عكش زوز
ولم تقتصر مقالب العبد لله على حدود مصر والعالم العربي، ولكنها خرجت إلى حدود أبعد وأوسع مدًى. وأصل الحكاية أن العبد لله كان عضوًا في وفد مصر إلى مؤتمر الشعوب الآسيوية الأفريقية المنعقد في غانا. وكان الوفد المصري برئاسة خالد محيي الدين، وكان أكبر الوفود، ويضم عددًا كبيرًا من مشاهير الأدباء أمثال حقي وعبد القادر القط وإحسان عبد القدوس. وكان يوسف السباعي هو سكرتير عام المؤتمر باعتباره سكرتير عام المؤتمر الآسيوي الأفريقي بالقاهرة. وجاءت طائرة روسية ضخمة إلى مطار القاهرة حملت أعضاء الوفد المصري وبعض الوفود الأخرى التي كان أفرادها يعيشون كلاجئين سياسيين في مصر.
وكان من بينها وفد خليجي يرتدي أفراده العباءة والدشداشة والعقال، وجاء مقعدي بالطائرة إلى جوار رئيس هذا الوفد الخليجي، وكان إلى جانب العباءة والعقال يحمل في يده شنطة سامسونايت آخر طراز مكسوة بجلد تمساح مدبوغ بطريقة يسيل لها اللعاب. وعندما حلقت بنا الطائرة في الجو نظر جاري في وجهي نظرات فاحصة ثم سألني: أنت محمود السعدني؟
– نعم.
– يا هلا … والله إحنا نقرالك ونحبك.
– يا ألف مرحب.
ورحنا نتبادل أطراف الحديث … حتى حطت الطائرة على أرض الجزائر وبتنا ليلة في الجزائر تجولنا فيها ليلًا في حي القصبة، والقصبة كلمة عربية ضليعة على رأي الشيخ عبد العال، ومعناها العاصمة، وكل قصبة في أي مدينة عربية كانت هي العاصمة القديمة. فلما اتسعت المدن وامتدت ودخلها المستعمرون أطلقوا على العاصمة القديمة اسم الكسبا، وأنتجوا عنها أفلامًا. ولأن القصبة كانت من مخلفات العصور الوسطى، فلذلك كانت حواريها ضيقة ومساربها ملتوية ومظلمة، ولأن المستعمرين كانوا يريدون تشويهنا فقد افترضوا أن هذه الكاسبا هي بؤرة للجريمة وماخور للدعارة ومخانة للمخدرات ووكر للجواسيس. وصدقنا نحن أيضا هذه الإشاعة، وتخلينا عن الاسم العربي القصبة. والتوت ألسنتا ونطقناها الكاسبا.
المهم أيها السادة لم تقع لنا أحداث تُذكَر في تلك الليلة إلا أن رئيس الوفد الخليجي الذي يحمل شنطة سامسونايت مكسوة بجلد التمساح توقف فجأةً أثناء جولتنا، وقال للعبد لله: أستاذ … عكش زوز؟
ولم أفهم في البداية ولكنه شرح لى الأمر. زوز يعني زوج، والمقصود زوج دولارات … ولما لم يكن معي دولارات، فقد نفحته زوز إسترليني. وتكرر الأمر بعد ذلك في باماكو عاصمة مالي، وفي داكار عاصمة السنغال، وفي أكرا عاصمة غانا … عند هذه المحطة كان رئيس الوفد الخليجي إلى مؤتمر الشعوب الآسيوية-الأفريقية قد لهف ثلاثة أزواز، جمعهم ٦ جنيهات إسترلينية.
ولكي تدرك جسامة هذا المبلغ ومدى تأثيره على ميزانية العبد لله، أقول لحضراتكم إنني قد غادرت القاهرة ومعي خمسة جنيهات إسترلينية كان مسموحًا بالخروج بها لأي مصري يحصل على تأشيرة خروج من مصلحة الجوازات المصرية. ولأن العبد لله كان على علاقة صداقة بالرجل المسئول عن إدارة النقد الأجنبي في الحكومة المصرية، وهو الأستاذ محمد الخواجة، فقد سمح للعبد لله بتحويل ٢٥ جنيهًا مصريًّا حصلت بمقتضاها على ۱۸ جنيهًا إنجليزيًّا، فأصبح المجموع ۲۳ جنيهًا. وأيضًا لأنني لا أطيق القيود الأميرية ولا أخضع لها، فقد تمكنت من تهريب ورقة مالية من فئة الخمسين دولارًا تساوي في ذلك الزمان ۲۰ جنيهًا إنجليزيًّا، فيصبح المجموع هو ٤٣ جنيهًا إسترلينيًّا هي كل ثروتي في الحياة.
المهم أننا وصلنا أخيرًا إلى قرية وينيبا على شاطئ المحيط حيث ينعقد مؤتمر الشعوب الآسيوية-الأفريقية في جامعة نكروما للتكنولوجيا. ونزلنا جميعًا في مساكن طلبة الجامعة. رؤساء الوفود ومنهم رئيس الوفد الخليجي أنزلوهم في أجنحة، وأعطوا كل فرد من أفراد الوفود حجرة، وأعطوا الصحفيين حجرة لكل اثنين، وكنت سعيد الحظ، لأنني أقمت في غرفة واحدة مع المرحوم فيليب جلاب. ولم يكن الجناح هو الميزة الوحيدة التي حصل عليها رؤساء الوفود، ولكنهم حصلوا أيضًا على سيارة بسائق، والسيارة من النوع الباكار موديل سنة ٦٢ سوداء اللون، وهذا النوع من السيارات كان مخصصًا لكبار المسئولين في الحكومة الغانية.
وقبل انعقاد المؤتمر بيوم واحد توقفت سيارة رئيس الوفد الخليجي أمام المكان الذي اخترناه لجلستنا اليومية، وكان مكانًا ساحرًا في حديقة الجامعة وتحت شجرة مانجو مثمرة، كان يتساقط منها بين الحين والآخر ثمار المانجو الناضجة، فنسرع إليها ونغسلها ثم نلتهمها. جاء رئيس الوفد الخليجي ونزل من سيارته الفارهة وجلس معنا، وبعد فترة دامت نحو ساعتين استأذن في الانصراف واقترب من العبد لله، وهمس في أذني قائلًا: عكش زوز؟
وأسرعت ملبيًا الطلب، وضربت يدي في جيبي وأخرجت له زوز من الجنيهات الإسترلينية ناولته إياها، فصار الميزان التجاري بيني وبينه لصالح العبد لله بنسبة ٨ جنيهات إسترلينية. ولا أكذب عليكم إذا قلت لكم إنني فرَّطت في نقودي بنيةٍ سيئة، فالعبد لله مثل أبناء جيله كنا نسمع قصصًا عن ثراء أبناء الخليج وتبذيرهم في الإنفاق وتفننهم في بعثرة الأموال، أحيانًا بسبب، وغالبًا بدون سبب، ثم إن منظر الشنطة التي كان يحملها معه كانت توحي لمن يراها بأنها تحمل خيرات كثيرة، كما أن فكرتي عن الرجل وشنطته أنه أرض صالحة للزراعة وأن الأزواز التي حصل عليها ما هي إلا بذور لا تلبث أن تطرح ثمرًا وفيرًا.
غاب رئيس الوفد لمدة يومين انشغل فيهما في مقابلة الوفود وفي الإعداد لخطبته النارية العنترية التي سيُلقيها في جلسة اليوم الثالث، ثم عاد إلى جلستنا تحت شجرة المانجو، وأكل معنا نصف ما جمعناه في ذلك اليوم، ثم شرب الشاي الذي أعدَّه لنا الشيخ موسى، وهو مسلم غاني كان مستعدًّا لأن يدفع حياته ثمنًا لشريط تسجيل عليه صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، وبعد أن انتهت القعدة اقترب مني وهمس في أذني: عكش زوز؟
وضربت لخمة مع العبد لله، فلم يعد معي من الأزواز إلا قليلًا، ولكن لأن الطمع يقل ما جمع فقد أعطيته الزوز، ولكن لأن الكيل فاض بالعبد لله، فقد سألته على استحياء: أنت مافكيتش الحوالة؟
– حوالة إيش أنا ما معي حوالة.
– أقصد الشيك.
– أنا ما معي شيكات.
– أمال إيه الحكاية؟ لازم تروح البنك بنفسك.
– وليش أروح البنك ما لي مصلحة هناك.
قلت وقد غلب حماري وضاق صدري واستبد بي القلق: آه يبقى لازم تروح السفارة علشان تقبض.
– أنا ما أقدر أروح السفارة.
– ليه؟
– كيف أروح السفارة وأنا زعيم الحزب الاشتراكي؟
اشتراكي يابن المركوب، أول خليجي أعرفه في حياتي يطلع اشتراكي ويلهف من الرأسمالي العربي الكبير العبد لله نصف دستة من الأزواز، وكدت أنحني وأخلع حذائي ليس لضرب الخليجي الاشتراكي، ولكن لأنهال بالضرب على رأس العبد لله، أنا أستحق الضرب بالفعل؛ لأن هذا المؤتمر الذي نحن فيه هو مؤتمر للمناضلين الوطنيين وللمكافحين السياسيين، وأعضاؤه مكافحون أي نعم ووطنيون مافيش كلام، ولكنهم جميعًا أنظف من الصيني بعد غسيله. كل أعضاء الوفود المشتركة يعيشون في المنفى إلا وفد مصر ووفد الاتحاد السوفيتي ووفد الصين، فيما عدا هؤلاء فشعار الآخرين: «عشانا عليك يا كريم.» ضاعت فلوسي وأشرفت على الإفلاس بفضل السيد رئيس الوفد الخليجي الاشتراكي!
واستبد الغيظ بالعبد لله، وفكرت في طريقة للانتقام. ولكنني عدلت عن فكرة الانتقام لأن المسئول عن هذا الذي حدث هو غبائي الذي ليس له نظير، ولكني طلبت من الشيخ الاشتراكي أن يتنازل عن سيارته لأذهب بها إلى مشوار في العاصمة أكرا … فوجئت بالشيخ الاشتراكي يقول للعبد لله: خد سيارتي خليها معاك أنا ما أريدها. ثم رجاني أن أقبل منه هدية، ولم أكن في الواقع في حاجة إلى رجاء، فقبلت الهدية، وهي جلباب حرير ياباني وغترة وطاقية شبيكة.
المهم في اليوم التالي ارتديت الجلباب وركبت السيارة ونزلت أكرا، وقمت بجولة في العاصمة الجميلة لولا الروائح الكريهة التي تنبعث منها؛ لأن مياه الصرف الصحي تجري داخل العاصمة في قنوات مكشوفة، وعدت حوالي الرابعة بعد الظهر إلى وينيبا، ودخلت جامعة نكروما وأنا مجعوص آخر انجعاص في الكرسي الخلفي للسيارة، ويدي متشعلقة في الجلدة التي تتدلى من سقف السيارة، والهواء داخل للسيارة من النافذة المفتوحة يُهفهف الجلباب الحرير، أوقفت السيارة عند باب المبنى الذي ننزل فيه، وبالصدقة كان فيليب جلاب واقفًا عند المدخل، فما إن رآني نازلًا من السيارة حتى فتح فمه من شدة الدهشة وهُرع نحوي مُرحبًا بسعادة الشيخ، ثم أمسك بيدي وانحنى محاولًا تقبيلها، وتقمَّص العبد لله الدور، فمسحت على رأسه وقلت له: بارك الله فيك … بارك الله فيك … وقبل أن ننفجر ضاحكين فوجئت بخمسة من الصينيين يقفون أمامي مباشرة في حالة ترصد. انحنى الخمسة حتى لامست وجوههم الأرض، ثم وقف رئيسهم أمامي وقد ضم أصابع يديه كأنه يصلي، ودار بيننا هذا الحوار التاريخي الهام: سيادة الرئيس اسمح لي أن أسألك، أنت رئيس أي وفد؟
أجبته بلا مبالاة: رئيس وفد الجيزة.
وعلى الفور امتدت يده إلى جيبه وأخرج أجندة وقلمًا وراح يسجل المعلومات: متى وصل الوفد يا سيدي إلى المؤتمر؟
– بالأمس فقط.
– وهل سجَّلتم وصولكم لدى سكرتارية المؤتمر؟
– نعم بكل تأكيد.
– وكم عدد أعضاء الوفد؟
– خمسة عدا الرئيس الذي هو أنا.
كان فيليب جلاب يستمع إلى العبد لله مذهولًا دون أن يتدخل بالكلام.
وانحنى الرجل الصيني أمامي عدة مرات، ثم قال في لهجة خطابية: سيدي رئيس وفد الجيزة، إن لي الشرف أن أقدم لكم دعوة رسمية باسم حكومة الصين الشعبية لزيارة بكين لمدة أسبوع للتعرف على بلادنا، ونرجو أن نتلقى منكم دعوة لزيارة جمهورية الجيزة العظيمة التي نتابع جهادها وصمودها ضد الإمبريالية والاستعمار.
قلت في لهجة خطابية أعلى: وأنا باعتباري رئيسًا لوفد الجيزة أعلن قبولي لدعوتكم الكريمة، وأرجو أن تحددوا الوقت لكي نبدأ زيارتنا للصين الشعبية، ومن الأفضل أن نبدأ الزيارة من غانا وإلى الصين رأسًا، كما أرجو أن تقبلوا دعوتنا لزيارة جمهورية الجيزة العظيمة التي سيتحدد موعدها فيما بعد.
وفوجئت بكل أعضاء الوفد الصيني يُصفقون بحرارة، ثم أقبلوا لتهنئتي والإشادة بتاريخ جمهورية الجيزة العظيمة. وبعد التحية والترحيب أمسك الرجل الصيني بالورقة والأجندة وطلب مني أسماء أعضاء الوفد الذي سيسافر إلى الصين، ووعدني بإحضار التذاكر في اليوم التالي. وذكرت له الأسماء محمود برعي وسعد برعي وأحمد برعي وخليفة برعي ومنصور برعي وفيليب بسرعي … ودوَّن الرجل الأسماء ثم انحنى عدة مرات ثم استأذنت منه في الانصراف، ولكنهم وقفوا في أماكنهم ودخلوا مع بعضهم في نقاش حاد، بينما أخذت طريقي مع فيليب جلاب إلى غرفتنا بدون اهتمام. ولم أدرك وقتها أنني تسببت في وقوع أكبر مشكلة دولية بين الصين وروسيا ومصر، وكانت السبب في نسف المؤتمر. ولكن كيف حدث هذا؟