حقوق الطبع والامتياس
قبل أن نودع جريدة الجمهورية بحلوها ومرها ينبغي أن نذكر آخر مقلب ماركة العبد لله، والذي كان ضحيته أحد الزملاء بدار التحرير، واسمه عبد العاطي عبدون.
وأصل الحكاية أن الأستاذ عبد العاطي كان زميلًا بحكم عمله للعبد لله، وذات مساء هبط عليَّ قاصدًا المشورة والرأي السديد، وعندما سألته أي مشورة وأي رأي سديد أجاب:
إنني على أعتاب قنبلة صحفية ستهتز لها الأوساط السياسية. وأنا أبدي دهشتي لعبدون قلت: كيف؟ على الفور قال إنها حقيقة الثورة المصرية وأسرارها التي تذاع لأول مرة. وأنا ألبس رداء الناصح الأمين طلبت من عبد العاطي ألا يذيع أمر هذا الكتاب الخطير، وأن يختص شخصي الضعيف بحقوق النشر والتوزيع لهذا السبق المعجزة.
وبدون أي تفكير أومأ عبد العاطي رأسه بالموافقة، وأمسكت بالورقة والقلم لأحرر أغرب وأعجب عقد في تاريخ حركة النشر على الإطلاق!
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما انتهيت من كتابة العقد التاريخي، راح المؤلف يقرأ العقد، وتوقف فجأةً عند بند من البنود، وقال: إحنا ما اتفقناش من غير مؤاخذة على فلوس النسخة الإنجليزي والنسخة الفرنساوي.
قلت لعبد العاطي: هذا عقد آخر، وسيوقعه معك السيد مدير عام الترجمة بدار الهنا والشفا للطبع والنشر.
عندئذٍ واصَل المؤلف عبد العاطي قراءة العقد ثم أمسك بالقلم ووقَّع العقد وكتب التاريخ أسفل التوقيع، ثم وقف وصافحني، ثم استأذن في الانصراف، ولكنني طلبت منه أن ينتظر قليلًا، وخرجت من مكتبي إلى صالة التحرير، واتفقت مع المصور أحمد سليمان على أن يأتي بعد قليل ويقتحم حجرتي ويصافحني بحرارة ويعانقني مهنئًا، وأن يفعل نفس الشيء مع عبد العاطي، ثم يلتقط لنا صورة وأنا أصافحه باليد اليمنى وعقد الاتفاق في اليد اليسرى، وعندما عدت إلى مكتبي وجدت عبد العاطي قلقًا، ثم طلب مني نسخة من العقد، وأكدت له أن النسخة ستكون عنده في صباح الغد، وبينما وقف يستأذن في الخروج لأن لديه عملًا عليه أن يؤديه خارج الجريدة، اقتحم المكتبَ المصورُ أحمد سليمان، وراح يعانقني ويقبلني مهنئًا بالنجاح الكبير الذي حققته في إبرام العقد مع المؤلف الكبير الأستاذ عبد العاطي عبدون، ثم فعل نفس الشيء مع الأستاذ عبد العاطي، احتضنه وقبَّله ثم قال له: أنا لن أهنئك، ولكني سأهنئ دار النشر لأن ما أنجزته هو ضربة معلم ستحقق لها الكثير، أما أنت فكان بإمكانك طبع كتابك في أي مكان في العالم.
وانشرح صدر عبد العاطي، وبدا عليه السرور والارتياح، ثم طلبت من أحمد سليمان أمام الأستاذ عبد العاطي وبحضور الأستاذ محمد محبوب أن يلتقط لنا صورة تذكارية لكي نستعين بها في حملتنا الإعلانية عن الكتاب، والتقط لنا أحمد سليمان عدة صور مع المؤلف بعضها للمؤلف مع الناشر الذي هو العبد لله، وبعضها للمؤلف مع المترجم الذي هو الأستاذ محمد محبوب، وبعضها للمؤلف وهو يتوسط الناشر والمترجم. وفي المساء سلَّمني أحمد سليمان الصور التذكارية فأرفقتها بالعقد، وأرفقت العقد والصور بأصول الكتاب وانتظرت حتى جاء كامل الشناوي إلى مكتبه ووضعت الدوسيه كاملًا أمامه، ونظر إليه كامل الشناوي نظرته الذكية الشقية الفاحصة وقال: إيه ده؟
أجبته: دا ورق لازم تقرؤه.
فقال محتجًّا: هاقرا ده كله … أنت يابني ربنا بعتك علشان تعذبني، قوللي فيه إيه وخلصني. حكيت لكامل الشناوي الحكاية من طقطق لسلامو عليكم، وضحك حتى اهتز جسمه كله، ثم سعل بشدة ثم أطفأ السيجارة التي كانت مشتعلة بين أصابعه، وقال: هذه ضربة قاضية وقد تخلصنا من هذا الوباء.
استأذنته في الحصول على إجازة لمدة ثلاثة أيام، فقال لي: ليه يابني انت رايح فين؟ مسافر أوروبا!
فقلت له: أنا تعبان وعاوز أستريح شوية. فقال: يوم واحد إجازة فقط.
فقلت: يومين.
فقال: زي بعضه، خلاص يومين.
قضيت اليوم التالي في البيت لم أبرحه ولم أتصل تليفونيًّا بأي أحد، وفي اليوم الثاني من الإجازة طلبت الأستاذ محمد محبوب الذي بادرني قائلًا: أنت فين؟
أجبته: أنا نايم.
فقال: يعني أنت تشعللها نار وتنام.
سألته: إيه اللي حصل؟
وعرفت من محبوب أن كامل الشناوي وضع الملف على مكتب أمين شاكر … وقرأ أمين شاكر العقد ولم يصدق نفسه. وعندما عرف أسلوب عبد العاطي ومواهبه الخفية أصدر قرارًا بوقفه عن العمل وإحالته إلى اللجنة الثلاثية لفصله من الجريدة.
ودخلت الجمهورية في اليوم التالي دخول الجنرال زوكوف برلين بعد غزوها، ولكن هذا النصر لم يدُم طويلًا، فلم يلبث أمين شاكر إلا قليلًا حتى ترك الجريدة وعاد عبد العاطي من جديد، وكان أول ما فعله أنه جاء إلى مكتبي ووقف يُحدق في وجهي بعض الوقت، ثم قال: على العموم أنت بتعمل مقالب، لكن أنا هوريك المقالب شكلها إيه، وهانشوف من فينا اللي حا يصرخ ويقول أي، لأني أنا هوريك المقالب اللي على أصلها، وبعدين اوعى تفتكر إن أنا كلت المقلب، أنا كنت فاهم الفولة وواخدك على قد عقلك.
ثم أمسك ذقنه بأصابعه وقال: وحياة دي لأخليك تقول يا ريت اللي جرى ما كان.
وقلت لعبد العاطي: شوف يا عبد العاطي تقف بأدبك أهلًا وسهلًا، تغلط أقولك وريني عرض كتافك.
وقال عبد العاطي بصوت مرتعش يحمل بين طياته نبرة تهديد: وكمان بتطردني من مكتبك … طيب يا أستاذ يا بتاع المقالب ياللي فاهم نفسك حدق. ثم انطلق خارجًا، وفي الحقيقة لم أهتم بتهديداته، فقد كان غبيًّا وقليل الحيلة، وكان أقصى ما يستطيعه هو الوشاية بالعبد لله عند أجهزة الأمن، ولم يعمر عبد العاطي كثيرًا في الجريدة، فسرعان ما قاده غروره إلى حتفه.
وأصل الحكاية أن المخابرات المصرية ألقت القبض على خلية جواسيس تعمل لحساب المخابرات البريطانية، وقامت المخابرات المصرية بإغلاق الشقة التي كان يقيم فيها الجواسيس وختمتها بالشمع الأحمر، ومنعت دخولها أو الاقتراب منها، ولكن عبد العاطي الذي كان على علاقة بضابط بالمخابرات العامة برتبة رائد تصوَّر أنه فوق القانون.
فاصطحب معه أحد المصورين وفتح شقة الجواسيس بعد أن أبلغ المخبر الذي يحرس الشقة أن معه إذنًا من المخابرات العامة بفتحها، وعندما علمت المخابرات بنبأ فتح الشقة ألقت القبض على عبد العاطي وتم فصله من الجريدة، وفي البداية افتتح بالمكافأة التي حصل عليها عن مدة الخدمة محلًّا لبيع الفول المدمس بعابدين، ولكنه اضطُر إلى إغلاقه بعد فترة. وبعد أن قضى على قيمة المكافأة، وصار بلا محل وبلا أموال، اضطُر عبد العاطي إلى الاشتغال كعامل في محل منجد بالجيزة، وحدث أنه أراد الزواج من خادمة كانت تتردد على دكان المنجد، لزوم تنجيد بعض الأغطية والمخدات، ووافقت البنت على الزواج من عبد العاطي بشرط الحصول على موافقة مخدومها الذي كان يعمل مستشارًا في محاكم الاستئناف … فذهب عبد العاطي إلى بيت المستشار وقابله وطلب منه يد الخادمة، وأراد المستشار أن يطمئن على مستقبل خادمته، فراح يمطر عبد العاطي بأسئلة حول عمله وبيته وقدرته المالية، ولكن عبد العاطي تهرَّب من الإجابة عن حالته الحاضرة، وراح يحكي للمستشار عن دوره في الثورة وعن كتابه «أسرار الثورة المصرية»، وعرض على المستشار بعض أعماله الصحفية في جريدة الجمهورية وفي مجلة التحرير، لكن المستشار المتمرس وعد عبد العاطي بالموافقة على الزواج إذا جاءه بعقد شقة لائقة ووثيقه تثبت أن عبد العاطي يعمل في مكان ما وبمرتب ثابت، وكان هذا الشرط سببًا في عدم عودة عبد العاطي مرة أخرى إلى بيت المستشار، وحتى دكان المنجد لم يحتمل بلادة عبد العاطي ولا شغفه بالحديث عن أمجاده في مجال الصحافة والسياسة والحرب، فاستغنى عن خِدماته، ولم يشاهد عبد العاطي بعد ذلك في أي مكان، يبدو أنه لم يحتمل السقوط فمات، وهناك احتمال كبير أنه يقيم الآن في مكان ما ويمارس عملًا ما، وربما باسم آخر، وربما يفكر الآن في إصدار طبعة جديدة لكتابه المعجزة «أسرار الثورة المصرية»، حقوق الطبع والامتياس محفوظة لصاحب القسمة والنصيب!