ديوان الشمس الطالعة
في أيام «الحكم الشمولي» كان العبد لله مسئولًا عن الجيزة، وكنت أتخذ من محل الحلاق أحمد عبد العال بشارع الفاتح محلًّا وعنوانًا مختارًا، لم نكن مثل المسئولين في أيام الانفتاح والانفشاخ نجلس في شيراتون أو في نادي الجزيرة، وأمام دكان أحمد عبد العال جلس عشرات من المسئولين الكبار، مصريين وعربًا، مسئولين كبارًا في الاتحاد الاشتراكي وفي الحكومة وفي الوزارة، محافظين ورؤساء مدن ورجال سياسة، وكل أعضاء مجلس الثورة السوداني — ما عدا النميري — جلسوا أمام دكان أحمد عبد العال الحلاق، كلهم ومن أول خالد عباس وزير الحربية ونائب الرئيس وإلى بابكر النور قائد الانقلاب ضد النميري، وأحد الذين أعدمهم النميري بعد عودته إلى السلطة، ورؤساء أحزاب من سوريا وزعماء معارضة من العراق، وأدباء كبار من كل أنحاء العالم العربي.
وكان من عادة حسين الألفي مستشار المجلس الأعلى للشباب والرياضة حاليًّا الحضور أحيانًا إلى دكان أحمد الحلاق؛ فقد كان وقتها رئيسًا لمدينة الجيزة ومسئولًا في التنظيم الطليعي.
وذات مساء فوجئت ونحن جلوس أمام الدكان بالشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل يحضر إلينا، ولم يكن من عادته أن يفعل ذلك؛ فهو شاعر هائم في دنياه، وهو يتكلم غالبًا مع نفسه، ونادرًا مع الناس، جاء عمنا الشاعر الكبير على غير عادته، وجلس وراح يتجاذب أطراف الحديث مع الحاج إبراهيم نافع والأسطى أحمد الحلاق، وتصورت أن محمود حسن إسماعيل في سبيله لوضع قصيدة عن قوى الشعب العامل لإلقائها في عيد العمال، ولكن محمود حسن إسماعيل ألقى فجأةً نظرة على ساعته، وسأل العبد لله: مش السيد حسين بيجي هنا؟
– حسين مين؟
– السيد حسين الألفي.
– أيوه … بس مش كل يوم.
وسرح عمنا محمود حسن إسماعيل في بحور شعره ثم عاد إلى جلستنا مرة أخرى … وسأل العبد لله: مش صاحبك هوه؟
هززت رأسي موافقًا، فقال: أصل أنا ليه عنده مصلحة بسيطة.
– قوي … تحت أمرك … خير.
– أنا أصلي فكرت في الآخر أعمل بيت للعيال بس الأخ حسين مدوخني.
– ليه؟
– ما هو الأسمنت من مجلس المدينة، والحديد من مجلس المدينة، وكل حاجة في مجلس المدينة.
– طيب ما تروح لحسين … دا راجل ظريف وطيب خالص.
ولعق الشاعر الكبير شفتيه، ثم مصمص بشدة، ثم غمغم ثم نفخ ثم قال: ما أنا رحت له المكتب من كام يوم بس عاملني معاملة يعني … مش عاوز أقول سيئة، لكن ممكن وصفها بالباردة.
وقاطعه الحاج إبراهيم نافع قائلًا: يمكن مايعرفش إنك أنت الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل.
وقال الشاعر: أنا قدمت له البطاقة التي تحمل اسمي، وتعمدت أن أذكر له أكثر من مرة أثناء حديثي معه أنني الشاعر محمود حسن إسماعيل، لكن يظهر أنه كان ضابط جيش ثم أصبح موظف حكومة، ويبدو أن علاقته بالشعر مثل علاقة حضرتنا بالمصارعة!
ولزمت الصمت لحظة ثم قلت للشاعر: بالتأكيد هو عارف أنت مين ووزنك إيه بالضبط؟
– أنا برضه أعتقد كده.
وحدقت طويلا في وجهه وقلت له:
– بس أنت اللي غلطان مش هوه.
وقال محمود حسن إسماعيل منزعجًا: أنا … ليه؟
ورسمت علامات الجد على وجهي وقلت له: هل حدثت حسين الألفي عن ديوانه الجديد؟
وبدت الدهشة الشديدة على وجه الشاعر، وقال: حسين الألفي له ديوان شعر جديد؟
– طبعًا.
– معنى ذلك أن له ديوان شعر قديمًا.
– دواوين شعر من فضلك.
– معنى ذلك أنه شاعر.
– والمشكلة أنك لا تعرف ذلك، وشاعر مثل حسين الألفي، ومهما كانت طبقته بين الشعراء، كان يهمه جدًّا وقد وجد شاعرًا مثلك أمامه أن يسمع ولو كلمة مجاملة واحدة في شعره، ولكن تجاهلك له وإهمالك لا بد أنه جعله يرد لك الصاع صاعين، فلا أسمنت ولا حديد تسليح ولا بيت ولا هم يحزنون!
وسرح محمود حسن إسماعيل بعيدًا، وقال في قلق ظاهر: وديوانه الأخير اسمه إيه؟
كان السؤال مفاجئًا، وضربت لخمة مع العبد لله، فقلت له: إيه … إيه … الشمس طالعة.
قال باشمئناط شديد: ودا عنوان ديوان شعر؟
وأجبته بسخرية: ما هو شاعر على قده كده، يعني زي ما تقول كده في سلاح الشعر، لكن مهما كان، أنت اللي غلطان، أنت رايح له ومحتاج له، وهو شاعر، ويمكن واخد في نفسه قلم وفاهم إنه أمير الشعراء أحمد شوقي، فلما تقابله وتقعد ساكت يبقى مش واخد أسمنت ولا حديد.
– والعمل؟
– بسيطة.
– أنت تروح له بكرة وأنا هاتصل به، هاتقوله إنك معجب بالشعر بتاعه، وإنك كنت مكسوف تتكلم معاه أحسن يفتكر إنك بتنافقه.
– طيب والديوان فين علشان أقراه؟
– هاحاول أجيبهولك بس انت تروح له واطلب نسخة ويكتب لك إهداء كمان، وعلى العموم تتكلم معاه بشكل عام عن جزالة اللفظ وعمق المعنى وذكاء التناول وحاجات زي كده.
وانبسط عمنا محمود حسن إسماعيل وانصرف على وعد منه بأن يتصرف كما رسمت له.
وفي اليوم التالي اتصلت بالأخ حسين الألفي رئيس مجلس مدينة الجيزة، وعاتبته لعدم اهتمامه برجل في حجم الشاعر محمود حسن إسماعيل أمير شعراء زمانه.
وسكت حسين الألفي فترة، ثم صاح في التليفون: يا خبر … هو دا الشاعر؟
فلما أجبته بالإيجاب قال: أنت عارف أنا مشغول لشوشتي، وطول النهار قاعد في المكتب وسط المشاكل، وهوه بالفعل جاني وقعد معايا، بس لمعلوماتك هو عاوز ياخد حديد وأسمنت أكثر من حقه، وقلت للأخ حسين الألفي: يعني هيه وقفت عند محمود حسن إسماعيل، ثم دا راجل شاعر وفنان، ودا صوت مصر، وهايعمل بيت يسكنه مش يتاجر فيه، يبقى لازم نكرمه يا عم حسين.
وقال حسين الألفي: خلاص، راجل زي ده لازم نكرمه فعلًا، خليه يفوت عليَّ، وحكيت لحسين الألفي تفاصيل ما دار بيني وبين الشاعر الكبير، وقلت له سيكلمك عن شعرك وديوانك الأخير ودواوينك القديمة، وأرجو أن تظهر له سرورك الشديد بتقديره لشعرك.
وقال الأخ حسين: يا رجل … أحسن يفتكر إن الأمور ماشية عندي بالشكل ده، واللي يعجبه شعري أديله اللي هوه عاوزه.
– وهو انت شاعر؟
– أنا شاعر بتعب.
– على العموم هنبقى نقعد معاه وتفهمه الحكاية، عشان يعرف إن الشاعر مش لازم يعيش مقفول في دنياه بس، وإنما لازم يبقى صاحي ويعيش مع الناس كمان.
وفي اليوم الموعود ذهب الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل لمقابلة الشاعر حسين الألفي، ودار بين الشاعرين أغرب حوار في تاريخ الشعر العربي، ولم أعرف تفاصيل هذا الحوار إلا في اليوم الثاني، أو بمعنًى أصح في مساء اليوم التالي، عندما حضر إلى دكان أحمد الحلاق حسين الألفي ومعه الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، وكانت جلسة حافلة بعتاب شديد اللهجة من الشاعر، وضحك متواصل من جانب حسين الألفي.
وأصل الحكاية إن محمود حسن إسماعيل عندما دخل مكتب حسين الألفي راح يعتذر له عن تقصيره في دراسة شعره، وقال إن من سلبيات الحركة الأدبية هو عدم اهتمام الكبار بأدب الجيل الصاعد (حسين الألفي كان بدرجة وكيل وزارة في ذلك الوقت)، ولكنه تعلل بكثرة انشغال الأدباء الكبار، وعدم وجود الوقت اللازم للاطلاع على إبداع الجيل الجديد، وضرب محمود حسن إسماعيل مثالًا على ذلك بنفسه، فهو إلى جانب اهتماماته بالشعر يعمل موظفًا بالإذاعة، وهو رئيس لجنة الاستماع بها، وعضو بالمجلس الأعلى للفنون، ومقرر لجنة الشعر به، وعضو مجلس إدارة نادي الأدباء ومسئول عن مهرجان شعراء الأقاليم بالثقافة الجماهيرية، ولكنه وعد حسين بالرغم من مسئولياته ومشغولياته بدراسة شعره وتحليله، وطلب من حسين نسخًا من دواوينه، ونسخة من ديوانه الأخير وعليها إهداء حسين وتوقيعه!
وبعد أن انتهى محمود حسن إسماعيل من محاضرته الطويلة مد حسين الألفي يده إلى محمود حسن إسماعيل وبها موافقة على كميات الحديد والأسمنت المطلوبة.
وقال له حسين الألفي: أستاذنا الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل، في الحقيقية أنا مجرد ضابط جيش وكنت ضمن الضباط الأحرار، واشتغلت فترة سكرتيرًا عامًّا لمحافظة السويس، ثم جئت رئيسًا لمدينة الجيزة، وأنا لشدة انشغالي لم أدرك أن الرجل الذي جاء إلى مكتبي هو محمود حسن إسماعيل الشاعر الذي ملأ حياتنا شعرًا وغناءً؛ ولذلك أرجو أن تعذرني، ثم إنني بيني وبين الشعر مثل الذي بين الأرض والقمر، فلا أنا شاعر ولا أنا أديب، ولكنه مقلب من مقالب السعدني؛ ولذلك لا بد أن نذهب إليه معًا، حتى يتعلم أن المقالب لا تنجح دائمًا، وهكذا كان لقاؤنا نحن الثلاثة أمام دكان أحمد الحلاق في شارع الفاتح بالجيزة، وصار محمود حسن إسماعيل من تلك اللحظة من رواد قعدتنا، وظل مواظبًا عليها حتى خروجه على المعاش. لكن لم ينقطع محمود حسن إسماعيل عن المجيء إلى دكان أحمد الحلاق إلا بسبب سفره إلى إحدى الدول العربية، وبعده بسنوات قليلة ذهبت أنا الآخر إلى هناك هربًا من مطاردة الرئيس المؤمن.
ولأن المثل الشعبي يقول للغريب كون أديب، فقد قررت بيني وبين نفسي أن أجمد هواية ضرب المقالب حتى تحين العودة إلى أرض الوطن. ولكن ذات مساء وجدت ضحية تسعى إلى العبد لله بإرادتها. في أول الأمر حاولت بشدة أن أمنع نفسي، ولكن النفس الأمارة بالمقالب انتصرت في نهاية المطاف، فكان المقلب الذي أحدث صدًى رهيبًا في عاصمة هذه الدولة العربية.