إنجلترا إن أمكنا!
أيام الصبا المبكر، وفي عام ١٩٤٦م على وجه التحديد، كان مجال العمل السياسي مفتوحًا للشباب الصاعد، الأحزاب على قفا من يشيل، والجرائد على ودنه، والجمعيات أكثر من الشماسي على شاطئ إسكندرية. وبعد هذا وقبل هذا أيضًا، كانت المظاهرات كمركبات الترام، مظاهرة وراء مظاهرة، وكانت متعددة الألوان؛ أحمر شفتشي يرفع المطرقة والمنجل، وبعضها أخضر مسخسخ. يدعو للانفتاح والانبطاح، وبعضها يرفع راية بني العباس، وبعضها يرفع بيرق الإمام الحسن الشاذلي، وبعضها سكلانس يهتف: مصر والسودان لنا، وإنجلترا إن أمكنا.
والحق أقول، إنني وشلتي كنا نُفضل الاندماج في المظاهرات التي ترفع شعار «إن أمكنا» على أساس أنها مظاهرة قومية لا تفرض القيود على المنضمين إليها كما تفعل المظاهرات الحمراء أو الخضراء أو السوداء، ولكن حكومة صدقي باشا التي كانت تحكم مصر تلك الأيام، كانت حكومة عملية للغاية؛ ولذلك كان إيمانها ضعيفًا بمسألة إنجلترا إن أمكنا. وبِناءً على موقفها المتخاذل، هجمت علينا عساكر الشرطة ذات مظاهرة وفقعتنا علقة لا تزال آثارها موجودة على ظهر العبد لله وعلى ظهور باقي الشلة. وكانت هذه العلقة سببًا في البحث عن وسيلة أخرى لنواصل العمل السياسي بعيدًا عن الضرب بالشوم وجريد النخل وأيادي المقشات، وكلها أسلحة مشروعة في العمل السياسي أيام زمان. فكرنا في الانضمام إلى حزب سياسي، وكان الوفد هو أقرب الأحزاب إلى فكرنا، وكان النحاس باشا هو أقرب الزعماء إلى قلوبنا، ولكننا صرفنا النظر عن الانضمام لحزب الوفد بعد أن ذهبنا إلى لجنة الوفد بالجيزة فلم نجد أحدًا في استقبالنا، ولم نجد أحدًا نتحدث إليه. والسبب أن الوفد لم يكن حزبًا في الواقع، ولكنه كان شعب مصر كله يجمعه النحاس باشا بإشارة ويصرفه النحاس باشا بإشارة.
ولذلك لم يكن الوفد في حاجة إلى لجان أو وكلاء أو مندوبين يتحدثون باسمه. وألقينا نظرة على الساحة السياسية في مصر واخترنا جماعة الإخوان المسلمين للانضمام إليها. كانت الجماعة في تلك الأيام في أوج نشاطها وفي عز ازدهارها، وكان للجماعة فروع في كل حي، وأحيانًا في كل شارع.
وكانوا على وفاق مع حكومة صدقي، وكان صدقي باشا يستخدمهم ضد حزب الوفد، ولم نكن نحن في تلك الأيام على بينة بما يجري تحت السطح، ولم نكن ندرك على وجه الدقة الفرقَ بين الوفد والإخوان، أو حتى الفرق بين الإخوان والشيوعيين. كل ما كنا نعرفه في تلك الأيام هو أن النحاس باشا زعيم شعبي طيب ومحبوب من الجماهير. أما الزعماء الآخرون فلم نكن نعرف عنهم شيئًا كثيرًا، والشيخ حسن البنا مثلًا كنا نسمع عنه ولا نراه. أما هيكل باشا والنقراشي باشا وحافظ رمضان باشا، فقد كانوا بالنسبة لنا أشبه بخفرع وخوفو ومنقرع، ولكن الذي شجَّعنا على الذهاب إلى شعبة الإخوان بالجيزة شيءٌ آخر غير حسن ومكتب الإرشاد. كان الإخوان المسلمون قد نجحوا في تربية مجموعة من الشباب أغلبهم من طلبة الجامعة، وانطلق هؤلاء يخطبون في المناسبات وفي الاحتفالات، ونجح هؤلاء في لفت أنظار الشباب؛ فقد كان أسلوبهم في الخطابة حماسيًّا، ويتناولون موضوعات تثير خيال الشباب وتلهب مشاعرهم. كانوا يتحدثون عن استعادة لواء الإسكندرونة السليب. والحق أقول إنني أعجبتني حكاية السليب دي، رغم أنني لم أفهم معناها عند سماعي لها أول مرة، ولكني بالرغم من ذلك شعرت براحة كبيرة ربما للتجانس في العبارة والهارموني الذي يجمعها، لواء الإسكندرونة السليب! ولم أكن أعرف على وجه التحديد أين تقع الإسكندرونة ولا هي مشكلتها الحقيقية، ولكني صفقت بشدة عندما استمعت إلى الخطيب الشاب يدعونا إلى الزحف المقدس لاسترداد لواء الإسكندرونة السليب. ليس هذا فقط؛ فقد استمعت إلى خطيب شاب آخر في إحدى المناسبات، انفعل بشدة وهو يدعونا نحن شباب تلك الأيام إلى تحرير إشبيلية وطليطلة والأندلس. وأعجبتني الفكرة، وتمنيت أن أكون جنديًّا في فيالق التحرير لكي أزور الأندلس وأستمتع بمغانيها وبساتينها ومفاتنها. المهم أن العبد لله بعد خطبتين من دول خطفت رجلي ومعي الصديق طوغان «رسام الكاريكاتير الشهير الآن»، أقول خطفت رجلي إلى شعبة الإخوان في الجيزة، وكان الوقت ظهرًا، ورجل يبدو عليه الهدوء والطيبة والسماحة يؤدي صلاة الظهر وحيدًا في المكتب، يؤديها في هدوء وعلى المهل، وانتظرناه حوالي ربع ساعة حتى انتهى من صلاته. وعندما حاولنا فتح حوار معه، انهمك في تلاوة بعض الأدعية في الوقت الذي كانت أصابعه تعزف على حبات المسبحة لحنًا صامتًا استمر عدة دقائق. وعندما حاولنا فتح حوار معه ألقى علينا السلام وصافَحنا بحرارة، ثم ألقى علينا سؤالًا مفاجئًا: إنتو أديتم صلاة الظهر؟ وكذبنا على الرجل الطيب وزعمنا له أننا أدينا الصلاة قبل أن نحضر إليه. وظهر واضحًا على وجهه أنه صدَّقَنا، ثم عرضنا عليه رغبتنا في الانضمام إلى صفوف الإخوان، فردَّ علينا بهدوء قائلًا … على بركة الله ورسوله! ثم اتجه نحو المكتب بخطوات بطيئة وفتح دفترًا كدفاتر البقالين، وتناول ريشةً غمسها في دواة ثم استفسر منا عن أسمائنا، وبعد أن دوَّن سدَّد إلينا نظرة طويلة، ثم مد يده اليمنى نحونا وقال بنفس النبرة الهادئة: خمسة صاغ كل واحد. وضربت لخمة معنا نحن الاثنين؛ فلم يكن في جيوبنا صنف العملة، ولم نتصور في أي لحظة أن التحاق زعيمين مثلنا يحتاج إلى دفع اشتراك! وأصارحكم الآن أنني تصورت أن مجرد إبداء رغبتي في دخول حزب سيقابَل بالترحاب الشديد، وقد يقرر الحزب الذي اخترته صرف معاش شهري للعبد لله! ولذلك كانت دهشتي كبيرة عندما طلب منا هذا المطلب العسير، وهو عسير لأن الخمسة صاغ أيامها كانت تساوي يومية عاملين من عمال شركة ماتوسيان. المهم أننا اعتذرنا للرجل الطيب بعدم وجود فكة معنا واستأذناه في الخروج إلى الشارع لفكِّ ورقة من فئة العشرة جنيهات! وخرجنا بالفعل ولم نعد إلى هناك لحسن الحظ في أي وقت.
وأقول لحسن الحظ لأننا لو كنا نملك نقودًا في ذلك الوقت لدفعنا الاشتراك وأصبحنا أعضاءً في الإخوان المسلمين، ومن يدري ربما استبدَّ بنا حماس الشباب في تلك الأيام فدخلنا نحن أيضًا في زمرة الخطباء، ودعونا إلى استرداد لواء الإسكندرونة السليب وتحرير إشبيلية وطُليطلة والأندلس، وربما استبد بنا الحماس أكثر فندعو إلى تحرير برشلونة، ولا بأس من تحرير مرابيا وريال مدريد. ومن يدري؟ ربما كنا ضمن الألوف الذين عكموهم بعد مقتل النقراشي باشا، ومن يدري؟ ربما كان العبد لله أميرًا لمنطقة ديروط في الوقت الحاضر وطوغان أميرًا لمنطقة أسيوط!
المهم أننا هربنا بفضل الله من شعبة الإخوان المسلمين بالجيزة، وقضينا أسبوعًا كاملًا لا نقترب من شارع عبد المنعم، حيث يقع مقر الشعبة، وحتى لا يقع علينا نظر الرجل الهادئ البطيء الوقور الذي طلب من كل واحد منا خمسة صاغ، وأجبرَنا على أن نتحول إلى فص ملح وداب! ولقد حاولت بعد ذلك البحث عن هذا الرجل الطيب لكي أشكره وأقبِّل وجْنتَيه؛ لأنه طلب منا هذا المبلغ الجسيم وقتئذٍ، فأجبرَنا على الهروب، ولكن ما حدث بعد ذلك كان أغرب من الخيال. فبعد مقتل النقراشي باشا امتلأت السجون بأعضاء الجماعة؛ فالقاتل كان منهم، وكان عضوًا بالتنظيم السري للجماعة، وارتدى بدلة ضابط شرطة ودخل وزارة الداخلية، ووقف عند الأسانسير حتى جاء النقراشي، فأخرج مسدسه وأطلق عليه النار وأرداه قتيلًا. وكانت حاسة الأمن في تلك الأيام ليست قوية كما هي الآن. كانت الدنيا طيبة والناس طيبين، ورجال الشرطة أيضًا. وكان من السهل على أي إرهابي أو خلبوص أن يقتحم أي مكان أو يتسلل إلى أي موقع ويعمل عملته المهبية، وبعد أن أمتلأت السجون بالمتهمين والمشتبَه فيهم، والذين ليس لهم في الطور ولا في الطحين، مر على بيتنا كونستابل ممتاز اسمه عنتر، كان يسكن بالقرب منا، وطلب مني الذهاب إلى القسم لأمر هام، ثم مر على منزل طوغان وسحبه هو الآخر. وقطعنا الطريق إلى قسم الشرطة سيرًا على الأقدام، عنتر يسير في الوسط وطوغان عن يمينه وأنا عن يساره، صحبة بريئة لا تلفت الأنظار. ولكن الفار لعب في عبنا عندما اقتربت القافلة من قسم الشرطة. أمسكنا السيد الكونستابل من مكان تحت القفا بقليل. وعندما نظرنا إليه بدهشة، قال معتذرًا: معلهش … علشان البيه المأمور ماياخدش ملاحظة عليَّ. ولم يتسع الوقت أمامنا لسؤال عنتر عن علاقة البيه المأمور بالموضوع الذي جئنا من أجله إلى القسم؛ فقد وجدنا أنفسنا فجاةً أمام البيه المأمور، عنتر يضرب تعظيم سلام اهتزت له جدران الحجرة، وقال عنتر في لهجة حازمة: المطلوبين أهم يا فندم.
إذن نحن مطلوبون … ليه؟ هذا هو الذي لم نتوصل إليه حتى تلك اللحظة. وقال المأمور وهو يفحصنا بنظرات حادَّة: خليهم عندك لما الجماعة ييجوا ياخدوهم، وخرجنا إلى مكتب عنتر، وهو مكتب حقير ليس به إلا ترابيزة كأنها ترابيزة بقال في حي شعبي، وجلس عنتر خلف الترابيزة ووقفنا أمامه في حالة ضياع، وسألنا عنتر عن الحكاية فقال:
في الحقيقة ما اعرفش، لكن أنتم مطلوبين في القسم المخصوص.
يا خبر أسود في القسم المخصوص؟! المهم جاء أفندي متين البنيان، شكله يوحي بأنه مدرس ألعاب رياضية، عاملنا بلطف واصطحبنا في سيارة إلى إدارة القسم المخصوص. وأمام ضابط آخر جلس يستجوبنا لمدة نصف ساعة، فتح دفترًا وأطلعنا عليه؛ كان اسم طوغان مكتوبًا على سطر وسنه وعنوان سكنه، وفي السطر الثاني اسم العبد لله وسني وعنواني، ثم قلم حبر مر على السطور فشطب على الأسماء وعلى المعلومات، ولكنه شطبٌ يسمح بقراءة كل شيء.
سألَنا الضابط: هل أنتم أعضاء بالجماعة؟ فجاءه الجواب بالنفي.
عاد يسألنا: طيب كيف وصلت أسماؤكم إلى هذا الدفتر؟! سؤال وجيه أجبناه عليه بمنتهى الصراحة، وحكينا له قصة الخمسة قروش التي اضطرتنا إلى الهروب من مقر الشعبة، وضحك الضابط ضحكة طويلة، وقال: حظكم حلو، وعلى العموم معلوماتنا عنكم إنكم شبان كويسين، تلعبون الكورة أحيانًا والطاولة أحيانًا، كما أنكم مشاغبون، ولكنكم مواطنون صالحون! واستدعاؤكم إلى هنا كان ضروريًّا لكي نستوثق منكم عن سر وجود أسمائكم في هذا الدفتر.
وخرجت من مكتب الضابط وأنا أشكر الله على الفقر والسلامة. لو كان مع العبد لله خمسة قروش، فربما قضيت خمس سنوات وراء الشمس. وشكرت الله على النجاة وقلت: وداعًا أيها اللواء السليب! ووداعًا للأندلس وطليطلة وإشبيلية وريال مدريد!
ولكن … هل نكفُّ عن الاشتغال بالسياسة؟ بالطبع لا. لقد ذهبنا نبحث عن الشيوعيين … ولكنَّ هذه قصة أخرى!