتكرنا كيف ينشأ الأسير في البيت الفقير وكيف يتربى، نجد أنه يلقح به وفي الغالب أبواه متناكدان متشاكسان، ثم إذا تحرك جنينا حرك شراسة أمه فشتمته، أو زاد آلام حياتها فضربته، فإذا ما نما ضيقت عليه بطنها لألفتها الانحناء خمولا والتصرر صَغارًا، والتقلص لضيق فراش الفقر، ومتى ولدته ضغطت عليه بالقماط اقتصادًا أو جهلا، فإذا تألم وبكى سدت فمه بثديها، أو نفسه خضًّا أو بدوار السرير، أو سقته مخدرًا عجزًا عن نفقة الطبيب، فإذا ما فطم، يأتيه الغذاء الفاسد يضيق معدته ويفسد مزاجه، فإن كان قوي البنية طويل العمر وترعرع، يُمنع من رياضة اللعب لضيق البيت، فإن سأل واستفهم ماذا وما هذا ليتعلم، يزجر ويلكم لضيق خلق أبويه، وإن جالسهما ليألف المعاشرة وينتفي عنه التوحش، يبعدانه كي لا يقف على أسرارهما فيسترقها منه الجيران الخلطاء، فتُنمى إلى أعوان الظالمين وما أكثرهم، فإذا قويت رجلاه يُدفع به إلى خارج الباب، إلى مدرسة الإلفة على القذارة، وتعلم صيغ الشتائم والسباب، فإن عاش ونشأ وضع في مَكتب أو عند ذي صنعة، فيكون أكبر القصد ربطه عن السراح والمراح. فإذا بلغ الشباب، ربطه أولياؤه على وتد الزواج كي لا يفر من مشاكلتهم في شقاء الحياة، ليجني هو على نسله كما جنى عليه أبواه، ثم هو يتولى التضييق على نفسه بأطواق الجهل وقيود الخوف، ويتولى المستبدون التضييق على عقله ولسانه وعمله وأمله.
وهكذا يعيش الأسير من حين يكون نسمة في ضيق وضغط، يهرول ما بين عتبة هم ووادي غم، يودع سقمًا ويستقبل سقمًا إلى أن يفوز بنعمة الموت مضيعًا دنياه مع آخرته، فيموت غير آسف ولا مأسوفًا عليه.
وما أظلم من يؤاخذ الأسراء على عدم اعتنائهم بلوازم الحياة. فالنظافة مثلا: لماذا يهتم بها الأسير؟ هل لأجل صحته وهو في مرض مستمر، أم لأجل لذته وهو المتألم كيفما تقلب جسمه أو نظره؟ أم لأجل ذوق من يجالس أو يؤاكل، وهو من عفت نفسه صحبة الحياة.
ولا يظنن المطالع أن حالة أغنياء الأسراء هي أقل شرًّا من هذا، كلا، بل هم أشقى وأقل عافية وأقصر عمرًا من هذا، إذا نقصتهم بعض المنغصات، تزيد فيهم مشاق التظاهر بالراحة والرفاه والعزة والمنعة، تظاهرًا إن صح قليله فكثيره الكاذب، حمل ثقيل على عواتقهم كالسكران يتصاحى فيبتلى بالصداع، أو كالعاهرة البائسة تتضاحك لترضي الزاني.
حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها، حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط، ولا علاقة لها بحفظ المزايا البشرية، وبناء على هذا، كان فاقد الحرية لا أنانية له لأنه ميت بالنسبة لنفسه، حي بالنسبة لغيره، كأنه لا شيء في ذاته، إنما هو شيء بالإضافة. ومن كان وجوده في الوجود بهذه الصورة وهي الفناء في المستبدين، حق له أن لا يشعر بوظيفة شخصية فضلا عن وظيفة اجتماعية. ولولا أن ليس في الكون شيء غير تابع لنظام حتى الجماد، حتى فلتات الطبيعة والصدف التي هي مسببات لأسباب نادرة، لحكمنا بأن معيشة الأسراء هي محض فوضى، لا شبه فوضى.
على أن التدقيق العميق، يفيدنا بأن للأسراء، قوانين غريبة في مقاومة الفناء يصعب ضبطها وتعريفها، إنما الأسير يرضعها مع لبن أمه ويتربى عليها، وقد يبدع فيها بسائق الحاجة، ويكون منهم الحاذق فيها علمًا، الماهر في تطبيقها عملا، هو الموفق في ميدان حرب الحياة مع الذل كالهنود واليهود. والعاجز عنها، إما جاهل هذا القانون أو العاجز فطرة عن أتباعه كالعرب مثلا، فلا يخرج عن كونه كرة يلعب بها صبيان الاستبداد، تارة يضربون بها الأرض أو الحيطان، وأخرى تتناولها أرجلهم بالصفعات، وهذا إذا كان عجز الأسير عن جهل، وأما إذا كان عجزه كما يقال عن عرق هاشمي، أي عن شيء من كرامة نفس أو قوة إحساس أو جسارة جنان، فيكون كالحجارة تتكسر ولا تلين.
قوانين حياة الأسير هي مقتضيات الشئون المحيطة به، التي تضطره لأن يطبق إحساساته عليها ويدبر نفسه على موجبها، وذلك نحو مقابلة التجبر عليه بالتذلل والتصاغر، وتعديل الشدة عليه بالتلاين والمطاوعة وإعطاء المطلوب منه بعد قليل من التمنع ولو أن المطلوب هو ابنه لمجزرة الجندية أو بنته لفراش شيخ شرير، والمطالبة في الحقوق بصفة استعطاف كأنه طالب صدقة، وكسب المعاش مع شكاية الحاجة، وحفظ المال بإخفائه عن الأعيان، والتعامي عن زلات المستبدين، والتصامم عن سماع ما يهان به، والتظاهر بفقد الحس أو تعطيله بالمخدرات القوية كالأفيون والحشيش، وتعطيل العقل بالتباله وستر العلم بالتجاهل، والارتداء بالتدين والرياء، وتعويد اللسان على الزلاقة في عبائر التصاغر والتملق، وعزو كل خير إلى فضل المستبدين حتى إذا كان الخير طبيعيًّا نحو مطر السماء، فعزوه إلى يمن الحكام أو دعاء الكهان. ويسند كل شر ولو من نوع التسلط على الأعراض، إلى الاستحقاق من جانب الله. إلى غير ذلك من أحكام ذلك القانون، الذي رءوس مسائله فقط تمل القارئ فضلا عن تفصيلاتها.
إن أخوف ما يخافه الأسير هو أن يظهر عليه أثر نعمة الله في الجسم أو المال، فتصيبه عين الجواسيس (وهذا أصل عقيدة إصابة العين)!، أو أن يظهر له شأن في علم أو جاه أو نعمة مهمة، فيسعى به حاسدوه إلى المستبد (وهذا أصل شر الحسد الذي يتعوذ منه)!، وقد يتحيل الأسير على حفظ ماله الذي لا يمكنه إخفاؤه كالزوجة الجميلة، أو الدابة الثمينة، أو الدار الكبيرة، فيحميها بإسناد الشؤم، (وهذا أصل التشاؤم بالأقدام والنواصي والأعتاب).
ومن غريب الأحوال أن الأسراء يبغضون المستبد، ولا يقوون على استعمالهم معه البأس الطبيعي الموجود في الإنسان إذا غضب، فيصرفون بأسهم في وجهة أخرى ظلمًا: فيعادون من بينهم فئة مستضعفة، أو الغرباء، أو يظلمون نساءهم ونحو ذلك. ومثلهم في ذلك مثل الكلاب الأهلية، إذا أريد منها الحراسة والشراسة فأصحابها يربطونها نهارًا ويطلقونها ليلا فتصير شرسة عقورا، وبهذا التعليل تعلل جسارة الأسراء أحيانًا في محارباتهم، لا أنها جسارة عن شجاعة. وأحيانًا تكون جسارة الأسراء عن التناهي في الجبانة أمام المستبد، الذي يسوقهم إلى الموت فيطيعونه انذعارًا كما تطيع الغنمة الذئب فتهرول بين يديه إلى حيث يأكلها.
•••
وقد اتضح مما تقدم أن التربية غير مقصودة ولا مقدورة في ظلال الاستبداد إلا ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة، وهذا النوع يستلزم انخلاع القلوب لا تزكية النفوس. وقد أجمع علماء الاجتماع والأخلاق والتربية على أن الإقناع خير من الترغيب فضلا عن الترهيب، وأن التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم، أفضل من التعليم مع الوقار، وأن التعليم عن رغبة في التكمل أرسخ من العلم الحاصل طمعًا في المكافأة، أو غيرةً من الأقران. وعلى هذه القاعدة بنوا قولهم: إن المدارس تقلل الجنايات لا السجون، وقولهم: إن القصاص والمعاقبة قلما يفيدان في زجر النفس كما قال الحكيم العربي:
ومن يتأمل جيدًا في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ ملاحظًا أن معنى القصاص لغة هو التساوي مطلقًا لا مقصورًا على المعاقبة بالمثل في الجنايات فقط، ويدقق النظر في القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية، ويتبع مسالك الرسل العظام عليهم الصلاة والسلام، يرى أن الاعتناء في طريق الهداية فيها منصرف إلى الإقناع، ثم إلى الأطماع عاجلا أو آجلا، ثم إلى الترهيب الآجل غالبًا ومع ترك أبواب تدلي إلى النجاة.
ثم إن التربية التي هي ضالّة الأمم وفقدها هو المصيبة العظمى، التي هي المسألة الاجتماعية حيث الإنسان يكون إنسانًا بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمة، والتربية المطلوبة هي التربية المرتبة على إعداد العقل للتمييز، ثم على حسن التفهيم والإقناع، ثم على تقوية الهمة والعزيمة، ثم على التمرين والتعويد، ثم على حسن القدوة والمثال، ثم على المواظبة والإتقان، ثم على التوسط والاعتدال، وأن تكون تربية العقل مصحوبة بتربية الجسم، لأنهما متصاحبان صحة واعتلالا، فإنه يقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى تحمل المشاق، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغذاء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة والراحة. وأن تكون تلكما التربيتان مصحوبتين أيضًا بتربية النفس على معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه. فإذا كان لا مطمع في التربية العامة على هذه الأصول بمانع طبيعة الاستبداد، فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا أولا وراء إزالة المانع الضاغط على العقول، ثم بعد ذلك يعتنوا بالتربية حيث يمكنهم حينئذ أن ينالوها على توالي البطون والله الموفق.