علا عالله
كان كبير مشجعي النادي الإسماعيلي رجلًا على باب الله، وكان هذا المنصب الذي وصل إليه عن جدارة واستحقاق هو عمله الوحيد في الحياة ومصدر رزقه، وكان المهندس عثمان أحمد عثمان رئيس النادي يعطف عليه ويمنحه مبلغًا شهريًّا، بالإضافة إلى الإكراميات التي كان يجود بها مشجعو النادي من التجار ورجال الأعمال. وكان كبير المشجعين إياه يرتدي بنطلونًا كان لعسكري إنجليزي من قوة جنود الاحتلال في قاعدة القناة، وفانلة مخططة تشبه فانلة فريق الترسانة، وينتعل حذاءً كان فيما مضى لأحد صعاليك جوركي الذين فرض نفسه من خلالهم كأديب عالمي ليس له نظير. ويضع فوق رأسه قبعة من الكاوتش، كانت جزءًا من قفة من النوع الذي يستعمله العمال الصعايدة في نقل التراب والرمل، بالإضافة إلى نظارة سوداء بلاستيك يخفي بها عينيه.
وكان يتصدر مدرج مشجعي الدرجة الثالثة قبل بدء المباراة بعدة ساعات.
ويبدأ الهُتاف قبل بدء المباراة بساعة، وكانت وظيفته ترديد كلمة واحدة هي «علا عالله»، فيتبعه المدرج كله هاتفًا دراويش. فإذا فاز الفريق بالمباراة ترك كبير المشجعين مكانه بالمدرج وهُرع إلى حيث يجلس المهندس عثمان وكبار الضيوف، فيشرح لهم الخطة التي سلمها لرضا وشحته والعربي والسقا، وهي الخطة التي ضمنت الفوز بالمباراة، ثم يقبض المعلوم قبل أن يخرج من الاستاد على رأس مظاهرة تطوف الإسماعيلية احتفالًا بالنصر، فإذا انتهت المباراة بالهزيمة ترك كبير المشجعين مكانه في المباراة وهُرع حيث يجلس الضيوف ثم يقف أمام مدرج الدرجة الأولى يلعن ويسب لمدرب الفريق الذي امتنع للاستماع إلى النصيحة، وأصرَّ على اللعب بالطريقة الجمحشرية التي لعب بها الفريق وانهزم. وكان كبير المشجعين إياه لا يحرم من الحصول على عدة جنيهات من هنا وهناك.
وفي صيف ١٩٦٩م تمكَّن الإسماعيلي من إلحاق هزيمة ثقيلة بفريق إنجلبير وأصبح بطلًا لأفريقيا، وتقرر بعدها أن يذهب النادي الإسماعيلي في جولة خليجية لجمع بعض الأموال لإزالة آثار العدوان. وذات يوم والعبد لله يحضر تدريبًا للفريق في النادي الإسماعيلي كان يحضره المهندس عثمان أحمد عثمان والدكتور عبد المنعم عمارة الذي كان وقتئذٍ مسئولًا عن الشباب بمحافظة الإسماعيلية، وجاء كبير المشجعين بعد انتهاء المباراة وطلب من المهندس عثمان أن تضم البعثة المسافرة إلى الخليج مجموعة من المشجعين يكون هو على رأسهم، وقال للمهندس عثمان إن النادي لم يحقق فوزه ببطولة أفريقيا باللاعبين فقط، لكن النصر جاء نتيجة جهود اللعيبة والمشجعين معًا. وعبثًا حاول المهندس عثمان أحمد عثمان التخلص من الحاح كبير المشجعين، فقد كانت لديه قدرة على التناحة لا تتوافر لمخلوق سواه. وأخيرًا سأله المهندس عثمان: أنت عندك بسبور وتأشيرة؟
وردَّ كبير المشجعين: لا ما عنديش.
فقال المهندس عثمان وهو ينصرف: طيب اعملهم وأنا أسفرك.
وردَّ كبير المشجعين: وأنا أعملهم إزاي؟ أنا مافهمش في الحاجات دي.
وقال عثمان وهو يشير نحو العبد لله: خلاص هو البيه ده اللي يعملهملك، هو مسئول الجوازات والتأشيرة. ولزق كبير المشجعين للعبد لله، وأخيرًا استطعت الإفلات منه والوصول إلى سيارتي، وقبل أن أهمَّ بالانطلاق سألني كبير المشجعين: طيب أجيلك فين؟
– هناك!
– هناك فين؟
– في المكتب!
وانطلقت بأقصى سرعة في طريقي إلى القاهرة، وفوجئت بعدها بثلاثة أيام بالسيد كبير المشجعين، بحذائه الأنتيكة وبنطلونه العسكري وفانلته الترسانوية، وقُبعته التي كانت جزءًا من قفة في سالف الزمان، ينتظرني على باب مؤسسة روز اليوسف، وقال لي موظف الاستعلامات إنه جاء ليفتح باب المؤسسة في الساعة التاسعة صباحًا، فوجد كبير المشجعين واقفًا على الرصيف، وقلت للسيد كبير المشجعين إن القانون ينص على أن على كل راغب في السفر لا بد أن يكون معه جواز سفر، ولكي يكون معك جواز سفر فلا بد من شهادة ميلاد وشهادة من جهة العمل بنوع العمل الذي تؤديه والمرتب الذي تتقاضاه. ونظر كبير المشجعين نحو العبد لله وقال غاضبًا:
– وأنا ح جيب الحاجات دي منين؟ أنا ماليش شغلة غير الإسماعيني، ثم أنا ساقط قيد ماعنديش شهادة ميلاد.
قلت له: بسيطة استخرج شهادة من النادي الإسماعيلي بأنك تعمل به. وتناثر الرذاذ من فمه وهو يصرخ بأعلى صوته: أنا مابشتغلش في الإسماعيني الديوان، أنا بشتغل في الإسماعيني الكورة!
– يعني إيه؟
– يعني أنا كبير المشجعين، ودي وهبة من عند ربنا ما حدش إدهالي! قلت له وأنا أنقر بأصابعي على زجاج المكتب: خلاص انحلت، هات لي طلب موقع من ۱۰۰ مشجع إنك أنت كبير المشجعين، وإن دخلك من هذه الوظيفة لا يقل عن …
وأمسكت عن الكلام عند هذه النقطة وسألته: أنت بتكسب كام من الشغلة دي؟
تلعثم بعض الوقت ثم قال: مابنكسبش حاجة ٥ جنيه يمكن.
قلت له وقد بدت علامات الأسى على وجهي: ٥ جنيه ماتنفعش مش ممكن تأخذ بسبور.
ونطق كبير المشجعين على الفور: بنكسب ٥٠٠.
– يبقى كدة انحلت، هات لي ورقة من ۱۰۰ مشجع إنك كبير المشجعين وبتكسب ٥٠٠ جنيه في الشهر، وما تنساش تجيب أربع صور وفيش وتشبيه.
ولزم كبير المشجعين الصمت بعض الوقت وقال: لزمته إيه الفيش والتشبيه ده؟ أنا ح اشتغل ضابط بوليس!
قلت له بدون اهتمام: مش مهم هات لي ورقة ثانية برضه من المشجعين إنك حسن السير والسلوك، وإنك طول عمرك بتشجع الإسماعيلي، وعمرك مارحت السجن.
وعض كبير المشجعين على إصبعه بشدة وقال: والورقة دي لازم كام واحد يمضوا عليها؟
قلت له: ٥٠ واحد كفاية على الورقة دي.
واستأذن في الانصراف بعد أن منحته جنيهين، على وعد منه بالعودة في أقرب وقت. وفوجئت به أمامي بعد ثلاثة أيام، ومعه الورقة الأولى موقع عليها ۱۰۰ مشجع، والورقة الثانية عليها توقيع ٥٠ شخصًا، وألقيت نظرة على الورقتين، وقلت له على طريقة موظف الأرشيف في مصلحة الضرائب: الورق ده ما ينفعش.
– ما ينفعش إزاي مش ده الورق اللي أنت طالبه؟
وانجعصت على الكرسي وقلت له مستفيدًا من عمليات التعذيب التي عانيتها في مكاتب الحكومة: يا سيد أنت جايب لي أسماء وبس، مش يمكن أنت اللي كاتبهم، لازم الإمضاءات ورقم البطاقة وعنوان المنزل.
ظهر عليه الضيق الشديد وهو يقول: لسة ح ارجع ثاني.
– دي مستندات يا سيد ولازم تبقى مضبوطة، ترجع ثاني وثالث لحد ما تستوفي الأوراق.
قفز من فوق مقعده وهتف ووجهه نحو السماء: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ونفحته جنيهين، فهدأ واستأذن بالانصراف على وعد منه بالعودة في أي وقت، ومرت أربعة أيام قبل أن أجده أمامي ومعه الأوراق المطلوبة عليها التوقيعات وعناوين المنازل وأرقام البطاقات، وقلت له وأنا أحاول أن أبدو في صورة عبد المهم: عال … الورق كدة كويس قوي، فين بقى شهادة الميلاد.
قال وهو ينفخ من شدة الضجر: ماقلت لك ماعنديش.
– بسيطة، هات لنا ورقة تسنين من أي دكتور.
– ينفع دكتور بيطري؟
ينفع قوي، هو ده الدكتور المناسب، لأنه ده بيعرف الحمار عنده كام سنة، من غير الحمار ما يقول أي حاجة.
ونفحته جنيهًا واحدًا هذه المرة، فتمهل قليلًا في الانصراف، وتصنعت الغباء، وقلت له: ياللا بسرعة لحسن معاد السفر قرب.
وجاء بالفعل بعد عدة أيام ومعه شهادة التسنين من رئيس الوحدة البيطرية بمحافظة الإسماعيلية، وعليها توقيع الطبيب وخاتمه، والشهادة تؤكد أن السيد كبير المشجعين في السادسة والأربعين من العمر، ويتمتع بصحة جيدة، وخالٍ من جميع الأمراض. وتسملت الأوراق ووضعتها في دوسيه جديد ونصحته بالسفر الآن والعودة بعد أربعة أيام، ولم أمنحه أي شيء في هذه المرة، ولكنه سألني قبل أن ينصرف عن السر في هذه الأيام الأربعة، فأفهمته بأنه لا بد من إرسال الأوراق إلى وزارة الأوقاف أولًا للتحري، فأتى بحركة تدل على احتجاجه الشديد وقال: هو أنا صايع من غير مؤاخذة؟
– يا سيدي دا روتين، ولازم نعرف إذا كنت بتأخذ إعانة من وزارة الأوقاف من عدمه؛ لأنه لو ثبت إنك بتأخذ إعانة من وزارة الأوقاف مش ممكن تسافر.
– أنا مابخدش جنس حاجة من الأوقاف، ولا أعرف الأوقاف دي فين.
– خلاص يبقى اطمئن.
وسافر كبير المشجعين وعدت إلى الأوراق التي أحضرها وقرأت فيها العجب والعبط. في شهادة حسن السير والسلوك كتبوا الآتي:
نشهد نحن الشهود على هذه الحقائق أن السيد فلان الفلاني كبير مشجعي النادي الإسماعيني راجل مسايس ومش بتاع لبط، وعمره ما غاب عن تشجيع الإسماعيني لأنه عمره ما راح سجون ولا راح إصلاحيات، إنه راجل دوغري من البيت للنادي ومن النادي للبيت، ويشهد بذلك كل سكان الإسماعيلية كبيرهم وصغيرهم، كما أنه مطيع ولسانه حلو ونفسه حلوة.
وأدركت أن هذه الديباجة من إنشائه، وهو الذي أملاها على كاتبها، بعد أربعة أيام جاءني كبير المشجعين ولاحظ علائم البِشر على وجهي. سألني: خير.
– مبروك يا عم كل شيء تمام.
– يعني صاغ سليم؟
– سليم ونص كمان، حتى قالوا عليك إنك راجل مسايس ولسانك حلو.
– عشان تعرف!
وكتبت له خطابًا إلى مدير عام مصلحة الجوازات والهجرة هذا نصه:
«السيد مدير عام الجوازات والهجرة، يؤسفني إبلاغكم بأن النظام الذي تتبعونه حتى هذه اللحظة في استخراج جوازات السفر للمواطنين، هو نظام فاسد من أساسه؛ لأنكم تعتمدون على شهادات حكومية وأوراق أميرية مع أن الشعب هو مصدر السلطات، ويشرفني أن أكون أول مواطن في الجمهورية العربية المتحدة يستخرج جواز سفر على الأسس الجديدة، وهي الأسس التي لا بد أن تلتزموا بها في المرحلة القادمة! ومن هذا المنطلق أحذركم من رفض استخراج جواز سفر باسمي أو من التأخير في إصداره، حيث إنني في طريقي إلى دول الخليج في مهمة رسمية لتشجيع فريق الإسماعيني بطل أفريقيا. واعلموا أن أي تقصير من جانبكم سيلقى القصاص المناسب وسينفذ على الفور، وتقبلوا عظيم التقدير.»
ووضعت الخطاب الذي يشبه الإنذار البريطاني لحكومة مصر في عام ١٩٤٢م، وأغلقت المظروف وكتبت على المظروف: السيد اللواء مدير عام مصلحة الجوازات والهجرة. وسلَّمته المظروف وطلبت منه الذهاب إلى المصلحة في صباح اليوم التالي، وبشرط أن يذهب مبكرًا لأن الازدحام شديد، ولأن خزانة المصلحة تغلق أبوابها في الحادية عشرة والنصف صباحًا.
كان سفر بعثة الإسماعيلي للخليج في صباح اليوم التالي لذهابه إلى مصلحة الجوازات والهجرة. وسافرت البعثة والعبد لله معها والأستاذ الراحل نجيب المستكاوي، وغبنا في الخليج ثلاثة أسابيع، وعادت البعثة إلى القاهرة وتخلفت عن السفر، ومكثت في بيروت عدة أيام لأكتشف بعد عودتي أن كبير المشجعين كان ينتظرني في المطار عند وصول البعثة وهو يخفي في جيبه رقبة زجاجة كان في نيته أن يتفاهم بها مع العبد لله فيما جرى له في مصلحة الجوازات.
وأصل الحكاية أنه ذهب إلى المصلحة في الصباح الباكر فوجد زحامًا شديدًا وطابورًا كبيرًا، ولكنه لم يَيئَس، فوقف في الطابور، وعندما أصبح أمام الشباك الذي يختفي وراءه الموظف المختص، كانت الساعة قد بلغت العاشرة والنصف، وكان من ورائه صف طويل لا يمكن أن ينتهي من إنجاز معاملاته قبل عدة ساعات، وتقدم بالمظروف إلى الموظف، وعندما فتح الموظف المظروف وألقى نظرة على الأوراق استشاط الموظف غضبًا، فهذا ليس وقتًا للهزار. وسأله الموظف: فين الورق بتاعك؟
فردَّ عليه باستعلاء: ما الورق في إيدك أهه!
– الورق ده عايز تطلع به البسبور؟!
– أمال عايز أطلع به شهادة وفاة.
– أنت لازم مخبول.
– وأنا عشان فقير لازم تطلعولي في الورق عفريت.
– أنت بتشتغل إيه يا واد؟
– أنا مشجع النادي الإسماعيني.
– أنت شارب حاجة يا جدع أنت؟
ثار الناس المنتظرون في الصف احتجاجًا على تعطيل أعمالهم، في الوقت الذي ترك فيه الموظف مكانه خلف الشباك، وخرج إلى الصالة، وعكم كبير المشجعين من قفاه، ودخل به مكتب أحد الضباط الكبار … ومعه الأوراق. وما إن اطلع الضابط الكبير على الأوراق، حتى أيقن أن الرجل مجنون، أو مدمن مخدرات، فأمر بإيداعه تخشيبة الجوازات حتى ينتهي الدوام الرسمي. وبعد أن انتهى الدوام سلموه إلى قسم شرطة قصر النيل للتحري، وبعد ثلاثة أيام بقسم الشرطة قاموا بترحيله إلى الإسماعيلية. ولأنه معروف في الإسماعيلية فقد تمكن من مغادرة محبسه بعد يومين، وأقسم أمام جميع المشجعين أنه سيفتح كرشي برقبة زجاجة عند عودتي من الخليج.
وعندما عرفت أنه قادم إليَّ في مكتبي استعددت للقائه بالبطل محمد عفيفي، وهو ابن شقيقتي، وهو في الوقت نفسه بطل مصر وأفريقيا في لعبة الجلة، وهو اللهم صلِّ ع النبي يفطر في الصباح ٤٠ بيضة، ويلتهم راس عجل وجوزين كوارع عجالي في الغداء، ويشرب جالون لبن في المساء، وأقة جبنة و٣ كيلو خيار ومثلها طماطم وبطيخة، وكف إيده في حجم فردة كاوتش أتوبيس، وجاءني كبير المشجعين وعلى وجهه غضب الشياطين جميعًا، ولكنها حكمة الله؛ عندما رأى محمد عفيفي أصبح لطيفًا ومهذبًا، وجلس في هدوء يقص عليَّ تفاصيل ما حدث له في المصلحة، وطلبت منه وصفًا كاملًا للموظف الذي فعل معه هذه الفعلة النكراء، فوصفه لي بالتفصيل، وهززت رأسي وقلت له: أنت راجل حظك وحش، الموظف ده أنا أصدرت قرارًا بفصله، واليوم اللي أنت رحت له فيه كان آخر يوم له في الوظيفة، ولما شاف إمضائي حب ينتقم منك!
– رفع كبير المشجعين يديه إلى السماء وهتف: ربنا ينتقم منه!
وقلت له بعد تفكير عميق: خيرها في غيرها.
وتوسَّل إليَّ كبير المشجعين أن أذهب معه في المرة القادمة لكي أستخرج له الجواز بسهولة وبدون مشاكل، ووعدته أن أفعل ذلك عندما يحين الوقت. ونهض في أدب شديد وهو يدعو للعبد لله بالصحة وطول العمر، ولكنه كان طول الوقت يختلس النظر من تحت لتحت لمحمد عفيفي الذي كان جالسًا على المقعد الفوتيل كأنه فيل ساعة القيلولة.
وآمنت وقتئذٍ بأن الأدب فعلًا فضلوه على العلم!