التفاحة
كسر الرجلُ القابع في ركن العربة حاجز الصمت فجأةً قائلًا: «يجب أن أتخلَّص منها.»
رفع السيد هينشكليف بصره، ولم يكن قد تبين بدقة ما قاله الرجل. كان مستغرقًا في تأمُّله النشوان في قبعة الكلية المربوطة بخيط إلى يدِ حقيبةِ سفره — وهي الإشارة الظاهرة والمرئية الدالة على منصبه التعليمي الجديد — وفي الإعجاب الجذل بها والتوقعات السارة التي تثيرها داخلَه. كان قد قُبِلَ لتوِّه في جامعة لندن، وسوف يعمل مدرسًا مساعدًا بمدرسة هولموود الثانوية، وهو منصب يتمنَّاه الكثيرون. حدَّقَ السيد هينشكليف في رفيق سفره.
قال هذا الشخص: «لِمَ لا أتخلَّص منها؟ أتخلَّص منها! لِمَ لا؟»
كان رجلًا طويلًا داكنَ اللون، شاحبَ الوجه، خلَّفت أشعةُ الشمس عليه أثرَ اسمرار. كانت ذراعاه معقودتين أمام صدره وقدماه مسنَدتَيْن إلى المقعد المواجِه له. كان يفتل شاربَه الأسود الناعم، دون أن يرفع بصرَه عن أصابع قدمَيْه.
أردف قائلًا: «لِمَ لا؟»
سعل السيد هينشكليف.
رفع الغريب عينَيْه — كانتا عينين عجيبتين بلونٍ رمادي داكن — وحدق في السيد هينشكليف بنظرة خاوية، ربما لدقيقة كاملة تقريبًا، ثم بدأ الاهتمام يظهر على نظراته.
قال ببطء: «أجل. لِمَ لا؟ وأضع حدًّا لهذا.»
أجاب السيد هينشكليف، وهو يسعل مجددًا: «أخشى أنني لستُ منتبهًا تمامًا لما تقول.»
فردَّ الغريب بنبرة آلية: «لستَ منتبهًا تمامًا لما أقول؟» طرح تساؤله وعيناه الغريبتان تجولان ذهابًا وإيابًا بين وجه السيد هينشكليف الأملس وحقيبته التي تتدلَّى منها القبعةُ بزهو.
قال السيد هينشكليف موضحًا: «أنت شديد الإيجاز، أَلَا ترى ذلك؟»
أجاب الغريب متابعًا خواطره: «لِمَ لا أفعل؟» ثم توجَّهَ بالخطاب إلى السيد هينشكليف سائلًا إياه: «أنت طالب؟»
فأجاب السيد هينشكليف بفخرٍ لم يستطع إخفاءه، وهو يتحسَّس رابطةَ عنقه بعصبية: «أنا طالب بالمُراسَلة في جامعة لندن.»
ردَّ الغريب قائلًا: «سعيًا وراء المعرفة.» ثم رفع قدمَيْه فجأةً عن المقعد ووضع قبضته على ركبته وراح يحملق في السيد هينشكليف كما لو أنه لم يرَ طالبًا قط، ثم أضاف: «أجل»، رافعًا سبَّابته. نهض الغريب والتقط حقيبةً من حامل القبعات وفتحها مُخرِجًا منها، في صمت تام، شيئًا مستديرًا ملفوفًا في كمية كبيرة من الورق الفضي، وراح يفضُّه بحذر، ثم مدَّ يده به نحو السيد هينشكليف؛ كان ثمرةَ فاكهةٍ صغيرة شديدة النعومة، ذات لون أصفر ذهبي.
بَدَا الذهول على السيد هينشكليف، فاتسعت عيناه وانفغر فاه؛ ولم يُقدِم على أخذ هذا الشيء؛ إن كان يفترض به أن يأخذه.
قال الرجل الغريب الأطوار ببطء شديد: «تلك تفاحةُ شجرةِ المعرفة. انظرْ إليها … صغيرة، ومتألقة، ورائعة … المعرفة، وسوف أمنحك إياها.»
أجهَدَ السيد هينشكليف عقلَه بالتفكير دقيقة، ثم التمَعَ فجأةً في عقله تفسيرٌ كافٍ أجلى الموقفَ بأكمله: «مجنون!» رجل مجنون خفيف الظل. أمال رأسه جانبًا قليلًا.
تأمَّلَها السيد هينشكليف متظاهِرًا بالاهتمام، وقال: «تفاحة شجرة المعرفة، هاه؟» ثم تطلَّعَ إلى مُحدِّثِه قائلًا: «لكنْ أَلَا تود أن تأكلها أنت؟ ثم، كيف حصلتَ عليها؟»
وضع الغريب كفَّه على ركبته وأجاب وهو ينظر إليها متأملًا: «إنها لا تذوي أبدًا. هي عندي من ثلاثة أشهر حتى الآن ولم تَزَل متألِّقة، ملساء، يانعة، شهية كما ترى.» ثم بدأ يلفها مجددًا بالأوراق الفضية، وكأنه تخلى عن نية التنازُل عنها.
تساءَلَ السيد هينشكليف متمسكًا بموقفه الجدلي: «لكن كيف حصلتَ عليها؟ وكيف عرفتَ أنها تفاحة شجرة المعرفة؟»
فأجاب الغريب: «لقد اشتريتُها منذ ثلاثة أشهر مقابلَ شربةِ ماءٍ وكِسْرةِ خبز. كان الرجل الذي أعطاني إياها، لإنقاذي حياته، أرمنيًّا. أرمينيا! ذلك البلد الرائع، أقدم البلاد، حيث لا تزال سفينةُ نوح باقيةً حتى يومنا هذا، مدفونةً تحت الأنهار الجليدية لجبل أرارات. تسلَّقَ هذا الرجل، بعد فراره مع آخَرين من الأكراد الذين هاجموهم، مواضعَ موحشةً بين الجبال؛ مناطقَ تتجاوز نطاقَ المعرفة البشرية العامة. أثناء فرارهم من المطارَدة الداهمة، وصلوا إلى منحدرٍ مرتفع بين ذُرَى الجبال مغطًّى بعشب أخضر يشبه شفرات السكاكين، يُقطِّع ويجرح أيَّ شخص يخطو عليه بلا رحمة. كان الأكراد من ورائهم والعشب أمامهم، ولم يكن بوسعهم سوى أن يخوضوا ذلك العشب، وكان أسوأ ما في الأمر أن الممرات التي صنعوها عبره بدمائهم ساعدت الأكرادَ على تتبُّعهم. قُتِل جميع الفارِّين عدا ذلك الأرمني ورجلًا آخَر. استمَعَ الرجل إلى صراخِ رفقائه ونحيبهم وحفيف العشب حول مَن يطاردونهم؛ فقد كان عشبًا طويلًا يعلو قاماتهم. ثم أنصَتَ إلى صيحة وصدًى، وحين توقَّفَ بعدَها مباشَرةً، كان كل شيء ساكنًا. اندفَعَ ماضيًا في طريقه مجددًا بجروحه النازفة، دون أن يفهم ما جرى، حتى أشرَفَ على منحدرٍ صخري حاد أسفل جرف، وهناك شاهَدَ النيران مشتعلة في العشب بأكمله، والأدخنة متصاعدة منها وكأنها حجابٌ فاصل بينه وبين أعدائه.»
صمت الغريب، فقال السيد هينشكليف: «أجل، أجل، وماذا بعد؟»
تابع الغريب قائلًا: «هناك وقَفَ الأرمني، جريحًا وملطَّخًا بالدماء بفعل حوافِّ العشب التي تشبه الشفرات الحادة، وأمامَه الصخورُ المتوهجة تحت شمس الأصيل، وفوقه سماء مصطبغة بلون النحاس الأصفر المصهور، وأدخنة النيران متَّجِهة نحوه. لم يجرُؤ الرجل على البقاء هناك؛ ليس الموت ما كان يخشاه، بل التعذيب! نما إلى سمعه، من وراء الأدخنة، صراخٌ وعويل بعيدان، ونحيب نساء؛ لذلك واصَلَ تسلُّقَ أحد الشِّعَاب بين الصخور — كانت تحيط به من كل ناحية أحراشٌ ذات أغصان يابسة مسنَّنة كالأشواك بين الأوراق — إلى أن استطاع اعتلاءَ حافةِ حَيْدٍ أخفاه عن الأعين، وهناك التقى برفيقه، وكان راعي غنم نجح في الفرار أيضًا. لم يكن البرد والجوع والعطش أمورًا ذات بال بالنسبة إليهما مقارنة بالأكراد؛ لذا واصَلَا سيرهما نحو المرتفعات وبين الجليد والثلوج. ظلَّا هائمَيْن ثلاثة أيام كاملة.»
ثم أردف قائلًا: «وفي اليوم الثالث جاءت الرؤيا. أعتقد أن الجياع كثيرًا ما يتوهمون بالفعل، لكن وجود هذه الثمرة يثبت أنها رؤيا لا وهم.» ثم رفع التفاحة الملفوفة في يده، وأكمَلَ روايته قائلًا: «كما سمعتها أيضًا من بعض قاطني المرتفعات ممَّن كانوا يعرفون بعض المعلومات عن الأسطورة. كان الوقت مساءً والنجوم في ازدياد حين هبط الرجلان منحدرًا من الصخور المصقولة إلى وادٍ شاسعٍ مظلم مُتْرَع بأشجار غريبة ملتوية تتدلَّى منها أجسامٌ كروية صغيرة تشبه كرات متوهجة؛ كانت أنوارًا كرويةَ الشكل، صفراءَ اللون، غريبةَ الهيئة.
وفجأةً غمَرَ نورٌ قادم من بعيدٍ الواديَ بمساحته الشاسعة، التي تمتد عدة أميال، وكان مصدره شعلة ذهبية تتقدَّم ببطء من أقصاه إلى أقصاه. بَدَتِ الأشجار ضئيلةً بالنسبة إلى الشعلة، وبدا نورها سوادًا كالحًا مُقارَنةً بضيائها، واستحالت المنحدرات المحيطة بها وأطيافها إلى ما يشبه الذهب المتوهج. أمامَ تلك الرؤيا، ولمعرفتهم بأساطير الجبال، أدرَكَ الرجلان على الفور أن ما رأياه هو جنةُ عدن، أو حرَّاسها؛ ومن ثَمَّ انكبَّا على وجهَيْهما وكأنهما تلقَّيَا ضربةً أَرْدَتْهما صريعَيْن.
وحين واتَتْهما الجرأةُ لرفع أبصارهما مجددًا، وجدا الظلام يخيِّم على الوادي، لكنه لم يَدُمْ سوى برهة ثم عاوَدَ النور الظهورَ مرة أخرى؛ رجع ككهرمانة متَّقِدة.
عندها نهض الراعي واقفًا وبدأ الركضَ ناحية الضوء مطلقًا صيحة، لكن رفيقه بلغ منه الخوفُ مَبلغَه فلم يتبعه، بل وقف مشدوهًا، مذهولًا، مرتعبًا وهو يشاهد رفيقَه متجهًا نحو الوهج المتقدِّم، ولم يَكَدِ الراعي ينطلق حتى صدرت ضجةٌ كالرعد، ضجة كخفقان أجنحة غير مرئية مندفعة في الوادي، أثارَتْ فيه خوفًا عظيمًا ورهيبًا. في تلك اللحظة، استدار صاحبُ الثمرة؛ ربما لم تزل أمامه فرصة للفرار. هرع الرجل دون تفكير صاعدًا المنحدرَ مرةً أخرى، وهذا الهول يكتسح الوادي خلفَه، فتعثَّرَ في إحدى الشجيرات المتقزمة، وإذا بثمرةٍ يانعة تسقط في يده. هذه الثمرة. بدأت أصواتُ الأجنحة والرعد تدنو منه فورًا وتحيط به من كل ناحية، فسقط مغشيًّا عليه، وحين أفاق وجد نفسه مجددًا بين أطلالِ قريته المتفحمة، وكنتُ موجودًا هناك مع آخَرين لإسعاف الجرحى. رؤيا؟ لكن الثمرة الذهبية لم تزل في يده. كان هناك آخَرون على عِلْمٍ بالأسطورة وبما قد تعنيه تلك الثمرة الغريبة.» صمت الرجل برهةً ثم تابَعَ قائلًا: «وها هي ذي.»
كانت أغربَ قصةٍ تُروَى في عربة الدرجة الثالثة من قطار ساسيكس. بَدَا الأمر وكأن الحقيقة لم تكن سوى حجابٍ يفصلنا عن الخيال، وها هو الخيال يطلُّ برأسه مخترِقًا ذلك الحجاب. لم يَسَع السيد هينشكليف سوى أن يسأل: «أهي تلك؟»
قال الغريب: «تنصُّ الأسطورة على أن تلك الأَجَمات بأشجارها المتقزمة المنتشرة حول الحديقة إنما نمَتْ من التفاحة التي حملها آدم حين طُرِد هو وحواء. أحسَّ آدم بشيء في يده، ولما فتحها وجدها التفاحةَ التي أكلا منها فطرحها جانبًا مغتَمًّا، وهناك نمَتْ أشجارُ التفاح في ذلك الوادي المُقفِر، تطوقها الثلوج الأبدية، أما السيوفُ المضطرمة فتحمي المكانَ إلى يوم القيامة.»
قال السيد هينشكليف: «لكنني ظننتُ أن هذه الأمور كانت …» ثم صمت برهةً قبل أن يضيف: «خرافات، حكايات رمزية بالأصح. أتقصد أن تخبرني أن هناك في أرمينيا …»
أجاب الغريب عن سؤاله، الذي لم يكتمل، بالثمرة المستقرة في يده المنبسطة.
فأضاف السيد هينشكليف: «لكنك لا تدري ما إذا كانت تلك ثمرة شجرة المعرفة أم لا. ربما كان الرجل … يتوهَّم مثلًا. افترض أن …»
رد الغريب قائلًا: «انظرْ إليها.»
حين نظر إليها السيد هينشكليف وجدها بلا شكٍّ كرةً غريبةَ المنظر، ليست تفاحةً في الحقيقة، ورأى لونًا ذهبيًّا برَّاقًا غريبًا، وكأنَّ الضوء نفسه كامن داخل مادتها. وحين دقَّقَ النظرَ فيها، بدأت تتجلَّى أمامه صورةٌ حية للوادي المُقفِر بين الجبال، والسيوف النارية الحارسة، والآثار الغريبة للقصة التي سمعها لتوِّه. فرك السيد هينشكليف عينَيْه ثم قال: «لكن …»
فقاطَعَه الغريب بقوله: «لقد ظلَّتْ على حالها هذا، ملساء وبضَّة، طوالَ ثلاثة أشهر، بل أطول قليلًا الآن. لم تيبس، ولم تذوِ، ولم تفسد.»
قال السيد هينشكليف: «وأنت تعتقد شخصيًّا أنها …»
قاطعه الرجل قائلًا: «الثمرة المحرَّمة.»
كانت جدية الرجل وسلامته العقلية باديتين على نحو واضح. وقد أضاف قائلًا: «ثمرة المعرفة.»
صمَتَ السيد هينشكليف برهةً ثم ردَّ دون أن يرفع عينيه عنها: «افترِضْ أنها كذلك. لكنها على أي حال ليست مجالَ معرفتي؛ المعرفةُ التي أسعى إليها ليسَتْ من هذا النوع. أعني أن آدم وحواء قد أكلاها بالفعل.»
أجابه الغريب: «لكننا نرث خطاياهما، لا مَعارِفهما. إن ذلك سيجعلها جلِيَّةً ومتألقةً ثانيةً. ينبغي أن نسبر أغوارَ كلِّ شيء، أن نَنْفُذ إلى ماهية كل شيء، ونستجلي أعمق حقائقه …»
طرح السيد هينشكليف فكرةً راوَدَتْه لتوِّه: «لماذا لا تأكلها إذن؟»
أجاب الغريب: «لقد أخذتُها بنِيَّة أكلها. لقد هبط الإنسان من الجنة بسببها. إن مجرد تناوُلها ثانيةً لن …»
قاطَعَه السيد هينشكليف بقوله: «المعرفةُ قوة.»
«لكنْ أتجلِبُ السعادة؟ أنا أكبرُ منك سنًّا، أكبرك بأكثر من ضعف عمرك. لقد حملتُ تلك التفاحةَ مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة أجد قلبي يخذلني كلما خَطَرَ ببالي كلُّ تلك الأمور التي قد تتكشَّف للمرء، جلاء البصيرة المفزع. هَبْ أن العالَمَ بأكمله صار فجأةً بهذا الوضوح القاسي؟»
أجاب السيد هينشكليف قائلًا: «أعتقد أن ذلك سيكون ميزةً عظيمة، في المجمل.»
قال: «هَبْ أنك نفَذْتَ إلى قلوبِ كلِّ مَن حولك وعقولِهم، إلى مكنونات ضمائرهم؛ مَن أحببْتَهم ومَن قدرتَ حبَّهم لك.»
أجاب السيد هينشكليف، وقد صدمَتْه الخاطرة صدمةً هائلة: «سرعان ما ستكتشف المخادعين.»
قال الرجل: «والأسوأ هو أنْ تعرف نفسَك مجرَّدةً من أوهامها الدفينة، أنْ ترى ذاتك بقدرها الحقيقي، كل ما منعَتْك شهواتُك وضَعْفُك من أن تراه. ستراها من منظورٍ لا يعرف الرحمة.»
قال هينشكليف: «ربما يكون ذلك أمرًا رائعًا أيضًا. «اعرف نفسك»، تعلم هذه الحكمة، أليس كذلك؟»
أجاب الغريب: «لا تزال شابًّا غِرًّا.»
قال هينشكليف: «إذا لم تكن مهتمًّا بتناوُلها، ووجودُها يزعجك، فلِمَ لا تتخلَّص منها؟»
أجابه الرجل: «ربما لن تفهمني. بالنسبة إليَّ، كيف يسع المرء التخلُّص من شيءٍ كهذا، متوهِّج ورائع؟ ما إنْ تَحُزْها، تصبح مُلتزمًا بها. لكنك، من ناحيةٍ أخرى قد تتنازل عنها! تتنازل عنها لشخصٍ متعطِّش للمعرفة، لشخصٍ لا يرى بأسًا في ذلك الإدراك الواضح …»
قال السيد هينشكليف متأملًا: «لا شك أنها قد تكون ثمرةً مسمومة.»
ثم لمحَتْ عيناه شيئًا ساكنًا لا يتحرَّك، طرف لوحةٍ بيضاءَ ذاتِ أَحْرُف سوداء خارجَ نافذةِ العربة. قرأ السيد هينشكليف: «… موود»، فبادَرَ مختلجًا بقوله: «يا إلهي! هولموود!» وإذا بمدركاته الغامضة التي أخذت بلُبِّه تتلاشى أمامَ الواقع العملي.
كان السيد هينشكليف في اللحظة التالية يفتح بابَ العربة، حامِلًا حقيبته في يده. كان الحارس يشير بعلمه الأخضر بالفعل، فوثَبَ هينشكليف من العربة، ثم تعالى صوتٌ من ورائه قائلًا: «ها هي!» ولما التفَتَ رأى عينَي الغريب الداكنتين تلتمعان ولمح الثمرةَ الذهبية في يده الممدودة من باب العربة المفتوح، مُشرِقة وبادية دون غطاء، فالتقَطَها دون تفكيرٍ بينما كان القطار يتحرَّك بالفعل.
صرخ الغريب: «لا!» وحاوَلَ انتزاعَها وكأنه يرغب في استردادها.
صاح الحارس القروي وهو يندفع متقدِّمًا لإغلاق الباب: «ابتعِد.» صاح الغريب بشيءٍ وقد دفع برأسه وذراعه بانفعالٍ خارجَ النافذة، لكن السيد هينشكليف لم يتبيَّنْه، ثم أظلَّ الغريبَ الجسرُ، وسرعان ما احتجَبَ عن نظر السيد هينشكليف، الذي وقف مذهولًا محدِّقًا في نهاية العربة الأخيرة وهي تتوارى عند منعطفٍ، وحاملًا التفاحةَ العجيبة في يده. ارتبَكَ عقله لوهلة، ثم أدرك أنَّ ثَمة شخصين أو ثلاثة فوق رصيف المحطة يراقبونه باهتمام. أليس هذا هو الظهور الأول له كمدرس جديد بالمدرسة الثانوية؟ خطر بباله أنهم سيعتبرونه شخصًا غريب الأطوار يهم بالتهام ثمرة شبيهة بالبرتقال، بحسب استنتاجهم، في مكان عام، فاحمرَّ وجهه خجلًا ودفع بالثمرة إلى جيبه، لكنها تسبَّبَتْ في انتفاخ الجيب على نحوٍ غير لائق، لكن لم تكن بيده حيلة؛ لذلك مضى نحوهم، في محاوَلةٍ حمقاءَ لإخفاء إحساسه بالحَرَج، ليسألهم عن الطريق إلى المدرسة الثانوية ووسيلة لنقل حقيبته والصندوقين الصفيحيَّيْن الملقيَيْن بعيدًا على رصيف المحطة؛ فلم يكن بمقدوره أن يخبرهم بحكايته الغريبة مع صاحب التفاحة!
وجد السيد هينشكليف أن أمتعتَه يمكن أن تُنقَل في عربةِ شحنٍ مقابلَ ستة بنسات، بينما يتقدَّمها سَيْرًا على قدمَيْه. خُيِّلَ إليه أن هناك نبرةَ سخريةٍ في الأصوات حوله. وقد كان مدركًا إدراكًا مريرًا لهيئته الغريبة.
إن الجدِّيةَ الغريبة التي أبداها الرجلُ على متن القطار، والسحرَ المثيرَ للقصة التي رواها، كان من شأنهما أن يغيرا مسار خواطره؛ لقد مرت القصة كصفحةِ ضبابٍ حجبَتْ مخاوفه الآنيَّة. نيران تتردَّد جيئةً وذهابًا! لكنَّ انشغالَه بمنصبه الجديد، والانطباعَ الذي يلزم أن يتركه على هولموود في العموم، وعلى الناس في المدرسة على وجه الخصوص، استعادا السيطرةَ على تفكيره بقوةٍ متجددة قُبَيْلَ مغادرته للمحطة، وأسهَمَا في صفاء عقله. لكنه أمرٌ غريبٌ أن إضافةَ ثمرةٍ ملساءَ ذات لون ذهبي متألِّق، لا يصل محيطها إلى ثلاث بوصات، قد تُفسِد مظهرَ شابٍّ مُرهَف الحس في كامل أناقته. شكَّلَتِ التفاحة انتفاخًا كريهًا في جيب سترته السوداء، وأفسدَتْ كاملَ هيئته. مرَّ السيد هينشكليف بسيدةٍ عجوزٍ ضئيلةِ الحجم متَّشِحةٍ بالسواد، وأحسَّ بعينَيْها وقد وقعتا على انتفاخ جيبه على الفور. كان يرتدي أحد قفازيه ويحمل الآخَر، وكان يُمسِك بعصاه فوق ذلك؛ ومن ثَمَّ كان حمْلُ الثمرة أمرًا مستحيلًا. توقَّفَ السيد هينشكليف في مكانٍ ما، حيث بَدَا الطريق إلى البلدة منعزلًا، وأخرَجَ ذلك العبءَ القابع في جيبه وحاوَلَ إخفاءَه داخل قبعته، لكنَّ الثمرة كانت كبيرةً للغاية بحيث راحَتِ القبعة تتأرجح فوق رأسه على نحو كان من شأنه أن يثير السخرية، وفي تلك اللحظة التي أخرَجَها من القبعة ثانيةً، وجد صبيَّ أحدِ الجزارين يمرُّ مُسرِعًا بالقرب منه.
قال السيد هينشكليف: «تبًّا!»
كان بوسعه أن يأكل تلك الثمرةَ ويحظى بالمعرفة الكلية غير المحدودة في الحال، لكنه كان سيبدو في منتهى السخف أن يُقبِل على البلدة وهو يَلُوك ثمرةً غضَّةً غنيةً بالعصير، ولا شكَّ أنها كانت تبدو غنيةً بالعصير حقًّا. لو أن أحدَ الصِّبْية مرَّ بجواره، فلربما سبَّبَتْ مشاهدتُه بهذا الوضع ضررًا بالغًا لهَيْبته، وقد يجعل العصير وجهَه دبقًا فضلًا عن أنه قد يسيل على أكمامه، أو من المحتمل أن يكون عصيرًا حامضًا في قوة الليمون، فيُزِيل الألوانَ عن ملابسه.
ثم أقبَلَ من منعطف في الزقاق طيفان لفتاتين مَلِيحتين زادَتْهما أشعةُ الشمس وَضاءةً وحُسْنًا. كانت الفتاتان تسيران على مهلٍ نحوَ البلدة وتتجاذبان أطرافَ الحديث، وربما التفَتَتَا في أي لحظة لترَيَا خلفهما شابًّا مرتبكًا حاملًا شيئًا يشبه الطماطم الصفراء الفاقعة اللون! ما من شكٍّ أن الضحك سيغلبهما.
قال السيد هينشكليف: «اللعنة!» وبحركةٍ خاطفة ألقى ذلك الثِّقل الجاثم على قلبه، فطارت فوق الجدار الحجري لبستانِ فاكهةٍ متاخم للطريق. وحين اختفَتِ الثمرة، أحسَّ السيد هينشكليف بغصَّةٍ خافتة لفَقْدها، لكنها لم تتجاوز اللحظة، ثم عدَّلَ بعدَها وضْعَ عصاه وقفازه في يده، ومضى في طريقه، معتدلًا وواثقًا، ليجتاز الفتاتين.
لكن حين حلَّ الليل بظلمته رأى السيد هينشكليف رؤيا في منامه، تراءى أمامَه خلالها الوادي، والسيوف المستَعِرَة، والأشجار الملتوية، وأدرَكَ أن التفاحة التي ألقاها غير مبالٍ بها إنما هي تفاحةُ شجرةِ المعرفة حقًّا، فأفاق من نومه مغتمًّا مكروبًا.
حين استيقظ السيد هينشكليف صباحًا كان إحساسه بالندم قد تلاشى، لكنه عاد لاحقًا وعكَّرَ صفوه، غير أنه لم يكن يساوِره قطُّ حالَ فرحه أو انشغاله. وأخيرًا، في ليلةٍ مُقمِرة في حوالي الحادية عشرة قبل منتصف الليل، حين خيَّمَ السكون على هولموود، عاوَدَتْه مشاعِرُ الندم ثانيةً لكنْ بحدَّةٍ مضاعَفة، وجلبَتْ معها تلك المرة دافعًا قويًّا للمغامرة. انسَلَّ السيد هينشكليف خارجًا من بيته واجتاز جدارَ الملعب، ثم اخترق البلدةَ الساكنة متَّجِهًا إلى محطة القطار، وتسلَّقَ حائط البستان الذي ألقى الثمرةَ داخلَه. لكنه لم يعثر على أدنى أثرٍ للثمرة بين العشب المبتَل بقطرات الندى وزهيرات الهندباء الرقيقة الكروية الساقطة على الأرض.