القبض على المرتب
وأصل الحكاية أنني ليلة القبض على المرتب — مع الاعتذار للست فاطمة — أخذت دشًّا وحلقت ذقني ولبست الحتة الزفرة؛ فقد كان في تخطيطي أن أذهب بعد انتهاء العمل إلى كازينو الكوبري أو كازينو بديعة — مكان فندق شيراتون الآن — وكنت على موعد مع الفنان طوفان وبعض الزملاء لقضاء سهرة طيبة في مركب المعلم دقدق، وهي سهرة تنتهي غالبًا في الصباح، وغالبًا كنا نتناول طعام الإفطار في المركب قبل أن نتفرق كلٌّ إلى منزله. وكان من عاداتي قطع الطريق إلى المنزل مشيًا على الأقدام بسبب إصرار الفنان الكبير رخا على قطع الطريق مشيًا على أساس أنه رياضة وصحة.
وكان شارع النيل المتجه الى الجيزة تتناثر على شاطئَيه القصور الفخمة التي تسكنها بعثات دبلوماسية أو بشوات من بتوع زمان، وكنت أجمع ثمار المانجو الساقطة على الأرض بعد أن طابت، ثم نجلس فترة على قهوة محمد عبد الله نلتهم فيها حبات المانجو، ثم نحبس بشاي منعنع، ثم يستقل الفنان رخا سيارة أجرة توصله إلى منزله في الهرم. وليلة قبض المرتب بالذات كانت مناسبة خاصة للغاية. أولًا لأن فيها قبضًا، وثانيًا لأن الفنان شكوكو كان على موعد معنا في تلك الليلة ليرافقنا في النزهة البحرية. المهم أنني وصلت إلى دار الجريدة في السابعة مساءً، واتجهت مباشرة إلى الخِزانة، وما إن وقع بصر الموظف على العبد لله حتى جاء متهللًا سعيدًا مرحبًا على غير العادة، ثم قال وفمه مفشوخ عن ابتسامة بلا معنًى: عندي جواب لك يا أستاذ.
رقص قلبي من شدة الفرحة، فخطاب أتسلمه من أمين الخِزانة معناه علاوة جديدة أو مكافأة مجزية، ولا بد أن الإدارة لديها علم بما عرضه رئيس التحرير على العبد لله من مهام جليلة. تسلمت الخطاب واحتضنته برفق وفتحته باحترام، ورحت أقرأ ولم أصدق عيني في البداية: الأستاذ فلان — الذي هو أنا — نظرًا للتغييرات التي رأينا إدخالها على الجريدة في المرحلة القادمة، قررنا الاستغناء عن خِدماتكم، مع تقديرنا للجهد الكبير الذي بذلتموه في المرحلة السابقة، مع العلم بأن جميع حقوقكم محفوظة، وسيتم صرف مستحقاتكم بالكامل خلال أيام، آملين أن تسنح الفرصة للتعاون معكم في المستقبل.
كان أمين الخزانة ما يزال واقفًا أمامي، وعندما تأكد أنني قرأت الخطاب، واستوعبت ما فيه، راح يعتذر وينفي عدم علمه بما فيه، ثم قال: لكن دا مش انت لوحدك، دول سلمولي ييجي ستين جواب من ده.
أرعشت حاجبي من شدة الدهشة وسألته: مين … مين تاني؟
فالتقط الموظف رِزمة الخطابات وراح يقرأ الأسماء المدونة فوق المظاريف: بيرم التونسي، نعمان عاشور، ألفريد فرج، فلان وفلان وفلان، ثم عبد الرحمن الخميسي. قفزت كبهلوان مدرب عند سماعي لاسم الخميسي. الخميسي مفصول! يا قوة الله! إذن سأجد رفيقًا طيبًا عزيزًا في رحلة الصياعة. أمسكت بسماعة التليفون وأدرت القرص طالبًا عبد الرحمن الخميسي في البيت. جاءني صوته المميز: ألوووه. سألني عن المكان الذي أوجد فيه، وعندما عرف أنني في مكتب موظف الخزانة لقبض المرتب، عاد يسألني: فيه فلوس؟
قلت له متخابثًا: دا فلوس ومكافآت وعلاوات، حاجة تفرح!
قال: طيب أنا هالبس وهاجيلك! استناني في مكتب كامل بيه لحد ما أجيلك. اعتذرت للخميسي عن عدم استطاعتي انتظاره في أي مكان بالجريدة.
وعندما استفسر عن السبب، أجبته: لأنهم فصلوني.
ضحك عبد الرحمن الخميسي ضحكة قصيرة وقال: يا ابني بطل اللغو بتاعك ده.
شرحت له ان المسألة لا لغو فيها، وأنني فصلت بالفعل وخطاب الفصل في يدي، وأنني سأغادر الآن إلى الجيزة.
قاطعني الخميسي قائلًا: ما تتحركش من عندك … أنا جايلك على طول … وبعدين ثق يا ابني إن فيه غلطة حصلت … مش ممكن يرفدوا واحد زيك من جريدة مقبلة على مرحلة جديدة … خليك عندك … أنا جاي أتصل بالقائمقام أنور السادات، إذا ما عملش حاجة أنا هاتصل بالرئيس جمال عبد الناصر!
كان أنور السادات قد ترك العمل في جريدة الجمهورية وأصبح رئيسًا لمجلس الأمة، وكان رئيس مجلس الإدارة الجديد اسمه عبد الرءوف نافع، وهو ضابط بحري، ولم أكن قد التقيت بعبد الرءوف نافع أو شاهدته في أي مكان، وجلست في مكتب أمين الخزانة أنتظر مجيء عبد الرحمن الخميسي حليقًا معطرًا كعادته، واقتحم المكتب هاشًّا باشًّا وصافحني بحرارة، وفعل نفس الشيء مع كل الموجودين، ثم قال لأمين الخِزانة: مين الحمار اللي رفد السعدني؟
ورد الرجل: والله … علمي علمك يا أستاذ.
– هات المرتب لما أروح أشوف إيه الحكاية.
التقط الموظف مظروفًا من درج مكتبه وقال للخميسي: فيه جواب لسيادتك أقرؤه الأول إذا سمحت.
مزق عبد الرحمن الخميسي الغلاف وراح يلتهم بعينيه سطور الخطاب نفس الصيغة ونفس الكلمات. شحب وجه الخميسي وهو يقرأ الخطاب، ثم صرخ في وجه الموظف قائلًا: دي قلة حيا … دا احنا لو بنشتغل عند بديعة ما تعملش فينا كدة، وعلى العموم بركة يا جامع اللي جت منكم ماجتش منا.
ثم مد يده نحو الموظف وقال له: إديني المرتب خليني أمشي بعيد عن الجو الخبيث ده.
ضرب الخميسي المرتب في جيبه وسحبني من يدي ونزل على السلالم وثبًا. عندما وصلنا إلى الدور الثاني طلبت من الخميسي أن نذهب إلى كامل الشناوي لنحيطه علمًا بما حدث، ولكن الخميسي جرَّني بعنف إلى السلم قائلًا بلهجة غاضبة: اتفضل معايا نروح للشعب.
كانت هناك جريدة تُدعى الشعب تصدُر من شارع قصر العيني في نفس المكان الذي كانت تصدر منه جريدة المصري من قبل. وانتابتني فرحة شديدة عندما سمعت اسم الشعب، فهي جريدة حديثة ولا لا تعاني من الأمراض المزمنة التي تعاني منها جريدة الجمهورية، ولا بد أن يكون للخميسي صلات واسعة بالمسئولين بالجريدة والمشرفين عليها. وربك كبير، يقطع من هنا ويوصل من هنا، ولا بأس من استئناف العمل في جو جديد وبين زملاء جدد. وركبنا أول تاكسي صادفنا في الطريق، وقال له الخميسي: اطلع بينا يا أسطى على ميدان التحرير. وعندما أصبحنا في ميدان التحرير، التفت السائق خلفه ونظر للخميسي ليدله على الطريق الذي يسلكه.
وقال الخميسى للسائق: خش يمين.
ولما لم يكن على اليمين أي شيء إلا كوبري قصر النيل وكازينو بديعة فقد تداركت الأمر بسرعة وقلت للسائق: اطلع على طول يا عم، على قصر العيني.
وصرخ الخميسي في وجهي محتدًّا وقال: شارع قصر العيني نهبب فيه إيه؟
وقلت للخميسي بهدوء: أنت مش رايح الشعب؟
هز رأسه بالموافقة، فقلت له: ما هي جريدة الشعب في شارع قصر العيني.
ازداد هياج الخميسي وقال: أنا مش رايح لجريدة الشعب يا ابني، أنا رايح للشعب المصري.
قلت للخميسي وأنا أفتح باب التاكسي: روح انت للشعب المصري على كيفك، لكن أنا هاروح جريدة الشعب، وتركت التاكسي واختفيت في زحام ميدان التحرير. ولم أذهب إلى جريدة الشعب، ولم أذهب مثل الخميسي إلى الشعب المصري، ولكني ذهبت إلى قهوة محمد عبد الله وحكيت ما جرى بالتفصيل للمرحوم أنور المعداوي، الذي هز رأسه كعادته هزات بطيئة متعاقبة، وقال وهو يضغط على الكلمات بشدة: قلتلك ميت مرة يا محمود هذا هو مصير من يتعامل مع الناس دي وانت ماصدقتنيش، إياك بقى تتعلم من الدرس ده.
كان أنور المعداوي يشعر بمرارة شديدة ويقاطع كل شيء في مصر؛ فقد تم نقله من المكتب الفني بوزارة المعارف إلى مدرسة السلحدار الابتدائية، مع أنه كان واحدًا من أعظم نقاد مصر وأشهرهم على الإطلاق، ورفض أنور المعداوي وظيفته الجديدة وقدَّم استقالته فقُبلت على الفور، ومنحوه معاشًا صغيرًا لا يكفي لتدبير حاجاته الضرورية، ولكن الكاتب الإسلامي الفارس محمود شعبان تطوَّع مشكورًا بمنح أنور المعداوي مرتبه كاملًا أول كل شهر، ولكن أنور المعداوي الشامخ النافش كالطاووس لم يُطِق صبرًا على هذا الوضع، فسرعان ما تناوشته الأمراض من كل نوع ولم يعش طويلًا، فمات قبل أن يبلغ الخمسين من العمر.
المهم أنني عدت إلى شلة الجيزة القديمة، عدت من جديد إلى العم زكريا الحجاوي والشيخ عبد الحميد قطامش وأنور فتح الله ومحمود شعبان، واشتريت بجزء من المكافأة سيارة أوستن صغيرة قديمة دفعت فيها ١٢٠ جنيهًا، وفرح بها زكريا الحجاوي وسمَّاها المطية، وبهذه المطية عدنا إلى رحلاتنا القديمة في ريف مصر. لم أشعر بضيق أو بقلق بسبب البطالة وقلة الموارد، وكانت ثقتي في الفرج بلا حدود وبلا نهاية، ولكني سألت الله أن يؤجل الفرج بعض الوقت حتى أتمكن من الاستمتاع بالعالم الجديد الذي فتحه زكريا الحجاوي أمامي، مهرجانات فن شعبي وأفراح ريفية وسهرات ليلية على مصاطب الفلاحين. وحدث ذات فجرية ونحن في طريقنا إلى الجيزة قادمين من قرية العزيزية أنني فوجئت بجذع شجرة يقطع الطريق على السيارة، ونزلت أنا وزكريا من السيارة، بينما بقي عبد الحميد قطامش وأنور المعداوي بداخلها لا يدريان ما الأمر، وإذا بحركة غير عادية في الحقل المجاور، وإذا بأعواد الذرة تنشقُّ عن شبح ملثَّم، وإذا بصوت اجش يخرج من تحت اللثام يسألنا: إنتو جايين منين؟
ورد زكريا الحجاوي على الفور: أنا عمك زكريا الحجاوي وجاي من عند الحاج محمد أبو جندية في أم خنان.
وإذا بالصوت الأجش يتحول إلى صوت ودود للغاية، وقال: طب لا مؤاخذة يا عم زكريا، اتفضلوا. وخرج من الحقل ثلاثة رجال سحبوا الشجرة التي تسد الطريق، ثم جاءنا صوت الشبح مرة أخرى: اتفضلوا شاي.
وردَّ عليه زكريا الحجاوي وكأنه يحاضر في جامعة نيودلهي: لأ، أنا ما تفضلش شاي بالطريقة دي، أنا أروح بيتنا الأول، أنام وأصحى، وآخذ حمام وأحلق دقني، وأجيلك إن شاء الله أشرب شاي.
وركبنا السيارة وانطلقت في طريقي إلى الجيزة، وأكبرنا جميعًا شجاعة زكريا الحجاوي التي حسمت الموقف لصالحنا، ولكن زكريا ضحك ضحكة صافية من أعماقه وقال: شجاعة إيه يا عم … دنا قلت الكلام ده وأنا (…) على روحي. البنطلون مبلول زي ما يكون فوطة ووقعت في ترعة لكن أنا لازم أعرف هوه مين.
وفي اليوم التالي تلكأت عندما دعاني العم زكريا للذهاب إلى قرية الشوبك. لم أكن على استعداد للوقوع مرة أخرى في براثن عصابات قطاع الطرق التي كانت منتشرة حينئذٍ في قرى البدرشين وقرى الجيزة. وفي اليوم الثالث تاب الله على العبد لله من رحلات العم زكريا وتاب على المطية من التوغل في أعماق الريف. فقد تلقيت مكالمة تليفونية من الأستاذ إحسان عبد القدوس يدعوني فيها للعمل معه في روز اليوسف. وكانت يومئذ ملكية خاصة للسيدة روز اليوسف!