أم المقالب
وعلى وزن أم المعارك … كان هذا هو أم المقالب بلا جدال!
مسرح الأحداث كان في عاصمة عربية لا داعٍ لتحديد مكانها الآن. والضحية رجل من وجوهها لم يكن به نقص إلا رواياته المزعومة عن علاقاته بالوسط الفني في القاهرة، وبالفنانات على وجه الخصوص. ما اجتمعت به في أي وقت إلا راح يحدثني عن علاقاته المتعددة بالنجمة الفلانية، ومعاركه مع النجم المشهور إياه من أجل الممثلة الفاتنة إياها! كان العبد لله مهاجرًا في تلك الأيام رغم أنفه، ولأن الزن في الودان يعمل عمل السحر.
فقد تصورت أن الأحوال في الوسط الفني قد تدحرجت إلى هذا المستوى، والسبب أن الفكرة التي كونتها عن الشخص إياه كانت في غير صالحه، صحيح أنه كان وسيمًا وثريًّا ولكن لا شيء بعد ذلك. إذا فتح فمه بالكلام انحنيت لتخلع فردة حذائك. إذا تعرض أحد الموجودين لموضوع جاد … أشاح بوجهه ولزم الصمت. مثل هذا الشخص يستطيع أن يقيم علاقات عابرة، أما أن يقيم علاقات دائمة ويدخل في سبيلها معارك مع الآخرين فاسمح لي!
المهم أنني لم أتوقف كثيرًا عند هذه الحالة المرضية التي يعاني منها صاحبنا إياه، واعتبرتها حالة لا بأس بها، ولها فضل في قتل أوقات الفراغ!
ولكن المقلب جاء مصادفة وبدون ترتيب، كان الصحفي علي كامل في زيارتي عندما دق جرس التليفون في مكتبي، وكان المتحدث هو صاحبنا نفسه. سألني أن أزوره في منزله ولكني اعتذرت، فسأل عن السبب، فأجبته بأن رشدي أباظه هو ضيفي هذه الليلة. صرخ باهتمام شديد: احلف.
قلت بدون مبالاة: واحلف ليه إذا كان رشدي قاعد قدامي.
– طيب … إذا كان رشدي عندك، أرجوك تيجي وتجيبه معاك.
– أسال رشدي الأول … وبعدين أجاوبك.
– أرجوك يا محمود، والله أنت ما تعرف منزلتك عندي هتكون أد إيه!
لزمت الصمت لحظات وكأنني أسأل رشدي أباظه، ثم قلت لصاحبنا الملهوف على استضافة رشدي: مفيش مانع … بس بشرط.
– أنا مستعد وحاضر.
قلت له وكأنني الجنرال إيزنهاور يملي شروطه على القادة الألمان: أولًا رشدي أكول وأنت من أنصار نظرية الطعام مكروه للضيوف.
ثانيًا رشدي يشرب كثيرًا، وأنت لا تسمح بأي شراب للضيوف إلا في حدود القهوة والشاي!
راح صاحبنا يصيح على التليفون وكأنه مجنون: اسمع يا محمود، خروف مشوي من أعظم فنادق العاصمة … ما رأيك؟
– عظيم.
– وزجاجتان من أشهر الأصناف.
– ماذا تقول؟ لا تكفي يا صديقي؛ لأن النجم الشهير رشدي الذي يزور عاصمتك لأول مرة، ويختصك أنت بالذات للسهر في بيتك، لا أقل من صندوق كامل يأخذه معه بعد انتهاء السهرة.
أجاب مستسلمًا: مفيش مانع … صندوق كامل!
لم يساورني أي شك وأنا في طريقي إلى منزل صديقنا في أنه سيكتشف الملعوب بعد دقائق قليلة. صحيح أن الأستاذ علي كامل كان قريب الشبه من رشدي أباظه، ولكن علي كامل كان أنحف وأقصر. ويستطيع أي إنسان شاهد رشدي أباظه أكثر من مرة في السينما أن يتبين الفرق. وقلت لنفسي على العموم سيكون اكتشافه لشخصية علي هو مادة السهرة. ولكن الذي حدث بالفعل … كان أغرب من الخيال.
استقبلنا صاحبنا عند الباب ورحَّب بالأستاذ رشدي كثيرًا، ثم تقدمنا إلى الداخل. وبعد أن جلس رشدي في صدر المكان، أسرع صاحبنا إلى فتح التليفزيون، ثم فتح النافذة، ثم فتح الباب، ثم فتح جهاز الإستريو، ثم جلس وفتح التليفون، وراح يتصل بالأصدقاء. ودار الحديث بينه وبين الأصدقاء على هذا النحو: ما تصدق عندي مين! رشدي أباظه، إي والله والأستاذ رشدي قاعد قدامي!
ثم يغلق التليفون ويعاود الاتصال: ما تصدقين عندي مين! أستاذ رشدي أباظه، تعالي بنفسك سلمي عليه، أقول … تعالي بنفسك … الكاميرا؟ ما في مانع.
ثم يغلق السماعة ويعاود الاتصال: أقول رشدي أباظه … تعال اسهر معانا … أضحك عليك أنا؟ أنت حر … بكرة تندم.
انتابني الخوف أن يحضر بعض هؤلاء المعارف فيكتشفوا الملعوب وتنتهي سهرتنا إلى مأساة. أمسكت بسماعة التليفون ونهرته قائلًا: الأستاذ رشدي يحب الهدوء … ما يحب الزحمة!
لزم صاحبنا الصمت ثم سرح بعيدًا عن المكان والزمان. حاولت أن أنعش ذاكرته للوفاء بوعوده التي التزم بها، فاستجاب على الفور، اتصل هاتفيًّا بفندق شهير طالبًا «خروف مشوي» وسلطات من كل الأنواع وحلوى فاخرة، ثم قال للآخر الذي كان يتحدث معه وبدون مناسبة: بس خد بالك؛ لأن اللي هياكل الخروف أستاذ رشدي!
بعد ذلك لزم الصمت فلم ينطق بحرف. تصورت أنه سيناقش «أستاذ رشدي» في فيلمه الأخير، تصورت أنه سيستعرض معلوماته الفنية أمام الأستاذ، تصورت أنه سيسأله عن أحوال فلانة التي عشقها، وفلانة التي دخل معارك من أجلها، وتصورت أنه سيذكر الأستاذ بجلسة معه في بيت فلانة أو علانة! ووضعت يدي على قلبي خوفًا من أن يتعرض في حديثه لفيلم من أفلام رشدي يكون علي كامل نفسه لم يشاهده! ولكن الله ستر، فلم يفتح صاحبنا فمه بأي كلام. ومر الوقت بطيئًا قاتلًا بينما القلق ينهش قلبي خوفًا من دخول ضيف يكون على علاقة بالأستاذ رشدي الحقيقي أو على علاقة بالدوبلير … الأستاذ علي كامل … وحدث ما كنت أخشاه. وصل ضيف عجوز ونظره على قده … كما يقولون، ثم اكتشفت أن القادم خادم قديم لدى العائلة.
ومد الخادم العجوز يده يصافح الضيوف، وما إن وقع بصره على الأستاذ علي كامل حتى صاح صارخًا: هاي … هاه … هوه دا … هاي … هاه … هادا هاوه.
ابتسم صاحب الدار ابتسامة عريضة، ثم راح يشجع خادمه على اكتشاف الحقيقة قائلًا: مين هادا؟!
قفز الخادم العجوز قفزة هائلة ودار حول نفسه دورة كاملة، ثم قال وكأنه اكتشف سرًّا حربيًّا: هادا … هادا … هادا فريد شوقي!
أجبت الخادم ضاحكًا: يا سلام على العبقرية … مضبوط فريد شوقي!
صاح صاحبنا في وجه خادمه مؤنبًا: يا حمار … ما تفهم أنت … هذا أستاذ رشدي أباظه.
ألقى الخادم العجوز نظرة أخرى على الأستاذ علي كامل ثم قال: آه … فريد شوقي.
نهر صاحبنا خادمه بشدة، ثم التفت للأستاذ علي كامل وقال: عفوًا أستاذ … هادا حمار ما يفهم.
لم يرد علي كامل على صاحب الدار، واكتفى برسم ابتسامة عريضة على شفتيه!
وفجأة وقع ما كنت أخشاه، جاء صديق لصاحب الدار ليسلم على الأستاذ (رشتي) أباظه … ودخل وصافح رشتي واحتضنه بشوق شديد، ثم حاول أن يلتقط له صورة بكاميرا كانت معه، ولكن الكاميرا لم تكن تعمل بسبب ضعف أصاب البطاريات، فاستأذن وتركنا مسرعًا ليحضر بطاريات جديدة. ودعوت الله ألا يعود، واستجاب الله لدعائي فلم يحضر. وحضر الأكل وجاء به شاب مصري لم يتجاوز الثلاثين، ووضع الطعام على المائدة، وتناول الحساب من صاحب الدار، ثم نظر نحونا بدون اهتمام. ونهره صاحب الدار قائلًا: ما لك … عميت أنت، ما تشوف مين قدامك؟
أرعش الشاب حاجبيه ونظر نحونا في اضطراب ثم قال: لا مؤاخذة، إنتو أحسن ناس، ربنا يزيدكم من نعيم الله!
واعتذر صاحب الدار عن غباء العامل المصري وقال: هادول مساكين والله، ما يشوفوا أفلام ولا تليفزيون، هادول يشتغلوا عشان الفلوس وبس!
أكلنا بفضل الله وشربنا، وانفضت السهرة على خير، وعند انصرافنا قلت لصاحب الدار: فين الصندوق اللي أنت وعدت به؟
تردد قليلًا، ولكن صرخة خرجت من فمي جعلته يسرع بإحضار الصندوق. وضعت الصندوق في السيارة وعدت إلى صاحبنا … وهمست له: وأنا؟!
– أنت إيه؟!
– أنا اللي جبتلك رشدي؟!
– عاوز إيه؟
– «زجاجتين»!
– زجاجة واحدة بس.
– كده … طيب، إن جبتلك حد تاني!
– طيب طيب … بس اوعدني أي فنان يحضر من مصر تجيبه!
– حاضر إن شاء الله.
وأسرع صاحبنا إلى داخل الدار، ثم عاد ومعه «زجاجتان».
في اليوم التالي كانت العاصمة إياها قد سمعت بقصة الأستاذ «رشتي» الذي قضى الليلة في بيت الأخ إياه. وتوالت المكالمات التليفونية على منزل صاحبنا.
– كيف تصدق؟
– معقول يا أخي رشدي أباظه هنا والجرائد ما تكتب، والتليفزيون ما يقول شيء؟!
– ثم هادا الشخص اللي جاء عندك أقصر وأنحف!
واختفى صاحبنا شهرًا لا يكلم أحدًا، وانقطعت عن زيارته بطبيعة الحال.
ومرت سنوات طويلة قبل أن أتلقى منه مكالمة تليفونية وأنا مقيم في بغداد. وبعد السلام والكلام طلب مني أن أتصل بصديقه المحامي وأبلغه بنبأ وصوله يوم السبت القادم، وأوصيه بضرورة حجز جناح له بفندق بغداد، وإعداد السهرة المعتادة له بلوازمها من مشروب وبنات، وأعطاني رقم تليفون المحامي صديقه ووعدته خيرًا وعلى بركة الله.
ولم أتصل بأحد، ولكني طويت الورقة التي تحمل رقم التليفون وكان الله يحب المحسنين.
بعد أيام كنت في زيارة صديق مسئول بوزارة الإعلام، أخرجت الورقة التي تحمل رقم التليفون وعرضتها عليه، وسألته عن صاحب الرقم إياه. وكانت المفاجأة … إنه رقم أحمد حسن البكر رئيس جمهورية العراق.
ولم أشاهد صاحبي هذا حتى الآن. الرجل الذي كان ضحية أم المقالب على وزن خالتي أم المعارك، يرحمها الله!