تنظيم مشمش
في الطريق إلى الكرملين لم تصادفنا أية عقبات كتلك التي صادفتنا في شعبة الإخوان المسلمين، وكان للعبد لله صلة بأعضاء التنظيمات الشيوعية؛ فقد كانت جلستهم المفضلة على رصيف قهوة إيزافتش بميدان التحرير. وكان النشاط الشيوعي قد امتد إلى مساحات شاسعة في مصر خلال الحرب العالمية الثانية بعد أن أصبحت روسيا رفيقة سلاح لأمريكا وبريطانيا وفرنسا ضد هتلر وموسيليني، وكان أغلب زعماء الحركة الشيوعية من اليهود الفرنسيين والطلاينة، وتمكنوا في تلك الفترة من تجنيد مئات من طلبة الجامعة وعمال النسيج في شبرا الخيمة، وأطقم كاملة من الصولات داخل صفوف القوات المسلحة، ونجحت الحركة المصرية (حدتوفيما بعد) في تجنيد عشرات من شباب الفنانين والكُتاب.
وكانت قهوة إيزافتش تحتل موقعًا استراتيجيًّا وسط ميدان التحرير، ويملكها مهاجر يوغسلافي فرَّ من بلاده بعد انفراد تيتو بالسلطة، والسبب أنه كان مسلمًا من البوسنة ووالده كان من رجال الدين، واستطاع المهاجر اليوغسلافي بالتعاون مع شقيقه أن يجعل من قهوة إيزافتش أشهر قهوة في مصر منذ عام ١٩٤٢ وإلى عام ١٩٧٢م. عندما اضطُرَّ المهاجر اليوغسلافي إلى بيعها وهاجر إلى أستراليا، وكانت القهوة مكانًا مختارًا للمحامين وكبار الموظفين وأعيان الريف، الذين كانوا يترددون على وزارات الحكومة ومصالحها في حي لاظوغلي؛ فإذا حل المساء ازدحمت القهوة بالفنانين والمفكرين والمثقفين من كل لون. كان المهندس العالمي العبقري حسن فتحي يتردد عليها، والدكتور صبري السوربوني، وأبو بكر سيف النصر الذي كان يشبه الملك فاروق كثيرًا، وكانت عساكر البوليس في ميدان في الإسماعيلية (التحرير) يضربون له تعظيم سلام كلما جاء إلى القهوة على أساس أنه الملك فاروق في جولة ليلية لمعرفة أحوال الرعية.
وكان يأتي إليها أيضًا أحمد رشدي صالح الكاتب والأديب وأستاذ الفن الشعبي، كما كان يأتي إليها مجموعة من أشبال ذلك الزمان، من بينهم حمد عودة ولطفي الخولي وصلاح حافظ، وكان الجميع يتخذون لهم أماكن داخل القهوة الواسعة ما عدا مجموعة الشيوعيين، أو هكذا كانت فكرة العبد لله عنهم، فكانوا يحتلون رصيف القهوة في صف واحد وكأنهم في مسرح، وكانوا يطلقون شواربهم على طريقة الرفيق ستالين، والبعض منهم يطلقون ذقونهم على طريقة الرفيق لينين، ويجلسون صامتين طول الوقت يحدقون في اللاشيء؛ فإذا مرت أنثى أمامهم تعقَّبوها بنظراتهم وأداروا رءوسهم من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فإذا اختفت عن الأنظار أو غابت في الظلام عادوا إلى وضعهم الأصلي في انتظار أنثى جديدة.
وكانوا نادرًا ما يتكلمون، فإذا طلبوا شيئًا من الجرسون طلبوه بالإشارة، وكان بينهم وبين الجرسون التركي (علي) شفرة خاصة متفق عليها؛ فإن أشاروا إليه بالسبابة فالمقصود قهوة سادة، فإذا أشاروا إليه بالسبابة والوسطى فالمطلوب عيش سرايا، وعندما تناولت مقعدًا وضعته بجانبهم على الرصيف سددوا إليَّ نظرات نارية وكأنني ارتكبت جناية، ثم لزموا الصمت طول الليل فلم يهمس أحدهم بكلمة، ويبدو أنهم تصوروا أنني مخبر في المباحث، ويبدو أن هذا الشك تأكد لديهم في اليوم التالي.
عندما حضرت للمرة الثانية، وجلست معهد على نفس الخط، ولم أكن وحدي في تلك المرة، ولكن كان معي الفنان طوغان، ومن حسن الحظ أن أحدهم وقد جاء متأخرًا كان يعرف طوغان فصافحه بحرارة، وبحكم الصحبة صافحني أنا الآخر، وعندما اتجه نحوهم ليتخذ مكانًا بينهم التفوا حوله، ودار بينهم همس طويل، ثم التفتوا نحونا وحيَّونا بهز رءوسهم، وكان هذا أول الغيث.
وفي الليلة التالية انفتح بيننا وبينهم بربخ كلام لم ينقطع طول الليل. كان الموضوع الذي يدور حوله الحديث مقالًا للدكتور محمد مندور، وأكذب عليكم لو قلت لكم إنني فهمت حرفًا واحدًا مما دار. ولأول مرة في حياتي أستمع إلى كلمة الاستاتيك والديناميك والاستغلاق والاستبطان والشواشي العليا للبورجوازية وطبقة الكولاك والتناقض الرئيسي والتناقض الثانوي.
والحق أقول إن الرطانة التي كان يتكلمها أفراد هذا التنظيم أصابتني بعقدةٍ فترةً غير قصيرة من الزمان؛ فقد تصوَّر العبد لله أن هذه اللغة هي التي يجب أن يتكلم بها المثقفون، وانتابني يأس شديد في أن أصبح مثقفًا يومًا ما؛ فإجادة هذه اللغة تحتاج إلى وقت طويل. وعندما صارحت محمد عودة بهذا الإحساس الذي انتابني، استنكر ضعفي وقلة حيلتي، ووصف هؤلاء الذين يستخدمون هذه الرطانة بالجهلاء، وقال إنهم بعيدون كل البعد عن الشعب المصري ولا يتكلمون لغته، وأنهم يشبهون جرسونات الفنادق الكبرى، يرتدون الاسموكن أثناء العمل، ويرتدون الجلابية الكستور في البيت. وذات مساء دار نقاش حادٌّ بين طوغان من ناحية وبين تنظيم إيزافتش من ناحية أخرى، بدأ النقاش حول الموسيقى الكلاسيك … موسيقى بتهوفن وباخ وموزارت ورمسكي كورساكوف، وعاب أحدهم على إذاعة القاهرة عدم اهتمامها بهذا النوع من الفن الرفيع، ونجح العبد لله في التسلل إلى المناقشة عندما قلت لهم إن سكان حارة أبو الليف في الجيزة سيغلقون الراديو عند إذاعة موسيقى كورساكوف؛ لأنهم سيتصورون أن كورساكوف هو نوع من أنواع السجاير.
امتعض بعضهم من التعليق، ومط بعضهم شفتيه احتقارًا، وانتقل النقاش بسرعة إلى جهل الشعب الذي مهَّد الطريق للسلطة لكي تسوقه في الاتجاه الذي تريده؛ فالشعب يحب أم كلثوم مع أنها في الحقيقة عميلة للرأسمالية والإقطاع والشواشي العليا للبورجوازية، وأغانيها هي أفيون الشعب الذي يخدره ويُفقده الإحساس بمشكلاته، وعبد الوهاب يحبه الشعب والسلطة تفرضه على المساحة الكبرى من وقت الإذاعة؛ لكي يتلهَّى الشعب عن واقعه المر ويُسبح مع عبد الوهاب في الليل والنجوم طالعة تنورها، مع أن الشعب لو نال حقه من الثقافة الحقة لوضع عبد الوهاب في خانة أعدائه؛ فهو في الحقيقة مطرب الملوك والأمراء، وبينه وبين الشعب «بِيدٌ دونها بِيد» على رأي الشاعر المتنبي.
عند هذه النقطة من النقاش غلب الطبع على التطبع، فانهلت بالشتائم على رأس أعضاء التنظيم الماركسي الذي كنت أتصور حتى تلك اللحظة أنه الحزب الشيوعي المصري. وكانت الشتائم من النوع المقتبس بعناية من خناقات حارة الطشطوشي تناولت الآباء والأجداد. وانتهت الجلسة بأن هبُّوا واقفين فجأةً وانصرفوا بربطة المعلم، وتوغلوا في الميدان دون أن يدفعوا الحساب؛ مما دفع الجرسون «علي» إلى الجري وراءهم، ولم يعد إلا بعد أن قبض ثمن ما تناولوه من أطعمة ومشروبات. في الليلة التالية جاءوا متأخرين بعض الوقت، وعندما شاهدونا في أماكننا على الرصيف ابتعدوا عنا قليلًا وجلسوا صامتين، ثم علمت بعد ذلك أنهم اتهمونا بأننا بوليس. وفكرت أنا وطوغان بعد أن وصلَنا نبأُ هذا الاتهام في الاستعانة بشلة الجيزة لضربهم علقة ساخنة، ولكن محمد عودة نهانا عن ذلك، وقال في لهجة ساخرة: شغل الجيزة ده ما ينفعش هنا. قلت لمحمد عودة: لقد اتهمونا بأننا بوليس، وهي تهمة في وزن الشرف الرفيع الذي لا يسلم من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدم.
وشرح محمد عودة للعبد لله ما غمض علينا؛ فهؤلاء هم أعضاء تنظيم شيوعي يُدعى «مشمش»، وهؤلاء الذين يجلسون على رصيف إيزافتش هم كل أعضاء التنظيم، ولديهم تحليل لا ينزل الأرض ولا يخر المية، تحليل يقول إن تنظيمهم هو التنظيم الوحيد الذي يحاول بشرفٍ إعادةَ صياغة الحياة في مصر وعلى النحو الصحيح؛ وعلى ذلك فكل من ليس عضوًا بالتنظيم فهو بوليس؛ ولذلك فقد قاطعوا الجميع حتى أعضاء التنظيمات الشيوعية الأخرى؛ لأن الجميع يتحالفون مع البوليس لضرب التنظيم الوحيد الذي سيقود المسيرة إلى الوضع الأفضل والأمثل!
شيء واحد فقط استفدناه من مشمش، أصحاب الشوارب الاستالينية والصلعات اللينينية، أثناء النقاش حول الفن والأغاني تردَّد اسم سيد درويش أكثر من مرة، ووصفوه بالمعلم والرائد والقائد أيضًا، وكان للعبد لله رأي مخالف في سيد درويش، فقد كانت الإذاعة المصرية تذيع برنامجًا أسبوعيًّا عن فن سيد درويش، وكان يقوم بتقديم البرنامج الفنان محمد البحر الذي هو في الوقت نفسه ابن الفنان سيد درويش، ولكن لأن الفرق بين الابن محمد البحر والأب سيد درويش كان مثل الفرق بين الأرض والسماء، فقد جاء البرنامج في غير صالح سيد درويش، خصوصًا بالنسبة لجيل العبد لله الذي لم يعاصر سيد درويش ولم يستمع إليه في حياته؛ ولذلك رحت أتلمس الطرق نحو سيد درويش وفنه الحقيقي.
وكان مدخلي إليه ثلاثة من فحول الفنانين، على رأسهم زكريا أحمد وزكريا الحجاوي ومحمود الشريف، ومن خلال هؤلاء الفنانين الثلاثة تعرفت على سيد درويش … وتشرفت … وكانت هذه هي الحسنة الوحيدة التي أسداها إلينا تنظيم مشمش، الذي انتهى أغلب أفراده نهايةً غريبة؛ بعضهم اشترك في أكبر عملية اختلاس شهدتها مصر، وبالمَبالغ التي تم اختلاسها أنتجوا فيلمًا للممثلة كاميليا، وانتهى الأمر بهذا البعض إلى الحياة خلف الأسوار سنوات طويلة. وأحدهم، وكان يُدعى الدكتور كركور، قام في بداية حياته بمحاصرة قصر الأمير محمد علي بالمنيل، وأنزل العلم المصري من فوقه، ورفع بدلًا منه بطانية صوف من النوع الذي كان يستعمله الجيش البريطاني، ثم أنهى حياته بالحصول على الدكتوراه من جامعة ألمانية، أما رسالته فكانت عن فرع من فروع العلم لايعرفه العبد لله، وأعتقد أن الدكتور نفسه لا يعرفه أيضًا، ثم أُلقي القبض عليه في عام ١٩٧٢م بتهمة النصب على بعض الأثرياء العرب؛ فقد حصل منهم على مبالغ جسيمة بدعوى أنه مندوب إحدى الشركات الألمانية المعروفة.
وهكذا ضاع تنظيم مشمش في الكازوزة وكنسه التاريخ في ترابه. التنظيم الذي قاطَع أم كلثوم وعبد الوهاب والشيخ محمد رفعت، وخاصَم الشعب المصري كله واتهمه بأنه بوليس، وعاش في شرنقته يجترُّ جهله وغباءه، ويتصرف كما وصفه محمد عودة كجرسونات الفنادق، يرتدي الاسموكن في الشغل والجلابية الكستور في البيت. وانتهت أيضًا قهوة إيزافتش التي أسَّسها مهاجر يوغسلافي اشترك في الحرب الشعبية ضد النازي، ثم فر من تيتو ومن بلاده ولجأ إلى مصر، ولكن تيتو لم يتركه، وكان البوليس المصري يقبض على الشقيقين اليوغسلافيين كلما حضر تيتو إلى القاهرة، ولا يفرج عنهما إلا بعد أن تصبح طائرة تيتو في الجو.
ولكن … هل تتوقف محاولتنا عن الاشتغال بالعمل السياسي في تلك الفترة المبكرة من الشباب؟ بالطبع لا؛ فقد كانت لنا أحلام وتطلعات … ولذلك عُدْنا نبحث من جديد عن مكان لنا تحت الشمس بعد أن أقنعني طوغان بأن مصر على أبواب مرحلة جديدة من النضال. وكان الزمن قد زحف بنا إلى عام ١٩٤٩م، وتلفَّتنا حولنا نبحث عن مكان نلجأ إليه بعد أن فشلنا في الوصول إلى مكتب الإرشاد، ثم فشلنا مرةً أخرى في الوصول إلى الكرملين، ولم نجد أمامنا إلا حزبًا جديدًا بزعامة علي ماهر باشا، وذهبنا بالفعل لمقابلة الباشا، ولكن ما حدث هناك كان أغرب من الخيال.