الاستبداد والترقي
الحركة سنّة عاملة في الخليقة دائبة بين شخوص وهبوط. فالترقي هو الحركة الحيوية أي حركة الشخوص، ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت أو الانحلال أو الاستحالة أو الانقلاب.
وهذه السنة كما هي عاملة في المادة وأعراضها، عاملة أيضًا في الكيفيات ومركباتها، والقول الشارح لذلك آية: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ وحديث: «ما تم أمر إلا وبدا نقصه» وقولهم: «التاريخ يعيد نفسه». وحكمهم بأن الحياة والموت حقان طبيعيان.
وهذه الحركة الجسمية والنفسية والعقلية لا تقتضي السير إلى النهاية شخوصًا أو هبوطًا، بل هي أشبه بميزان الحرارة كل ساعة في شأن، والعبرة في الحكم للوجهة الغالبة، فإذا رأينا في أمة آثار حركة الترقي هي الغالبة على أفرادها، حكمهنا لها بالحياة، ومتى رأينا عكس ذلك قضينا عليها بالموت.
الأمة هي مجموعة أفراد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين، كما أن البناء مجموع أنقاض، فحسبما تكون الأنقاض جنسًا وجمالا وقوةً يكون البناء، فإذا ترقت أو انحطت أفراد الأمة، ترقت أو انحطت هيئتها الاجتماعية، حتى إن حالة الفرد الواحد من الأمة تؤثر في مجموع تلك الأمة. كما إذا لو اختلت حجرة من حصن يختل مجموعه وإن كان لا يشعر بذلك، كما لو وقفت بعوضة على طرف سفينة عظيمة أثقلتها وأمالتها حقيقة وإن لم يدرك ذلك بالمشاعر. وبعض السياسيين بنى على هذه القاعدة أنه يكفي الأمة رقيًّا أن يجتهد كل فرد منها في ترقية نفسه بدون أن يفتكر في ترقي مجموع الأمة.
الترقي الحيوي الذي يتدرج فيه الإنسان بفطرته وهمته هو أولا: الترقي في الجسم صحة وتلذذًا، ثانيًا: الترقي في القوة بالعلم والمال، ثالثًا: الترقي في النفس بالخصال والمفاخر، رابعًا: الترقي بالعائلة استئناسًا وتعاونًا، خامسًا: الترقي بالعشيرة تناصرًا عند الطوارئ، سادسًا: الترقي بالإنسانية وهذا منتهى الترقي.
وهناك نوع آخر من الترقي يتعلق بالروح وبالكمال، وهو أن الإنسان يحمل نفسًا ملهمة بأن لها وراء حياتها هذه حياة أخرى تترقى إليها على سلم العدل والرحمة والحسنات. فأهل الأديان، ما عدا أهل التوراة، يؤمنون بالبعث أو التناسخ، فيأتون بالعدل والرحمة رجاء المكافأة أو خوف المجازاة، وهم من قبيل الطبيعيين يعتبرون أنفسهم مدينين للإنسانية بحفظها تاريخ الحياة الطبيعية، فيلتزمون خدمتها اهتمامًا بحياتهم التاريخية بحسن الذكر أو قبحه.
وهذه الترقيات، على أنواعها الستة، لا يزال الإنسان يسعى وراءها ما لم يعترضه مانع غالب يسلب إرادته، وهذا المانع إما هو القدر المحتوم، المسمى عند البعض بالعجز الطبيعي، أو هو الاستبداد المشئوم. على أن القدر قد يصدم سير الترقي لمحة ثم يطلقه فيكُر راقيًا. وأما الاستبداد فإنه يقلب السير من الترقي إلى الانحطاط، من التقدم إلى التأخر، من النماء إلى الفناء، ويلازم الأمة ملازمة الغريم الشحيح، ويفعل فيها دهرًا طويلا أفعاله التي تقدم وصف بعضها في الأبحاث السابقة، أفعاله التي تبلغ بالأمة حطة العجماوات فلا يهمها غير حفظ حياتها الحيوانية فقط، بل قد تبيح حياتها هذه الدنيئة أيضًا للاستبداد إباحة ظاهرة أو خفية. ولا عار على الإنسان أن يختار الموت على الذل، وهذه سباع الطير والوحوش إذا أسرت كبيرة قد تأبى الغذاء حتى تموت.
وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمته بالحرية تشقى وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أُطلق سراحها. وعندئذ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها.
وتوصف حركة الترقي والانحطاط في الشئون الحيوية للإنسان أنها من نوع الحركة الدودية، التي تحصل بالاندفاع والانقباض، وذلك أن الإنسان يولد وهو أعجز حراكًا ودراكًا من كل حيوان، ثم يأخذ في السير تدفعه «الرغائب» النفسية والعقلية وتقبضه «الموانع» الطبيعية والمزاحمة. وهذا سرُّ أن الإنسان ينتابه الخير والشر. وهو سرُّ ما ورد في القرآن الكريم من ابتلاء الله الناس بالخير وبالشر. وهو معنى ما ورد في الأثر من أن الخير مربوط بذيل الشر، والشر مربوط بذيل الخير، وهو المراد من أقوال الحكماء نحو: على قدر النعمة تكون النقمة، على قدر الهمم تأتي العزائم، بين السعادة والشقاء حرب سجال، العاقل من يستفيد من مصيبته والكيس من يستفيد من مصيبته ومصيبة غيره، والحكيم من يبتهج بالمصائب ليقطف منها الفوائد، ما كان في الحياة لذة لو لم يتخللها آلام.
فإذا تقرر هذا فليعلم أيضًا أن سبيل الإنسان هو إلى الرقي، ما دام جناحا الاندفاع والانقباض فيه متوازيين كتوازن الإيجابية أو السلبية في الكهربائية، وسبيله القهقرى إن غلبته الطبيعة أو المزاحمة. ثم إن الاندفاع إذا غلب فيه العقل النفس، كانت الوجهة إلى الحكمة، وإن غلبت النفس العقل، كانت الوجهة إلى الزيغ. أما الانقباض فالمعتدل منه هو السائق للعمل، والقوي منه مهلك مسكن للحركة، والاستبداد المشئوم الذي نبحث فيه هو قابض ضاغط مسكن والمبتلون به هم المساكين، نعم، أسراء الاستبداد أحق بوصف المساكين من عجزة الفقراء.
ولو ملك الفقهاء حرية النظر لخرجوا من الاختلاف في تعريف المساكين الذين جعل لهم الله نصيبًا من الزكاة فقالوا: هم عبيد الاستبداد، ولجعلوا كفارات فك الرقاب تشمل هذا الرق الأكبر.
أسراء الاستبداد حتى الأغنياء منهم كلهم مساكين لا حراك فيهم، يعيشون منحطين في الإدراك، منحطين في الإحساس، منحطين في الأخلاق. وما أظلم توجيه اللوم إليهم بغير لسان الرأفة والإرشاد، وقد أبدع من شبه حالتهم بدود تحت صخرة، فما أليق باللائمين أن يكونوا مشفقين يسعون في رفع الصخرة ولو حتًّا بالأظافر ذرة بعد ذرة.
قد أجمع الحكماء على أن أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد الأمم، الذين فيهم نسمة مروءة وشرارة حمية، الذين يعرفون ما هي وظيفتهم بإزاء الإنسانية الملتمسين لإخوانهم العافية، أن يسعوا في رفع الضغط عن العقول لينطلق سبيلها في النمو فتمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف، شأن الطبيب في اعتنائه أولا بقوة جسم المريض، وأن يكون الإرشاد متناسبًا مع الغفلة خفةً وقوة: كالساهي ينبهه الصوت الخفيف، والنائم يحتاج إلى صوت أقوى، والغافل يلزمه صياح وزجر. فالأشخاص من هذا النوع الأخير، يقتضي لإيقاظهم الآن بعد أن ناموا أجيالا طويلة، أن يسقيهم النطاسي البارع مرًّا من الزواجر والقوارص علّهم يفيقون، وإلا فهم لا يفيقون، حتى يأتي القضاء من السماء: فتبرق السيوف وترعد المدافع وتمطر البنادق، فحينئذ يصحون ولكن صحوة الموت!
بعض الاجتماعيين في الغرب يرون أن الدين يؤثر على الترقي الإفرادي ثم الاجتماعي، تأثيرًا معطلا كفعل الأفيون في الحس، أو حاجبًا كالغيم يغشى نور الشمس. وهناك بعض الغلاة يقولون: الدين والعقل ضدان متزاحمان في الرءوس، وإن أول نقطة من الترقي تبتدئ عند آخر نقطة من الدين. وإن أصدق ما يُستدل به على مرتبة الرقي والانحطاط في الأفراد أو في الأمم الغابرة والحاضرة، هو مقياس الارتباط بالدين قوة وضعفًا.
هذه الآراء كلها صحيحة لا مجال للرد عليها، ولكن بالنظر إلى الأديان الخرافية أساسًا أو التي لم تقف عند حد الحكمة، كالدين المبني على تكليف العقل بتصور أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد. لأن مجرد الإذعان لما لا يعقل برهان على فساد بعض مراكز العقل، ولهذا أصبح العالم المتمدن يعدّ الانتساب إلى هذه العقيدة من العار لأنه شعار الحمق.
أما الأديان المبنية على العقل المحض كالإسلام الموصوف بدين الفطرة، ولا أعني بالإسلام ما يدين به أكثر المسلمين الآن، إنما أريد بالإسلام: دين القرآن، أي الدين الذي يقوى على فهمه من القرآن كل إنسان غير مقيد الفكر بتفصّح زيد أو تحكم عمرو.
فلا شك في أن الدين إذا كان مبنيًّا على العقل، يكون أفضل صارف للفكر عن الوقوع في مصائد المخرفين، وأنفع وازع يضبط النفس من الشطط، وأقوى مؤثر لتهذيب الأخلاق، وأكبر معين على تحمل مشاق الحياة، وأعظم منشط على الأعمال المهمة الخطرة. وأجل مثبت على المبادئ الشريفة، وفي النتيجة يكون أصح مقياس يستدل به على الأحوال النفسية في الأمم والأفراد رقيًّا وانحطاطًا.
هذا القرآن الكريم إذا أخذناه وقرأناه بالتروي في معاني ألفاظه العربية وأسلوبه تركيبه القرشي، مع تفهم أسباب نزول آياته وما أشارت إليه، ومع التبصر في مقاصده الدقيقة وتشريعه السامي، ومع أخذ بعض التوضيحات من السنة العملية النبوية أو الإجماع إن وجدا، وقلّما يوجدان، فحينئذ لا نرى فيه من أوله إلى آخره غير حكم يتلقاها العقل بالإجلال والإعظام، إلى درجة انقياد العقل طوعًا أو كرهًا للإيمان إجمالا بأن تلك الحكم حكم عزيزة إلهية، وأن الذي أنزلها الله على قلبه هو أفضل من أرسله الله مرشدًا لعباده.
وتوضيح ذلك: أن الناظر في القرآن حق النظر يرى أنه لا يكلف الإنسان قط بالإذعان لشيء فوق العقل، بل يحذره وينهاه من الإيمان إتباعًا لرأي الغير أو تقليدًا للآباء. ويراه طافحًا بالتنبيه إلى إعمال الإنسان فكره ونظره في هذه الكائنات وعظيم انتظامها، ثم الاستدلال بذلك إلى أن لهذه الكائنات صانعًا أبدعها من العدم، ثم الانتقال إلى معرفة الصفات التي يستلزم العقل أن يكون هذا الصانع متصفًا بها، أو منزهًا عنها، ثم يرى القرآن يعلم الإنسان بعض أعمال وأحكام وأوامر ونواهي كلها لا تبلغ المائة عددًا، وكلها بسيطة معقولة، إلا قليلا من الأمور التعبدية التي شرعت لتكون شعارًا يعرف به المسلم أخاه، أو يستطلع من خلال قيامه بها أو تهاونه فيها أخلاقه، فيستدل مثلا بالتكاسل عن الصلاة على فقد النشاط، وبترك الصوم على عدم الصبر، وبالسكر على غلبة النفس العقل ونحو ذلك.
وكفى بالإسلامية رقيًّا في التشريع، رقيها بالبشر إلى منزل حصرها أسارة الإنسان في جهة شريفة واحدة وهي (الله)، وعتقها عقل البشر عن توهم وجود قوة ما في غير الله من شأنها أن تأتي للإنسان بخير ما أو تدفع عنه شرًّا ما. فالإسلامية تجعل الإنسان لا يرجو ولا يهاب من رسول أو نبي أو ملك أو فلك، أو ولي أو جني، أو ساحر أو كاهن، أو شيطان أو سلطان.
وأعظم بهذا التعليم الذي يرمي الإنسان به عن عاتقه جبالا من الخوف والأوهام والخيالات، جبالا اعتقلها منذ كان يسرح مع الغيلان، أو ورثها من أبيه آدم الذي طغاه شيطان النفس. أوليس العتيق من الأوهام يصبح صحيح العقل، قوي الإرادة، ثابت العزيمة، قائده الحكمة، سائقه الوجدان، فيعيش حرًّا فرحًا صبورًا فخورًا. لا يبالي حتى بالموت لعلمه بالسعادة التي يستقبلها، التي يمثلها له القرآن بالجنان فيها الروح والريحان، والحور والغلمان، فيها كلُّ ما تشتهي النفس وتقرُّ به العينان.
وأظن أن هؤلاء المنكرين فائدة الدين، ما أنكروا ذلك إلا من عدم اطلاعهم على دين صحيح مع يأسهم من إصلاح ما لديهم، عجزًا عن مقاومة أنصار الفساد. وإذا نظرنا في أن هؤلاء أنفسهم هم في آنٍ واحد يشددون النكير على الدين من جهة قائلين إن ضرره أكبر من نفعه، ويهيجون من جهة أخرى مؤثرات أدبية وهمية محضًا يرون أنه لا بد منها في بناء الأمم، وذلك مثل حب الوطن وخيانته، وحب الإنسانية والإساءة إليها، والسمعة الحسنة وعكسها، والذكر التاريخي بالخير أو الشر ونحو ذلك مما هو لا شيء في ذاته، ولا شيء أيضًا بالنسبة إلى تأثير طاعة الله والخوف منه، لأن (الله) حقيقة لا ريب فيها، بل ولا خلاف إلا في الأسماء بين (الله) وبين (مادة) أو (طبيعة). ولولا أن الماديين والطبيعيين يأبون الاسترسال في البحث في صفات ما يسمونه مادة أو طبيعة، لالتقوا ولا شك مع الإسلام في نقطة واحدة فارتفع الخلاف العلمي وأسلم الكل لله.
•••
وعلى ذكر اللوم الإرشادي لاح لي أن أصور الرقي والانحطاط في النفس، وكيف ينبغي للإنسان العاقل أن يعاني إيقاظ قومه، وكيف يرشدهم إلى أنهم خلقوا لغير ما هم عليه من الصبر على الذل والسفالة، فيذكّرهم ويحرك قلوبهم ويناجيهم وينذرهم بنحو الخطابات الآتية:
«يا قوم، ينازعني والله الشعور، هل موقفي هذا في جمعٍ حيٍّ فأحييه بالسلام، أم أنا أخاطب أهل القبور فأحييهم بالرحمة؟ يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يسمى التنبت، ويصح تشبيهه بالنوم! يا رباه: إني أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون، بل هم موتى لأنهم لا يشعرون».
«يا قوم، هداكم الله، إلى متى هذا الشقاء المديد والناس في نعيم مقيم، وعز كريم، أفلا تنظرون؟ وما هذا التأخر وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل، حتى صار كما صار بعد ورائكم أمامًا! أفلا تتبعون؟ وما هذا الانخفاض والناس في أوج الرفعة، أفلا تغارون؟ أناشدكم الله، هل طابت لكم طول غيبة الصواب عنكم؟ أم أنتم كأهل ذلك الكهف ناموا ألف عام ثم قاموا، وإذا بالدنيا غير الدنيا والناس غير الناس فأخذتهم الدهشة والتزموا السكون».
«يا قوم، وقاكم الله من الشرّ، أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل، وبداء الحرص على كل عتيق كأنكم خلقتم للماضي لا للحاضر: تشكون حاضركم وتسخطون عليه، ومن لي أن تدركوا أن حاضركم نتيجة ماضيكم، ومع ذلك أراكم تقلدون أجدادكم في الوساوس والخرافات والأمور السافلات فقط، ولا تقلدونهم في محامدهم! أين الدين؟ أين التربية؟ أين الإحساس؟ أين الغيرة؟ أين الجسارة؟ أين الثبات؟ أين الرابطة؟ أين المنعة؟ أين الشهامة؟ أين النخوة؟ أين الفضيلة؟ أين المواساة؟ هل تسمعون أم أنتم صمّ لاهون؟».
«يا قوم، عافاكم الله، إلى متى هذا النوم؟ وإلى متى هذا التقلب على فراش البأس ووسادة اليأس؟ أنتم مفتحة عيونكم ولكنكم نيام، لكم أبصار ولكنكم لا تنظرون، وهكذا لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور! لكم سمع ولسان ولكنكم صم بكم، ولكم شبيه الحس ولكنكم لا تشعرون به ما هي اللذائذ حقًا وما هي الآلام، ولكم رءوس كبيرة ولكنها مشغولة بمزعجات الأوهام والأحلام، ولكم نفوس حقها أن تكون عزيزة ولكن أنتم لا تعرفون لها قدرًا ومقامًا».
«يا قوم، أعيذكم بالله من فساد الرأي، وضياع الحزم، وفقد الثقة بالنفس، وترك الإرادة للغير، فهل ترون أثرًا للرشد في أن يوكل الإنسان عنه وكيلا ويطلق له التصرف في ماله وأهله، والتحكم في حياته وشرفه والتأثير على دينه وفكره، مع تسليف هذا الوكيل العفو عن كل عبث وخيانة وإسراف وإتلاف؟ أم ترون أن هذا النوع من الجنّة به يظلم الإنسان نفسه، هل خلق الله لكم عقلا لتفهموا به كل شيء، أم لتهملوه كأنه لا شيء؟ إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».
«يا قوم، شفاكم الله، قد ينفع اليوم الإنذار واللوم، وأما غدًا إذا حل القضاء، فلا يبقى لكم غير الندب والبكاء. فإلى متى هذا التخادع والتخاذل، وإلى متى هذا التواني والتدابر، وإلى متى هذا الإهمال؟ هل طاب لكم النوم على الوسادة اللينة، وسادة الخمول، أم طاب لكم السكون وتودون لو تسكنون القبور، أم عاهدتم أنفسكم أن تصلوا غفلة الحياة بالممات، فلا تفيقوا من السبات قبل صباح يوم النشور، يوم تعلو السيوف رقابكم وتصمي المدافع آذانكم فتمسون الأذلاء حقًا وحق لكم أن تذلوا؟».
«يا قوم، رحمكم الله، ما هذا الحرص على حياة تعيسة دنيئة لا تملكونها ساعة، ما هذا الحرص على الراحة الموهومة وحياتكم كلها تعب ونصب؟ هل لكم في هذا الصبر فخر أو لكم عليه أجر؟ كلا والله ساء ما تتوهمون، ليس لكم إلا القهر في الحياة، وقبيح الذكر بعد الممات، لأنكم ما أفدتم الوجود شيئًا، بل أتلفتم ما ورثتم عن السلف وصرتم بئس الواسطة للخلف. ألستم يا ناس مديونين للأسلاف بكل ما أنتم فيه من الترقي عن إنسان الغابات؟ فإذا لم تكونوا أهلا للمزيد فكونوا أهلا للحفظ، وهذه العجماوات تنقل رقيها لنسلها بأمانة».
«يا قوم، حماكم الله، قد جاءكم المستمتعون من كل حدب ينسلون، فإن وجدوكم أيقاظًا عاملوكم كما يتعامل الجيران ويتجامل الأقران، وإن وجدوكم رقودًا لا تشعرون سلبوا أموالكم، وزاحموكم على أرضكم، وتحيّلوا على تذليلكم، وأوثقوا ربطكم واتخذوكم أنعامًا، وعندئذ لو أردتم حراكًا لا تقوون، بل تجدون القيود مشدودة والأبواب مسدودة لا نجاة ولا مخرج».
«يا قوم، هون الله مصابكم، تشكون من الجهل ولا تنقفون على التعليم نصف ما تصرفون على التدخين، تشكون من الحكام، وهم اليوم منكم، فلا تسعون في إصلاحهم. تشكون فقد الرابطة، ولكم روابط من وجوه لا تفكرون في إحكامها. تشكون الفقر ولا سبب له غير الكسل. هل ترجون الصلاح وأنتم يخادع بعضكم بعضًا؟ ولا تخدعون إلا أنفسكم. ترضون بأدنى المعيشة عجزًا تسمونه قناعة، وتهملون شئونكم تهاونًا تسمونه توكلا. تموهون عن جهلكم الأسباب بقضاء الله وتدفعون عار المسببات بعطفها على القدر، ألا والله ما هذا شأن البشر!».
«يا قوم، سامحكم الله، لا تظلموا الأقدار وخافوا غيرة المنعم الجبار. ألم يخلقكم أكفاء أحرارًا طلقاء لا يثقلكم غير النور والنسيم، فأبيتم إلا أن تحملوا على عواتقكم ظلم الضعفاء وقهر الأقوياء! لو شاء كبيركم أن يحمّل صغيركم كرة الأرض لحنى له ظهره، ولو شاء أن يركبه لطأطأ له رأسه. ماذا استفدتم من هذا الخضوع والخشوع لغير الله؟ وماذا ترجون من تقبيل الأذيال والأعتاب وخفض الصوت ونكس الرأس. أليس منشأ هذا الصغار كله هو ضعف ثقتكم بأنفسكم، كأنكم عاجزون عن تحصيل ما تقوم به الحياة، وحسب الحياة لُقيمات من نبات يقمن ضلع ابن آدم، وقد بذلها الخلاق لأضعف الحيوان، هذه الوحوش تجد فرائسها أينما حلت، وهذه الهوام لا تفقد قوتها، فما بال الرجل منكم يضع نفسه مقام الطفل الذي لا ينال من الكبير مراده إلا بالتذلل والبكاء، أو موضع الشيخ الفاني الذي لا ينال حاجته إلا بالتملق والدعاء؟».
«يا قوم، رفع الله عنكم المكروه، ما هذا التفاوت بين أفرادكم وقد خلقكم ربكم أكفاء في البنية، أكفاء في القوة، أكفاء في الطبيعة، أكفاء في الحاجات، لا يفضل بعضكم بعضًا إلا بالفضيلة، لا ربوبية بينكم ولا عبودية. والله ليس بين صغيركم وكبيركم غير برزخ من الوهم. ولو درى الصغير بوهمه، العاجز بوهمه، ما في نفس الكبير المتأله من الخوف منه لزال الإشكال وقضي الأمر الذي فيه تشقون. يا أعزاء الخلقة جهلاء المقام، كان الناس في دور الهمجية، فكان دهاتهم بينهم آلهة وأنبياء، ثم ترقى الناس فهبط هؤلاء لمقام الجبابرة والأولياء. ثم زاد الرقي فانحط أولئك إلى مرتبة الحكام والحكماء، حتى صار الناس ناسًا فزال العماء وانكشف الغطاء وبان أن الكل أكفاء. فأناشدكم الله في أي الأدوار أنتم؟ ألا تفكرون؟».
«يا قوم، جعلكم الله من المهتدين، كان أجدادكم لا ينحنون إلا ركوعًا لله، وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المنعمين ولو بلقمة مغموسة بدم الإخوان. وأجدادكم ينامون الآن في قبورهم مستوين أعزاء، وأنتم أحياء معوجة رقابكم أذلاء! البهائم تودّ لو تنتصب قاماتها وأنتم من كثرة الخضوع كادت تصير أيديكم قوائم. النبات يطلب العلو وأنتم تطلبون الانخفاض. لفظتكم الأرض لتكونوا على ظهرها وأنتم حريصون على أن تنغرسوا في جوفها، فإن كانت بطن الأرض بغيتكم، فاصبروا قليلا لتناموا فيها طويلا».
«يا قوم، ألهمكم الله الرشد، متى تستقيم قاماتكم وترفع من الأرض إلى السماء أنظاركم، وتميل إلى التعالي نفوسكم؟ فيشعر أحدكم بوجوده في الوجود فيعرف معنى الأنانية ليستقل بذاته في ذاته، ويملك إرادته واختياره ويثق بنفسه وربه، لا يتكل على أحد من خلق الله اتكال الناقص في الخلق على الكامل فيه، أو اتكال الغاصب على مال الغافل أو الكَلِّ على سعي العامل، بل يرى أحدكم نفسه إنسانًا كريمًا يعتمد على المبادلة والتعاوض فيسلف ثم يستوفي، ويستدين على أن يفي، بل ينظر في نفسه أنه هو الأمة وحده. وما أجدر بأحدكم أن يعمل لدنياه بنفسه لنفسه، فلا يتكل على غيره، كما يعمل الإنسان ليعبد الله بشخصه لا ينيب عنه غيره. فإذا فعلتم ذلك أظهر الله بينكم ثمرة التضامن بلا اشتراط، والتقاضي بلا محاشرة، فتصيرون بنعمة الله إخوانا».
«يا قوم، أبعد الله عنكم المصائب وبصركم بالعواقب. إن كانت المظالم غلت أيديكم، وضيقت أنفاسكم، حتى صغرت نفوسكم، وهانت عليكم هذه الحياة، وأصبحت لا تساوي عندكم الجد والجهد وأمسيتم لا تبالون أتعيشون أم تموتون، فهلا أخبرتموني لماذا تحكّمون فيكم الظالمين حتى في الموت؟ أليس لكم من الخيار أن تموتوا كما تشاءون، لا كما يشاء الظالمون؟ هل سلب الاستبداد إرادتكم حتى في الموت؟ كلا والله، إن أنا أحببت الموت أموت كما أحب، لئيمًا أو كريمًا، حتفًا أو شهيدًا، فإن كان الموت ولا بد، فلماذا الجبانة؟ وإن أردت الموت، فليكن اليوم قبل الغد، وليكن بيدي لا بيد عمرو. أليس:
«يا قوم، أناشدكم الله، ألا أقول حقًّا إذا قلت إنكم لا تحبون الموت، بل تنفرون منه ولكنكم تجهلون الطريق فتهربون من الموت إلى الموت، ولو اهتديتم إلى السبيل لعلمتم أن الهرب من الموت موت، وطلب الموت حياة، ولعرفتم أن الخوف من التعب تعب، والإقدام على التعب راحة، ولفطنتم إلى أن الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات من الدم الأحمر المسفوح، والأسارة هي شجرة الزقوم، وسقياها أنهر من الدم الأبيض أي الدموع، ولو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد الجروح لا بوسامات الظالمين».
•••
«يا قوم، وأعني منكم المسلمين، … أيها المسلمون: إني نشأت وشبت أنا أفكر في شأننا الاجتماعي عسى أهتدي لتشخيص دائنا فكنت أتقصى السبب بعد السبب، حتى إذا وقعت على ما أظنه عامًّا، أقول لعل هذا هو جرثومة الداء، فأتعمق فيه تمحيصًا وأحلله تحليلا، فينكشف التحقيق عن أن ما قام في الفكر هو سبب من جملة الأسباب، أو هو سبب فرعي لا أصلي، فأخيب وأعود إلى البحث والتنقيب. وطالما أمسيت وأصبحت أجهد الفكر في الاستقصاء، وكثيرًا ما سعيت وسافرت لأستطلع آراء ذوي الآراء، عسى أهتدي إلى ما يشفي صدري من آلام بحث أتعبني به ربي. وآخر ما استقرت عليه سفينة فكري هو:
إن جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة والحكمة، دين النظام والنشاط، دين القرآن الصريح البيان، إلى صيغة أنّا جعلناه دين الخيال والخبال، دين الخلل والتشويش، دين البدع والتشديد، دين الإجهاد. وقد دب فينا هذا المرض منذ ألف عام فتمكن فينا وأثر في كل شئوننا، حتى بلغ فينا استحكام الخلل في الفكر، والعمل أننا لا نرى في الخالق جل شأنه نظامًا فيما اتصف، نظامًا فيما قضى، نظامًا فيما أمر، ولا نطالب أنفسنا فضلا عن آمرنا أو مأمورنا بنظام وترتيب واطراد ومثابرة.
وهكذا أصبحنا واعتقادنا مشوش، وفكرنا مشوش، وسياستنا مشوشة، ومعيشتنا مشوشة. فأين منا والحالة هذه الحياة الفكرية، الحياة العملية، الحياة العائلية، الحياة الاجتماعية، الحياة السياسية؟».
«يا قوم، قد ضيع دينكم ودنياكم ساستكم الأولون وعلماؤكم المنافقون، وإني أرشدكم إلى عمل إفرادي لا حرج فيه علمًا ولا عملا: أليس بين جنبي كل فرد منكم وجدان يميز الخير من الشر والمعروف من المنكر ولو تمييزًا إجماليًّا؟ أما بلغكم قول معلم الخير نبيكم الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»، وقوله: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
«وأنتم تعلمون إجماع أئمة مذاهبكم كلها على أن أنكر المنكرات بعد الكفر هو الظلم الذي فشا فيكم، ثم قتل النفس، ثم وثم …. وقد أوضح العلماء أن تغيير المنكر بالقلب هو بغض المتلبس به بغضًا في الله. بناء عليه فمن يعامل الظالم أو الفاسق غير مضطر، أو يجامله ولو بالسلام، يكون قد خسر أضعف الإيمان، وما بعد الأضعف إلا العدم أي فقد الإيمان والعياذ بالله».
«ولا أظنكم تجهلون أن كلمة الشهادة، والصوم والصلاة، والحج والزكاة، كلها لا تغني شيئًا مع فقد الإيمان، إنما يكون القيام حينئذ بهذه الشعائر، قيامًا بعادات وتقليدات وهوسات تضيع بها الأموال والأوقات».
«بناء عليه فالدين يكلفكم إن كنتم مسلمين، والحكمة تلزمكم إن كنتم عاقلين: أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر جهدكم، ولا أقل في هذا الباب من إبطانكم البغضاء للظالمين والفاسقين، وأظنكم إذا تأملتم قليلا ترون هذا الدواء السهل المقدور لكل إنسان منكم، يكفي لإنقاذكم مما تشكون. والقيام بهذا الواجب متعين على كل فرد منكم بنفسه، ولو أهمله كافة المسلمين. ولو أن أجدادكم الأولين قاموا به لما وصلتم إلى ما أنتم عليه من الهوان. فهذا دينكم، والدين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع، والدين يقين وعمل، لا علم وحفظ في الأذهان. أليس من قواعد دينكم فرض الكفاية وهو أن يعمل المسلم ما عليه غير منتظر غيره؟».
«فأناشدكم الله يا مسلمين، أن لا يغركم دين لا تعملون به وإن كان خير دين، ولا تغرنكم أنفسكم بأنكم أمة خير أو خير أمة، وأنتم أنتم المتواكلون المقتصرون على شعار: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ونِعْمَ الشعار شعار المؤمنين، ولكن أين هم؟ إني لا أرى أمامي أمة تعرف حقًا معنى لا إله إلا الله، بل أرى أمة خبلتها عبادة الظالمين!».
•••
«أدعوكم وأخص منكم النجباء للتبصر والتبصير فيما إليه المصير، أليس مطلق العربي أخف استحقارًا لأخيه من الغربي؟ هذا الغربي قد أصبح ماديًّا لا دين له غير الكسب، فما تظاهره مع بعضنا بالإخاء الديني إلا مخادعة وكذبًا. هؤلاء الفرنسيس يطاردون أهل الدين، ويعملون على أنهم يتناسونه، بناء عليه لا تكون دعواهم الدين في الشرق، إلا كما يغرد الصياد وراء الأشباك؟!
لو كان للدين تأثير عند الغربي لما كانت البغضاء بين اللاتين والسكسون، بل بين الطليان والفرنسيس، ولما كانت بين الألمان والفرنسيس الغربيين. الغربي أرقى من الشرقي علمًا وثروة ومنعة، فله على الشرقيين إذا واطنهم السيادة الطبيعية. أما الشرقيون فيما بينهم، فمتقاربون لا يتغابنون.
الغربي يعرف كيف يسوس، وكيف يتمتع، وكيف يأسر، وكيف يستأثر. فمتى رأى فيكم استعدادًا واندفاعًا لمجاراته أو سبقه، ضغط على عقولكم لتبقوا وراءه شوطًا كبيرًا كما يفعل الروس مع البولونيين واليهود والتاتار، وكذلك شأن كل المستعمرين. الغربي مهما مكث في الشرق لا يخرج عن أنه تاجر مستمتع، فيأخذ فسائل الشرق ليغرسها في بلده التي لا يفتأ يفتخر برياضها ويحنّ إلى أرباضها.
قد مضى على الهولانديين في الهند وجزائرها، وعلى الروس في قازان، مثل ما أقمنا في الأندلس، ولكن ما خدموا العلم والعمران بعشر ما خدمناهما، ودخل الفرنساويون الجزائر منذ سبعين عامًا، ولم يسمحوا بعد لأهلها بجريدة واحدة تقرأ. نرى الإنكليزي في بلادنا يفضل قديد بلاده، وسمك بحاره، على طري لحمنا وسمكنا. فهلا والحالة هذه تتبصرون يا أولي الألباب؟».
•••
«وأنت أيها الشرق الفخيم رعاك الله. ماذا دهاك؟ ماذا أقعدك عن مسراك، أليست أرضك تلك الأرض ذات الجنان والأفنان، ومنبت العلم والعرفان. وسماؤك تلك السماء مصدر الأنوار، ومهبط الحكمة والأديان. وهواؤك ذاك النسيم العدل، لا العواصف والضباب. وماؤك ذاك العذب الغدق، لا الكدر ولا الأجاج؟».
«رعاك الله يا شرق، ماذا أصابك فأخلّ نظامك، والدهر ذاك الدهر ما غير وضعك ولا بدل شرعه فيك؟ ألم تزل مناطقك هي المعتدلة، وبنوك هم الفائقون فطرةً وعددًا؟ أليس نظام الله فيك على عهده الأول ورابطة الأديان في بنيك محكمة قويمة، مؤسسة على عبادة الصانع الوازع. أليست معرفة المنعم حقيقة راهنة أشرقت فيك شمسها، أيدت بها عز النفس، وأحكمت بها حب الوطن وحب الجنس؟».
«رعاك الله يا شرق، ماذا عراك وسكَّن منك الحراك؟ ألم تزل أرضك واسعة خصبة، ومعادنك وافية غنية، وحيوانك رابيًا متناسلا، وعمرانك قائمًا متواصلا، وبنوك على ما ربيتهم أقرب للخير من الشر؟ أليس عندهم الحلم المسمى عند غيرهم ضعفًا في القلب، وعندهم الحياء المسمى بالجبانة، وعندهم الكرم المسمى بالإتلاف، وعندهم القناعة المسماة بالعجز، وعندهم العفة المسماة بالبلاهة، وعندهم المجاملة المسماة بالذل؟ نعم، ما هم بالسالمين من الظلم، ولكن فيما بينهم، ولا من الخداع، ولكن لا يفتخرون به، ولا من الإضرار، ولكن مع الخوف من الله».
«رعاك الله يا شرق، لا نرى من غير الدهر فيك ما يستوجب هذا الشقاء لبنيك، ويستلزم ذلهم لبني أخيك. فلماذا قد أصبحت إذا انقطع عنك مدد أخيك بمصنوعاته، يبقى أبناؤك عراة حفاة في ظلام، بل يمنيهم فقد الحديد بالرجوع إلى العصر النحاسي بل الحجري الموصوف بعصر التعفين؟».
«رعاك الله يا شرق، بل رعى الله أخاك الغرب، العائل بنفسه والعائل فيك، وقاتل الله الاستبداد، بل لعن الله الاستبداد، المانع من الترقي في الحياة، المنحط بالأمم إلى أسفل الدركات. ألا بعدًا للظالمين».
«رعاك الله يا غرب وحياك وبيّاك، قد عرفت لأخيك سابق فضله عليك، فوفيت وكفيت وأحسنت الوصاية وهديت، وقد اشتد ساعد بعض أولاد أخيك فهلا ينتدب بعض شيوخ أحرارك لإعانة أنجاب أخيك على هدم ذاك السور، سور الشؤم والشرور، ليخرجوا بإخوانهم إلى أرض الحياة، أرض الأنبياء الهداة، فيشكرون فضلك والدهر مكافأة».
«غرب، لا يحفظ لك الدين غير الشرق إن دامت حياته بحريته، وفقد الدين يهددك بالخراب القريب. فماذا أعددت للفوضويين إذا صاروا جيشًا جرارًا؟ وماذا أعددت لديارك الحبلى بالثورة الاجتماعية؟ هل تعد المواد المتفرقعة، وقد جاوزت أنواعها الألف، أم تعد الغازات الخانقة وقد سهل استحضارها على الصبيان؟».
«يا قوم، وأريد بكم شباب اليوم رجال الغد، شباب الفكر رجال الجد، أعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الأديان، وأعيذكم من الجهل، جهل أن الدينونة لله، وهو سبحانه وليّ السرائر والضمائر، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».
«أناشدكم يا ناشئة الأوطان، أن تعذروا هؤلاء الواهنة الخائرة قواهم إلا في ألسنتهم، المعطل عملهم إلا في التثبيط، الذين اجتمع فيهم داء الاستبداد والتواكل فجعلاهما آلة تدار ولا تدير. وأسألكم عفوهم من العتاب والملام، لأنهم مرضى مبتلون، مثقلون بالقيود، ملجمون بالحديد، يقضون حياة خير ما فيها أنهم آباؤكم!».
«قد علمتم يا نجباء من طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد جملا كافية للتأمل والتدبر، فاعتبروا بنا واسألوا الله العافية.
نحن ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا. ألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، ألفنا الانقياد ولو إلى المهالك. ألفنا أن نعتبر التصاغر أدبًا، والتذلل لطفًا، والتملق فصاحةً، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعًا، والرضا بالظلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غرورًا، والبحث عن العموميات فضولا، ومد النظر إلى الغد أملا طويلا، والإقدام تهورًا، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحرية الفكر كفرًا، وحب الوطن جنونًا.
أما أنتم، حماكم الله من السوء، فنرجو لكم أن تنشئوا على غير ذلك، أن تنشئوا على التمسك بأصول الدين، دون أوهام المتفننين، فتعرفوا قدر نفوسكم في هذه الحياة فتكرموها، وتعرفوا قدر أرواحكم وأنها خالدة تثاب وتجزي، وتتبعوا سنن النبيين فلا تخافون غير الصانع الوازع العظيم. ونرجو لكم أن تبنوا قصور فخاركم على معالي الهمم ومكارم الشيم، لا على عظام نخرة. وأن تعلموا أنكم خُلقتم أحرارًا لتموتوا كرامًا، فاجهدوا أن تحيوا ذلكما اليومين حياة رضية، يتسنى فيها لكل منكم أن يكون سلطانًا مستقلا في شئونه، لا يحكمه غير الحق، ومدينًا وفيًّا لقومه لا يضن عليهم بعين أو عون، وولدًا بارًا لوطنه، لا يبخل عليه بجزء من فكره ووقته وماله، ومحبًّا للإنسانية يعمل على أن خير الناس أنفعهم للناس، يعلم أن الحياة هي العمل ووباء العمل القنوط، والسعادة هي الأمل، ووباء الأمل التردد، ويفقه أن القضاء والقدر هما عند الله ما يعلمه ويمضيه، وهما عند الناس السعي والعمل، ويوقن أن كل أثر على ظهر الأرض هو من عمل إخوانه البشر، وكل عمل عظيم قد ابتدأ به فرد ثم تعاوره غيره إلى أن كمل، فلا يتخيل الإنسان في نفسه عجزًا، ولا يتوقع إلا خيرًا، وخير الخير للإنسان أن يعيش حرًا مقدامًا أو يموت».
«وكأني بسائلكم يسألني تاريخ التغالب بين الشرق والغرب، فأجيب بأنا كنا أرقى من الغرب علمًا فنظامًا فقوة، فكنا له أسيادًا! ثم جاء حين من الدهر لحق بنا الغرب فصارت مزاحمة الحياة بيننا سجالا، إن فقناه شجاعة فاقنا عددًا، وإن فقناه ثروة فاقنا باجتماع كلمته. ثم جاء الزمن الأخير ترقى فيه الغرب علمًا فنظامًا فقوة. وانضم إلى ذلك أولا: قوة اجتماعه شعوبًا كبيرة. ثانيًا: قوة البارود حيث أبطل الشجاعة وجعل العبرة للعدد. ثالثًا: قوة كشفه أسرار الكيمياء والميكانيك. رابعًا: قوة الفحم الذي أهدته له الطبيعة. خامسًا: قوة النشاط بكسره قيود الاستبداد. سادسًا: قوة الأمن على عقد الشركات المالية الكبيرة. فاجتمعت هذه القوات فيه وليس عند الشرق ما يقابلها غير الافتخار بالأسلاف وذلك حجة عليه، والغرور بالدين خلافًا للدين، فالمسلمون يقابلون تلك القوات بما يقال عند اليأس وهو: (حسبنا الله ونعم الوكيل). ويخالفون أمر القرآن لهم بأن يعدوا ما استطاعوا من قوة، لا ما استطاعوا من صلاة وصوم.
وكأني بسائلكم يقول: هل بعد اجتماع هذه القوات في الغرب واستيلائه على أكثر الشرق من سبيل لنجاة البقية؟ فأجيب قاطعًا غير متردد:
إن الأمر مقدور ولعله ميسور. ورأس الحكمة فيه كسر قيود الاستبداد. وأن يكتب الناشئون على جباههم عشر كلمات وهي:
-
(١)
ديني ما أظهر ولا أخفي.
-
(٢)
أكون حيث يكون الحق ولا أبالي.
-
(٣)
أنا حر وسأموت حرًّا.
-
(٤)
أنا مستقل لا أتكل على غير نفسي وعقلي.
-
(٥)
أنا إنسان الجد والاستقبال لا إنسان الماضي والحكايات.
-
(٦)
نفسي ومنفعتي قبل كل شيء.
-
(٧)
الحياة كلها تعب لذيذ.
-
(٨)
الوقت غال عزيز.
-
(٩)
الشرف في العلم فقط.
-
(١٠)
أخاف الله لا سواه.
«وأنت أيها الوطن المحبوب، أنت العزيز على النفوس، المقدس في القلوب، إليك تحن الأشباح وعليك تئن الأرواح … أيها الوطن الباكي ضعافه: عليك تبكي العيون وفيك يحلو المنون. إلى متى يعبث خلالك اللئام الطغام؟ يظلمون بنيك ويذلون ذويك. يطاردون أنجالك الأنجاب ويمسكون على المساكين الطرق والأبواب، يخربون العمران ويقفرون الديار؟
أيها الوطن العزيز، هل ضاقت رحابك عن أولادك، أم ضاقت أحضانك عن أفلاذك؟ … كلا، إنما فقدت الأباة، فقدت الحماة، فقدت الأحرار. أيها الوطن الملتهب فؤاده: أما رويت من سقيا الدموع والدماء؟ ولكن دموع بناتك الثاكلات ودماء أبنائك الأبرياء، لا دموع النادمين ولا دماء الظالمين. ألا فأشرب هنيئًا ولا تأسف على البله الخاملين، ولا تحزن، فما هم كرائمَ وكرامًا، لسن هن كرائمَ باكيات محمسات، وليسوا هم كرامًا أعزة شهداء، إنما هم، غفر الله لهم، من علمت، قلَّ فيهم الحر الغيور، قل فيهم من يقول: أنا لا أخاف الظالمين.
أيها الوطن الحنون: كوّن الله عناصر أجسامنا منك، وجعل الأمهات حواضن، ورزقنا الغذاء منك، وجعل المرضعات مجهزات، نعم، خلقنا الله منك، فحق لك أن تحب أجزاءك وأن تحن على أفلاذك. كما يحق لك في شرع الطبيعة أن لا تحب الأجنبي الذي يأبى طبعه حبك، الذي يؤذيك ولا يواليك، ويزاحم بنيك عليك ويشاركهم فيك، وينقل إلى أرضه ما في جوفك من نفيس العناصر وكنوز المعادن فيفقرك ليغني وطنه، ولا لوم عليه بل بارك الله فيه!».
«يا قوم، جعلكم الله خيرة اليوم وعدة الغد، هذا خطابي إليكم فيما هو الترقي وما هو الانحطاط، فإن وعيتم ولو شذرات، فيا بشراي والسلام عليكم، وإلا فيا ضياع الأنفاس، وعلى الرفاة السلام».
الاستبداد الذي يبلغ في الانحطاط بالأمة إلى غاية أن تموت ويموت هو معها، كثير الشواهد في قديم الزمان وحديثه، أما بلوغ الترقي بالأمم إلى المرتبة القصوى السامية التي تليق بالإنسانية، فهذا لم يسمح الزمان حتى الآن بأمة تصلح مثالا له، لأنه إلى الآن لم توجد أمة حكمت نفسها برأيها العام حكمًا لا يشوبه نوع من الاستبداد ولو باسم الوقار والاحترام، أو بنوع من الإغفال ولو ببذر الشقاق الديني أو الجنسي بين الناس.
فكأن الحكمة الإلهية، لم تزل ترى البشر غير متأهلين لنوال سعادة الأخوة العمومية بالتحابب بين الأفراد، والقناعة بالمساواة الحقوقية بين الطبقات. نعم، وجد للترقي القريب من الكمال بعض أمثال قليلة في القرون الغابرة، كالجمهورية الثانية للرومان، وكعهد الخلفاء الراشدين، وكالأزمنة المتقطعة في عهد بعض الملوك المنظمين لا الفاتحين مثل أنوشروان وعبد الملك الأموي ونور الدين الشهيد وبطرس الكبير. وكبعض الجمهوريات الصغيرة والممالك الموفقة لأحكام التقييد الموجودة في هذا الزمان. وإني أقتصر على وصف منتهى الترقي الذي وصلت إليه تلك الأمم وصفًا إجماليًّا، وأترك للمطالع أن يوازن بينها ويقيس عليها درجات سائر الأمم.
وربما يستريب في ذلك المطالع المولود في أرض الاستبداد، الذي لم يدرس أحوال الأمم في الوجود، ولا عتب عليه فإنه كالمولود أعمى لا يدرك للمناظر البهية معنى.
قد بلغ الترقي في الاستقلال الشخصي في ظلال الحكومات العادلة، لأن يعيش الإنسان المعيشة التي تشبه في بعض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل السعادة في الجنان. حتى إن كل فرد يعيش كأنه خالد بقومه ووطنه، وكأنه أمين على كل مطلب، فلا هو يكلف الحكومة شططًا ولا هي تهمله استحقارًا:
-
(١)
أمين على السلامة في جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن محافظته بكل قوتها في حضره وسفره بدون أن يشعر بثقل قيامها عليه، فهي تحيط بإحاطة الهواء، لا إحاطة السور يلطمه كيفما التفت أو سار.
-
(٢)
أمين على الملذات الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة في الشئون العامة، المتعلقة بالترويضات الجسمية والنظرية والعقلية حتى يرى أن الطرقات المسهلة والتزيينات البلدية، والمتنزهات، والمنتديات، والمدارس، والمجامع ونحو ذلك، قد وُجدت كلها لأجل ملذاته، ويعتبر مشاركة النخاس له فيها لأجل إحسانه، فهو بهذا النظر والاعتبار لا ينقص عن أغنى الناس سعادة.
-
(٣)
أمين على الحرية، كأنه خلق وحده على سطح هذه الأرض، فلا يعارضه معارض فيما يخص شخصه من دين وفكر وعمل وأمل.
-
(٤)
أمين على النفوذ، كأنه سلطان عزيز فلا ممانع له ولا معاكس في تنفيذ مقاصده النافعة في الأمة التي هو منها.
-
(٥)
أمين على المزية، كأنه في أمة يساوي جميع أفرادها منزلة وشرفًا وقوة، فلا يفضل هو على أحد ولا يفضل أحد عليه، إلا بمزية سلطان الفضيلة فقط.
-
(٦)
أمين على العدل، كأنه هو القابض على ميزان الحقوق فلا يخاف تطفيفًا، وهو المثمن فلا يحذر بخسًا، وهو المطمئن على أنه إذا استحق أن يكون ملكًا صار ملكًا، وإذا جنى جناية نال جزاءه لا محالة.
-
(٧)
أمين على المال والملك، كأن ما أحرزه بوجهه المشروع قليلا كان أو كثيرًا، قد خلقه الله لأجله فلا يخاف عليه، كما أنه تقلع عينه إن نظر إلى مال غيره.
-
(٨)
أمين على الشرف بضمان القانون، بنصرة الأمة، ببذل الدم، فلا يرى تحقيرًا إلا لدى وجدانه، ولا يعرف طعمًا لمرارة الذل والهوان.
أما الأسير، ولا أحزن المطالع بوصف حالته، فأكتفي بالقول إنه لا يملك ولا نفسه، وغير أمين حتى على عظامه في رمسه، إذا وقع نظره على المستبد أو أحد من جماعته على كثرتهم يتعوذ بالله، وإذا مر من قرب إحدى دوائر حكومته أسرع وهو يكرر قوله: «حمايتك يا رب إن هذه الدار، بئس الدار، هي كالمجزرة كل من فيها إما ذابح أو مذبوح. إن هذه الدار كالكنيف لا يدخله إلا المضطر».
•••
وقد يبلغ الترقي في الاستقلال الشخصي مع التركيب بالعائلة والعشيرة، أن يعيش الإنسان معتبرًا نفسه من وجه غنيًّا عن العالمين، ومن وجه عضوًا حقيقًا من جسم حي هو العائلة ثم الأمة، ثم البشر.
ويُنظر إلى انقسام البشر إلى أمم، ثم إلى عائلات، ثم إلى أفراد، هو من قبيل انقسام الممالك إلى مدن وهي إلى بيوت وهي إلى مرافق، وكما أنه لا بد لكل مرفق من وظيفة معينة يصلح لها وإلا كان بناؤه عبثًا يستحق الهدم، كذلك أفراد الإنسان لا بد أن يُعد كل منهم نفسه لوظيفة في قيام حياة عائلته أولا، ثم حياة قومه ثانيًا.
ولهذا يكون العضو الذي لا يصلح لوظيفة، أو لا يقوم بما يصلح له، حقيرًا مهانًا. وكل من يريد أن يعيش كلا على غيره، لا عن عجز طبيعي، يستحق الموت لا الشفقة، لأنه كالدرن في الجسم أو كالزائد من الظفر يستحقان الإخراج والقطع، ولهذا المعنى حرمت الشرائع السماوية الملاهي التي ليس فيها ترويض، والسكر المعطل عن العمل عقلا وجسمًا، والمقامرة والربا لأنهما ليسا من نوع العمل والتبادل فيه. وقد فضل الله الكناس على الحجام وصانع الخبز على ناظر الشعر لأن صنعتهما أنفع للجمهور.
وقد يبلغ ترقي التركيب في الأمم إلى درجة أن يصير كل فرد من الأمة مالكًا لنفسه تمامًا، ومملوكًا لقومه تمامًا. فالأمة التي يكون كل فرد منها مستعدًا لافتدائها بروحه وبماله، تصير تلك الأمة بحجة هذا الاستعداد في الأفراد، غنية عن أرواحهم وأموالهم.
•••
الترقي في القوة بالعلم والمال يتميز على باقي أنواع الترقيات السالفة البيان تميز الرأس على باقي أعضاء الجسم، فكما أن الرأس بإحرازه مركزية العقل، ومركزية أكثر الحواس، تميز على باقي الأعضاء واستخدامها في حاجاته. فكذلك الحكومات المنتظمة يترقى أفرادها ومجموعها في العلم والثروة، فيكون لهم سلطان طبيعي على الأفراد أو الأمم التي انحط بها الاستبداد المشئوم إلى حضيض الجهل والفقر.
بقي علينا بحث الترقي في الكمالات بالخصال والأثرة، وبحث الترقي الذي يتعلق بالروح أي بما وراء هذه الحياة، ويرقى إليه الإنسان على سلم الرحمة والحسنات، فهذه أبحاث طويلة الذيل ومنابعها حكميات الكتب السماوية، ومدونات الأخلاق، وتراجم مشاهير الأمم.
وأكتفي بالقول في هذا النوع، إنه يبلغ بالإنسان مرتبة أن لا يرى لحياته أهمية إلا بعد درجات، فيهمه أولا: حياة أمته، ثم امتلاك حريته، ثم أمنه على شرفه، ثم محافظته على عائلته، ثم وقايته حياته، ثم ماله، ثم وثم، وقد تشمل إحساساته عالم الإنسانية كله، كأن قومه البشر لا قبيلته، ووطنه الأرض لا بلده، ومسكنه حيث يجد راحته، لا يتقيد بجدران بيت مخصوص يستتر فيه ويفتخر به كما هو شأن الأسراء.
وقد يترفع الإنسان عن الإمارة لما فيها من معنى الكبر، وعن التجارة لما فيها من التمويه والتبذل، فيرى الشرف في المحراث، ثم المطرقة، ثم القلم، ويرى اللذة في التجديد والاختراع، لا في المحافظة على العتيق، كأن له وظيفة في ترقي مجموع البشر.
وخلاصة القول إن الأمم التي يسعدها جدها لتبديد استبدادها، تنال من الشرف الحسي والمعنوي ما لا يخطر على فكر أسراء الاستبداد. فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الأميرية برمتها، مكتفية في نفقاتها بنماء فوائد بنك الحكومة. وهذه سويسرة يصادفها كثيرًا أن لا يوجد في سجونها محبوس واحد. وهذه أمريكا أثرت حتى كادت تخرج الفضة من مقام النقد إلى مقام المتاع. وهذه اليابان أصبحت تستنزف قناطير الذهب من أوروبا وأمريكا ثمن امتيازات اختراعاتها وطبع تراجم مؤلفاتها.
وقد تنال أيضًا تلك الأمم حظًّا من الملذات الحقيقية، التي لا تخطر على فكر الأسراء، كلذة العلم وتعليمه، ولذة المجد والحماية، ولذة الإثراء والبذل، ولذة إحراز الاحترام في القلوب، ولذة نفوذ الرأي الصائب، ولذة الحب الطاهر، إلى غير هذه الملذات الروحية. وأما الأسراء والجهلاء فملذاتهم مقصورة على مشاركة الوحوش الضارية في المطاعم والمشارب واستفراغ الشهوة. كأن أجسامهم ظروف تملأ وتفرغ، أو هي دمامل تولد الصديد وتدفعه.
وأنفع ما بلغه الترقي في البشر، هو إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة ببنائهم سدًّا متينًا في وجه الاستبداد، والاستبداد جرثومة كل فساد، ويجعلهم ألا قوة ولا نفوذ فوق قوة الشرع، والشرع هو حبل الله المتين. ويجعلهم قوة التشريع في يد الأمة، والأمة لا تجتمع على ضلال. وبجعلهم المحاكم تحاكم السلطان والصعلوك على السواء، فتحاكي في عدالتها المحكمة الكبرى الإلهية. وبجعلهم العمال لا سبيل لهم على تعدي حدود وظائفهم، كأنهم ملائكة لا يعصون أمرًا، وبجعلهم الأمة يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها، لا تغفل طرفة عين، كما أن الله عز وجل لا يغفل عما يفعل الظالمون.
هذا مبلغ الترقي الذي وصلت إليه الأمم منذ عرف التاريخ، على أنه لم يقم دليل إلى الآن على ترقي البشر في السعادة الحيوية عما كانوا عليه في العصور الخالية حتى الحجرية، حتى منذ كانوا عراة يسرحون أسرابًا، والآثار المشهودة لا تدل على أكثر من ترقي العلم والعمران وهما آلتان كما يصلحان للإسعاد، يصلحان للإشقاء، وترقيهما هو من سنة الكون التي أرادها الله تعالى لهذه الأرض وبنيها، ووصف لنا ما سيبلغ إليه ترقي زينتها واقتدار أهلها بقوله عز شأنه: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ. وهذا يدل على أن الدنيا وبنيها لم يزالا في مقتبل الترقي، ولا يعارض هذا أن ما مضى من عمرهما هو أكثر مما بقي حسبما أخبرت به الكتب السماوية، لأن العمر شيء، والترقي شيء آخر.