النجاشي يزيد بن معاوية
إذا كانت مقالب العبد لله قد أصابت بعض زملاء المهنة، وتعقَّبت أنصاف الموهوبين، ونالت من بعض الموهوبين؛ فقد كان للأصدقاء والأحباب نصيب من مقالب العبد لله، وأول الضحايا من هؤلاء الأصدقاء كان عم «أبو حسن»، وهو من الأصدقاء الذين أعشق صحبتهم بحق، وهو ابن بلد حقيقي عمل فترة من حياته في معسكرات الجيش الإنجليزي في منطقة القناة، وسمحت له هذه العلاقة بالسفر إلى فلسطين مرة ومرات بقطار السكة الحديد، الذي كان يغادر الإسماعيلية ظهرًا فيَصل إلى القدس صباح اليوم التالي، ولكن عم أحمد المنجد لم يقف عند حدود القدس، فامتدت رحلاته إلى بيروت وحلب، وبعد قيام دولة إسرائيل انقطعت الطرق، فاستقال عم أحمد المنجد الشهير ﺑ «أبو حسن» من الأورنس وافتتح محلًّا لبيع الاقمشة الصوف وبالذات صنف الإمبريال، وهو النوع المفضل لدى العمد والأعيان لصنع العباءات.
بدأت معرفة العبد لله بالمعلم «أبو حسن» في عام ١٩٥٠م، وكان الرجل قد بلغ الخامسة والخمسين، وراء ظهره خبرة طويلة وتجربة عريضة مع الحياة والناس، وكانت المناسبة أنني اشتريت من محل «أبو حسن» قطعتين من القماش الإنجليزي الممتاز، ثم اكتشفت أن الفلوس التي معي لا تكفي إلا لشراء قطعة واحدة، ولكن العم «أبو حسن» أقسم بجميع الأولياء والصالحين أن القطعتين لي، وأنه لن يتقاضى من ثمنهما مليمًا واحدًا إلا في زيارتي التالية للإسماعيلية، ثم قال وهو يرمقني بنظرة حادَّة: عيب يا أستاذ، دنا من العبابدة! ولم أهتم وقتها بالسؤال عن العبابدة التي هو منها، ولكن هذه المسألة تكررت أكثر من مرة على لسان «أبو حسن»: دنا عبادي يا أستاذ، أصل احنا عبابدة يا بيه!
سألت «أبو حسن» في النهاية عن العبابدة، فذكر لي بأنها قبيلة عربية ينتمي إليها «أبو حسن»، وهي ليست مجرد قبيلة ولكنها أصل العرب، منها - كما روى أبو حسن - عنترة بن شداد والشاعر الأعشى وسيدنا أبو بكر ومعاوية أبي سفيان والإمام الشافعي وشكري القوتلي ومحافظ بورسعيد. وكان العم «أبو حسن» يحشر اسم القبيلة في حديثه بمناسبة وبدون مناسبة.
تصدقوا بالله … أنا أعرف البطيخة الحلوة من غير ما أفتحها أو حتى ألمسها؛ فأنا عبادي يا أستاذ … كان عاوز ينصب عليَّ لكن على مين؟ دنا عبادي يا بيه!
وهكذا اختمرت الفكرة في رأس العبد لله لا بد من تدبير مقلم للمعلم «أبو حسن» يكون درسًا له وللعبابدة التي هي أصل العرب، ليس قحطان كما يزعمون أو عدنان، واتفقت مع الكاتب المسرحي عبد الرحمن شوقي على إعداد المسرح لتدبير المقلب المطلوب، ولم يكن المسرح إلا شقة وسط الإسماعيلية عند أحد الأصدقاء، وجهاز تسجيل سجلنا عليه بصوت العبد لله حديثًا عن الأنساب العربية للشيخ عبد السلام العجيلي مفتي حلب، وتذيعه إذاعة حلب السورية، واخترنا حلب بالذات لأن أبو حسن كان معجبًا بحلب على نحو خاص.
واللي خلق الخلق … حلب دي أجدع بلد من غير مؤاخذة، وفيها مخانات تشرح القلب وترد الروح، تخشى المخانة من دول تلقى الناس قاعدين لابسين تزالك في رجليها، التزلك من دول يحتاج علبة ورنيش عشان يلمع زي الجنيه الدهب! كان أبو حسن قد زار حلب أكثر من مرة، ولأنه كان حشاشًا من طراز فريد، فقد أسَرَته مدينة حلب واستولت على قلبه.
يا أستاذ أنت قاعد في المخانة من غير مؤاخذة والجوزة في إيدك تلاقي قدامك صحن مليان مشمشية وتين ناشف من النوع اللي ما بنشوفوش في مصر غير في رمضان. المهم أننا سجلنا الحديث على جهاز التسجيل، وأخفيناه تحت طاولة تحمل جهاز راديو من النوع العتيق، جهاز راديو تسمع منه كلامًا ودوشة في حجم حركة قطار سكة حديد بالبخار، وجاء أبو حسن وبدأنا السهرة، انهمك أبو حسن في إعداد الجوزة ورص المعسل، وكان يبدو في أحسن حالاته وهو في مرحلة الاستعداد للمزاج! المهم كان جهاز الراديو الكهنة يُصدر خروشة تصدع الدماغ، عندما طلبت من عبد الرحمن شوقي أن يبحث لنا في الراديو عن محطة جيدة نستمع منها إلى شيء مفيد، نهض عبد الرحمن من مكانه وأغلق الراديو وفتح جهاز التسجيل، وبدأت الموسيقى العسكرية ثم صوت العبد لله يعلن للمستمعين عن بدء برنامج إذاعة حلب العربية، ثم تقديم البرنامج الذي سيستمع إليه المواطنون على الفور، وهو عن الأنساب العربية، ونبدأ بقبيلة العبابدة!
وبدت الدهشة الممزوجة بالزهو على وجه المعلم أبو حسن، ثم ترك كل شيء وتفرَّغ لسماع البرنامج ودعانا إلى الانتباه، وبدأ حديث العالم العلامة وأكبر الفهامة فضيلة مولانا الإمام الشيخ عبد السلام العجيلي … الذي هو العبد لله، يستعرض تاريخ قبيلة العبابدة، التي تضرب أصولها في بطن التاريخ إلى سيف بن يزن والجوش والنجاشي والملك ريتشارد قلب الأسد وقائد معركة داحس والغبراء كنعان بن أبو سريع!
بعد هذه المقدمة الرائعة عن العبابدة، والتي أدهشت العم الطيب «أبو حسن»، وجعلته يرعش حاجبيه قبل أن يصيح صيحة انتصار وهو ينظر إلينا نظرة لها معنًى: شفت يا أستاذ!
ولأول مرة في التاريخ ينشغل أبو حسن بشيء آخر غير الحشيش أزاح الجوزة جانبًا وجلس على ركبتيه وكأنه يؤدي الصلاة، وانتهز فرصة فاصل موسيقي بين المقدمة وصلب الموضوع، وراح يبدي رأيه في المحاضر: دا راجل من غير مؤاخذة قفه ولا يفهم أي حاجة. ثم يضرب جبهته براحة يده ويقول: «كانوا جابوني أنا يا أستاذ كنت قولتلهم على سيدنا أبو بكر وسيدنا الخضر.» ثم لزم أبو حسن الصمت وجلس هادئًا عندما أفهمناه بأن برنامج الإذاعة لا يزال له بقية، واستغرق أبو حسن في التفكير والشيخ عبد السلام يستعرض تاريخ العبابدة الذين كان منهم أبو بكر وعثمان ويزيد بن معاوية والحسن البصري وابن قرمط صاحب القرامطة والسلطان شيحة الذي كتب له زكريا الحجاوي برنامجًا إذاعيًّا مشهورًا باسم ملاعيب شيحة. ولا يفوتنا أن نذكر لحضراتكم أن زكريا الحجاوي من العبابدة أيضًا، هنا ضرب أبو حسن فخذه بيده ضربة قوية وصاح: يا قوة الله عشان كده أنا قلبي انفتح للراجل دا أول ما شفته.
وراح الشيخ عبد السلام العجيلي المزعوم يستعرض أسماء الرجال البواسل من قبيلة العبابدة من أول خالد بن الوليد وعبد الرحمن الداخل إلى اللواء مصطفى متولي مدير كلية الشرطة إلى المقدم حسن رشدي ضابط المباحث العامة بالإسماعيلية إلى عم أحمد المنجد الشهير ﺑ «أبو حسن»!
هنا ضحك أبو حسن ضحكة طويلة حتى استلقى على ظهره، وتصور العبد لله أنه كشف الملعوب: ولكنه عندما انتهى من نوبة الضحك التي هاجمته قال مندهشًا: يا ولاد الهرمة … دا عارفين كل حاجة! تصدق بالله يا أستاذ مفيش جنس حاجة بتستخبى دلوقت، فيه مغناطيس بيقولهم على كل حاجة، وبعدين، دا حمار، كان لازم يقول أبو حسن اللي ساكن في التلاتين. ولو كانوا جابوني أنا أقول … كنت أقول أحسن منه، دا ما قالش عن الحاج سليم العبادي اللي كان عضو مجلس الأمة. وما جبش سيرة محمود بك السيسي اللي كان مدير الحسابات في العريش، وفين عم خليفة معوض الجنايني بتاع هيئة قناة السويس أيام الجماعة الفرنساو، واللي كان بياخد ماهية ۱۰۰ جنيه في الشهر سنة ٣٩ يا أستاذ! وراح عم «أبو حسن» يستعرض أفراد القبيلة حتى جاء ذكر والده، فقال: الوالد الله يرحمه كان شيخ الصيادين في الإسماعيلية، وكان يقعد ع القهوة والصيادين يروحوا البحيرة ويجيبوا الرزق ويبدأ المزاد، ويوم ما ولدتني أمي خدتني خالتي وأنا حتة لحمة حمرا، ونزلت الشارع وراحت لأبويا على القهوة، باسني وراح واخد نفس حشيش ونفخه في وشي … أمال كانوا رجالة بصحيح، مش العيال بتوع اليومين دول، يشرب نفسين يدوخ ويطرش! مفيش عبادي يا بيه يتهز من أي حاجة!
كنا قد تركنا جهاز التسجيل مفتوحًا عن عمد، وسجلنا حديث «أبو حسن» كاملًا، وهنا كلفت عبد الرحمن شوقي بالبحث عن محطة أخرى لنستمع شيئًا مفيدًا، وأدار عبد الرحمن شوقي جهاز التسجيل وانساب صوت «أبو حسن» يعيد حديثه الذي سمعناه، ولما كان أبو حسن لم يستمع من قبل إلى صوته مسجَّلًا … لذلك لم يتعرف عليه، وراح ينصت من جديد بشغف إلى الحديث الذي يتناول جميع أفراد قبيلة العبابدة، وكان شريط التسجيل ينقل إلينا بين الحين والحين الآخر صوتَ الجوزة وهي تكركر وتزغرد، وسألنا «أبو حسن» الذي يعرف كل شيء: بيشربوا حشيش في إذاعة حلب يا عم «أبو حسن»؟
– أمال يا أستاذ وأجدع حشيش كمان مفيش حتة في حلب ما فيهاش جوزة يا أستاذ، وبعدين دي ناس بتفهم، ومفيش مانع يبسطوا الناس اللي هتقول في الإذاعة عشان مخهم يروق ومزاجهم يبقى عال العال، مش زي عندنا هنا الناس تبقى قاعدة متكتفة وهي بتقول زي ما يكونوا تلامذة!
كان الحديث قد وصل إلى نقطة «لما نزلت من بطن أمي من غير مؤاخذة خالتي نزلت الشارع وأنا حتة لحمة حمرة، وراحت لأبويا على القهوة، راح نافخ في وشي دخان الحشيش». هنا فقط انتبه العم أبو حسن إلى أن الأمر ليس على ما يرام. بعد لحظة زحف على ركبتيه إلى حيث الطاولة التي تحمل جهاز الراديو، وعندما اكتشف أن الراديو صامت انحنى تحت الطاولة ليكتشف أن الصوت يصدر من جهاز التسجيل.
ولا أدري … ما الذي دار في عقل «أبو حسن» في تلك اللحظة، كان وحده هو الرجل الكبارة الذي بيننا، وكان العبد لله في السابعة والعشرين، وكان عبد الرحمن شوقي يصغرني بعدة أعوام، وأيضًا محمد صبري مبدي الذي صار فيما بعدُ سكرتيرًا عامًّا لنقابة المحامين. كنا شلة من العيال في نظره، بينما كان العم «أبو حسن» يُعتبر في نظر الكثيرين من أهالي الإسماعيلية أبو العريف الذي يعرف كل شيء.
جلس «أبو حسن» صامتًا وقتًا طويلًا، بينما لم يستطع أفراد الشلة أن يكتموا نوبة الضحك التي عصفت بهم، كان المقلب حارًّا وملتهبًا وثقيلًا للغاية، وانتابني خوف شديد من رد الفعل عند العم «أبو حسن»، ماذا يحدث لو شعر بالإهانة وقرر أن يقوم بتربيتنا بطريقته؟ ولو أنه استخدم عصاه أو يده فلن يجرؤ أحد منا على هز قبضة يده في وجهه!
ومرَّت لحظات كأنها الدهر كله، وفجأةً … أطلق «أبو حسن» ضحكته الشهيرة، ضحكة طويلة رنانة تنتهي دائمًا بحركة إسكندراني من الأنف، ثم استلقى على ظهره قبل أن يقول: الله يا أستاذ حلوة قوي دي.
يا ستر الله، لقد استحسن أبو حسن المقلب وأعجبه، فاتت المسألة على خير والحمد لله … والعواقب جت سليمة كما يقولون … وعلى الفور نهض أبو حسن، ارتدى البالطو والعباءة الإمبريال، وكبس طربوشه على رأسه، وأخفى وجهه بالعباءة … فقد كانت هذه هي عادته كلما خرج من مكان دافئ إلى الشارع، وتأبَّط العبد لله ذراعه اليسرى، وتأبَّط عبد الرحمن ذراعه اليمنى، وسحبناه إلى بيته في شارع الثلاثين، ولم يكفَّ أثناء الطريق عن الضحك وترديد عبارة «الله يا أستاذ» … حلوة دي! ولكنه انقطع بعد ذلك عن لقائنا أو الجلوس معنا، وتصورت أنه غضب من المقلب، وإن كان لم يشأ أن يظهر ذلك لنا أثناء القعدة، ولكني اكتشفت بعد أن عادت المياه إلى مجاريها أن المقلب لم يُغضبه، ولكن الذي أغضبه هو سلوكنا بعد ذلك فقد نشرنا تفاصيل ما جرى بيننا في الإسماعيلية، وكانت غلطة … ولكن ماذا تفعل مع شلة عيال جاءتهم الفرصة للسخرية من رجل عجوز يدعي معرفته بكل شيء؟!
المهم … كان مقلب «أبو حسن» هو البداية، وقد أعطاني ثقة لا حد لها في قدرتي على ضرب المقالب، وعلى بركة الرحمن سار العبد لله على هذا الطريق خطوات واسعة، ولم ينجُ من مقالبي عواجيز أو شباب، مسئولون أو صياع، وإن كانت بعض المقالب قد كلَّفتني كثيرًا.