تولوستوي في ستراند
كان معنا في الجريدة زميل صحفي هو الأستاذ «سامي الرافعي»، وكان مندوب الجريدة في مجلس الوزراء، وكان عبد الناصر هو رئيس المجلس في ذلك الوقت.
وحدث ذات مساء أن حضر إلى دار الجريدة متأخرًا، ودخل مكتب كامل الشناوي الذي سأله عن سبب تأخيره، فأجاب الرافعي بأنه كان في السينما لمشاهدة فيلم «الحب والسلام»، ثم أضاف: بيقولوا المؤلف بتاع الفيلم راجل روسي كبير. كان «سامي الرافعي» يقصد فيلم الحرب والسلام، وكان الروسي الكبير الذي يقصده هو الكاتب العالمي تولوستوي.
ولكن زميلنا الرافعي كانت كل اهتماماته منحصرة فيما يدور داخل مجلس الوزراء.
والتقط العبد لله الخيط، وقررت تدبير ملعوب بقصد الضحك والفرفشة ليس إلا، فقلت للزميل الرافعي: طب ليه ماعملتش حديث مع المؤلف الروسي الكبير ده؟ ورد الزميل قائلًا: وأنا راح ألاقيه فين؟ ثم أردف قائلًا: لكن هوه بيشتغل إيه بالضبط؟ وقلت على الفور: دا وزير التموين في روسيا. وعقَّب كامل الشناوي: دا كان زمان الكلام ده، دلوقت بقى وزير الإنتاج الحربي! وصاح الزميل الرافعي: يا ريت أقدر أعمل معاه حديث، بس هلاقيه فين؟ قلت على الفور: هو هنا في مصر وفي زيارة سرية، لكن أنا شفته الليلادي في سينما ستراند؛ لأنها بتعرض فيلم تاني من تأليفه اسمه «أنا كارنينا». وأضاف كامل الشناوي: هوه ماحدش قالك؟ وهزَّ الرافعي رأسه بالنفي.
وتدخلت مرةً أخرى في الحديث فقلت للرافعي: على العموم هوه هيقابل عبد الناصر بعد بكرة … والأخبار والأهرام عملوا أحاديث وهاتنشر يوم المقابلة. هنا أصيب الأخ الرافعي بلوثة، فقد كان يثور إلى حد الجنون إذا سبقه زميل آخر إلى خبر أو حديث، ونهض الرافعي وخرج من غرفة كامل الشناوي ثم عاد بعد قليل وسألني: طيب هوه فين دلوقت؟ فقلت له: هوه في لوكاندة بعيدة، وأعتقد أنه في «مينا هاوس». أمسك الرافعي بالتليفون بعد استئذان كامل الشناوي، أدار القرص طالبًا الفندق، ثم التفت نحو العبد لله وقال: اسمه إيه؟ قلت: تولوستوي.
بعد لحظات قال الرافعي من خلال سماعة التليفون: إديني مستر تولوستوي، لا أنا ماعرفش رقم الغرفة لكن هوه نازل عندكو. بعد فترة صمت طويلة جاء الجواب بأنه لا يوجد أحد بهذا الاسم في الفندق. وضع الرافعي السماعة ونظر نحو العبد لله نظرةً تحمل بعض الشك وتحمل كثيرًا من الاستعطاف، وقال: إذا كنت عارف مكانه قوللي. نصحت الأخ الرافعي بالاتصال بأحد في المخابرات العامة لمعرفة مكانه. لزم الصمت فترة ثم أدار قرص التليفون وأجرى اتصالًا مع أحد الأشخاص، وراح يعتذر في البداية عن اتصاله في هذا الوقت المتأخر، ثم قال للمتحدث: أنا أصلي مكلف من كامل الشناوي بإجراء هذا الحديث، وأنا ما أقدرش أخالف أوامر كامل بيه.
ويبدو أن الشخص الذي اتصل به أخونا الرافعي كان يحتل منصبًا رفيعًا في المخابرات ومن النوع الذي ينام مبكرًا، ويبدو — والله أعلم — أنه وبَّخ الرافعي بكلمتين قبل أن يغلق السكة، وجلس الرافعي يدعك في جبهته وفي رأسه، وبدأ العرق يتصبب من جبينه، ثم قال لكامل الشناوي قبل أن ينهض من مكانه استعدادًا للانصراف: أنا مش هاسكت إلا لما أعمل حديث مع الراجل ده، وإن شاء بكرة الحديث هايكون على مكتب سعادتك.
في مساء اليوم التالي كان زميلنا الرافعي يقف أسفل سلم مجلس الوزراء عندما خرج جمال عبد الناصر من مكتبه والتفَّ حوله الصحفيون يسألونه عن نتائج لقائه مع أحد المسئولين البريطانيين، ووصف عبد الناصر المقابلة بأنها كانت ودية وإيجابية، ثم راح ينزل السلم في طريقه إلى الخارج، عندما فوجئ بزميلنا الرافعي أمامه، وضحك عبد الناصر ضحكةً صافية وقال له: كده يضحكوا عليك يا رافعي … أنت موش عارف يا رافعي إن تولوستوي مات قبل احنا ما نتولد. وصرخ الرافعي قائلًا: دا السعدني يا ريس الله يخرب بيته، هو اللي ضحك عليَّ وقاللي إن الراجل دا هنا.
انصرف عبد الناصر من مجلس الوزراء، وجلس الرافعي مع بعض المسئولين في مجلس الوزراء، وكان من بينهم بالطبع ضباط مخابرات وضباط أمن، وراح الرافعي يبرر لهم فعلته، ووصف العبد لله بأنه بتاع مقالب، وأنه بيفول على الريس، ومدام بيقول إن الريس هايقابل تولوستوي يبقى قصده إن الريس هايموت! قبل وصول الرافعي إلى مكتب كامل الشناوي في المساء كانت الأخبار قد وصلتنا عن طريق مندوبي الصحف الأخرى، فما إن دخل مكتب كامل الشناوي حتى بادره قائلًا: الأخبار إيه يا رافعي، الريس قالك إيه؟ ورد الرافعي على الفور: على فكرة يا كامل بيه الحكاية دي مش هاتفوت على خير، الجماعة هناك زعلوا قوي وقالوا إن السعدني بيفول على سيادة الريس. وقال له كامل الشناوي على الفور: هم اللي قالوا والا انت اللي قلت؟ وضربت لخمة مع الأخ الرافعي فراح يقول كلامًا بلا معنًى، وبعد فترة قصيرة غادر المكتب، ولكنه توقف قليلًا عند الباب ونظر للعبد لله وقال: على العموم اللي انت عملته فيه ده هايتردلك. قالها بلهجة تهديدية مسددًا نحوي نظرة ملتهبة، وكأنه يشفع إنذاره الشفوي بحركات عملية.
بعد انصرافه لعب الفار في عب العبد لله، فقلت لكامل الشناوي: يا كامل بيه انت شاهد، إحنا كنا بنهزر، يظهر انها هاتنقلب جد. وسألني كامل الشناوي وهو يشعل سيجارة: وانت خايف من إيه؟ فقلت له: أنت مش سامعه وهوه بيقول إني بافول على الريس. وقال كامل بيه بهدوء: ما يقول على كيفه وهو الرافعي كان مستشار الأمن القومي! قلت لكامل الشناوي: أنا خايف واحد من الجماعة اللي بيقعد معاهم يصدقه. وبدت على وجه كامل الشناوي معالم الدهشة وقال: أنت خايف حقيقي، غريبة دي، أنا ماكنتش فاهم إنك ساذج للدرجة دي. ثم قال: هو انت فاهم فيه حد أهبل تاني زي الرافعي! ثم الريس ضحك، يبقى عجبته النكتة، فهمت بقى والا ما فهمتش. ولما ظهر على وجهي أنني لم أفهم، ناولني عدة أوراق وقال لي: اتفضل قوم روح مكتبك وشوفلي الموضوع ده وقوللي رأيك فيه.
وبالرغم من تأكيدات كامل الشناوي للعبد لله بأن كل شيء سيكون على ما يرام، فقد قضيت فترة من الزمن أتوقع حدوث ما لا تُحمد عقباه، وظل الأخ الرافعي على علاقة سيئة بالعبد لله لم تُسَوَّ إلا بعد فصلي من جريدة الجمهورية بعد ذلك بسنوات.
وقصة الفصل نفسها تستحق أن تُروى. وكنت قد حملت رسالة من عبد القادر إسماعيل وعامر عبد الله والدكتور صفاء وآخرين من قادة الحزب الشيوعي العراقي، الذين كانوا يقيمون في دمشق في ذلك الزمان، وقد حملوني الرسالة لتوصيلها إلى جمال عبد الناصر. ولأن العبد لله لم يكن له علاقة بعبد الناصر من أي نوع، فقد سلمت الرسالة إلى المرحوم أنور السادات باعتباره رئيسًا لتحرير جريدة الجمهورية. وبالفعل استدعى أحد أفراد الحرس الجمهوري بالتليفون وسلمه الرسالة، ثم جلس معي بعض الوقت يستمع إلى تفاصيل الأحوال في دمشق، ثم طلب مني أن أكون مستعدًّا للقيام بمسئوليات جديدة في الجريدة إلى جانب عملي. ولما استفسرت منه عن السبب قال: هاتفهم بعدين. وكان المرحوم أنور السادات يعتبر العبد لله واحدًا من رجالته. في الجريدة بسبب موقف لم أتعمده، وأصل الحكاية أننا فوجئنا ذات يوم بمجيء الضابط أمين شاكر، وهو من الضباط الأحرار، وأصبح له مكتب ضخم في الجريدة أضخم من مكتب كامل الشناوي، ثم راح يكتب مقالات وينشرها في الجريدة، ثم استدعاني إلى مكتبه ذات مساء وكلفني بالسفر إلى تونس، وتغطية الأحداث التي أعقبت خلع الباي وتولي بورقيبة رئاسة الجمهورية.
وبالفعل ذهبت إلى سفارة تونس للحصول على تأشيرة الدخول، وهناك التقيت بمحض الصدفة بالصاغ فوزي عبد الحافظ سكرتير أنور السادات، الذي سألني عن سبب وجودي بالسفارة، فأبلغته بما كلفني به أمين شاكر ثم انصرف دون أن يعلق على الموضوع بشيء.
وفي بيتي تلقيت مكالمة تليفونية من الصاغ فوزي، أبلغني فيها رسالة في عدة كلمات: البكباشي بيقولك ماتسافرش إلا إذا جالك أمر منه هوه شخصيًّا.
بعد مكالمة الصاغ فوزي عبد الحافظ بساعات استدعاني أمين شاكر وسألني عن موعد السفر، فاعتذرت عن عدم السفر. ولما سأل عن السبب أبلغته بما دار بيني وبين فوزي عبد الحافظ، فعقَّب قائلًا: أنور السادات ساب الجورنال خلاص وأنا المسئول هنا. قلت له: ولكن اسم أنور السادات لا يزال يحتل صدر الصحيفة كرئيس لمجلس الإدارة! فسألني في غيظ: أنت بتشتغل عند أنور السادات والا في الجريدة؟ قلت له ساخرًا: الحقيقة أنا ما بقيتش عارف الفرق. قال: إذن هتسافر بكرة. قلت له في هدوء: سأسافر بإذن الله إذا أخذت أمرًا من أنور السادات. تجاهل أمين شاكر الموضوع على غير عادته؛ لأنه كان شرسًا في تعامله مع المحررين. ثم راح يتحدث في موضوعات أخرى خاصة بالجريدة، وعندما استأذنت منه في الانصراف، سمح لي دون الرجوع إلى موضوع تونس.
وفوجئت بعد يومين من هذه الواقعة بالصاغ فوزي عبد الحافظ يطلبني في التليفون ويقول لي بالحرف الواحد: تقدر تسافر دلوقت؟ سألته: البكباشي اللي أمر؟ قال: طبعًا، هو اللي أمر. قلت له: خلاص، على بركة الله. وفي مساء اليوم التالي جلست مع أمين شاكر أستمع إلى تعليماته بشأن الرحلة، وقال لي قبل أن أنصرف: مش عاوزك تغيب أكثر من عشرة أيام. قلت له: قول أسبوعين. قال لي: هم عشرة أيام مافيش غيرهم … إن ما جتش بعد عشرة أيام … هاشنقك في ميدان التحرير. حاولت عبثًا إفهامه أن المدة لا تكفي، فالرحلة إلى تونس عن طريق روما؛ لأن الملك السنوسي وقتئذٍ كان يمنع عبور المصريين من أجواء ليبيا أو عبر مطار طرابلس، ولكن أمين شاكر أصر. فودَّعته وانصرفت. واضطُررت إلى تعديل مسار الرحلة، وسافرت عن طريق ليبيا ترانزيت، وسرحت في تونس مع الرئيس بورقيبة حتى مدينة الكاف على الحدود الجزائرية، وقضيت معه أيامًا في جزيرة مالطة، التي قضى فيها بعض الوقت ضيفًا بأمر سلطات الاحتلال الفرنسية، ثم ذهبت إلى روما وتبحبحت فيها عدة أيام، وعدت إلى مصر بعد شهر وفي جعبتي عدة سيناريوهات لتبرير غيابي الطويل أمام أمين شاكر، وفوجئت عند وصولي إلى مكتبه بالدور الثالث بأنه لا أثر لأمين شاكر في المبنى؛ فقد انتقل إلى موقع آخر!
وتحدثت مع زملائي عن واقعة فصلي من جريدة الجمهورية، وكيف اتخذوا هذا الإجراء ضدي مع أنني لم أقصر في عملي، بالإضافة إلى الحفاوة التي استقبلني بها أنور السادات بعد عودتي من تونس كانت تؤكد أنني أحد الرجال الذين يعتمد عليهم، وكيف أبلغني موظف الحسابات بنبأ فصلي، وما الذي فعله عبد الرحمن الخميسي لوقف هذا القرار.