شكة الشوكة بذنب
وإلى مجلة التحرير انتقل العبد لله حيث كان أحمد قاسم جودة يعمل في نفس الوقت رئيسًا لتحرير الجمهورية مع إبراهيم نوار وجلال الحمامصي وحسين فهمي؛ ولذلك عهد إليَّ بمهمة إدارة تحرير مجلة التحرير والرجوع إليه إذا اقتضت الضرورة ذلك، في تلك الأثناء شهد العبد لله مولد العديد من الصحفيين الذين اشتُهروا بعد ذلك، أذكر منهم محمود المراغي والسيدة نجاح عمر ومفيد فوزي، واكتشفت أثناء تجوالي في حي الحسين جمعية تطلق على نفسها اسم «حتى شكة الشوكة بذنب»، اتصلت برئيس الجمعية في صباح اليوم التالي وطلبت منه يسمح لي بإجراء حديث صحفي معه، ورحَّب الرجل على الفور، وحضر بنفسه إلى المجلة بعد الظهر، وأجريت معه الحديث، ونشرته في العدد التالي.
ولكن رئيس الجمعية احتج بشدة لأنني وصفت الجمعية بكلمات ساخرة، ولأن الحديث كله كُتب بلهجة ساخرة، ووعدت رئيس الجمعية بإجراء حديث آخر معه في اليوم التالي لأكفِّر عن جريمتي في الحديث السابق، ووافق الرجل وحضر بالفعل، وكنت قد طلبت من الفنان أبو لمعة والفنان بيجو يرحمه الله أن يحضرا إلى الجريدة في نفس الموعد، واكتشفت أن رئيس الجمعية لا يعرف أبو لمعة وبيجو ولم يسمع بهما من قبل!
وجرى الحوار بين رئيس الجمعية من جهة والخواجة بيجو وأبو لمعة من جهة ثانية، وشعر رئيس الجمعية بعد فترة أننا نحاول السخرية منه ومن الجمعية، فتوقف عن الكلام فجأة، وقال موجهًا حديثه للعبد لله: إذا كان في نيتك السخرية مني أو من الجمعية فستصيبك مصيبة كبرى بإذن الله.
قلت للشيخ رئيس الجمعية: وده معقول نسخر منك يا مولانا!
– على العموم أنا قلت لك وأنت حر … لو حاولت تسخر مني حتجيلك مصيبة الأسبوع ده.
وطيبت خاطر رئيس الجمعية وانتهينا من إجراء الحديث، ونشرناه في العدد التالي بعنوان «رئيس حتى شكة الشوكة بذنب يقابل الخواجة بيجو وأبو لمعة». وكان الحديث مسخرة بالطبع تجلت فيه مواهب الخواجة بيجو وأبو لمعة في فن الفرفشة والإضحاك.
وفي نفس العدد الذي ضم الحديث كتب العبد لله كلمة عن المرحوم فريد الأطرش، تناولت فيه الدروز وجبل الدروز وعائلة الأطرش كلها، وفي اليوم التالي لصدور عدد مجلة التحرير استدعاني فوزي عبد الحافظ لمقابلة القائمقام أنور السادات، وتصورت أن حديث «حتى شكة الشوكة» مع الخواجة بيجو قد أعجبه، وذهبت لمقابلة القائمقام أنور السادات وعندي أمل في الحصول على مكافأة سخية أو علاوة مجزية يتحدث بذكرها الركبان والذين يمشون على الأقدام.
وعندما أصبحت أمام مكتب أنور السادات ألقيت عليه التحية، ولكنه لم يرد التحية فقد كان منشغلًا بقراءة بعض الأوراق، وتركني واقفًا أمامه فترة قبل أن يلقي بالأوراق جانبًا، ثم أمسك بين أصابعه بالعدد الأخير من مجلة التحرير، وقال بعصبية شديدة: إيه الكلام الفارغ اللي انت كاتبه ده؟!
وتصورت أن الذي أغضبه هو الحديث مع رئيس «حتى شكة الشوكة بذنب»، فقلت له: ده موضوع خفيف لأن العدد تقيل.
– أنا بكلمك على موضوع فريد الأطرش … أنت بتهاجم مطرب، ما لك ومال الدروز؟!
حاولت الكلام ولكنه صرخ في وجهي: أنت موقوف.
قلت له وأنا في طريقي خارج مكتبه: طيب.
صرخ مرةً أخرى بشدة وقال: أنت مرفوت.
لم أنطق بحرف، وغادرت مكتبه وسمعت وأنا أهبط على السلالم صوت الصاغ فوزي عبد الحافظ يناديني، فصعدت السلالم من جديد، وقال لي الصاغ فوزي: القائمقام عاوزك.
وعندما هممت بالدخول منعني الصاغ فوزي قائلًا: خليك عندي هنا.
وجلست في مكتب الصاغ فوزي قرابة نصف الساعة قبل أن يخرج القائمقام أنور السادات فوقف، فوزي ووقفت معه، فنظر نحوي وهو في طريقه مسرعًا وقال: أنت موقوف.
وقضيت ستة أشهر موقوفًا عن العمل ممنوعًا من دخول الجريدة، ولكني أصرف مرتبي كل شهر ويصلني عدد المجلة كل أسبوع. وفجأة جاء كامل الشناوي رئيسًا لتحرير الجمهورية مع أحمد قاسم جودة والحمامصي وحسين فهمي.
وفي أول اجتماع لهيئة التحرير بعد عودة كامل الشناوي قال كامل للقائمقام أنور السادات: كان فيه عندكم هنا شاب صحفي كان ممكن الواحد يعمل معاه شغل كثير لولا أنه مات إلى رحمة الله، وتساءل القائمقام أنور السادات: مين الشاب اللي مات هنا ده يا كامل؟
وعندما ذكر له كامل الشناوي اسمي، قال السادات: ده عايش وزي القرد، أنا وقفته عن العمل، أصل لسانه طويل قوي.
وقال له كامل الشناوي: إحنا نجيبه ونقطع لسانه.
قال القائمقام: تضمنه يا كامل بيه؟
– أضمنه.
وذهبت في صباح اليوم التالي وقابلت كامل الشناوي، وقضيت ساعات العمل كلها في مكتبه، وفي المساء بدأ ضيوف كامل الشناوي يتوافدون على دار الجريدة، عبد الحليم حافظ وكمال الملاخ وإحسان عبد القدوس وأحمد عطية الألفي، وخلال الحديث الممتع الذي جرى بين كامل وضيوفه دخل القائمقام أنور السادات مكتب كامل الشناوي وصافح الحاضرين جميعًا وأنا منهم، وسألني في ود شديد: إزيك يا محمود؟
– الله يحفظك يا أفندي.
– حتشتغل مع كامل بيه … بس اياك تغلط تاني، ح اقص لسانك.
ثم قهقه عاليًا، وقضى بعض الوقت في حجرة كامل الشناوي، ثم اعتذر وانصرف.
واشتغلت مع كامل الشناوي خمس سنوات كاملة لم أخطئ فيها إلا قليلًا، وقد أوفدني في رحلة إلى الجزائر، وكنا في بداية عام ١٩٥٦م، وذهبت إلى مدريد لمقابلة السنيور «أنخي»، وهو الاسم الحركي لمندوب جبهة التحرير الجزائرية في مدريد. ولأن العبد لله غشيم حينذاك في أسماء الفنادق وطبقاتها، فقد نزلت من أوتوبيس المطار ليتلقفني شيال إسباني مدرب سحبني وراءه إلى فندق قريب، كان الفندق غاية في الأناقة والفخامة. وعندما دخلت الحجرة، وقبل أن أخلع ملابسي، طرق مجهولٌ الباب طرقات خفيفة، وعندما فتحت رأيت رجلًا مهيبًا في ثياب رسمية سوداء وكأنه على وشك الذهاب إلى حفلة ساهرة، وكان يجر أمامه عربةً محمَّلة بأنواع كثيرة من الفواكه وباقة ورد صغيرة، وتصورت أنه محافظ مدريد قادم لتحيتي باعتباري أحد المستثمرين الكبار؛ فقد كان في جيبي مائة وعشرون جنيهًا، وهناك مبلغ مائتَي جنيه في الطريق إلى العبد لله عن طريق البنك!
ولكن المحافظ ترك العربة في الحجرة وانصرف في هدوء، وبعد أن حلقت ذقني وأخذت حمامًا وارتديت البدلة كاملة والكرافت السولكا التي كان يرتديها الملك فاروق يومًا ما، وهي ليست نكتة ولكنها حقيقة، فقد كلفني المرحوم كامل الشناوي بصياغة مذكرات كريم ثابت باشا المستشار الصحفي للملك فاروق بعد أن اعتذر عن عدم كتابتها هو شخصيًّا بسبب مرض شديد في ذراعه يعوقه عن الكتابة … وهي حركة ذكية من كريم ثابت؛ فقد كنا في بداية الثورة، وكان أغلب رجال العهد البائد يأملون في عودة الملك مرة أخرى، وأعتقد أن كريم ثابت من بين هؤلاء؛ ولذلك قبل أن ينشر مذكراته على أن يصوغها أحد آخر بقلمه حتى إذا حدث ما لا تُحمد عقباه، وعاد الملك فاروق إلى عرشه مرة أخرى، يكون كريم ثابت في مأمن من الانتقام؛ فهو لم يكتب ولكنه أُجبرَ على الكتابة، والدليل أن المذكرات مكتوبة بأسلوب وبخط يد صحفي آخر. المهم أنني بعد أن انتهيت من كتابة المذكرات، والتي قضيت من أجل كتابتها ٣٠ ساعة كاملة مع كريم ثابت باشا على مدى خمسة عشر يومًا، جاءني الباشا في آخر لقاء وقال لي: مذكراتك رائعة.
قاطعته قائلًا: ولكنها مذكراتك يا باشا.
طبعًا … طبعًا … بس ده أسلوبك مش أسلوبي أنا، ولو أنا كتبتها ماكنتش كتبتها أحسن من كده.
وشكرت الباشا على إطرائه للعبد لله وحاولت الانصراف، ولكنه قال لي: عاوز أقدم لك هدية … لكن ظروفي لم تعد تسمح … فأنا تحت الحراسة، ويصرفون لي مائة جنيه كل شهر.
فقلت له ضاحكًا: إذن أنا اللي يجب أديلك هدية.
قال الباشا مداعبًا: سيبك من البكش ده … أنا ح أديلك هدية وهي هدية ثمينة لأنها بتحمل ذكرى معينة.
ثم راح الباشا يحكي قصة الهدية: استدعاني الملك في أحد الأيام وتأخرت عليه بعض الوقت، وعندما ذهبت إليه في القصر سألني عن سبب تأخري، فقلت له لا تؤاخذني يا جلالة الملك؛ فاليوم هو عيد ميلادي. فاستبقاني على الغداء ثم سحبني من يدب إلى دولاب كرافتاته، وقال هذه دستة كرافتات سولكا هديتي لك. وصمت الباشا فترة ثم قال: هذه الكرافتات أنا أهديت منها ستًّا لأحد أصدقائي، واستعملت اثنتين منها، ولم يبقَ إلا أربع هي هديتي لك.
حاولت التملص منه لكنه أصر … فأخذت الكرافتات وذهبت إلى كامل الشناوي وأخبرته بما جرى … وكان كامل الشناوي يهوى الكرافتات ويُعتبر من الخبراء في أنواعها وألوانها … واختبر الكرافتات التي معي ونظر للعبد لله وقال: أنا مستعد أفكها لك.
سألته عن فك الكرافتات وكيف يكون … فقال: الأربعة دول ﺑ ١٢ كرافتة أرجانس … إيه رأيك؟
قلت للمرحوم كامل الشناوي: خلاص هي هدية لك.
ولكن كامل الشناوي رفض وقال: أنا ح آخذ اتنين وأسيبلك اتنين، وحديلك ٦ كرافتات أرجانس.
وعندما حاولت مناقشته طلب مني مغادرة الغرفة لأنه مشغول بكتابة مقاله اليومي، وبالفعل أخذ كامل الشناوي كرافتتين وجاءني في اليوم التالي بنصف دستة كرافتات «أرجانس»، وقد ارتديت إحدى كرافتات الملك في يوم زواجي، وأعطيت الأخرى إلى محمد مبدي المحامي؛ فقد تزوجنا معًا في يوم واحد من شقيقتين في مدينة الإسماعيلية، وظلت هذه الكرافتة اليتيمة في حوزتي حتى تحولت إلى شيء أشبه بفردة الشراب، ولقيَت كرافتة الملك نهاية أليمة كما حدث لصاحبها فيما بعد!
على العموم كان حديثنا عن الفندق الفخيم في قلب مدريد عندما ارتديت ملابس كاملة، ونزلت إلى بهو الفندق ودخلت إلى بار وجلست على كرسي عالٍ، ثم رحت أتلفت حولي، وهالني أن أجد بين الحضور صديقًا من أصدقائي الحميمين، هذا الرجل الجالس في بار الفندق أنا أعرفه معرفة وثيقة، وأنا بالتأكيد تعرفت إليه مع زكريا الحجاوي أو كامل الشناوي أو الشيخ عبد الحميد قطامش، ولكنه يبدو الآن أكثر شيبًا وأكثر إرهاقًا من ذي قبل، ولكن أين رأيته وأين جلست معه وما اسمه؟ كل هذه المعلومات ضاعت من ذاكرتي للأسف الشديد.
لجأت إلى طريقة سخيفة لعله يتذكرني، كنت أنظر إليه فإذا تلاقت نظراته بنظراتي فتحت فمي عن ابتسامة عريضة، ولكنه بعد مرتين أو ثلاث مرات بدأ يتحاشى النظر نحوي، وأغلب الظن أنه اعتقد أنني مجنون خارج لتوي من مستشفى الخانكة؛ ولذلك أعطاني ظهره عملًا بالمثل القائل: «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح.» فكرت في طريقة أخرى لأنعش ذاكراته، ولكني خشيت أن يسيء الظن بي فيستدعي البوليس أو يغادر الفندق كله، جلست على البار أدعك في جبهتي دعكًا شديدًا أحاول أن أعود بذاكرتي إلى الوراء وأفتش عن زوايا الماضي في محاولة للكشف عن هُوية صديقي الذي التقيته بالتأكيد أكثر من ٢٠ مرة، وعشت معه ساعات طويلة، ولاحظ البارمان أن العبد لله سارح بعيدًا أو مشغول ومهموم، فسألني إذا كان هناك شيء يقلقني أو أعاني من مرض مفاجئ، فنفيت له أن يكون بي شيء من هذا، وحكيت له حكايتي مع صديقي الذي أعرفه حق المعرفة، ولكني لا أتذكر أين ومتى وكيف رأيته أو تعرفت إليه، وحتى اسمه نسيته … فسألني: أين هذا الصديق الآن؟ أجبته بأنه يجلس بجواري وعلى مقربة مني. وأشرت له على الصديق الذي حيرني أمره، ونظر الرجل إلى حيث أشرت، ثم قهقه عاليًا وقال في دهشة شديدة: ألا تعرفه؟
سألته مندهشًا أنا الآخر: وهل تعرفه أنت؟
قال بلهجة ساخرة: طبعًا أعرفه … والعالم كله يعرفه.
قلت: ومن هو؟
قال: إنه تايرون باور.
هتفت مشدوهًا: تايرون باور! يا قوة الله إنه صديقي بالفعل، عرفته في سينما مترو، جلست معه ساعات في «دماء ورمال»، وأُعجبت به أيَّما إعجاب في «حفر قناة السويس»، وقضيت معه ساعات طويلة في أفلام أخرى تألَّق فيها تايرون باور، لقد اختلطت الحقيقة بالخيال، وصارت الصورة صديقًا للعبد لله، وهي مسألة تُثبت تأثير السينما الأمريكية على الناس في كل مكان … والعبد لله من جيلٍ أدمَنَ السينما الأمريكية في عهد سينما «ستراند» حيث كانت تعرض ثلاثة أفلام بثلاثة قروش في السهرة، ولم تكن سينما «ستراند» من دور السينما الهلس التي كانت تعرض «مغامرات شاران» و«الشبح يقابل الرجل الذئب» و«مغامرات شيتا»، ولكنها كانت تعرض أفلامًا من نوع آخر، وقدمت لجيلنا أفلامًا من نوع «ذهب مع الريح» و«لمن تدق الأجراس» و«أفضل أيام حياتنا» و«صرخة المدينة»، وقدمت لنا أبطالًا من طراز كلارك جيبل وروبرت تايلور وإدوارد جي روبرسون وولس بيري وإيميل جاننج وتايرون باور وجاري كوبر … وقدمت لنا بطلات من نوع هيدي لامار وجريتا جاربو وأنجريد برجمان وبربارا ستانويل وبيتي ديفيز … ولكن سينما «ستراند» التي علمتنا وألهمتنا كانت السبب في حادث غير سعيد للعبد لله؛ كدت أذهب بسببه في ستين داهية وأضيع في الكازوزة، لولا كامل الشناوي الذي تدخَّل في الوقت المناسب لإنقاذ العبد لله.